لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الثامن والعشرون

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الثامن والعشرون

 

قيامة المسيح

(إصحاح 1:28-10؛ مرقس 1:16-11؛ لوقا 1:24-12؛ يوحنا 1:20-18)

«وبعد السبت عند فجر أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية ومريم الأخرى لتنظر القبر» (عدد 1). هذا العدد هو وحده، لأن الزلزلة ودحرجة الحجر المذكورتين في (عدد 2) لم يَحُدثا أثناء وجود المريمين (انظر مرقس 4:16) لقد أتتا لتنظر القبر. ومريم الأخرى هي زوجة كلوبا وهي أم يعقوب ويوسي، والتي قِيل عنها أنها أخت أم يسوع (إصحاح55:27؛ مرقس 40:15؛ يوحنا 25:19) أما باقي ليلة الأحد فانقضت في هدوء وسكون.

«وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه وكان منظره كالبرق ولباسه أبيض كالثلج. فمن خوفه ارتعد الحراس وصاروا كأموات. كانت الزلزلة قد حدثت حين لم يكن أحد هناك في وقتها إلا الحراس فقط. وهي علامة حضور الله وعمله في الخليقة. وتداخله الآن بالقوة هو للدلالة على إقامة ابنه من الأموات بنفس القوة. وقد نُسِبَت قيامة المسيح لكل من الأقانيم الثلاثة من الثالوث الأقدس:

أولاً- المسيح نفسه(يوحنا 19:2)

ثانيًا- للروح القدس (رومية 4:1؛ بطرس الأولى 18:3)

ثالثًا- للآب(رومية 4:6).

وهذا كله حق، لأن قيامته كانت عملاً إلهيًا فائقًا جدًا ونقدر أن نقول أنها كانت أعظم من خلق الإنسان في البداءة بكلمة الله. وقد تأسس إيماننا المسيحي على قيامة المسيح من الأموات. كان للابن حق إلهي ليُقيم نفسه. مجد الآب اقتضى إقامة ابن محبته بدون أن يرى جسده فسادًا. والروح القدس هو الفاعل الإلهي في تنفيذ المشيئة الإلهية. وأما من جهة الأعمال الإلهية فينسب بعضها للأقنوم الأول والبعض الثاني والبعض الثالث بحسب صفات العمل المذكور. لا شك أن الأقانيم الثلاثة واحد في اللاهوت ولا يجوز لنا مطلقًا أن نتصور وجود درجات متفاوتة من المجد بينهم أو مناقصة في العمل، ولكن مع ذلك توجد مناسبة تامة عند ذكر كل من أعمالهم. وقد أجريت قيامة المسيح على يد الثلاثة الأقانيم للدلالة على عظمتها وأهميتها. ولا يُخفى أنها نُسِبت أيضًا لله مطلقًا في مواضع كثيرة من الكتاب. وذكرها هكذا يُشير إما إلى الأقانيم الثلاثة أو الواحد منهم بحسب قرائن الكلام.

وإذا زلزلة عظيمة حدثت لأن ملاك الرب نزل من السماء وجاء ودحرج الحجر عن الباب وجلس عليه» (عدد 2) يجب أن نلاحظ أن الملاك لم يُحي الرب فإنه إنما أُرسل من قِيل الله بعلامات الهيبة والجلال الموافقة لإرساليته ولمجد مرسله. ودحرج الحجر الذي كان البشر قد ضبطوه على قدر ما يمكنهم بعد أن خرج رئيس الحياة من القبر الذي عجز عن إمساكه بعد كأسير. ولم يتردد الملاك عن كسر ختم الوالي لأن لله حقًا أن يُبطل أوامر الرؤساء.

ولنلاحظ أيضًا أن الملاك لم يدحرج الحجر لكي يخرج المسيح من القبر، بل ليدخل إليه النساء والتلاميذ ليتحققوا من قيامة المسيح. لأن المسيح الذي لم يقوى الموت على منعه من القيامة (أعمال الرسل 24:2) لم يكن الكفن أو الحجر ليقوى على منعه من الخروج من القبر.

«فمن خوفه ارتعد الحراس. الخ» (عدد 4)

ارتعد الحراس ووقعوا كأموات من هيبة الملاك. الإنسان منذ سقوطه قد عجز عن الوقوف أمام مجد الله. وظهور شخصيات من العالم الغير المنظور ترعبه. وإن أمكنه فيهرب منها. فآدم في جنة عدن هرب من وجه الرب واختبأ (تكوين 8:3) والتلاميذ أنفسهم امتلأوا خوفًا على جبل التجلي (إصحاح 5:17، 6).

«فأجاب الملاك وقال للمرأتين، لا تخافا أنتما فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. ليس هو ههنا لأنه قام كما قال. هلما انظر الموضع الذي كان الرب مضطجعًا فيه. واذهبا سريعًا قولا لتلاميذه أنه قد قام من الأموات. ها هو يسبقكم إلى الجليل . هناك ترونه. ها أنا قد قلت لكما. فخرجتا سريعًا من القبر بخوف وفرح عظيم راكضتين لتخبرا تلاميذه. وفيما هما منطلقتان لتخبرا تلاميذه إذا يسوع لاقاهما وقال سلام لكما فتقدمتا وأمسكتا بقدميه وسجدتا له فقال لهما يسوع لا تخافا. اذهبا قولا لأخوتي أن يذهبوا إلى الجليل هناك يرونني» (عدد 5-10). «فأجاب الملاك وقال للمرأتين» لقد حضرت هاتان المرأتان ومعهما سالومة (مرقس 1:16) في الفجر إلى القبر. وكان قصدهن أن يدهن جسد الرب بالاطياب. وقد كلمهن الملاك بالسلام وبشرهن بقيامة الرب ونرى كم كان بعيدًا عن أفكارهن أمر القيامة. فأنهن حضرن بالمحبة لكي يحنطن جسد الرب. وكان استعدادهن لهذا العمل برهانًا لمحبتهن القلبية للرب مع أنه لم يكن في وقته لأن الرب كان قد قام دون أن يرى جسده فسادًا نظرًا لقداسته الكاملة (أعمال الرسل 27:2) ولنلاحظ هدوء الملاك فإنه تصرف كما يليق بمن أُرسل من قِيل الله. ودعا النساء أن ينظرن الموضع الذي كان الرب قد اضطجع فيه. وقال لهن أيضًا أن يذهبن ويُخبرن التلاميذ بقيامة الرب، أنه يسبقهم إلى الجليل كما سبق وقال لهم، وأنهم يرونه هناك فتأثرن بكلام الملاك تأثرًا عميقًا جدًا وصدقته وخرجن بعجل ليُخبرن التلاميذ، والرب نفسه ظهر لهن في الطريق وكلمهن بالسلام وقبلَ منهن السجود.

معلوم أن البشير مَتَّى إنما يذكر جانبًا قليلاً من الحوادث المتعلقة بالقيامة. ويجب أن نقبلها كما هي مذكورة ولا نصرف وقتًا في التساؤل أهي مطابقة لما ورد في البشيرين الآخرين أم لا. لأن جميع الحوادث المذكورة حصلت. ولا توجد مناقضة بينها، وقد ألهم كل من الأربعة البشيرين أن يدرج منها ما يتفق مع قصده الخاص ولم يذكر شيئًا بحسب حكمته الإنسانية. وأما القصد الخاص في هذا الموضع فهو ذكر حادثة القيامة مع الشهادات الكافية لإثباتها.

فأولاً- رؤساء اليهود بما عملوا جعلوا سرقة الجسد مستحيلة.

ثانيًا- الحراس أنفسهم شهدوا بأن عملاً خارق العادة قد حصل.

ثالثًا- شهادة النساء اللواتي نظرن الرب وسجدن له وهو مُقام من الأموات.

ويجب أن نُلاحظ في جميع هذه الأمور المُتعلقة بموت الرب وقيامته أن النساء المؤمنات يظهرنَّ أحسن من الأحد عشر تلميذًا. ونستفيد من ذلك أن المحبة القلبية للرب تجعلنا أقرب إليه من المعرفة الكثيرة والخدمة الوافرة. لا شك أن للمعرفة والخدمة أهمية ولكنهما لا تقومان مقام المحبة. ويمكن وجودهما مع محبة ضعيفة.

 

إشاعة الحُراس (عدد 11-15)

«وفيما هما ذاهبتان إذا قوم من الحُراس جاءوا إلى المدينة وأخبروا رؤساء الكهنة بكل ما كان فاجتمعوا مع الشيوخ وتشاوروا وأعطوا العسكر فضة كثيرة قائلين قولوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام. وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مُطمئنين فأخذوا الفضة وفعلوا كما علموهم. فشاع القول عند اليهود إلى هذا اليوم» (عدد 15-18). استفاق العسكر من رُعبهم وأتوا إلى المدينة لأنه لماذا يحرُسون قبرًا فارغًا بعد؟ وأخبروا الكهنة بكل ما حصل من أمر الزلزلة ونزول الملاك وارتعابهم ودحرجة الحجر. وعند ذلك التزم الكهنة والشيوخ أن يتشاوروا أيضًا كم مرة قد رأيناهم مُتشاورين معًا من جهة المسيح! وكل مرة لأجل مُقاومته. عملوا من الأول إلى الآخر بدون قلب ولا ضمير. وأظهروا أنفسهم مُجردين من مخافة الله. إذا كنا سالكين في مخافة الله طالبين الخضوع لكلمته لا نحتاج إلى المُشاورات معًا للعمل بالاتفاق، لأن عمل الروح القدس في ضمائرنا يجعلنا نشعر بمسئوليتنا لله شخصيًا ولا نطلب سوى مشيئته. ولا تكون لنا حاجة إلى آراء الناس لإرشادنا. لا شك أننا نستطيع أن نُساعد بعضنا بعضًا على قدر ما نكون روحيين لأننا جميعًا قاصرون في المعرفة. ولكن المُساعدة لا تنتج من جمع آراء بشرية على سبيل المُشاورة، بل من طلب مشيئة الله بالاتفاق مُعترفين بجهالتنا وطالبين الحكمة من فوق. وينتج من ذلك شروق نور إلهي على نفوسنا ليرشدنا إلى طريق الطاعة. وأما أولئك الرؤساء فلم يكن فيهم سوى الخبث الذي لم يزالوا سالكين فيه. لم يقدروا أن ينكروا حقيقة ما حصل فإن حُراسهم أخبروهم ولكن مع ذلك صمموا في نيتهم على مقاومة حقيقة القيامة. لم يخطر ببال العساكر الوثنيين أن يكذبوا من جهة ما جرى لهم، ولكن الرؤساء أعطوهم فضة ودربوهم على الكذب، وكانت القصة الكاذبة من شأنها أن تجلب عليهم عقوبة الإعدام إن سُمعت عند الوالي ولكن الكهنة أخذوا على عاتقهم أن يُدبروا الأمر مع الوالي.

وإذا سأل القارئ كيف عرف ما جرى خفية بينهم وبين الحُراس؟ أقول أنه صار معلومًا عند الرؤساء. والبعض منهم آمنوا في ما بعد (انظر أعمال الرسل 7:6).

«فشاع هذا القول عند اليهود إلى هذا اليوم». لأنهم على وجه العموم رفضوا الحق ومَنْ رفض الحق يقبل الكذب بكل سهولة. وإلا كيف يُصدق عاقل أن صيادين من الجليل يجرأون على فتح قبر يحرُسه جنود رومانيون؟ أو أن جميع العسكر ينامون وهم يعلمون أن عقوبة ذلك هي الموت (أعمال الرسل 19:12)؟ أو أن العسكر وهم جميعًا نيام يرون تلاميذه وهم يسرقونه؟ أو أن الرؤساء بعد ذلك يسكتون ولا يُقدمون الحُراس والتلاميذ إلى المُحاكمة؟

والذي أزعج الرؤساء في قيامة المسيح ودفعهم لإشاعة هذه الأكذوبة أنهم كانوا قد وعدوا أن يؤمنوا به إذا نزل عن الصليب (إصحاح 42:27) وها هو قد قام من بين الأموات بشهادة حُراسهم، وأنهم كانوا قد طلبوا منه آية من السماء فوعدهم بآية يونان النبي وأنجز وعده بقيامته (إصحاح 39:12). فإن سلموا بصحة قيامته التزموا أن يؤمنوا بصدق ما قاله من أنه المسيح ابن الله.

ظهوره لتلاميذه على جبل الجليل

(عدد 16-20؛ مرقس 15:16-18)

«وأما الأحد عشر تلميذًا فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم يسوع ولما رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكوا. فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً، دُفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر. آمين» (عدد 16-20).

البشير مَتَّى لا يذكر من ظُهورات الرب العديدة التي ظهرها لتلاميذه في أورشليم مع أنه شاهدها إلا ظهوره الذي ظهره للنساء اللواتي ذهبن إلى القبر (عدد 9، 10) إذ ليس له غرض إلا أن يذكر حادثة القيامة ذاتها مع الشهادات الكافية لتثبيتها، ثم يذكر انطلاق الأحد عشر تلميذًا إلى الجبل في الجليل بحسب مودع الرب. وكان انطلاقهم إلى الجليل بعد أن لبثوا في أورشليم إلى الأحد التالي للأحد الذي قام فيه المسيح (قابل يوحنا 19:20-29؛ 1:21) وهناك نظروه وسجدوا له ولكن كان بعضهم لا يزالون شاكين في أمر القيامة.

وأما غاية ذهابهم إلى الجليل فكانت ليقبلوا إرسالية خاصة من الرب هناك. وهذا مما يوافق صفة هذا الإنجيل. فإننا قد رأينا أنه يدرج على نوع خاص خدمة المسيح الجهارية في الجليل موضع أذل الغنم.

وكان رؤساء أورشليم المُتكبرون يحتقرون اخوتهم القاطنين في تلك المقاطعة. فبحسب هذا الإنجيل ذهب الرب بعد قيامته إلى الجليل لكي يُجدد علاقته مع قطيعه بقية إسرائيل الصغيرة الحقيرة.

«فتقدم يسوع وكلمهم قائلاً، دُفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض» نراه هنا مُقامًا من الأموات وله كل سلطان ليس على الأرض فقط بل في السماء أيضًا. كان له سلطان على الأرض قبل موته ليغفر الخطايا ويُخرج الأرواح الشريرة وكان له حق كابن داود أن يجلس على كرسي داود، وكابن إبراهيم أن يبارك الأمم أيضًا. ولكن بعد رفضه وموته وقيامته اتسعت دائرة سلطانه إذ دُفع إليه كل سلطان مُطلقًا باعتبار كونه قد مجد الله تمجيدًا كاملاً وأُقيم من الأموات. غير أننا نراه كإنسان قابلاً هذا السلطان المُفوض إليه. لأنه لا يمكن له كالله أن يقبل سلطانًا. لا شك أن الله سيُمجده وقت المُلك مدة الألف السنة ولكنه لم ينتظر إلى ذلك الوقت بل أخذ يُمجده سريعًا (يوحنا 32:13) وفوض إليه كل سلطان لكي يتصرف فيه كإنسان مُقام من الأموات.

يجب أن نُلاحظ جيدًا أن مَتَّى لا يذكر صعود المسيح إلى السماء ولكنه سبق وأشار ضمنًا في (إصحاح 44:22؛ 30:24؛ 14:25، 21؛ 64:26) أننا نعلم جيدًا أن المسيح صعد بعد لقائه مع الإثني عشر آخر مرة على جبل الزيتون في بيت عنيا وكان البشير مَتَّى من الذين رافقوه إلى خارج أورشليم وعاينوه حين ارتفع عنهم من جبل الزيتون إلى السماء. ولكن الروح القدس لم يرشده إلى إدراج ذلك في هذا الإنجيل. ولا يجوز لنا أن نقول بأن إنجيله ناقص لأنه ليس كذلك، بل كاملاً طبقًا لِما قصد الوحي أن يفيدنا به. ومن الفضول لي أن أقول هذا للقارئ المسيحي.

كان مَتَّى من الذين شاهدوا الرب وسمعوه مدة أربعين يومًا بعد قيامته ومع ذلك لا يذكر إلا قليلاً مما حصل وأما لوقا فلم يكن منهم ولكنه يذكر أكثر. فإن كل واحد كتب مسوقًا من الروح القدس. وينتهي التاريخ بحسب إنجيل مَتَّى في الجليل حيث قبل الأحد عشر إرسالية خاصة من سيدهم المُقام من الأموات. كان قد أعطاهم إرسالية لإسرائيل (إصحاح 10) وأما الآن فيُعطيهم إرسالية لأجل دائرة أوسع من تلك.

«اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم» فلا يُرسلهم إلى خراف بيت إسرائيل الضالة مانعًا إياهم من الذهاب إلى طريق الأُمم (إصحاح 5:10،6) ولا يقول كما في إنجيل لوقا مُبتدئًا من أورشليم (لوقا 47:24) لأن إرساليتهم بحسب لوقا هي من قِبل الرب وهو مُرتفع عنهم إلى السماء باسطًا يديه عليهم بالبركة. وبما أن إرساليتهم هي إبلاغ نعمة مجانية فأورشليم المسكينة الأثيمة تحتاج إليها قبل سواها. وأما بحسب إنجيل مَتَّى فإنه يرسل تلاميذه (كإسرائيليين) من الجليل إلى الأمم لكي يُتلمذوا منهم. ويُعمدوا الذين يؤمنون منهم «باسم الآب والابن والروح القدس». فإن المعمودية بالماء علامة ظاهرة لخضوعهم لسلطان المسيح. قد رأينا أن تثليث الأقانيم الإلهية إنما أعلن اولاً عند معمودية المسيح (إصحاح 3) ولكن بعد موت المسيح وقيامته ينبغي أن يعترف بذلك عند جميع الذين ينضمون إلى الإيمان المسيحي وكل مَنْ رفض هذا الاعتراف ليس مسيحيًا البتة.

وقوله لهم «تلمذوا جميع الأُمم» لا ينتج منه أن الأُمم جميعًا ينضمون إلى الإيمان قبل رجوعه. معلوم أن الرب كان مع الأحد عشر في خدمتهم بحسب وعده ومع ذلك قليلون من الذين سمعوهم آمنوا. وليس ذلك فقط بل نرى أيضًا أنه بعد أيام الرسل أقام لنفسه عبيدًا أمناء كثيرين من وقت إلى آخر. ولم يخضع له جميع الأمم بواستطهم كما نعلم. وفي وقتنا الحاضر لا يوجد إلا نسبة قليلة من سكان المسكونة قد اعترفت بسلطان المسيح اعترافًا شفاهيًا. ومن هؤلاء المُعترفين به لا يوجد سوى بقية صغيرة تطيعه طاعة قلبية. وفي الممالك المُسماة مسيحية قد انحط الأكثرون إلى الكفر والفجور وعدم المُبالاة بالدين حتى أصبح حالهم عارًا على اسم المسيح.

ومع هذا كله قد سُمع القول من أفواه البعض أنه لا بد من صيرورة الأُمم جميعًا تلاميذ المسيح بموجب أمره للأحد عشر أن يذهبوا إلى جميع الأمور ويُتلمذوا فأقول:

أولاً- الرب في الكلام الذي نحن في صدده لا يقول شيئًا عن نتائج الخدمة. وقد تعلمنا من مثل الزارع أن من كل أربعة أجزاء لا يأتي بثمر سوى جزء واحد.

ثانيًا- بقوله «ها أنا معكم» إنما يعد الأحد عشر وجميع خدامه الأمناء بحضوره معهم لتعزيتهم ومُساعدتهم في خدمتهم إلى أن يأتي لكي ينهي هذا الدهر الشرير بإجراء القضاء. وقد رأينا الحال الذي سيجد عليه العالم لا بل والمسيحيين بالاسم عمومًا عند مجيئه. فإنهم يكونون كالعالم القديم في أيام نوح قبل الطوفان (لوقا 26:17، 27)

ثالثًا- قد جعل وقت رجوعه مجهولاً وأوصى عبيده أن يخدموا منتظرين سرعة مجيء سيدهم لا خضوع العالم جميعًا لسلطانه. ويقول بإبطاء مجيئه من علامات العبد الردي. والعبد الأمين إنما يخدم بحسب ما عنده من قِبل الرب ويكفيه رضى السيد واستحسانه إن كانت أثمار خدمته قليلة أو كثيرة. ويعلم يقينًا أنه لا يوجد وعد بصيرورة العالم مسيحيًا لا بأتعابه غيره. إذن فقول الرب للأحد عشر «وتلميذهم» إنما يوضح به صفة خدمتهم هذه لا نتيجتها. بحيث أنها كانت متجهة للأمم لا لليهود فقط كما كانت خدمتهم في زمان حياة الرب على الأرض. فوجب عليهم بموجب إرساليتهم من قِبل الرب المقام من الأموات أن ينادوا باسمه وسلطانه إلى جميع الأمم ثم يعمدوا ويعلموا الذين قبلوا كلامهم. ولا يعني أنهم لابد أن يصيروا الجميع تلاميذ.

«وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به» فله وصايا يجب على تلاميذه من الأمم أن يتعلموها ويحفظوها لأن مجرد اعترافهم بسلطانه لا يكفي وحده بدون الطاعة. معلوم أنه من الأمور الممكنة للناس أن يعترفوا بسيادته ولا يطيعوه. وجمهور المسيحيين بالاسم الآن هم على هذا الحال عينه. وهذا مما يجلب عليهم الدينونة كما قد رأينا في هذا الإنجيل.

«وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر» بهذا الوعد يصرح بحضوره ومساعدته للكل خصوصًا للأحد عشر رسولاً في إرساليتهم إلى الأمم. لأن قوله هنا لا يقتصر على الرسل وحدهم. لأن الرسل لا يبقون أحياء إلى إنقضاء الدهر فأذن قوله يعم كل المؤمنين ولا سيما الكارزين به إلى نهاية الدهر. وعليه فنحن لا نشك بأن الرب يحضر معنا جميعًا ويساعدنا، ولكن الموضوع الخاص هنا هو إرساله الأحد عشر كرسله إلى الأمم. يجب على كل خادم أمين أن ينتظر معونة السيد في خدمته في كل حين ومع ذلك ينبغي أن نتذكر أنه كان للأحد عشر وظيفة رسولية وخدمة خاصة لأن الرب أسس الإيمان المسيحي في العالم بواسطتهم. وليس الجميع رسلاً (كورنثوس الأولى 29:12) . فأن استخدام الرب أناسًا كموسى لإنشاء النظام القديم والأحد عشر لإنشاء النظام الجديد هو شئ ، واستخدامه إيانا كأواني للخدمة فيه بعد تأسيسه شئ آخر. وإن كنا لا نميز جيدًا هذه الحقيقة نكون في تجربة أن ننسى مقام الرسل الخاص ونعظم أنفسنا كأن لنا مقامًا نظيرهم. لا شك أن الله عمل على نوع خاص بواسطة الرسل وبعد تأسيس الكنيسة لم تبق بعد حاجة إلى الخدمة الرسولية. ومن قال يوجد ما يوجد كاذبًا عند الامتحان إذ ليست عنده الآيات والعجائب التي هي بينات الرسول (كورنثوس الثانية 12:12؛ رؤيا 2:2).

«إلى انقضاء الدهر» قد وردت هذه العبارة عدة مرات في هذا الإنجيل (أنظر إصحاح 39:13، 40، 49؛ 3:24) ومعناها انتهاء معاملات الله التي يجريها الآن بينما المسيح مرفوض من إسرائيل والعالم ومرتفع إلى السماء. وستنتهي هذه المدة بالدينونة للأحياء، وقد رأينا في هذا الإنجيل نفسه أن الرب في جميع كلامه عما يحدث في مدة غيابه يعتبر رجوعه قريبًا ووقته مجهولاً عند عبيده ولا يفرض مضى وقت طويل. وقوله هنا «إلى انقضاء الدهر». لا يعني انتهاء العالم، بل انقضاء تدبير النعمة الحاضر.

وقد قيل أيضًا أن هذه الإرسالية هي للكنيسة. ولكن هذا القول خطأ فأن الكنيسة إنما هي «عمود الحق وقاعدته» (تيموثاوس الأولى 15:3) أي تعترف بالحق وتحافظ عليه، ولكنها لا تبشر ولا تعلم. لا شك أن الرب يقيم فيها أفرادًا ويمنحهم المواهب الروحية لأجل التبشير والتعليم ومشاكلهما فيتعقبون كل واحد بحسب النعمة المعطاة له، ولكنهم ليسوا الكنيسة، ولا خدمتهم خدمة الكنيسة، ربما يستغرب القارئ هذا الكلام لكونه قد اعتاد على سماع الكلام الدارج بين المسيحيين، أن الكنيسة قد علمت بكذا وكذا، وأن الكنيسة تقيم فعلة، وأن الكنيسة ترسل الإنجيل إلى الأماكن البعيدة، وخلافه مما يدل على أن الكنيسة قد قامت مقام الرب تمامًا في أفكار الاكثرين وصرف النظر عن حقيقة حضوره وسلطانه وعمله. لا شك أنه من واجباتنا الشخصية أن نجعل رائحة اسم المسيح الذكية تفوح للجميع على قدر استطاعتنا بالسيرة المقدسة وبالكلام أيضًا. ولكن الخدمة تختص بنا كأفراد، وسنقدم عنها حسابًا للرب، كل واحد عن نفسه.

لو سلمنا بأن الكنيسة التي تأسست بواسطة الرسل هي الملتزمة بأن تخضع كل العالم للمسيح فيجب أن نعترف بحزن أنها قد فشلت وقصرت عن إتمام واجباتها. الله انتخب إسرائيل قديمًا وأقامهم في مقام خاص كأمة لكي يتمجد اسمه بين الأمم بواسطتهم، ولكنهم خانوه تعالى وصار اسمه الجليل يجدف عليه بسببهم بين الأمم (رومية 24:2). وما النتيجة إلا أنهم جلبوا على أنفسهم دينونة صارمة. وهذا الحكم عينه عتيد أن يدرك المعترفين باسم المسيح من الأمم (رومية 17:11-22) لأنه من الأمور الواضحة أنهم لم يثبتوا في لطف الله والإقرار بذلك بالأسف والحزن هو من علامات عمل روح الله فينا.

نرى في العهد القديم أن الله أقام أنبياء كثيرين في إسرائيل بعد أن ابتعدوا عنه وأخذوا يتهورون في طرق الأثم ومع ذلك تعاظم شرهم إلى أن لم يوجد شفاء (أخبار الأيام أول 15:2-21) وبدون شك قد أصبح المسيحيون بالاسم على حال القساوة والتكبر على الله وكلمته نظير حال أولئك ولا يقبلون أن يسمعوا قول الله الخطير «وأنت أيضًا ستقطع» يمكن للإنسان المتكبر المعتد بقوته وحكمته أن يتكلم عن مشروعاته وعن الأعمال العظيمة التي هو مزمع أن يعملها في الأرض، ولكن يا تُرى هل يستطيع أن يمنع دينونة الله من السماء؟ ولكننا نعلم يقينًا أن هذا الدهر الشرير لا بد أن ينقضي سريعًا بإتيان ربنا يسوع المسيح من السماء، وطوبى ثم طوبى للذين ينتظرونه بأحقاء ممنطقة وسرج موقدة.

وله كل المجد

آمين.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة