لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح السادس والعشرون

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح السادس والعشرون

 

إنباؤه الأخير بموته. وتآمر رؤساء الكهنة عليه

(عدد 1-5؛ مرقس 1:14، 2؛ لوقا 1:22-6)

«ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه تعلمون انه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلم ليُصلب. حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يُدعى قيافا. وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب»

قد وصلنا إلى الفصل الأخير من إنجيل مَتَى الذي يشمل الحوادث المُختصة بموت المسيح. معلوم انه تاريخ بسيط ولكن لا ينتج من ذلك انه قليل الفوائد أو عديم الفاعلية بل بالعكس. فإنه لا يوجد ذكر لحادثة أخرى مما جرى على الأرض قد أثر في قلوب ألوف وربوات من البشر مثل هذه الحادثة التي أتت بأثمار نفيسة وثمينة تدوم إلى الأبد لمجد الله وتوجب له التشكُرات والتسبيحات الغير المُتناهية من جمهور المفديين. فإن كنا نقرأ قصة موت ابن الله غير مُتأثرين بها فالسبب هو قساوة قلوبنا وعمى أعيُننا وليس هو أن الخبر غير مؤثر أو المنظر ليس عجيبًا.

«ولما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها» أي ما تكلم به لتلاميذه على جبل الزيتون في إصحاحي (24، 25). وبانتهائه من هذه الأقوال انتهت شهادته كنبيّ وهنا نراه يستعد ليقوم على الصليب بخدمته ككاهن، إذ يُقدم نفسه ذبيحة. هنا لا نرى أنفسنا أمام إيضاح تعاليم مُتنوعة عما يتعلق بطرق الله ومُعاملاته السياسية على الأرض، بل حتى ولا أمام إيضاح تعليم الفداء نفسه، بل نحن الآن أمام الفادي نفسه، ذلك الشخص الإلهي الذي به يكمل الفداء ويقوم الكل في الرسائل نرى إيضاحات لقيمة موت المسيح وتخصيصه لاحتياجاتنا كخطاة أو كمؤمنين. وأما هنا فنرى موته ذاته مع الظروف المُتعلقة به.

«تعلمون انه بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلم ليُصلب» كان قد سبق وأنبأهم ثلاث مرات بموته (إصحاح 21:16؛ 22:17؛ 18:20) ولكنه لم يُحدد تاريخ وقوعه. وهنا بهدوء إلهي يُخبرهم بموته ويُحدده ومع أنه يترك نفسه هنيهة إلى إرادة البشر وهو مُجتاز في طريق الإتضاع الكامل لكن ليس ذلك إلا لتكميل مشيئة الله لأن الوقت كان قد حان ليذبح الفصح الحقيقي حمل الله الذي يرفع خطية العالم.

«حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة .. وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه ولكنهم قالوا ليس في العيد» هكذا قصدوا في بادئ الأمر. ولكن خيانة يهوذا (عدد 14-16) عدلت بهم عن هذا القصد لأنه أراهم طريقًا يمسكونه بها خفية فلا يكون شغب. فلم يتم قصدهم بل قصد الله ليس بسبب ضرورة موت المسيح كالفصح الحقيقي في الفصح الرمزي لإبطال هذا وقيام ذاك فقط، بل أيضًا وليسهل انتشار خبر موت المسيح وقيامته في كل العالم على فم المعيِّدين في أورشليم بعد عودتهم منها إلى أوطانهم بعد أعياد الفصح والخمسين والمظال (تثنية 16:16؛ أعمال 5:2).

«لئلا يكون شغب في الشعب» كان الشعب قد أظهروا رضى عظيمًا به وكانوا يُبكرون إليه في الهيكل كل يوم ليستمعوا إلى تعاليمه (لوقا 28:21). فكان الرؤساء يجتهدون غاية الاجتهاد أن لا يكون موت المسيح في العيد خوفًا من الشعب. لأن الشرير يحسب دائمًا أن شره موجود في الآخرين. وبما أن أولئك الرؤساء كانوا مُعتادين أن يُهيَّجوا الشعب لأجل غاياتهم الذميمة (مرقس 11:15) ظنوا أن المسيح مثلهم، وانه لا بد أن يلتجئ إلى الشعب لكي يُخلصوه. ولكن خوفهم هذا كان في غير محله. لأن ساعته كانت قد أتت ليُصلب بحسب مشورة الله. وها هو كذبيحة مُنتدبة يطيع حتى الموت موت الصليب. والشعب أيضًا لا يُركَن إليهم لأنهم مُتقلبون فيُنقَادون بسرعة إلى رؤسائهم. وعوضًا عن أن يُدافعوا عن المسيح يصرخون طالبين قتله. وإذ ذاك تظهر تمامًا عداوة القلب البشري لله في قتل ابنه الحبيب.

 

مريم تدهن المسيح بالطيب

(عدد 6-13؛ مرقس 3:14-9؛ يوحنا 1:12-11)

«وفيما كان يسوع في بيت عنيا، في بيت سمعان الأبرص تقدمت إليه امرأة معها قارورة طيب كثير الثمن فسكبته على رأسه وهو مُتكئ. فلما رأى تلاميذه ذلك اغتاظوا قائلين لماذا هذا الإتلاف لأنه كان يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويُعطى للفقراء. فعلم يسوع وقال لهم، لماذا تُزعجون المرأة؟ فإنها قد عملت بي عملاً حسنًا. لأن الفقراء معكم في كل حين وأما أنا فلست معكم في كل حين. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني. الحق أقول لكم حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها».

«وفيما كان يسوع في بيت عنيا الخ» جرت هذه الحادثة قبل العيد بستة أيام.

«في بيت سمعان الأبرص» لا نعلم مَنْ هو سمعان الأبرص هذا. ومعرفتنا مَنْ هو ليست من المسائل المُهمة.

«تقدمت إليه امرأة» هذه المرأة هي مريم أخت لعازر. لم يذكر متَّى ومرقس اسمها ولكنهما ذكرا اسم قريتها (مرقس 3:14) ويوحنا وحده هو الذي ذكر أسماء أفراد هذه العائلة المحبوبة واسم قريتهم.

ويجب أن نُميز أيضًا بين هذه المرأة التي هي مريم التي ذكرها لوقا في (إصحاح 36:7-38). لأن تلك كانت في الجليل وهذه في بيت عنيا. وتلك كانت خاطئة مشهورة وهذه شهد لها المسيح بأنها اختارت النصيب الصالح (لوقا 42:10). وتلك كانت في بيت سمعان الفريسي وهذه في بيت سمعان الأبرص. وتلك دهنته في أول كرازته وهذه دهنته في نهاية كرازته.

وفي متَّى ومرقس يُقال عن مريم أنها «سكبته على رأسه» (عدد 3؛ مرقس 3:14) لأنها تُمثل البقية التقية تمسح يسوع ملكًا ونبيًا. أما في يوحنا إنجيل لاهوته فيُقال عنها أنها «دهنت قدمي يسوع ومسحت قدميه بشعرها» (يوحنا 3:12) وهذا كان حسبما يليق به من تعبد كالله فكان لهذه المرأة قلب مملوء من محبة المسيح، ومحبتها له حملتها أن تعمل العمل اللائق بشخصه في تلك الساعة. وأما التلاميذ فاغتاظوا مما عملت ظانين أن كل ما أُنفق على شخص الرب إنما إتلاف. وكان يهوذا الأسخريوطي1 هو الذي قد ابتدأ بالغيظ والكلام. وهذا أول كلام ذُكر له في الإنجيل. وقاله لأنه كان سارقًا (يوحنا 6:12) وانقاد إليه الآخرون. ونرى هنا أن الشر مُعدٍ كالوباء. «أما خاطئ واحد فيفسد خيرًا جزيلاً» (جامعة 18:9). لم يكن الأحد عشر تلميذًا طماعين كيهوذا في المال. ولكنهم لم يكونوا كمريم في الشركة الروحية مع الرب في تلك الساعة فلذلك تأثروا بشر يهوذا الذي ستره تحت حجاب العطف على الفقراء وصادقوا على كلامه قائلين معه «لماذا هذا الإتلاف؟ لأنه كان يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويُعطي للفقراء» كأن الإحسان إلى المحتاجين أفضل من إظهار المحبة للرب على الوجه الذي يوافق ظروفه في تلك الساعة إذ كان مُفتكرًا في الموت والقبر. وقد أظهرت مريم بما عملت أنها هي أيضًا مُفتكرة في ذلك. وأتت وسكبت قارورة الطيب الكثير الثمن على رأسه، ذلك الرأس الذي كان عتيدًا أن يكلل بالشوك، وينكس بالموت، فعملها كان في وقته ومحله. أن الإحسان إلى الفقراء من الأمور الواجبة وأن كان التلاميذ غيورين على ذلك فلهم فرصة مناسبة في كل حين. وأما الرب فلا يكون حاضرًا معهم بالجسد كما كان وقتئذ إلا تلك الساعة فقط. ربما لم تدرك مريم بعقلها حقيقة موت الرب، وقرب وقوعه، وإنما يجوز أن قلبها قد تأثر من أقواله التي كانت تسمعها منه وهي جالسة عند قدميه فشعرت بقرب فراقه. لقد عملت العمل الوحيد الذي كان موافقًا لمقتضى الحال في تلك الظروف إذ مسحته لتكفينه بينما كان الآخرون متشاجرين معًا في من يكون الأعظم في الملكوت (لوقا 24:22) ومهتمين بخدمة الفقراء، ومنقادين إلى نفاق يهوذا الأسخريوطي. وكان عملها هذا يستحق ذكرًا مستمرًا فرتب الرب أنه حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته تذكارًا لها، وهكذا قد صار، فأنه كان هناك قلب واحد في ذلك الوقت هو قلب مريم يعتبر الرب أكثر من كل ما سواه.

 

خيانة يهوذا واشتراكه في المؤامرة مع رؤساء الكهنة

(عدد 14-16؛ مرقس 10:14، 11؛ لوقا 3:22-6؛ يوحنا 27:13-30)

«حينئذ ذهب واحد من الإثني عشر الذي يُدعى يهوذا الأسخريوطي إلى رؤساء الكهنة وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه»

لقد كان طماعًا. وكان يختلس مما وُضع في الصندوق وقد حمله ذلك على التفاوض مع رؤساء الكهنة في شأن تسليم السيد إليهم. لاحظ قوله لهم: «ماذا تريدون أن تعطوني؟» فأن هذا أول سؤال يسأله القلب الطماع لأنه إنما يشتهي ما هو لنفسه. لنلاحظ أيضًا طرق الله وتدبيره مع كل واحد حتى تنكشف حقيقة حاله. فقد كان الصندوق مع يهوذا، فصارت له الفرصة للاختلاس فأزداد طمعه. ثم أن حادثة الطيب فتحت الباب للشيطان ليُظهر له طريقًا لتحصيل مبلغ كبير بتسليم الرب.

«فجعلوا له ثلاثين من الفضة» ولعلها ثلاثين شاقلاً من الفضة، قيمة ثمن عبد (خروج 32:21) والشاقل من الفضة يساوي 5, 13 قرشًا. فيكون جملة ما أخذه يهوذا 405 قرشًا والوحي يذكر المبلغ لكي يظهر أن القلب المملوء بالطمع يبيع الرب أو بالأحرى يبيع نفسه بأقل ثمن.

 

الإعداد للفصح الأخير

(عدد 17-19؛ مرقس 12:14-16؛ لوقا 7:22-13)

«وفي أول أيام الفطير تقدم التلاميذ إلى يسوع قائلين له أين تريد أن نعدَّ لك الفصح لتأكل الفصح؟ فقال، اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له، المُعلَّم يقول، أن وقتي قريب. عندك اصنع الفصح مع تلاميذي. ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدوا الفصح» (عدد 17-19).

«وفي أول أيام الفطير إلخ» هذا اليوم هو اليوم الرابع عشر من الشهر الأول، شهر أبيب اليهودي (تثنية 1:16، 2). وكان هذا اليوم موافقًا يوم الخميس في السنة التي مات فيها الرب يسوع. فكان أكله الفصح مع تلاميذه في ليلة الجمعة.

«فقال، اذهبوا إلى المدينة، إلى فلان إلخ» نراه هنا بهدوء إلهي يأمر بإعداد الفصح، وبعمله الإلهي في النفوس يستميل قلب صاحب العلية إلى قبول أمره كما كان قد عمل مع صاحب الجحش (إصحاح 2:21، 3) وترتب كل شئ بموجب سلطانه الإلهي لأنه بالحقيقة يهوه إله إسرائيل ولو بِيعَ بثمن عبد.

 

كشف خيانة يهوذا وصرفه باللقمة أثناء أكل الفصح

(عدد 20-25؛ مرقس 17:14-21؛ لوقا 14:22-30؛ يوحنا 1:13-30)

«ولما كان المساء اتكأ مع الإثني عشر. وفيما هم يأكلون قال، الحق أقول لكم أن واحد منكم يسلمني. فحزنوا جدًا. وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يارب؟ فأجاب وقال، الذي يغمس يده معي في الصفحة هو يسلمني. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولد. فأجاب يهوذا مُسلمهُ وقال، هل أنا هو يا سيدي. قال له أنت قلت»

يجب أن نلاحظ أن الأمر المُحزن هو أن واحد من تلاميذه كان مًزمعًا أن يسلمه. فحزنوا جدًا لأنهم أحبوه محبة حقيقية مع أنهم كانوا قد أظهروا ضعف قلوبهم مرارًا عديدة خصوصًا عند حادثة الطيب. فأخذ كل واحد يسأله هل أنا هو يارب؟ فارتابوا في أنفسهم لا في صدق كلام الرب. وابتدأ كل واحد يشك في نفسه لا في رفقائه، وكان ذلك في محله.

«فأجاب وقال، الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يسلمني» فيظهر أن هذا ليس علامة اللقمة المذكورة في (يوحنا 16:13) التي أعطاها الرب إجابة لسؤال خاص من بطرس ويوحنا، لكنه جواب عام فحواه أن مُسلَّمهُ واحد منهم، وأليف له، ومعتاد أن يأكل معه، كالقول «الذي يأكل معي الخبز رفع عليَّ عقبه» (قابل يوحنا 18:13 مع عدد 26؛ مزمور 9:41؛ 13:55، 14) فصار هذا قبل ما أعطى العلامة الخاصة.

«إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان» كان الله مُزمعًا أن يتمم مشوراته الأزلية. وكان الابن طائعًا كل الطاعة. ولكن ذلك لم يكن ليُخفف خطية مُسلَّمهُ وكانت خطيته عظيمة جدًا. وكان خيرًا له لو لم يُلد. لا شك أن هذا القول يصدق على جميع الهالكين، ولكن الرب يستعمله هنا ليظهر عُظم خطية يهوذا الذي كان يغمس يده مع الرب في الصحفة. ولكن بعد الألفة الطويلة خانه وباعه بثلاثين من الفضة.

«فأجاب يهوذا مُسلَّمهُ وقال، هل أنا هو، يا سيدي؟» أخيرًا التزم يهوذا أن يسأله نفس السؤال، والرب في جوابه «أنت قلت» ترك الأمر مبهمًا عند الآخرين، مع أنه كان معروفًا عنده وعند ضمير يهوذا أيضًا. كنا نظن أن يهوذا لا بد أن ينتبه بواسطة هذه الإنذارات الصريحة، ويتوب عن شره العظيم قبل أن يصنعه. ولكنه قد فقد الحس وصار أسيرًا في ي د العدو. وطمعه كان القيد الذي قيده به الشيطان. فما أشد هذا المنظر هولاً! إبليس نفسه مستول تمامًا على واحد من تلاميذ الرب يديره إلى حيث وهو بعد منتسب للرب يدعوه «سيدي».

رسم العشاء الرباني

(عدد 26-30؛ مرقس 22:14-26؛ لوقا 19:22، 20)

«وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال، خذوا كلوا. هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً، اشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا. وأقول لكم أني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي. ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون».

يتضح من (يوحنا 26:13-30) أن يهوذا لم يكن حاضرًا وقت العشاء الرباني، لأن اللقمة التي غمسها الرب وصرفه بها كانت من عشاء الفصح. لأن العشاء الرباني ليس به إدام يغمس الخبز فيه. وقول الرب في (لوقا 21:22) «هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة» لا ينفي هذه الحقيقة. لأن الرب قال ذلك وهم على المائدة يأكلون عشاء الفصح الذي بلقمة منه صرف يهوذا. وبعده، وهم على نفس المائدة، رسم العشاء الرباني. فذكر لفظة «المائدة» لا يدل على أكله من العشاء الرباني. لأن المائدة استعملت للغرضين. ومهما كان الأمر من جهة يهوذا فأنه لا يجوز لنا أن نقبل المنافقين إلى مائدة الرب إذا كان نفاقهم قد ظهر. لا شك أنه من الأمور الممكنة أن أناسًا غير مستحقين يفوزون بالقبول في الكنيسة إلى حين لأن إبليس لا يزال يدخل أخوة كذبة خلسة (كورنثوس الثانية 26:11) لكي يفسد الشركة الروحية. ولا نقدر أن نفصلهم إلى أن تظهر حقيقتهم، ولكن إذا ظهرت فالقانون الدائم لنا أن نعزل الخبيث من وسطنا (كورنثوس الأولى 13:5). لا نقدر أن نعمل بحسب معرفة الله السرية غير أنه يجب أن نعمل بحسب إرادته المعلنة.

«وفيما هم يأكلون» أي فيما هم يأكلون الفصح لأن أكل الفصح يطلق على كل العبادة المتعلقة بذلك (لوقا 1:22) ولعله بطلق أيضًا على حفظ العيد سبعة أيام (أنظر يوحنا 28:18) حيث يظهر أن اليهود لم يدخلوا إلى دار الولاية خوفًا من التنجس «فيأكلون الفصح» أي يكملون حفظ العيد. فأنهم كانوا قد أكلوا الفصح بحصر اللفظ في اليوم السابق، ولكن لو تنجسوا بدخول دار الولاية لِما قدروا أن يكملوه. فإذًا أكل الفصح عبارة عن حفظ العيد كله.

«وأخذ يسوع الخبز» أي أخذ من الخبز الموجود. «وبارك» أي شكر أو قدم شكرًا لله المصدر الوحيد لكل خير وبركة للإنسان.

«وكسر» الخبز يشير إلى المسيح باعتبار كونه مُتجسدًا. أنظر قربان الدقيق (لاويين إصحاح 2) فأنه كان من غلة الأرض وكان رمزًا إلى جسد المسيح. ولكن في العشاء الرباني يجب أن يكسر الخبز للدلالة على موت المسيح الذي كان أمرًا ضروريًا لأنه لو ظل المسيح حيًا على الأرض لما أمكن أن يمنحنا بركة تامة أبدية، فكان ينبغي أن يموت. وكسر الخبز يدل على الموت.

«وأعطى التلاميذ» أي أعطاهم الخبز المكسور. «وقال، خذوا كلوا» وأخذهم الخبز المكسور وأكلهم إياه هو للدلالة على انتفاعهم بالمسيح على أساس موته لأجلهم. لأنه لم يمكن أن المسيح ينفعنا نفعًا أبديًا لو لم يمت كقوله «الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير» (يوحنا 24:12). كان هو حبة الحنطة الجيدة، وكان قد أشترك حقيقةً في اللحم والدم وظهر بين الناس كإنسان مع أنه كان أعظم جدًا من إنسان. ولكنه كان ينبغي أن يجتاز الموت كفارة عنا لدى العدل الإلهي، ثم يقوم من الأموات، ويباركنا وهو على حالة القيامة، ويجعلنا متحدين معه بواسطة الروح القدس المرسل لنا منه وهو في السماء. فإذًا الأساس الراسخ لجميع بركاتنا هو موت ابن الله فداء عنا. وأما البركات فهي بركات القيامة (بطرس الأولى 13:1) ومصدرها هو شخص المسيح الممجد عن يمين الله.

«هذا هو جسدي» أي هذا الخبز كناية عن جسدي. لا يُخفى أن كلامه مجازي. وقد ورد كلام كثير مثله كقوله: «أنا هو الباب» و«أنا الكرمة الحقيقية» (يوحنا 9:10؛ 1:15). كان جسده حيًا وصحيحًا بعد، ولم يمنحه حرفيًا للتلاميذ. على أنه لا يوافق هذا الموضع أن أبحث في موضوع العشاء الرباني بالتفصيل لأن هذا البحث يأتي في محله عند درس بعض الرسائل. فنرى هنا رسمه أو تأسيسه تاريخيًا فقط.

«وأخذ الكأس» أي كأسًا من الخمر الموجودة عندهم. قد قيل أن اليهود استعملوا عدة كؤوس عند الفصح، ولوقا يذكر كأسين (لوقا 17:22، 20) وكانت الأولى متعلقة بعيد الفصح وأما الثانية فبالعشاء الرباني.

«وشكر وأعطاهم قائلاً، اشربوا منها كلكم» الفرق بين الخبز والخمر هو أن الخبز يشير إلى جسد المسيح، وكسره يشير إلى ضرورة موته لكي يمكننا أن ننال الفداء. وأما الخمر فتشير إلى الدم الذي هو برهان حصول الموت، فإن الدم الذي خرج من جنب المسيح وهو ميت (يوحنا 34:19) ولهذه الحقيقة أهمية عظيمة أنظر أيضًا (يوحنا الأولى 16:5). توجد ثلاثة أشياء يجب أن يلتفت إليها، أولاً- آلام المسيح وهو معلق على الصليب متروكًا ومضروبًا من الله لأن غضب الله العادل وقع عليه لأنه كان آخذًا مكاننا ولم يشغل هذا المكان إلا على الصليب. ثانيًا- اهراق دمه الذي هو وضع حياته لأن الحياة في الدم (لاويين 11:17) فلذلك قد أُعطيَّ الدم للتكفير على المذبح، وكان الدم بعد ما سفك برهانًا على أن حياة الذبيحة قد وُضِعت، ثالثًا- قبول الدم لدى الله كفارة. إن محل آلام المسيح ووضع حياته كان على الأرض خارج المحلة. وأما محل تقديم دمه أي قيمته وقبوله فهو في السماء أمام الله (أنظر عبرانيين 12:9) «بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا».

وقول الرب «اشربوا منها» إنما يشير إلى اشتراكهم في فوائد دمه لأجل التكفير ولا يعني أنهم يشربون منه حرفيًا أو عن طريق الاستحالة كما زعم كثيرون كأننا نشربه حقيقةً لأن شرب الدم كان ممنوعًا منعًا مطلقًا (تكوين 4:9؛ لاويين 10:17-14؛ أعمال الرسل 29:15) وقول الرب «من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي فهو يثبت فيّ وأنا فيه» (يوحنا 54:6-56) لا يشير إلى العشاء الرباني البتة. يدل على ذلك:

أولاً- أن يوحنا لا يذكر العشاء الرباني حتى ولا عند ذكره للحوادث المُختصة بما جرى في تلك الليلة التي أُسلم فيها المسيح.

ثانيًا- قرائن الكلام نفسها توضح معناه. فقد كان اليهود يطلبون أن المسيح يكون لهم مخلصًا حيًا كما كان موسى لآبائهم. ولكنه أوضح لهم ضرورة موته وأنه لا يمكن أن يأتيهم ببركة تامة بدون أن يموت. فأنه كان ينبغي لهم أن يأكلوا جسده ويشربوا دمه أي يؤمنون ببذل جسده وسفك دمه فيحصلون على الحياة الأبدية المبنية على موته (يوحنا 35:6، 37) فحقيقة موته هذه أعثرتهم. وقالوا في وقت آخر «قد سمعنا من الناموس أن المسيح متى جاء يبقى إلى الأبد» (يوحنا 34:12) إذ كان موت مسيحهم ذبيحة لأجل خلاصهم أمرًا بعيدًا عن أفكارهم. ولكنه من الحقائق الكتابية المُقررة والأساسية في إيماننا المسيحي أن الحياة الأبدية والخلاص من الغضب لا يمكن أن يكونا لنا إلا بموت ابن الله. وكل من آمن به يكون بذلك قد اشترك في فوائد موته كفادٍ قد مات وقام. وبهذا المعنى يكون قد أكل جسده وشرب دمه. وكان كلام الرب هذا حقًا حتى ولو لم يرسم العشاء الرباني تذكارًا لموته. ويجب أن يتم كلامه فينا قبل أن نستحق أن نتناول الخبز والخمر. وذلك اللص التائب آمن وحصل على الحياة والفداء بالمسيح وهو مرفوض ومتألم. وهو بذلك قد أكل جسده وشرب دمه بدون أن يأكل من العشاء الرباني وهكذا خلص أيضًا كثيرون غيره. فلا يظن القارئ أن الرب في (يوحنا 54:6-56) أشار إلى العشاء الرباني أو أنه ينبغي لنا أن نمارسه لكي نخلص لأن فكرًا كهذا غريب عن الكتاب.

ولنلاحظ أيضًا أنه في ممارسة العشاء الرباني ليس أحد منا يتخذ مقام الرب. لقد ناول تلاميذه أما هو نفسه فلم يتناول. قال لهم كلوا واشربوا أما هو فلم يكن محتاجًا أن يأكل ويشرب من تلك العناصر، إذ كان هو الفادي وكانوا هم المفديين. كرب البيت رسم لهم هذه الفريضة ليمارسوها كتذكار لشخصه الذي صار هو نفسه فصحهم الحقيقي مرة واحدة لخلاصهم والذي أكلوا جسده وشربوا دمه مرة واحدة أي آمنوا به فنالوا فيه الحياة إلى الأبد كمفدييه. فلا يجسر أحد أن يضع نفسه في مقام الرب كأنه صاحب البيت، لأن الرب لا يزال مُحافظًا على مقامه ويبادر إلى الحضور مع اثنين أو ثلاثة إذا اجتمعوا باسمه (إصحاح 20:18) لكي يتذكروا موته في كسر الخبز (أعمال 46:2، 47؛ 7:20) وجميع المجتمعين هم ضيوفه ولا يحتاجون إلى كاهن بشري لأنهم هم كهنة (رؤيا 6:1؛بطرس الأولى 15:2) مجتمعون حول رئيس الكهنة نفسه. حتى الإسرائيليون لم يحتاجوا إلى كاهن لحفظ الفصح. كان لهم كهنة ولكنهم هم أيضًا احتاجوا إلى أن يأكلوا الفصح كالآخرين. لأن الله كان قد خلص الجميع سوية من عبودية مصر. فكل من حاول أن يقيم نفسه كاهنًا على مائدة الرب لا يعرف حقيقة المسيح ولا احتياجه الشديد الشخصي إلى الفداء، ولا أننا قد اُفتدينا مرة واحدة بذلك الدم الذكي. وفضلاً عن ذلك فأن محل الكهانة هو في الهيكل. لا يُخفى أنه يقال للعشاء الرباني مائدة الرب (يوحنا 21:10) ولم يرد ذكر ممارسته في الأول إلا في بيوت المؤمنين (أعمال الرسل 46:2؛ 7:20، 8) لا شك أن المسيحيين قد بنوا أبنية وزينوها بتحف على رسم هيكل اليهود. ومارسوا العشاء الرباني فيها كأنه من أعظم متعلقات الوظيفة الكهنوتية. ولكن لا يوجد أساس لذلك البتة في العهد الجديد.

وأقول أيضًا أننا عند تناولنا الخبز والخمر لا نفعل ذلك لكي نخصص عمل الفداء لنا من جديد، ولكن تذكارًا للفداء الكامل الأبدي الذي قد حصلنا عليه. فإذًا يليق بنا أن نشكر ونسبح، نعم ونقر أننا كنا في احتياج شديد إلى ذلك العمل الإلهي الذي أكمل إلى الأبد على الصليب، العمل الذي لا يكرّر لأنه كامل وحصَّل لنا فداء أبديًا. والله قد خصصه لنا وقت إيماننا. فلا حاجة له تعالى أن يكرر عمله، وقد تأكدنا ذلك بالإيمان. إن كنا ندرس (الإصحاحين9، 10) من العبرانيين نتخلص من فكرة تخصيص موت المسيح لنا مرة بعد أخرى، سواء كان بواسطة العشاء الرباني أو بشيء آخر من الوسائط. ونرى أيضًا فيهما أن لا حاجة لنا إلى كاهن بشري ليقف بيننا وبين الله كأنه أقرب إلى الله منا، أو أن له خدمة أو وظيفة تخصه دون غيره من المفديين. لا شك في وجود أنواع خدمة في الأمور الروحية ولكن ليست مائدة الرب هي المحل العين لممارستها. لأننا جميعًا نحضر هناك متساوين في صفتنا كخطاة أشقياء ولكن مفديين وقريبين إلى الله بدم المسيح. ومن لا يحضر هكذا لا يعرف ماذا يعمل. وأقول أيضًا أن ربنا يسوع المسيح نفسه لم يناول التلاميذ الخبز والخمر بصفة كاهن لأنه لما كان هنا على الأرض لم يكن كاهنًا (عبرانيين 4:8) لأنه لم يتخذ وظيفة كاهن للتكفير عنا بذبيحته إلا بعد ارتفاعه على الصليب فقط. فأنه حينئذ «قدم نفسه لله بلا عيب» و«بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًا».

ولو كان دم المسيح قليل القيمة نظير دم الذبائح القديمة لما كان للمسيح حق في أن يقوم بقوة حياة لا تزول، ولا أن يدخل السماء كفادٍ صائر على رتبة ملكي صادق له كهنوت لا يزول (عبرانيين 6:5؛ 19:6، 20) ولكنه قدم نفسه مرة واحدة ثم جلس، وجلوسه عن يمين الله يدل على أن ليس له بعد عمل من هذا القبيل بخلاف الكهنة الذين كانوا تحت الناموس، والذين لم يكن لهم حق أن يجلسوا في خدمتهم ولا أن يكفوا عن تقديم قرابينهم على الدوام لعدم انتهاء خدمتهم، إذ لم تقدر ذبائحهم أن ترفع الخطية. ولكن دم المسيح قد رفع خطايانا وقد تأكدنا ذلك بالإيمان وإنما نتناول الكأس تذكارًا له. فليس العشاء الرباني ذبيحة بل تذكارًا للذبيحة.

«لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا» وهنا نلاحظ:

أولاً- أنه يوجد عهد جديد أساسه دم المسيح. كان العهد القديم لا يزال قائمًا بعد. ولكن الرب أشار إلى إقامة عهد جديد وهو مذكور صريحًا في النبوات (أنظر إرميا 31:31-34؛ عبرانيين 7:8-13). فالعتيق شاخ وزال ولم يبق له موضع بعد تأسيس الجديد. فبعد موت المسيح نُودي بالعهد الجديد ابتداء من يوم الخمسين أولاً لليهود ولكنهم لم يقبلوه. فلم يثبَّت معهم كأمة. غير أن كل من آمن منهم حصل على فوائده. وكذلك كل من آمن من الأمم. لأنه عند ما نؤمن نوضع تحت العهد الجديد، ويصدق علينا قول الله «لأني أكون صَفوحًا عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد» (عبرانيين 12:8). لا شك أن الله سيثبت هذا العهد مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا في المستقبل ويباركهم بركات روحية وأرضية أيضًا. ولكن في مدة عصيانهم وعدم توبتهم ينادى به في بشارة الإنجيل، والمؤمنون ينالون غفران خطاياهم ويقترنون بالمسيح اقترانًا سماويًا.

ثانيًا- إن دم المسيح «يسفك من أجل كثيرين» أي أنه ليس محصورًا في اليهود فقط كما كانت الذبائح القديمة. كان الفصح لإسرائيل لا للأمم ولكن دم الفصح الحقيقي يخصَّص على دائرة أوسع من ذلك.

ثالثًا- إنه يُسفك «لمغفرة الخطايا» وهذا معناه أنه توجد مغفرة للخطايا. وبما أن دم المسيح هو أساسها فهي كاملة وإلى الأبد ونحصل عليها بالإيمان (أنظر رؤيا 22:3-26؛ أفسس 6:1؛ كولوسي 14:1) وشهادات أخرى كثيرة جدًا، وهي جميعها واضحة وعظيمة الأهمية، لأن معرفة غفران خطايانا هي من المبادئ الأولية. ومن قال أنه مؤمن ولا يعرف ذلك فكأنه لا يعرف قيمة دم المسيح بعد أو لا يصدق شهادة الله التي شهدها في إنجيل أن كل من يؤمن به ينال غفران خطاياه (أعمال 43:10). وأن قال قائل أنا مصدق ذلك كله، وإنما أشك وأتردد فقط من جهة إيماني إذ لا أعرف هل إيماني صحيح أم لا. فأقول، أن الله لا يدعونا أن نؤمن بإيماننا، لأن يقيننا بالمغفرة لا ينتج من كوننا قد تحققنا أن إيماننا صحيح بل من تصديق كلمة الله والاتكال القلبي على المسيح. كانت خطايانا كلها مستقبلة حين وضعها الله على المسيح. فعندما نأتي إليه ونؤمن به نجد أنها قد رُفعت ونتأكد أنه لا يعود يذكرها أيضًا. لو بقيت علينا خطية واحدة من خطايانا لم يضعها الله على المسيح لكانت تكفي لدينونتنا. فإذًا لو لم يغفر لنا الله خطايانا جميعها دفعة واحدة ويضعنا تحت العهد الجديد لكان معنى ذلك أن المسيح لم ينفعنا شيئًا.

«وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي» (عدد 29).

«نتاج الكرمة» هو الخمر مطلقًا، والرب بقوله «هذا» لا يشير إلى خمر كأس العشاء الرباني، لأنه لم يشرب منها، بل إلى خمر كأس عشاء الفصح (أنظر لوقا 15:22-15). أو إلى الخمر على وجه الإطلاق (مزمور 25:14) باعتبار كونها كناية عن الأفراح الإنسانية. كان الرب قد صرف معهم مدة على الأرض كإنسان. وكانت له الاختبارات الإنسانية ما عدا الخطية. وكانت له معهم على الأرض أفراح كإنسان إسرائيلي مع أنها كانت من نوع إلهي، والروح القدس مصدرها. وكان يمكن له أن يمنحها لتلاميذه ويُشاركهم فيها وهو معهم، ولكنه هنا يُنبههم إلى أن شركته معهم من هذا القبيل عتيدة أن تنتهي وتنقطع إلى حين.

وكان للرب أيضًا فرح خاص به كإنسان ويُسميه «فرحي» (يوحنا 11:15) وطلب أن يثبت فيهم بعد مُفارقته لهم حين لا يعود في الإمكان أن يُشاركهم حضوريًا هنا في فرحه هذا. غير أنه يُعطيهم الرجاء الأكيد باجتماعهم معه أيضًا حيث تعود وتكون لهم معه أفراح مُشتركة كما قيل للعبد الأمين «أُدخل إلى فرح سيدك».

«حينما أشربه معكم جديدًا» لفظة جديد تُشير إلى هيئة الفرح الجديدة السامية حين يكون قد جمع شمل العائلة وألبسهم جميعًا أجسادهم السماوية ويبتدئ حينئذ الفرح العام الذي لا يُخالطه شيء مُحزن أو مُكدر إلى الأبد. وما ألذ الفكر بأننا سنفرح في فرح الرب وهو أيضًا يفرح بأفراحنا ولا يعقب اجتماعنا فراق بخلاف اجتماعهم في تلك الليلة إذ كان فرحهم مُمتزجًا بأحزان شديدة.

«في ملكوت أبي» ملكوت الآب هو الجزء السماوي من الملكوت العتيد (إصحاح 43:13). وهو لنا على نوع خاص بسبب نسبتنا للآب كبنين مدعوين للمجد السماوي (عبرانيين 10:2؛ 1:3) لا شك أننا سنملك على الأرض مع المسيح (رؤيا 10:5) ولكن نصيبنا الخاص لا يزال سماويًا سواء كُنا في بيت الآب أو في ملكوته. ووقت اجتماعنا جميعًا مع الرب لأجل الفرح المُشترك هو عند مجيئه. أما عند ظهوره ورجوع شعبه الأرضي إليه (هوشع 5:3) فسيعود إلى مُشاركتهم في أفراح مُلكه الأرضي عليهم.

«ثم سبحوا» كان من عادة الإسرائيليين في عيد الفصح أن يُرنموا بعض المزامير.

«وخرجوا إلى جبل الزيتون» أي ذهبوا نحو الجبل قاصدين جثسيماني عند أسفله. لا يذكر متَّى الجانب الأكبر من أقوال الرب التي تكلم بها في العُلية قبل خروجهم ولكنها مدرجة في الإصحاحات (14-17) من إنجيل يوحنا.

 

شك الجميع في المسيح وإنكار بطرس له

(عدد 31-35؛ مرقس 27:14-31؛ لوقا 31:22-38؛ يوحنا 36:13-38)

«حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشُكون فيَّ في هذه الليلة. لأنه مكتوب إني أضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية. ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل. فأجاب بطرس وقال له، وإن شَكَ فيك الجميع فأنا لا أشُك أبدًا. قال له يسوع، الحق أقول لك، انك في هذه الليلة قبل أن يصيح ديك تنكرني ثلاث مرات. قال له بطرس، ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك. هكذا قال أيضًا جميع التلاميذ».

«حينئذ» أي في ذلك الوقت. والمُرجح أنه قال لهم هكذا قبل خروجهم من العُلية (النظر لوقا 31:22، 39؛ يوحنا 38:13) وأخبرهم انهم يَشُكون فيه ويعثرون به بسبب ما يجرى له في تلك الليلة.

وقد ذكّرهم بالنبوة القائلة أن الراعي يُضرب فتتبدد خراف الرعية (زكريا 7:13) وكان قصده من ذلك أن يُهيئهم للتجربة العتيدة أن تصيبهم حينما يرونه في يد أعدائه، وقد أنذرهم بإنذارات أخرى كما نرى في (لوقا 31:22، 32، 35-38).

وخراف الرعية الذين يتبددون بعد رفض وضرب راعيهم هم هنا رُسُل المسيح الذين هربوا حين تم القبض عليه. ولكنهم صورة أيضًا لخرافه الإسرائيلية الذين سيتبددون من وجه الوحش في نهاية الدهر (إصحاح 16:10؛ 20:24؛ رؤيا 12). ولكن مفهوم طبعًا أن جميع المؤمنين في كل زمان هم خراف المسيح.

«ولكن بعد قيامي..» يُشير إلى قيامته من الأموات كحقيقة مؤكدة.

«أسبقكم إلى الجليل» الجليل هو موضع أذل الغنم وقد تلاقى معهم هناك على الجبل الذي عينه لهم (إصحاح 16:28) وأيضًا عند بحر طبرية (يوحنا 1:21) واجتماعه بهم في الجليل لا ينفي سبق اجتماعه بهم في أورشليم في يوم القيامة وفي الأحد التالي له (إصحاح 28؛ مرقس 16؛ لوقا 24؛ يوحنا 20).

«وإن شَكَ فيك الجميع فأنا لا أشُك» كان يجب عليهم أن ينتبهوا إلى إنذار الرب ولا يثقوا في أنفسهم لأن التواضع وعدم الثقة في ذواتنا مما يحفظنا في وقت التجربة. ولكن بطرس بل الجميع صرحوا أنهم مُستعدون أن يموتوا معه إذا أحوجهم الأمر إلى ذلك. وقصدوا أنهم يُدافعون عنه بقوتهم حتى الموت. ولكن البسالة لا تنفعنا في مُحاربة إبليس، فإن الثقة الذاتية إنما توقعنا بأكثر سرعة في فخاخه. ولما كان بطرس واثقًا في نفسه إلى درجة عظيمة صرَّح أنه يثبت ولو عثر الآخرون جميعًا. فقال له الرب أنه سينكره ثلاث مرات قبل صياح الديك في الليلة نفسها.

صلاة المسيح في جثسيماني

(عدد 36-46؛ مرقس 32:14-42؛ لوقا 39:22-46؛ يوحنا 1:18)

«حينئذ جاء معهم يسوع إلى ضيعة يُقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ، اجلسوا ههنا حتى أمضي وأُصلي هناك. ثم أخذ معه بطرس، وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جدًا حتى الموت امكثوا ههنا واسهروا معي»

«جثسيماني» معناها معصرة الزيت. وهي بذلك تحمل معنى ما أنتجه الروح القدس في المسيح كإنسان من كمال الطاعة في قبول الكأس.

قال لهم الرب قبل قيامهم من العُلية «لا أتكلم أيضًا معكم كثيرًا لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيَّ شيء. ولكن ليفهم العالم إني أُحب الآب وكما أوصاني الآب هكذا أفعل. قوموا ننطلق من ههنا» (يوحنا 30:14، 31) عندما ندرس حياة ربنا يسوع المسيح وخدمته على الأرض يجب أن نذكر دائمًا أنه هو الحق بذاته وانه مثل النور يُظهر كل شيء كما هو، فلا بد من ذلك لكونه الله ظاهرًا في الجسد. لأنه أتى ليُعلن الله بكمال صفاته. ولكنه بحضوره بين البشر وخدمته لهم أظهر حقيقة الإنسان أيضًا، أعني عداوة القلب للنور الإلهي كما قد رأينا في هذا الإنجيل. ولكن توجد حقيقة أخرى نحتاج إلى أن نعرفها أيضًا وهي حقيقة الشيطان العدو العظيم المُقتدر ونسبته لهذا الجنس البشري الساقط. لا يُخفى أنه كان الواسطة لسقوط الإنسان. فانه أغواه وأبعده عن الله ثم ظل يستعبده ويتسلط عليه تسلُطًا هائلاً إلى وقت حضور ابن الله كنسل المرأة إلى العالم. وعند ذلك حرّك المَلِك هيرودس أن يسعى لقتله مع أن الكتاب لا ينسب ذلك صريحًا. فإنه كان من الأعمال التي يُمكن للبشر أن يعملوها بدون تجربة خاصة من إبليس. ثم عندما تقدم إلى خدمته الجهارية وكإنسان لبس قوة من الله أتاه إبليس بصفة مُجرب وزعم أيضًا أن ممالك العالم ومجدها له (إصحاح 4) على أن الوحي إلى ذلك الوقت لم يكن قد لقبه بعد برئيس العالم. كان قد أظهر نفسه كصاحب بيت قوي. وكان يحفظ البشر كأمتعته ولكن أمكن للإنسان الثاني أن يقوى عليه ويمتلك الرياسة عنوة لأن العدو عجز عن إغوائه وإسقاطه بحيلة ما. ولم يقدر أن يقف أمامه مدة خدمته. فانه قدر بكلمة أن يُخرج الشياطين من أجساد البشر. ولكننا قد رأينا أن سطوة العدو بقيت مُستولية على قلوب الناس على وجه العموم وازدادت أيضًا على قدر ازدياد إضاءة النور، فإنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور. فحينئذ صارت المسألة واضحة كل الوضوح أن الإنسان يحتاج إلى قوة تفك قيوده وتنقذه من إبليس روحيًا ولكن قد وُجد مانع لذلك عظيم جدًا وهو حكم الله العادل على الإنسان بالموت. وكان سلطان الموت لإبليس (عبرانيين 14:2) بمعنى أنه بسقوط الإنسان في الخطية أصبح بيد إبليس الحجة التي تثبت استحقاق الإنسان للموت.

وبعد تجربة المسيح في البرية فارقه إبليس إلى حين (لوقا 13:4). ولكنه عاد وأقبل إليه في الليلة التي أُسلِم فيها بصفته رئيس هذا العالم الذي له سلطان الموت فإذًا إن كان المسيح قاصدًا أن يُنقذ البشر إنقاذًا حقيقيًا شرعيًا فينبغي له أن يواجه العدو الآتي إليه على هذه الهيئة.

فلما جاء مع تلاميذه إلى جثسيماني ترك البعض عند مدخل البستان قائلاً لهم «اجلسوا ههنا حتى امضي وأُصلي هناك» على أنه أخذ معه أولئك الثلاثة الذين كانوا معه على الجبل وقت التجلي إلى مكان أبعد في البستان لكي يكونوا شهود رؤية لآلامه كما كانوا شهود رؤية لأمجاده.

«وابتدأ يحزن ويكتئب». لاحظ قول الوحي «وابتدأ» كان في كل مدة حياته رجل أوجاع ومُختبر الحزن (إشعياء 3:53) ولكن يُقال هنا أنه ابتدأ يحزن ويكتئب أي أنه أخذ يجتاز اختبارًا جديدًا من هذا القبيل.

«فقال لهم نفسي حزينة جدًا حتى الموت امكثوا ههنا واسهروا معي» (عدد 38) لم يقدر أن يذكر لهم سبب حُزنهُ العميق لأن ذلك من الأمور العظيمة التي لا يمكن أن يقولها إلا للآب ولم يطلب أنهم يُصلون معه أو لأجله بل أن يسهروا معه فقط. كان يجب أن يتأثروا بحزن سيدهم إلى هذا المقدار حتى يكونوا مُتيقظين بينما هو يُصلي وحده مُنفردًا. كان يليق ببولس أو غيره من خدام الله أن يطلب صلوات القديسين لأجله. وأما الرب فما ورد ذكر لطلبه صلاة الآخرين لأجله، أو أنه كان يُصلي معهم. لأنه كان يُصلي كما يليق بنسبته الفريدة لأبيه كالابن الوحيد وليس كمن يحتاج إلى الفداء والرحمة كما نُصلي نحن. وهكذا بينما نراه هنا على حالة بشرية حقيقية إذ كانت نفسه حزينة جدًا حتى الموت نراه في ذات الوقت مُحافظًا على مقامه الخاص كمن ليس له نظير. لم يكن من الأمور المناسبة له كإنسان أن يتعظم ويتجبر كأنه غير مُتأثر بما هو عتيد أن يأتي عليه ولكن في الوقت نفسه لا يليق بجلال شخصه أن يتخلى عن مقامه الحقيقي في شيء أو ينطق بكلمة تُخالف نسبته الشخصية إلى أبيه. فيجب أن نُلاحظ هذا جيدًا لأن الوحي دائمًا يُراعي مجد شخص المسيح في جميع أحواله ويُعلمنا أن نفعل ذلك أيضًا. معلوم أنه كان إنسانًا حقيقيًا لأنه اشترك في اللحم والدم حقيقة إذ صار الكلمة جسدًا. ومن ثمَّ فقد كان قابلاً للاختبارات البشرية عدا الخطية. فحُزنهُ وطلب الآخرين أن يسهروا معه، وجهاده في الصلاة كانت من صفاته الكاملة كإنسان. ولكن كيفية ذلك تدل على كونه أعظم جدًا من إنسان.

«ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يُصلي قائلاً، يا أبتاه إن أمكن فلتعبُر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أُريد أنا بل كما تُريد أنت. ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نيامًا. فقال لبطرس أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف. فمضى أيضًا ثانية وصلى قائلاً: يا أبتاه، إن لم يُمكن أن تعبُر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك. ثم جاء فوجدهم أيضًا نيامًا إذ كانت أعينهم ثقيلة. فتركهم ومضى أيضًا وصلى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه» (عدد 39-44).

«إن أمكن فلتعبُر عني هذه الكأس». كل شيء مُستطاع عند الله على وجه الإطلاق، على أنه في أفعاله لا يعمل إلا ما يوافق صفاته وكمالاته لأنه من المبادئ الأولية أنه تعالى لا يقدر أن ينكر نفسه (تيموثاوس الثانية 13:2) أي أنه لا يعمل شيئًا مُخالفًا لطبيعته، ويُقال لتصرفه هكذا «مشيئته». أن الدائرة المُعينة للصلاة هي واسعة جدًا، فإنها تُقاس على سُلطانه المُطلق لعمل الخير والرحمة لخلائق يديه، فيجوز لنا الطلب على هذا القياس الغير المحدود، على أن طاعتنا تظهر بالخضوع الكامل لمشيئته. لا يُخفى أن كل مَنْ ليس له إيمان حي يجد صعوبة عظيمة في هذه المسألة التي هي في غاية البساطة عند المؤمن، ويعترض عليها اعتراضات عقلية قائلاً إن كانت لله مشيئة ثابتة فلماذا صلَّى المسيح؟ ولماذا نصلي نحن؟ ألا يكون الأليق بنا أن نسكت ونصبر قابلين ما تعين لنا؟ فأقول أولاً- إن المُعترض نفسه ليس على هذه الحالة الحميدة أعني الصبر والانتظار لله والخضوع لإرادته مع أنه يذكرها لكي ينقض وجوب الصلاة، التي هي من أثمار نعمة الله العاملة فينا. ثانيًا- مُجرد نسبتنا إلى الله كخلائقه الموجودين في حالة الضعف وفي الظروف المُتعبة توجب التدريب الروحي والاختبارات المُتنوعة. والصلاة تنتج من اعتمادنا على إلهنا مصدر كل خير وعون لنا. وقد قرننا معه كالإله الحي ورتب لنا الصلاة كجانب عظيم من واجباتنا. ومع أننا نُصلي بالخضوع نثق أيضًا في جودته وحنوه عارفين أن مشيئته هي كاملة وصالحة لأنه لا يشاء إلا خيرنا وسعادتنا لمجد اسمه وكثيرًا ما يستعمل اختباراتنا المُرة المُتعلقة بالصلاة لكي يُظهر لنا مشيئته ويجعلنا نخضع لها برضى ولو كنا من قبل مضطربين وخائفين، وهذا من ثمر التقوى الصحيحة. كما قيل لنا عن جهاد المسيح في البستان «الذي في أيام جسده إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلصه من الموت. وسُمع له من أجل تقواه» (عبرانيين 7:5). فإنه بصلاته بلجاجة أظهر اختبارات إنسانية حقيقية تليق به كإنسان متوكل على الله. وأظهر تقواه الكاملة بخضوعه لمشيئته. فلا يوجد أساس للاعتراض على صلاته إلا في عقل المُعترض إن قيل، أنه يوجد فرق بيننا وبين المسيح من حيث أنه هو عرف مشيئة الله من جهة الآلام العتيدة أن تأتي عليه، وأما نحن فلا نعلم ماذا تعين لنا فإذًا نُصلي إلى الله على أمل أنه يأتينا بالخير ويبعد عنا الضرر. قلت، أن سيدنا وربنا في جميع أعماله تصرف حقيقة بحسب مركزه كإنسان وبالنظر إلى مشيئة الذي أرسله وليس بحسب مشيئته هو ولا بحسب معرفته الإلهية، حتى لقد قيل أنه ترك لنا مِثالاً لكي نتبع خطواته (بطرس الأولى 21:2) وفضلاً عن ذلك أننا لسنا على جهل بطريق الله لأننا نعلم أن الضيقات والشدائد تنتظرنا وقد تعينت لنا، ومع ذلك مسموح لنا من الله أن نطلب الإنقاذ منها.

«فلتعبُر عني هذه الكأس» الكأس عبارة عن جميع الآلام التي كان المسيح مُزمعًا أن يُكابدها سواء كانت من أيدي الناس أو من يد الله (انظر مرقس 35:14) حيث يُقال لها «الساعة» وفي إنجيل يوحنا يُشير إليها عدة مرات كساعته. لا شك أنه تألم آلامًا خاصة من يد الله. ونُعبر عنها بعض الأوقات بالكأس أو بكأس الغضب ولا بأس من ذلك، غير أني لا أعلم موضعًا في الكتاب قد وردت فيه لفظة الكأس مُطلقة على ذلك دون سواه. كانت أمام الرب جميع آلامه برمتها كالمرفوض والمرذول من الناس والمضروب من الله أيضًا، وطلب إن أمكن أن تأتي عليه، ولا لوم عليه في ذلك لأنه لا يليق به أن يرغبها في ذاتها. فمن كماله طلب عُبورها عنه، ولكن من كماله أيضًا قبلها بحسب مشيئة الآب قائلاً «ولكن ليس كما أُريد أنا بل كما تُريد أنت».

«ثم جاء إلى التلاميذ فوجدهم نيامًا» (عدد 40) لا نعلم كم من الزمن صرف في الصلاة المرة الأولى. ولكن عند رجوعه إلى التلاميذ الثلاثة وجدهم نيامًا، وبرقة مؤثرة ذكَّر بطرس بثقته الذاتية التي حملته على أن يُصرح أنه مُستعد أن يموت معه مع أنه هو ورفيقاه لم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة.

«اسهروا وصلوا الخ» (عدد 41) كان يجب عليهم أن يسهروا ويُصلوا لأجل أنفسهم لئلا يدخلوا في تجربة لأن ساعة قوات الظُلمة كانت مُقبلة عليهم والعدو يطلب أن يُغربلهم كالحنطة (لوقا 31:22) نعم كان غرض العدو الأعظم هو الراعي. ولكنه لأم يغض النظر عن الخراف المسكينة. غير أن الرب لم ينطق بهذه الكلمات توبيخًا بل تنبيهًا لهم، وحالاً أضاف إليها كلامًا آخر على سبيل التماس العُذر قائلاً «أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف» أي أنهم كانوا من جهة محبتهم له راغبين في أن يسهروا معه وإنما غلبهم النوم من ضعفهم البشري.

«فمضى أيضًا ثانية وصلى قائلاً يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبُر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك» (عدد 42). الرب بهذا الكلام يقبل الكأس من يد الآب. في المرة الأولى طلب عُبورها عنه إن أمكن، مع أنه أظهر خضوعه لمشيئة الآب مهما كانت. وأما الآن فيقول فقط. إن لم يمكن ذلك فإنه يشربها. فلا يطلب شيئًا بل إنما يُصرّح بخضوعه الكامل لتلك المشيئة التي سبق وأعلن مرارًا عِلمه بلزومها (يوحنا 14:3؛ 34:12، 24). ثم رجع إلى التلاميذ ووجدهم أيضًا نيامًا فتركهم ومضى أيضًا وصلى ثالثة قائلاً ذلك الكلام بعينه. أي كلامه الذي نطق به في المرة الثانية. قد سبق القول أن الكأس عبارة عن جميع الآلام التي كان المسيح مُزمعًا أن يُكابدها. ولكن لا يُخفى على القارئ المسيحي أن الجزء الأعظم منها هو احتماله الغضب الإلهي حين قام مقامنا وتألم البار من أجل الأثمة (بطرس الأولى 18:3) لم يكن تحت غضب الله بعد في جهاده في البستان لأن شركته مع الآب كانت كاملة. وأما على الصليب فكان متروكًا (مزمور 1:22). ونرى أيضًا في الشهادة التي سبق إيرادها من (عبرانيين 7:5) أنه كان ينظر إلى موته على نوع خاص أي تحت الغضب فإنه قدّم تضرعاته للقادر أن يُخلصه من الموت تحت الغضب الإلهي. لقد عرف خيانة يهوذا وتآمر رؤساء الكهنة وبكل ما هو عتيد أن يحدث له من البشر، وكان انتظار ذلك مُرًا بدون شك، ولكنه مما يمكن احتماله. وقد احتمله كثيرون من البشر. لأنه مهما اشتد حنق الإنسان فلا يمكنه أن يفعل أكثر من فصل النفس عن الجسد. أما احتمال غضب الله فمَنْ يستطيعه؟ وهذا الذي كان الرب ينظر إليه.

«ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم، ناموا الآن واستريحوا. هوذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخطاة. قوموا ننطلق. هوذا الذي يُسلمني قد اقترب» (عدد45، 46). إن قوله «ناموا الآن واستريحوا» قد قرأت في بعض النُسخ «هل تنامون بعد وتستريحون؟». ونفهم منها أن الرب إنما قصد بها أن يوقظهم من النوم ويُنبههم على أن الأمر قد تم وحان الوقت لقيامهم من موضعهم. كما عاد وقال «هوذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الخُطاة. قوموا ننطلق» (عدد 46) ويظهر أنه يُشير إلى انطلاقهم من موضعهم في داخل البستان إلى الباب (انظر يوحنا 4:18) لأنه خرج إلى هناك وهو عالم بكل ما يأتي عليه لكي يواجه الذين أرسلوا من عند رؤساء الكهنة ليمسكوه لكي لا يدخلوا إلى البستان ويمسكوا التلاميذ أيضًا. كان هو الراعي الصالح ووقف بين الخراف والذئب.

 

المسيح يُسلم نفسه

(عدد 47-56؛ مرقس 43:14-52؛ لوقا 47:22-53؛ يوحنا 1:18-12)

«وفيما هو يتكلم إذا يهوذا واحد من الإثني عشر قد جاء ومعه جمع كثير بسيوف وعصي من عند رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. والذي أسلمه أعطاهم علامة قائلاً، الذي أُقبِّله هو هو. امسكوه. فللوقت تقدَّم إلى يسوع وقال، السلام يا سيدي. وقبَّله. فقال له يسوع، يا صاحب، لماذا جئت؟ حينئذ تقدموا وألقوا الأيادي على يسوع امسكوه. وإذا واحد من الذين مع يسوع مَدَ يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أُذنه. فقال له يسوع، رُد سيفك إلى مكانه، لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون. أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة. فكيف تكمُل الكُتب أنه هكذا ينبغي أن يكون؟» فحالاً بعد خروج يسوع إلى باب البستان وصل يهوذا والذين معه. ونرى قساوة قلب يهوذا من العلامة التي أعطاها لهم ليدلهم على سيده. لأنه يندر أن يوجد إنسان يخون صاحبه بعلامة المحبة والأُلفة الطويلة.

«فقال له يسوع يا صاحب لماذا جئت؟» (عدد 50) قال هذا تنبيهًا لضميره ولكن وا أسفاه لأن الوقت للانتباه قد مضى إذ صار آلة في يد عدو أقوى منه قد استخدمه لتنفيذ مُراده. ثم بعد ذلك تركه لليأس والقنوط

«وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده الخ» (عدد 51)نرى أيضًا ضعف التلاميذ الآخرين فإن واحد منهم استل سيفه وضرب. نعرف أن بطرس هو الذي عمل هكذا (يوحنا 10:18) مع أن اسمه ليس مذكورًا هنا. لأن قصد الوحي الخاص ليس أن يُظهر ضعف بطرس بل ضعف الجميع. فإنهم ناموا في وقت السهر والصلاة وحاولوا أن يُدافعوا عن السيد بالقوة البشرية في الوقت المُعيَّن للخضوع والتسليم فلم تكن لهم أدنى شركة مع الرب في أفكاره. كان عندهم سيفان (لوقا 38:22) وإذا سُأل القارئ كيف حدث أن الرب سمح لهم أن يحملوا سيفًا؟ أقول أن النظام العتيق كان لم يزل موجودًا بعد. وكان حمل السلاح جائزًا لهم كيهود. والرب صَبر عليهم ولم يمنعهم من حمل السيف إلى أن أظهر هنا رفضه له تمامًا.

«رُد سيفك إلى مكانه» (عدد 52) بذلك ينهي الرب أتباعه عن حمل السلاح نهيًا مُطلقًا. وإن كان لأحد منهم سيف فليس له إذن الآن أن يُخرجه من مكانه، كما قال واحد من المسيحيين القدماء «إن الرب عندما أمر بطرس برد سيفه إلى مكانه قد رد سيوف جميع تلاميذه إلى مكانها أيضًا»

«لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون» يُصرح هنا بمبدأ عام لسياسة الله وهو أن ظلم الظالم غالبًا يرجع على رأسه. فإن الذي يحمل سلاحًا لا بد أن يُلاقي خصمًا مُتسلحًا أقوى منه. لا حاجة أن أقول أن ليس لهذا مدخل في شأن الحُكام والسلاطين الذين يستخدمهم الله في عنايته لضبط العتاة، وقد وضع سيفًا في أيديهم (انظر رومية 1:13-7). غير انه لا يليق بتلاميذ المسيح أن يحملوا سيفًا مُطلقًا، ولا أن يتداخلوا في أمور السياسة العالمية، بل أن يخضعوا للحاكم ويكرموه في خوف الله.

«أتظن إني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدم لي أكثر من اثني عشر جيشًا من الملائكة الخ؟» يُشير بذلك إلى خضوعه الكامل لمشيئة الآب. كان يستطيع بالنظر لشخصه الجليل أن يطلب جيشًا وافر العدد من أجناد السماوات ليفنى في لحظة قوات الظلمة وآلاتها البشرية، ولكنه امتنع عن ذلك. طوعًا لإرادة الآب. كان له السلطان أن يضع حياته فسلَّم نفسه إلى أيدي أعدائه طاعة للآب.

«في تلك الساعة قال يسوع للجموع، كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت أجلس معكم أُعلِّم في الهيكل ولم تمسكوني. وأما هذا كله فقد كان كله لكي تكمل كتب الأنبياء. حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا» (عدد 55، 56) سلم الرب نفسه لظلم الناس ولكنه أخبرهم بما كانوا يفعلون فأنه كان قد صرف زمانًا طويلاً بينهم يعِّلم علانية ولم يمسكه خوفًا من الجموع. لذلك خرجوا تحت ستر الظلام على لص. ثم يذكر البشير مَتَّى أن هذا صار طبقًا لكتب الأنبياء لأننا نراه هنا يسلم نفسه ليجعلها على الصليب ذبيحة أثم فلا يوجد ذكر هنا لإسقاطه أعداءه إلى الأرض بكلمة كما في( يوحنا 4:18)ن وهو ما قصد به إظهار مجد شخصه الإلهي كمن بمحض اختياره صار ذبيحة. أما هنا فالمقصود إظهاره هو كمال طاعته كذبيحة.

ونرى أن سبيله كان كاملاً في جميع الحوادث المذكورة سواء كان مع التلاميذ في العلية، أو في البستان مع أبيه أو أمام أعدائه. وأما سبيل التلاميذ فليس بحميدٍ. فأنهم انغلبوا من الضعف، وناموا حين كان يجب أن يسهروا ويصلوا، وعندما استفاقوا ورأوا ما هو عتيد أن يحصل استعدوا ليحاربوا في الوقت المعين للتسليم والخضوع، ثم لما صار الرب في أيدي الأعداء تركوه كلهم وهربوا. وبالحقيقة لم يبقَ لهم الآن سوى أن يهربوا لأنه لا يمكن لأحد أن يجتاز في هذه الظروف إلا الشخص الكامل الذي يقدر وحده أن يلاقي قوة الشيطان بخضوعه التام لمشيئة الآب، وبوداعته كشاة تساق إلى الذبح يحتمل ظلم الناس وعنفهم.

 

محاكمته الدينية أمام رؤساء اليهود

على قوله أنه «ابن الله»

(عدد 57-68؛ مرقس 53:14-65؛ لوقا 54:22؛ 63-65؛ يوحنا 12:18-24)

«والذين أمسكوا يسوع مضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة حيث اجتمع الكتبة والشيوخ. وأما بطرس فتبعه من بعيد إلى دار رئيس الكهنة فدخل إلى داخل وجلس بين الخدام لينظر النهاية. وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع لكي يقتلوه. فلم يجدوا. ومع أنه جاء شهود زورٍ كثيرون لم يجدوا. ولكن أخيرًا تقدم شاهدا زورٍ وقالا، هذا قال، إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه. فقام رئيس الكهنة وقال له، أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فكان ساكتًا. فأجاب رئيس الكهنة وقال له، أستحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع، أنت قلت. وأيضًا أقول لكم، من الآن تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القُوَّةِ وآتيًا على سحاب السماء. فمزَّق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً: قد جدَّف. ما حاجتنا بعد إلى شهودٍ. ها قد سمعتم تجديفه. ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا، أنه مُستوجب الموت. حينئذ بصقوا في وجهه ولكموه. وآخرون لطموه. قائلين، تنبَّأ لنا، أيها المسيح من ضربك؟» (عدد 57-68). أنه يتضح من مقابلة (يوحنا 13:18، 14، 24) أنهم أخذوا يسوع أولاً إلى حنان وفحصوه على منوال غير قانوني بالليل. ثم في الصباح باكرًا اجتمع المجمع الكبير لأجل محاكمته قانونيًا. غير أنهم كانوا قد صمموا على موته من قبل كما لا يُخفى. والقصد الخاص هنا هو ذكر اتفاق رؤساء إسرائيل في الحكم على مسيحهم بالموت خلافًا لمبادئ الحق التي كانوا لا يزالون يقرون بها. لأنهم طلبوا شهادة زور عليه ولم يجدوا. ونرى في هذه الحوادث المتعلقة بموت الرب كل نوع من صفات الأثم البشري. وحقًا أن المنظر محزن إلى الغاية. كان الكهنة مُقامين في وظيفة اقتضت أن يترفقوا بالجُهال ويقدموا قرابين لأجل الأثمة (عبرانيين 1:5-3) ولكنهم سعوا في محاكمة البريء. وكان مُفوضًا إلى الشيوخ أن يرشدوا الشعب إلى الحق ولا يحكموا إلا بالعدل ولكنهم طلبوا شهادة زور لتحريف العدل (مزمور 11:35). كانوا قد تشاوروا أن لا يمسكوا يسوع في عيد خوفًا من حدوث ثورة من الشعب. ولكن لم يحصل المر بحسب مشورتهم بل بحسب مشورة الله الذي ترك يهوذا لنفسه بعد اللقمة ثم دخل الشيطان إلى قلبه فأتاهم الأمر بغتةً. فاضطروا أن يطلبوا شهود زور بعجل. أخيرًا تقدم اثنان لكي يثبتا عليه أنه مجدّف ومن ثم يستحق الموت بموجب شريعة موسى (لاويين 16:24) ولكنهم لم يتفقا في شهادتهما ضده من جهة نقض الهيكل (أنظر مرقس 58:14، 59) وكانت شهادتهما شهادة زور عليه. لأنه لم يقل أبدًا أنا أنقض هذا الهيكل بل «انقضوا (أنتم)» فضلاً عن أنه لم يكن يقصد هيكل اليهود بل هيكل جسده. ومن ثم لم يقدر المجمع أن يصدر حكمًا بموجب شهادات متناقضة.

«فقام رئيس الكهنة وقال له، أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هذان عليك؟ وأما يسوع فكان ساكتًا» الإنسان من ضعفه إذا وقعت عليه تهمة ظلمًا يبادر إلى أن يحتج لنفسه ويفرح إذا صارت له فرصة للتكلم، ولو عرف أن قاضيه ظالم. فأنه لا يزال يتوقع أن يكون من الأمور الممكنة أن يبرهن براءته، أو على الأقل أن يخفف القضاء الظالم. وأما يسوع فكان يعلم ما هو في الناس المتروكين لأنفسهم ولقوة الشيطان التي تعمي وتقسي، فلم يكن ينتظر منهم لا رحمة ولا عدلاً. وقد عرف متى يجب أن يتكلم ومتى يجب أن يسكت. وأما رئيس الكهنة الماكر فاحتار من سكوته و تظاهر بحب العدل إذ وقف وسأله لماذا لا يجيب علي كلام الشهود؟ ولا شك انه كان يرجو أن تحصل لهم فرصة ليصطادوه بكلمة ولما عجز عن ذلك أخذ يستحلفه بحسب شريعة موسى (لاويين 1:5) وعند ذلك إجلالاً لاسم الله الذي حلف به رئيس الكهنة ومراعاة للسلطان الإلهي المفوض إليه من هذا القبيل فتح الرب فاه وتكلم. فحوى القسم، أهو المسيح ابن الله أم لا؟ فأجاب الرب على ذلك بقوله «أنت قلت» أي أنه كذلك. ثم أضاف إلى ذلك كلامًا أخر هو «وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة و آتيًا على سحاب السماء» وبهذا قدَّم شهادة لإسرائيل تناسبهم كل المناسبة هي أنهم لا يعودون يبصرونه كالمسيح الوديع الحاضر في وسطهم ليباركهم ويشفيهم فأنه مزمع أن يتبوأ مكانه الخاص كابن الإنسان الممجد في السماء بعد أن رفضوه على الأرض.

كانت القوة وقتئذ في يد رئيس الكهنة، وكان المسيح واقفًا أمامه ليحاكم. ولكن بعد قليل سينعكس الأمر حينما يجلس المسيح عن يمين القوة ثم يأتي من هناك كابن الإنسان متسربلاً بالمجد والجلال لكي يدين، وإذا راجعنا كلام الرسول بطرس وغيره من يوم الخمسين فصاعدًا نرى أنهم نادوا بالمسيح إلى إسرائيل بحسب هذه الصفات عينها فأنهم كانوا يصرحون بارتفاعه إلى يمين الله (أعمال 33:2؛ 55:7، 56) وأنه مزمع أن يأتي لكي يدين (أعمال 19:2، 20) وكل من آمن به صار ينظره هكذا بعين الإيمان (بطرس الأولى 122:3؛ أعمال 42:10) وأما غير المؤمنين فسينظرونه على هذه الهيئة في وقت إتيانه رغمًا عنهم. وهذه الحقائق مما يختص بسيادته المطلقة كابن الإنسان بحسب (المزمورين 8، 110 ودا 7) ونبوات أخرى كثيرة جدًا.

«فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه إلخ» (عدد 65) تظاهر رئيس الكهنة بغيظ شديد قائلاً، أنه ليست حاجة بعد إلى شهادات. فحكموا عليه كمجدف (لاويين 16:24) بموجب شهادته بالحق الخاص بشخصه. فكانت المحاكمة محاكمة باطلة ومخالفة لمبادئ الحق والعدل فأنهم بدون خجل طلبوا شهادة زور. ثم لما انتهت المحاكمة الصورية انفك القيد الذي كان يمنع إجراء شرهم وبغض قلوبهم إذ كانت هذه ساعتهم وسلطان الظلمة فأخذوا يتسابقون معًا في إظهار كل نوع من الإهانة والظلم ضد فريستهم الوديعة القدوسة فأنهم بصقوا عليه ولكموه ولطموه وغطوا وجهه وسألوه أن يستعمل معرفته الإلهية كالمسيح ابن الله ويقول لهم من ضربه. فاحتمل كل ذلك بصبر وسكوت مع أنه كان يعرف سرائر جميع القلوب.

إنكار بطرس

(عدد 69-75؛ مرقس 66:14-72؛ لوقا 55:22-62؛ يوحنا 25:18-27)

 «أما بطرس فكان جالسًا خارجًا في الدار. فجاءت إليه جارية قائلة، وأنت كنت مع يسوع الجليلي. فأنكر قدام الجميع قائلاً، لست أدري ما تقولين. ثم إذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى فقالت للذين هناك، وهذا كان مع يسوع الناصري. فأنكر أيضًا بقسم، إني لست أعرف الرجل. وبعد قليل جاء القيام وقالوا لبطرس، حقًا أنت أيضًا منهم، فأن لغتك تظهرك. فابتدأ حينئذ يلعن ويحلف، إني لا أعرف الرجل. وللوقت صاح الديك. فتذكر بطرس كلام يسوع الذي قال له أنك قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات. فخرج إلى خارج وبكى بكاء مرًا» (69-75).

قد رأينا في (عدد 58) أن بطرس تبعه من بعيد قابل (مرقس 54:14؛ يوحنا 15:18، 16) ثم بعد دخولهم جميعًا إلى دار رئيس الكهنة واجتماعهم على فريسة غضبهم دخل بطرس أيضًا بوساطة يوحنا لدى البوابة وكأنه ليس مُباليًا كثيرًا بما يجرى وجلس بين الخُدام لينظر النهاية. ولكنه لا يقدر أن يختفي عن نظر الذين يُبغضون المسيح وكل مَنْ التصق به. فلما انكشف أمره المرة الأولى تظاهر بأنه لا يفهم كلام الجارية. فيُحتمل أنه قصد أن يتظاهر كأنه من اليهود المُستوطنين في البُلدان الأجنبية ومن ثمَّ لا يقدر أن يفهم الكلام الدارج بين اليهود في وطنهم. ثم لما اعترضته جارية أخرى وصارت تقول للذين هناك أن هذا كان مع يسوع الناصري ازداد خوف بطرس من أن أمره ينكشف لجميع الحاضرين فأنكر أيضًا بقسم إني لست أعرف الرجل. ولكن وا أسفاه! فإنه قد اشتبك بحبائل القانص المُحتال الذي لا يتركه ينجو بدون أن يسقط سقوطًا أعظم. ثم بعد قليل جاء أُناس من الذين خرجوا إلى البستان وشاهدوا ما جرى هناك وقالوا لبطرس «حقًا أنت أيضًا منهم ولُغتك تُظهرك» فعند ذلك ابتدأ «يلعن ويحلف إني لا أعرف الرجل» قد صارت له الفُرصة أن يموت مع سيده بحسب قوله السابق، ولكنه امتلأ خوفًا وأنكره فظهرت منه أثمار الجسد الفاسد. وعدا ذلك نرى أنه لم يكن لزوم لِما عَمِلَ لأن أمره انكشف ومع ذلك فما من واحد ألقى القبض عليه. ولكن الله تذكر عبده المسكين، ولما ظهر سقوطه تمامًا أعطى الله العلامة لتنبيهه. إذ «صاح الديك». وحينئذ تذكر كلام يسوع وابتدأ يشعر بضعف الإنسان وعجزه عن الوقوف بنفسه أمام الخطية وأمام عدو نفسه. ثم خرج إلى خارج وبكى بُكاءً مُرًا. ولكن دموعه لا تقدر أن تمحو خطيته مع أنها تُبرهن لنا وجود استقامة النية فيه بل والمحبة القلبية أيضًا لذلك السيد العزيز الذي كان قد أنكره على أسلوب يدعو إلى الخجل. ونرى أيضًا في سقوط بطرس أننا نحتاج إلى أكثر من استقامة القلب لكي نثبُت ضد مكايد إبليس. فإن الذي يُمهد الطريق أمام المُجرب لإسقاطنا أكثر مما سواه هو الثقة بالذات. ويُمكننا أن نُحب الرب حقيقة ومع ذلك لا نكون قد تعلمنا بعد عدم الثقة بالذات كما يجب. كانت خطية بطرس عظيمة جدًا. ومما عظَّمها أن الرب كان قد أنذره إنذارًا صريحًا من قبل، ولكنه بسبب ثقته الشديدة في ذاته لم يقدر أن يتنبه إلى الإنذار. ولكن بقدر ما كانت خطيته عظيمة كانت توبته مُرَّة. لا يذكُر مَتَّى أن الرب التفت ونظر إلى بطرس (لوقا 61:22) لأن قصده الخاص أن يذكُر فاعلية كلام الرب في قلب بطرس بعد ما انتبه فصياح الديك قد نبههُ ثم أتى به كلام الرب إلى التوبة. الانتباه إلى سقوطنا لا يكفينا وحده. لأنه إن لم يفعل فينا كلام الله نقطع الرجاء من جهة القبول عنده أيضًا كيهوذا الاسخريوطي (إصحاح 3:27-5) أو نتهور أكثر في الخطية وهكذا دائمًا في مُعاملة الرب معنا، فإنه كثيرًا ما يتركنا لأنفُسنا لكي نختبر ضعفنا وقوة العدو. ثم بعد ما يَرُد نُفوسنا نسلك بالتواضع أكثر من ذي قبل ونكون بقوة الله أقوياء فيما كنا فيه بأنفُسنا ضُعفاء.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة