لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

الإصحاح الخامس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الإصحاح الخامس

الموعظة على الجبل (إصحاح 5، 6، 7 مع 1:8)

(قابل لوقا 20:6-49)

(المقدمة إصحاح 1:5، 2)

 

«ولما رأى يسوع الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم قائلاً» (عدد 1، 2).

قد سمى كلام سيدنا المتضمن في الإصحاحات 5، 6، 7 «الموعظة على الجبل». ولا بأس في ذلك، ولو أن الأفضل تسميتها «مبادئ الملكوت» غير أنه علينا أن نُبقى في بالنا أولاً: أنه لم ينطق بها في بداءة خدمته كما قد رأينا في آخر الإصحاح الرابع حيث يذكر البشير جزءًا كبيرًا من خدمة الرب في نواحي الجليل. ثانيًا: أنه ليس من مقاصد الوحي هنا أن يحدد لنا وقت النطق بهذه الموعظة، ولكنه فقط يذكر الظروف المتعلقة بالنطق بها. فالأهمية لظروفها لا لتاريخها. ربما نطق بها بعد انتخاب الإثني عشر رسولاً، المذكور في(إصحاح 10). قابل ذلك مع (لوقا 13:6).

كانت قد تبعته جموع كثيرة (إصحاح 25:4) متوقعة إقامة الملكوت (قابل لوقا 11:19). وكان البعض قد صاروا تلاميذ له. وفي ذات يوم، والحالة هذه، صعد إلى الجبل، فلما جلس للتعليم أخذ يعلم تلاميذه من جهة الملكوت المنتظر على مسمع من الجموع. (أنظر إصحاح 28:7، 29) حيث نرى أن الجموع قد سمعت تعليمه وبهتت منه.

 

التطويبات أو البر اللازم لدخول الملكوت

(عدد 3-29 قابل لوقا 20:6، 2)

«طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات» (عدد 3) مسكنة الروح هي الوداعة والتواضع. لأنها عبارة عن شعور النفس بحاجتها وافتقارها إلى الله كغناها الروحي الحقيقي مهما كان غناها حسب الجسد.

السماوات كرسي الله، والأرض موطئ قدميه، ولكنه ينظر إلى المسكين والمنسحق الروح (إشعياء 2:66 أنظر أيضًا15:57). إن الإنسان الساقط معتد بنفسه ولا سيما إذا كانت له بعض امتيازات دينية تميزه عن غيره. لأنه يحب أن يعتمد على الصورة الخارجية، بغض النظر عن حالته الداخلية (إصحاح 8:15). فيفتخر بنفسه وبامتيازاته افتخارًا زائدًا ويحتقر الآخرين. ولا يُخفى أن اليهود على وجه الإجمال كانوا على هذه الحالة وقت ظهور المسيح في وسطهم. فصرَّح أن ملكوت السماوات ليس لهم بل هو للمساكين بالروح. لأن هؤلاء عرفوا عدم استحقاقهم، واستعدوا لقبول الملكوت من مجرد نعمة الله، وليس لانتسابهم لإبراهيم حسب الجسد فهؤلاء هم الذين لهم الطوبى أي الغبطة والبركة.

«طوبى للحزانى لأنهم يتعزون» (عدد 4) كان البعض، وهم المساكين بالروح في حالة الحزن والنوح على سوء حالة شعب الله المختار1، فلهؤلاء تكون تعزية الملكوت (إشعياء 1:61-3)، وليس للمتكبرين (عاموس 6:6).

«طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض» (عدد 5). الوداعة هي الحلم نحو المعتدين علينا. هكذا كان المسيح (إشعياء 7:53)، وهكذا يجب أن نكون نحن، ووداعتنا وحلمنا مع الآخرين، هما نتيجة ضرورية للمسكنة بالروح الناشئة عن شعورنا بحالتنا وحالة الآخرين، والحزن على أنفسنا والرثاء لهم. هذا هو الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن (بطرس الأولى 4:3).

«يرثون الأرض». الأرض هنا هي أرض كنعان. لما دخل بنو إسرائيل أرض كنعان قديمًا تحت قيادة يشوع، لم يتوقف امتلاكهم إياها على وداعتهم أو على إحدى صفاتهم الأخرى، بل على كونهم من نسل إبراهيم (تكوين 18:15-20؛ تثنية 3:9-6). ثم بعد انحطاطهم استولى عليهم الأجانب. وحينئذ أخذ الله يعطيهم مواعيد من جهة إقامتهم في الأرض، ولكنها اتجهت إلى الذين اتصفوا بالصفات المُرضية لله (مزمور 9:37-34؛ صفنيا 3:2) ومن وقت سبي بابل، بل ومن قبل ذلك لم يكن بنو إسرائيل ممتلكين أرض كنعان امتلاكًا حقيقيًا، فعرفوا ذلك، وشعروا بمرارته، وانتظروا مسيحهم لكي يُملكهم إياها تمامًا، ويمتعهم بخيراتها. ثم لما حضر الوارث الحقيقي لكرسي داود في وسطهم، كان أعظم سؤال حينئذ هو، من هم الذين سيرثون الأرض؟ وظن الفريسيون أنها لابد أن تكون لهم، ولكن فيهم شيء من الوداعة أو الصفات الأخرى التي تجعلهم أهلاً لدخول الملكوت. ولو أن المسيح أقام الملكوت بالقوة في ذلك الوقت لقطع أولئك الذين لقبهم المعمدان «بأولاد الأفاعي» ووصفهم بشجر عديم الثمر. قال داود النبي «لأن عاملي الشر يقطعون. والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشرير. تطلع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة» (مزمور 9:37-11).

لا حاجة إلى القول أن المواعيد من هذا القبيل ليست لنا كمسيحيين. بل هي لليهود. لأنه من الأمور المعروفة جيدًا عندنا أن المسيح بعد رفضه لم يكن الودعاء في أرض كنعان لكي يتلذذوا بكثرة السلامة إلا أنه عّين لهم نصيبًا أفضل، أي سماويًا (أفسس 3:1؛ بطرس الأولى 4:1). أما بالنسبة للأرض، فقد وعدهم فيها بالضيق والاضطهاد (يوحنا 33:16) وطلب منهم أن يعيشوا فيها كغرباء ونزلاء (بطرس الأولى 11:2).

«طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون» (عدد 6). البر هنا، عبارة عن الصلاح الإلهي. هذا البر لم يكن موجودًا في وسط إسرائيل (هوشع 3:8). أما الأتقياء بينهم، فرغم أنهم حافظوا كل المحافظة على الفرائض التي ترتبت لهم من قبل الله ، لم يقدروا أن يكتفوا بذلك وإنما كانوا مشتاقين إلى شيء أفضل (مزمور 16:51، 17؛ ميخا 6:6-8)، فلما أعلن لهم المسيح شبعوا به. لما رأى سمعان الشيخ البار التقي الصبي يسوع وعرف بالروح القدس من هو، أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرت خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل» (لوقا 25:18-32). لقد اشتاق هو وأمثاله إلى البر، ووجدوه في المسيح فشبعوا.

«طوبى للرحماء لأنهم يًرحمون» (عدد 7). قال داود النبي للرب «مع الرحيم تكون رحيمًا. مع الرجل الكامل تكون كاملاً. مع الطاهر تكون طاهرًا ومع الأعوج تكون ملتويًا. لأنك أنت تخلص الشعب البائس والأعين المرتفعة تضعها» (مزمور 25:18-27). ومعني ذلك أن الله في معاملاته السياسية مع شعبه (كحاكم) يعامل كل واحد بحسب أعماله (قابل بطرس الأولى 17:1). فيرحم الرحيم أما الأعوج فيقلب طرقه على رأسه (إصحاح 23:18-35).

والرحيم هو الذي اختبر تقصيراته، وانسحق حزنًا عليها، شاعرًا بحاجته الشديدة لرحمة الله . ولذلك فهو يُظهر الرحمة للآخرين. أما الناموسي المعتد ببره الذاتي فلا يعرف الرحمة، ويبادر بالحكم على الآخرين بمقتضى الشريعة، ناسيًا أنه لو جرت الشريعة مجراها الخاص، لأدانته قبل الكل (أنظر يوحنا 1:8-11). لنلاحظ أن قصد الوحي هنا، ليس أن يشرح طريق الخلاص، بل أن يفصح عن الصفات اللازمة لمن أراد أن يدخل الملكوت، بغض النظر عن الواسطة التي بها يحصل على هذه الصفات، التي هي الميلاد الثاني ونوال الحياة الأبدية بقبول المسيح (يوحنا 12:1، 13).

«طوبى للأنقياء القلب لأنهم يًعاينون الله» (عدد 8). سأل داود النبي «من يصعد إلى جبل الله؟ ومن يقوم في موضع قدسه؟» (مزمور 3:24)، وقد أُلهم بالجواب في نفس المزمور بقوله «الطاهر اليدين والنقي القلب» (عدد 4). فالقلب النقي هو القلب الذي قد تطهر من الشهوات (بطرس الأولى 22:1) التي تفسد العواطف وتُعدمنا التمييز الروحي أو البصيرة الروحية.

ومعاينة الله هنا كناية عن المعرفة الحقيقية والتمتع به. وواضح من الكتاب المقدس أن الله من حيث جوهر طبيعته أو اللاهوت، لم يُرَ ولن يُرى ( يوحنا 18:1؛ تيموثاوس الأولى 16:6). ولكنه قد أعلن نفسه بيسوع المسيح الذي هو بالحقيقة الله ظاهرًا في الجسد (تيموثاوس الأولى 16:3). ومن رآه فقد رأى الآب (يوحنا 9:14).

وأما من جهة وقت معاينة الله فأقول، أن النقي القلب يعاين الله الآن (مزمور 15:17)، أي أنه يعرفه، ويتمتع به حسب الإعلان الكامل الذي صار لنا في ربنا يسوع المسيح. على أنه يزداد في ذلك على قدر ما ينمو في القداسة العملية (كورنثوس الثانية 18:3) إلى أن يصير كاملاً فيه بعد صيرورته على صورة جسد مجد الرب (كورنثوس الأولى 12:13، يوحنا الأولى 2:3، رؤيا 4:22).

«طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» (عدد 9). الله هو «إله السلام» (تسالونيكي الأولى 23:5، فيلبي 9:4). أما البشر، فلا سلام لهم ولا استقرار، بل هم دائمًا في حالة الاضطراب والكدر، كالبحر المضطرب الذي لا يستطيع أن يهدأ بل تقذف مياهه حمأة وطينًا (إشعياء 20:57، 21). يظلمون بعضهم بعضًا. والظالم والمظلوم عديما السلام. وقلوبهم الممتلئة بالشهوات لا تدعهم يستريحون ولا يكتفون بما عندهم. فالله وحده، هو مصدر السلام، وهو أول صانعي السلام، لأنه صنعه بدم ابنه الحبيب1 فالذين قد شربوا من هذا الينبوع يتمثلون بإلههم، إله السلام، ويدعون أبناءه2، ليس بالنظر إلى ولادتهم الولادة الثانية منه، بل بالنظر إلى تصرفهم على هذا النحو تمثلاً بأبيهم. لا شك أنه ينبغي أولاً أن نولد من فوق، ونصير أولاد الله بالحقيقة، لكي يمكننا أن نتمثل به كأولاد أحباء (أفسس 1:5). ولكن الكلام الذي نحن بصدده الآن خاص بالصفات الحسنة الظاهرة في السلوك، لا بالولادة الجديدة التي هي مصدرها.

ليلاحظ القارئ أن المسيح نفسه، كإنسان، أتصف بجميع هذه الصفات المبينة هنا، لأنها ظهرت فيه كاملة، كإنسان قد سلك في هذا العالم. والذين قبلوه، صاروا هم أيضًا متصفين بها، ولكن جزئيًا، وبدرجات متفاوتة، فهي ليست موجودة في أحد منهم في كمالها المطلق الذي ظهرت به في المسيح.

ثم إذا راجعنا هذه التطويبات، نراها مقترنة معًا، ومترتبة على بعضها. لأن المسكين بالروح لا يطلب أشياء عظيمة لنفسه، بل يرضى لنفسه بأي مقام مهما كان حقيرًا في هذا المشهد المبتعد عن الله، والذي فيه كل الأمور مضادة لله وله . ومن ثم فهو يتصف بالحزن ثم بالوداعة، بحيث أنه لا يرفع إرادته على إرادة الله، ولا يتخاصم مع الآخرين، ولا يدافع عن حقوقه الأرضية، بل يشتاق إلى البر، ولا يجده في العالم، ومن ثم لا يقدر أن يروي ظمأه إلا بذاك الذي هو ينبوع الصلاح. ويترتب على ذلك أنه يكون شفوقًا ولطيفًا نحو الآخرين، ولا سيما المتضايقين، ويتطهر قلبه من محبة العالم التي تمنعه من معرفة الله، ومن العطف على الآخرين، وإذ ذاك يتمتع بالسلام، لا في أرض كنعان بل في قلبه، ويصنع السلام مع الآخرين، متمثلاً بالله.

وكنا نظن أن المتصفين بهذه الصفات يحظون برضى الناس. ولكن ليس الأمر كذلك، بل عندما يشاهدهم العالم تهيج بغضته لهم بسبب بغضته لمسيحهم (مزمور 20:38؛ 6:120، 7) ولذلك فالتطويب الثامن يعلن وقوف العالم في وجههم لظهور الصفات الشاهدة للمسيح فيهم.

العالم في مقاومته لأبناء الملكوت (عدد 10-12)

(قابل لوقا 22:6، 23)

«طوبى للمطرودين لأجل البر. لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات. فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم.» (عدد 10-12). يُذكر هنا سببان للاضطهاد، وهما، البر، واسم المسيح: لا يُخفى أن العالم، غير المنتسب للمسيح، يهيج علينا أوقاتًا كثيرة، لمجرد بغضه لاسم سيدنا. وأما الذين قد انتسبوا له، ولهم فقط صورة التقوى بدون قوتها، فلا يضطهدوننا لأجل اعترافنا باسم المسيح، لنهم هم أيضًا معترفون به، ولكنهم يضطهدوننا لأجل الحق والسلك الناتج عنه. لأن ذلك شهادة صريحة عليهم، فلا يطيقونها. وقد الاضطهاد على تلاميذ المسيح لهذين السببين. لأن اليهود، غير المؤمنين، ابغضوا الاعتراف باسم المسيح (أعمال الرسل 8:5) كما ابغضوا البر1 أيضًا (يوحنا 20:3؛ 7:7). يفترض الرب بكلامه هذا وجود تلاميذه في وسط إسرائيل الذين اشتهروا من الزمان القديم باضطهادهم للأنبياء ولكن الحال واحد مع البشر في كل زمان ومكان. (يوحنا 19:15).

«لأن أجركم عظيم في السماوات». هذا تلميح إلى أن جزاءهم سوف لا يكون في الملكوت على الأرض، وتنبه سابق بأن رؤساء الأمة سيرفضون مبادئ الملكوت. لو أقام المسيح ملكوته بالقوة في ذلك الوقت، لقطع غير التائبين جميعًا وأبادهم من الأرض، ثم جازى تلاميذه أيضًا على الأرض (مزمور 8:101؛ مَتَّى 41:13). ولا يُخفى أن تلاميذه استمروا منتظرين ذلك حتى وقت موته، ثم انقطع رجاؤهم واصبحوا في حيرة لا توصف (لوقا 21:24).

مركز بني الملكوت ومسئوليتهم (عدد13-16)

(قابل مرقس 50:9 مع لوقا 14:34، 35؛ مرقس 21:4، 25 مع لوقا 16:8-18؛ 33:11).

«أنتم ملح الأرض. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجًا ويداس من الناس» (عدد13). «انتم ملح الأرض». الأرض هنا أيضًا هي أرض كنعان. أنه لا يزال يفترض وجود التلاميذ في وسط إسرائيل. والملح كناية عن القوة التي تُنشئ القداسة العملية، أو كناية عما من شأنه يحفظنا من الفساد. وهذا من الحقائق المطلقة في كل عهد. كان يجب على إسرائيل جميعًا أن يكونوا ملح الأرض، ولكنهم فسدوا ولم يعودوا يصلحون لشيء إلا لان يُطرحوا خارجًا، خرج أرض إسرائيل، ويداسوا من الأمم. وهذا ما صار فعلاً. ثم قام تلاميذ المسيح مقامهم، فحذرهم من الفساد لأنهم إن لم يحتفظوا بالقداسة في سلوكهم فأنهم يُرفضون من هذا المركز2

لا نقدر أن نقول إن الكنيسة هي ملح الأرض، لأنه بعد موت المسيح وتكوين الكنيسة، لم يبق رجاء بعد لأن تحفظ الأرض من الفساد، لا أرض كنعان بصفة خاصة، ولا كل الأرض بصفة عامة لأن البشر جميعًا، يهودًا وأممًا اظهروا الرداءة التامة برفضهم بن الله ، وصلبهم إياه، فصارت الدينونة مؤكدة. على أنه من واجباتنا، الدائمة والمعروفة. أن نحافظ على السلوك التقوي كقول الرب «ليكن لكم في أنفسكم ملح. وسالموا بعضكم بعضًا» (مرقس 50:9). ولنلاحظ أيضًا أنه ليس من خصوصيات الملح أن يُصلح الفاسد، بل أن يحفظ الجيد في حالة الجودة كقول الرسول «.. قدرته الإلهية بد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى .. لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة» (بطرس الثانية 3:1، 4). «أنتم نور العالم. لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على حبل. ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضيء لجميع الذين في البيت فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» (عدد14-16).

أن قول الرب للتلاميذ «أنتم نور العالم» اعم من فوله « أنت ملح الأرض» ويصدق عليهم ليس في وسط إسرائيل في أرض كنعان فقط، بل وفي العالم كله أيضًا.

قيل عن المؤمنين، من وقت غياب الرب عنهم بالجسد في السماء، أنهم «أبناء نور» (لوقا 8:16؛ يوحنا 36:12؛ أفسس 8:5؛ تسالونيكي الأولى 5:5). لا بل وأنهم «نور في الرب» أيضًا، لا في ذواتهم، لأن الرب فيهم هو نورهم (مزمور 1:27)، وحياتهم (يوحنا 4:1؛ 12:8). كان المسيح هو النور الحقيقي الذي أشرق على الظلام الدامس في العالم المظلم ليُنير كل إنسان، وبعد غيابه أقام التلاميذ مقامه (فيلبي 15:2).

ولنلاحظ أن النور شئ، والأعمال الحسنه شئ آخر لأن النور هو الأصل في الداخل والأعمال الحسنه هي ضياؤه في الخارج. فهو المسيح في القلب، وهي صفات المسيح في التصرفات. قيل عنا أننا «نور في الرب» لأن إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله، قد أشرق في قلوبنا (كورنثوس الثانية 4:4-6). فموضع النور هو القلب لا العقل وإن كان فتح كلام الله يُنير ويعقل الجُهال (مزمور 13:119)، فذلك لأنه يفعل في أفكار القلب ونياتَهُ (عبرانيين 12:4،13). وينتج عن ذلك أننا نصنع أعمالنا باسم المسيح، ولإرضاء الله الذي معه أمرنا، فنُراعي ما يليق بنسبتنا له كأولاده، باعتباره أبينا، وللمسيح، كعبيده ومفدييه، باعتباره ربنا وفادينا، في تصرفاتنا اليومية الدقيقة، حتى في الأكل والشرب. إن بواعث العمل داخلية. أما كيفيته فظاهرة. ومن رأى العمل، استدل منه على بواعثه، الإلهية الداخلية ويُعرف أن أبانا السماوي هو العامل فينا بنعمته الفعالة.

والرب لا يقول «لتضيء أعمالكم الحسنه قدام الناس» بل يقول «ليضيء نوركم» أي ليظهر المسيح فيكم. فإن كل عمل يتصف، ليس بحسنه أو برداءته في ذاته فقط، بل أيضًا بما يظهر فيه من نية العامل ومقاصده. فإنه يمكن لشخصين أن يشتركا في عمل واحد، ويمدح الواحد ويلام الآخر، لكون الواحد قاصدًا مجد الله طاعة لمشيئته والآخر قاصدًا مصلحة نفسه.

والأعمال الحسنه المقصودة هنا ليست هي المألوفة والمعروفة بين الناس الآن بهذا الاسم، بل هي جميع تصرفات المسيح كمتعلمين منه إياها، ومقتدين به فيها.

وفي قوله «لكي يروا أعمالكم الحسنه ويمجدوا أباكم الذي في السماوات» يفترض أن البعض يستفيدون من مشاهدتها، وينسبونها للذي هو مصدرها الحقيقي ولا ينسبونها لنا. حتى أن الرجل غير المؤمن يمكن أن يُربح

للإيمان المسيحي بمشاهدة سيرة امرأته التقية أنظر (بطرس الأولى 1:3،2). وقد رأينا في سياق الكلام الذي نحن بصدده أن الجانب الأكبر من الناس يستمرون في بغضهم للنور ويعيرون ويطردون أولاد النور. إن كنا نعمل أعمالاً حسنه لإفادة الناس، بقطع النظر عن اسم المسيح ومجد الله، فإنهم يُسرون بنا ويمدحوننا، لأنهم يقبلون الأعمال الحسنه إن كانت غير مقترنة مع النور، ولا صادرة عنه.

سلطان الناموس والأنبياء (عدد 17-20)

«لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأُكمل. فأني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد ولا نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (عدد 17،18).

كان الناموس نيرًا لم يستطع إسرائيل أن يحمله (أعمال الرسل 10:15). وطالما وبخهم الأنبياء على مخالفتهم إياه. ولكن بدون نتيجة حسنه. ولم يزل الناموس حاكمًا عليهم (غلاطية ا10:3). وأما الآن فقد حضر المسيح بينهم ليعلمهم. فهل يا ترى يُنسخ الناموس؟ أو يُخفف مطاليبهُ عنهم؟ إنه لا يعمل هذا ولا ذاك، لأن الناموس صالح ومقدس وعادل (رومية 12:7)، وليس اللوم عليه، بل عليهم. فإذن، لم يأت المسيح ليُنقض شيئًا من الناموس أو الأنبياء.

أما قوله «لأُكمل» فمعناه، أولاً- إنه لا يبطل سلطان الناموس والأنبياء بل يُبقيه في وضعه الإلهي. ثانيًا- إنه بذاته تكميل الناموس والأنبياء.

يجب أن نلاحظ أن الرب لا يتكلم هنا من جهة حفظه هو للناموس. لقد حفظه بلا شك حفظًا تامًا (إشعياء 21:42، مزمور 8:40)، بل وعمل ما هو أكثر من ذلك لأنه أحب أعداءه ومات لأجلهم. ولكنه يتكلم هنا عن مكانه كخاتمة أو كمالة معاملات الله مع إسرائيل، إذ أرسله إليهم كالمسيح ابن داود، ابن إبراهيم، عمانوئيل، ملك إسرائيل الحقيقي، والمعلم الذي كان يجب على الجميع أن يصغوا لأقواله (تثنية 15:18، 19؛ أعمال الرسل 22:3،26). فقد كان لهم أولاً الناموس ثم الأنبياء، ثم يوحنا المعمدان ثم المسيح (أنظر إصحاح 11:11-13) فكان حضوره تكملة، أو خاتمة طُرق الله ومُعاملاته مع إسرائيل. أنظر أيضًا المثل الوارد في (إصحاح 33:21-44) حيث نرى أن الوارث قد حضر إليهم، وإذا رفضوه فليس لهم بعد إلا الدينونة.

ولكن، وإن كان المسيح في كلامه لتلاميذه هنا، لا يُشير إلى تتميم النبوات فيه، ولا إلى حفظه الناموس، وحِملهُ لعنته، إلا أن هذا ما تم فعلاً. وبذلك أيضًا أكمل الناموس والأنبياء. لأنهما كان يجب أن يبقيا ليُكملا حسب قوله هنا«حتى يكون الكل» (عدد 18)، وبعد أن يُكملا يجب أن يُبقيا أيضًا (رومية 31:3) شهادة للمسيح أنه هو الذي أحتمل عنا لعنة الناموس المكسور، فأكمل بذلك كل مطاليبهُ ورموزهُ، كما أكمل ضمنًا نبوات الأنبياء عنه (يوحنا 28:19-30) وهكذا أكمل هو كل المكتوب عنه في الناموس والأنبياء (مَتَّى 56:26). فلم يكن بالناموس والأنبياء نقص يحتاج للتكميل، بل كان فيها كل الكفاية اللازمة في وقتها والتي من شأنها أن تقود إلى المسيح (غلاطية 24:3). ولكننا بعد موت المسيح، لسنا بعد تحت الناموس، الوصايا أو الطقوس، بل تحت النعمة. لأننا متنا بموت المسيح، للناموس كله، لنحيا لله بحياة المسيح، وطبقًا لقدوته، وبقوة روح الحياة في شخصه المقام من بين الأموات.

«فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يُدعى أصغر في ملكوت السماوات. وأما من عَمِل وعلَّم يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات. فإني أقول لكم إن لم يزد بركُم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات» (عدد 19،20).

يبدو من قوله «هذه الوصايا الصغرى»، انه يستعمل لفظة «الناموس» بمعنى أوسع من الوصايا العشر. لأنه من المستحيل أن الرب يسمي شيئًا منها صغيرًا أنظر (إصحاح 36:22-40) حيث سأله واحد «أية وصية هي العظمى في الناموس؟» فالمسيح بجوابه نسب الأهمية العظمى للناموس كله إذ قال إن جُزءه الأول الخاص بواجب المحبة لله عظيم. والثاني، الخاص بواجب المحبة للقريب، عظيم مثله.

«فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى»، أي أبطلها مُعْتَبِرًا إياها عديمة الأهمية. وهذا يتناسب بحسب وجهة نظره هو، لا في ذاتها، إذ ليس في وصايا الله ما لا أهمية له.

«وعلَّم الناس هكذا»، أي واتخذ لنفسه وظيفة معلم، وأخذ يعلم الآخرين بطلانها، ويشجعهم على عدم التقيد بها. فليس هذا إلا امتهان لسلطان من وضع الناموس لإرشاد شعبه، بل واختلاس لحقوقه. والذي يفعل ذلك لا يكون خاضعًا للملك صاحب السلطان بل عدوًا له ومُقَاِومًا لسلطانه. ولا يخفى أن الكتبة والفريسيين أبطلوا، بتقاليدهم وتعاليمهم، ناموس الله، وعلموا الناموس هكذا أبطلوا، ليس ما اعتبروه بحسب وجهة نظرهم وصاياه الصغرى فقط، بل وأثقله أيضًا (إصحاح 1:15-9، 13:23-23).

«يُدعى أصغر في ملكوت السماوات»، لفظة «أصغر» الواقعة هنا هي نعت للذي نقض شيئًا من الوصايا، تقابل لفظة «الصغرى» الواقعة نعتًا للوصايا. فكما عمل مع وصايا الله، هكذا يُعامله الله. في هذه العبارة يتكلم الرب عن الكتبة والفريسيين الذين يشغلون مركز المعلمين، بينما كانوا أكبر المُقاومين له من الأول إلى الآخر.

«وأما من عَمٍلَ وعلَّم فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات» أي من آمن بما لكل وصية في الناموس من العظمة والأهمية، وعَمِلَ وعلَّم بها، على هذا الاعتبار، فيُعاملهُ الله كما عامل هو وصاياه فيجعله عظيمًا في ملكوته.

ثم يوجه الخطاب لتلاميذه قائلاً «فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات». لم يكن الكتبة والفريسيون سوى مُرائين، حتى عندما كانوا يُعلمون تعليمًا صحيحًا من الكتاب، لأنهم كانوا «يقولون ولا يفعلون» (إصحاح 1:23-4)، والرياء ليس مما يؤهل الناس لدخول الملكوت.

لا يوضح الرب هنا، ما هو البر، ولا كيفية الحصول عليه، وإذ ليست هذه الموعظة إلا بمثابة نداء ملكي يدعو إلى وليمة ملكية مثلاً. ويصف بالتفصيل نوع الثياب التي يجب على الضيوف أن يحضروا بها، دون أن يقول لهم من أين، ولا كيف يحصلون عليها. على أنه واضح أن زيادة البر المطلوبة هي من جهة النوع، وليس من جهة الكمية.

 

مقارنة بين تعليم الناموس وتعليم المسيح (عدد 21-48).

«قد سمعتم أنه قيل للقدماء، لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم وأما أنا فأقول لكم أن من يبغض على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم. ومن قال لأخيه رقاً يكون مستوجب المجمع. ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم» (عدد 21،22).

قال البعض أن غاية الرب العظمى من الموعظة أن يفسر الناموس روحيًا، أي تفسيرًا يناسب مقام المسيحيين. ولكن الأمر ليس كذلك. لأنه لا يتناول شرح الناموس المُسمى «الأدبي» بل قصد أن يضع المبادئ السامية التي تليق بملكوته. ولا شك أن جميع أقوال الرب نافعة وجديدة من عنده، لأنه هو المصدر الإلهي للكل.

«قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم..» ربما يبدو للقارئ لأول وهلة، عند قراءته للفقرة الأخيرة، «وأما أنا فأقول لكم» أن هناك مضادة بين تعليم المسيح، والناموس. ولكن لا يمكن للرب أن يُعلم شيئًا مضادًا لأقوال الله. بعد أن أيد سلطانها، وأكد دوامها في الأعداد من(17-19). على أن له في الوقت نفسه، أن يوضح حقيقتها أكثر بحسب النور الذي سطع بحضوره.

«قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل»، هذه هي الوصية، «ومن قتل يكون مستوجب الحكم» أي الحكم بالموت على كل قاتل نفس، وهذا صحيح «وأما أنا فأقول لكم من يَغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم». المرجح أن ليس للفظة «باطلاً» أصل في أصح النسخ وأقدامها. وبفرض وجودها، فمعناها بدون أن يكون ذلك الغضب لأجل مجد الله. بل لحقد في النفس مَبعَثه البغضة التي هي روح القتل نفسه في الباطن (يوحنا الأولى 15:3). فيوضح الرب أن وصية الله هذه، لا تُطلق على القتل الفعلي فقط. بل وأيضًا على حاسيات وانفعالات الغضب التي تحمل عليه.

ثم يُذكر ثلاث درجات من الغضب. أولاً- مجرد تحرك الغضب في قلب الإنسان على أخيه الإنسان. ثانيًا- التعبير عنه بقوله لأخيه «رقا» أي فارغ، أو عديم النفع، أو «باطل» ‘وهي نفس الكلمة المترجمة في (صموئيل الثاني 20:6 ) «أحد السفهاء»، التي عبرت بها ميكال عن احتقارها لداود’. ثالثًا- غضبًا أشد يحمله على أن يقول لأخيه «يا أحمق»، (أي يا غبي أويا جاهل. وهي كلمة تنم عن الاحتقار، وهي نفس الكلمة المترجمة «مردة» في (عدد 10:20)، وبسبها مُنعَ موسى وهرون من الدخول إلى أرض الموعد).

بعد ذلك يذكر ثلاث درجات من القصاص، معروفة لليهود، تقابل الثلاث الدرجات من الغضب. أولاً- من تحرك الغضب في قلبه يستوجب الحكم، أي الإدانة من فم القاضي في المحاكم اليهودية الموجودة في المدن طبقًا لما جاء في (تثنية 18:16-20). ثانيًا مَن نطق بأقل كلمة، تعبيرًا عن غضبه، يستوجب الحكم من المجمع 1 ، وهو حرمانه من حقوقه الدينية كيهودي (أنظر يوحنا 42:12). ثالثًا- مَن حُمِلَ بفيض غضبه ونطق بكلام أشد من ذلك نظير القول يا أحمق «يستوجب نار جهنم»، إذ يستحق أن يُقطع بلا رجاء ويُلقى في القصاص المؤبد.

وعليه، فلا ينتج من قول الرب أن خطية الغضب، أو القول «رقا»، أو أي خطية أخرى لا تستوجب القصاص المؤبد، ككلمة «يا أحمق»، بل إذا مات الخاطئ بلا توبة، فمهما كان نوع خطيته، بالقلب، أو الفم، أو بالفعل، فلابد من هلاكه الأبدي.

«فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئًا عليك. فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك. وحينئذ تعال وقدم قربانك» (عدد 23،24). يتابع الرب أقواله بخصوص وجود حاسيات الغضب والنفور بين أخوة. ولا يخفى أنه يشير هنا إلى العبادة اليهودية. ولنلاحظ أنه لا يقول «وهناك تذكرت أن لك شيئًا على أخيك»، بل «أن لأخيك شيئًا عليك»، لأن الله لا يرضى بعبادة وحالة هذه. وتَصدق هذه الحقيقة على تلاميذ المسيح في كل وقت. لأن وجود حاسيات الغضب والنفور بين الاخوة لا يتفق بالمرة مع الاقتراب إلى الله لأجل العبادة.

يظن البعض أن هذه الأقوال تُصدق علينا فقط عند الاقتراب إلى مائدة الرب. ولكن هذا الظن خطأ عظيم جدًا، إذ أنه يوهم الناس أنه لا بأس من أن يتغافلوا عن حالتهم من هذا القبيل في الأوقات الأخرى. وهكذا قد صار الحال مع الكثيرين. في حين أنه يجب علينا كتلاميذ المسيح أن نراعي حالتنا الروحية وعلاقتنا مع أخوتنا، ليس بالنسبة إلى مائدة الرب فقط، بل وفي كل حين، بالنسبة أيضًا إلى قراءة كلمة الله ، والصلاة الانفرادية، لأنه حتى إذا صار تنافر بين الرجل المسيحي وامرأته أعيقت صلواتهما (بطرس الأولى 7:2).

ولا يوجد مشابهة بين المذبح اليهودي، ومائدة الرب. فقول الكتاب «لنا مذبح لا سلطان للذين يخدمون المسكن أن يأكلوا منه» (عبرانيين 10:13)، ليس هو عن مائدة الرب، التي لا يُكنى عنها المذبح. بل عن المسيح، وجميع البركات المسيحية التي لنا فيه التي يتمتع بها المؤمنين بالمقابلة مع كهنة اليهود الذين تَعين لطعامهم ما فضل من تقدمات الرب على مذبحه. (أنظر بطرس الأولى 5:2،9) عدا ذلك كله. فإن المسيحي لا يقترب إلى مائدة الرب ليُقدم قربانًا بتة لأن المسيح «بقربان واحد قد اُكملَ إلى الأبد للقدسيين» (عبرانيين 14:10). فالله هو الذي أعدا القربان الذي هو ابنه، (عبرانيين 5:10).والله هو الذي قدمه (رومية 25:3)، كما قدمه ابنه أيضًا (عبرانيين 14:9) ولا يمكن تقديمه مرة ثانية (عبرانيين 1:10-22). فلا يجوز لنا مطلقًا أن نتكلم عن اشتراكنا في عشاء الرب كأننا نقدم قربانًا قديمًا كان يقدم من الإنسان للرب أما عشاء الرب الآن فهو مُقدم من الرب لنا كما قيل «أعطي التلاميذ وقال، خذوا كلوا» وعن الكأس «اشربوا منها كلكم» (مَتَّى 26:26،27)

أنه من الأمور المُسلم بها أنه يجب علينا أن نمتحن أنفسنا ثم نأكل بضمير صالح. ولكن هذا الامتحان هو من جهة جميع طرقنا وأعمالنا لتقويمها. وان لم نحكم على أنفسنا يحكم الرب علينا بالتأديب، لكي يُلزمنا بإصلاح حالتنا. (كورنثوس الأولى 28:11-33).

أن كثيرين من المسيحيين قد تهودوا تمامًا، أقاموا أنفسهم مقام اليهود، فليست مائدة الرب عندهم سوى مذبح يهودي، ويُسمونها المذبح بالفعل. ولكن هذا خطأ نتجت عنه أخطاء ونتائج رديئة للغاية.

«كن مُراضيًا لخصمك سريعًا مادمت معه في الطريق لئلا يُسلمك الخصم إلى القاضي ويُسلمك القاضي إلى الشرطي. فتلقى في السجن. الحق أيقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير» (عدد25،26).

يتكلم الرب هنا عن معاملات الله مع إسرائيل. كان الناموس خصمًا شاكيًا عليهم (يوحنا 45:5)وبإصرارهم على الخُصومة جعلوا الرب خصمًا قاضيًا عليهم (إشعياء 10:63) كان هو معهم كخصمهم في الطريق إلى القضاء كقول يوحنا المعمدان «من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ والآن قد وَضعت الفأس على أصل الشجر» ، وقوله أيضًا عن الرب أنه بنفسه مزمع أن يُنقي بيدره ويحرق التبن (إصحاح 10:3،12) ولكن لم يزل الرب في الطريق معهم ويمكنهم أن يُراضوه بالتوبة. وإذا تابوا لا ُيسلمهم إلى القاضي، المكني به عن العدل الإلهي. لذلك لم يستعجل بهم إلى القضاء بل استخدم أولاً كل الوسائط ليأتي بهم إلى التوبة. وحتى لما نادى العدل عن الأمة الإسرائيلية غير الثمرة قائلاً «اقطعها، لماذا ُتبطل (أو تُعطل) الأرض أيضًا؟» (لوقا 6:13-9)، عاد الرب يتوسل لأجلها قائلاً «اتركها هذه السنة أيضًا» ولكن مع كل صبره عليهم وتعبه معهم، لم يتوبوا كأمة، فأدركهم الغضب إلى النهاية (تسالونيكي الأولى 14:2-16). فكلام الرب هذا يُطلق على إسرائيل من جهة سياسة الله معهم كأمته المختارة.

ولا يكني بالسجن عن نار جهنم، بل عن تأديبات الله لإسرائيل (لوقا 41:19-44؛ 20:21-24)، ولم يزالوا للآن في سجن التأديب، لكنهم سيخرجون منه فيما بعد (انظر إشعياء 1:40؛ زكريا 11:9،12)، وشهادات أُخرى كثيرة جدًا من التوراة والإنجيل تُصرح جميعها أن زمان تأديب إسرائيل كأُمة سينتهي في المستقبل ثم يخرجهم الله من سجنهم. ومن لطفه معهم، لا يحسب أنهم وفوا الفلس الأخير فقط، بل أنهم أيضًا، نالوا من يده ضعفين عن كل خطاياهم. راجع الشهادتين المشار إليهما في إشعياء وزكريا، حيث يعبر في الأخيرة عن حالتهم كأسرى في جُب بلا ماء، ولكنهم أسرى الرجاء لأن الله سيطلقهم منه، ويَرُد عليهم ضعفين من التأديب عن خطاياهم وأما بحَسب الثانية، فسينالون ضعفين من البركة من يد الله.

لا يُصدق هذا الكلام مطلقًا على معاملات الله مع الناس أفرادًا. لأنه من الحقائق المُؤكدة كل التأكيد، أن كل من مات غير تائب، يهلك هلاكًا أبديًا لان ما يُجريه الله من تأديبات على إسرائيل، أو على المؤمن، يوفي الغرض الإلهي منها، وهو الرجوع إلى الصواب. أما الحقوق الإلهية فلا يوفيها إلا موت المسيح. ولو قال الرب، تُلقى في نار جُهنم. ولا تخرُج منها، حتى توفي الفلس الأخير لكان هناك محل للظن بإمكانية الخروج منها بطريقةٍ ما.

ولا يوجد أساس بالمرة للقول بوجود مكان يُقال له المُطهر، بين جُهنم والنعيم يمكن الخلاص منه. لأن موضعًا كهذا ليس مذكورًا، ولا معروفًا في كلمة الله.

«قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزن وأما أنا فأقول لكم، إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه» (عدد 27،28)

الإنسان الساقط مُتصف بانحراف العواطف وعصيان الإرادة ولا يجوز للمخلوق أن يعمل بحسب إرادته مُطلقًا أما العواطف الطبيعية التي جعلها الله له في خَلْقِهِ فيجوز له العمل بها إنما بحسب ترتيب الله فقد رتب الله الزواج للإنسان لخيره حتى قبل السقوط، إذ قال «ليس جيدًا أن يكون آدم وحده. فأصنع له مُعينًا نظيرهُ (تكوين 18:2) ثم أباح الزواج لكل ذُرية آدم بقوله «لذلك يترك الرجل أباه وأُمهُ ويلتصق بامرأته ويكونان جسدًا واحدًا» (تكوين 24:2). ولكن الإنسان لم يُحافظ على ترتيب الخالق الحنان هذا، بل كثيرًا ما خالفه كسائر الترتيبات التي وُضعت له. ويحكم الرب هنا، ليس على الزاني بالفعل فقط، كما كان يحكم مُعلمو اليهود، بل أيضًا على النظرة بالعين، وتحرُك الشهوة في القلب كقول الرسول بطرس «عيونهم مملُؤة فسقًا لا تكف عن الخطية» (بطرس الثانية 14:2) ولا يُخفى أن هذه النظرة الآثمة كانت هي أول خطوة في سقوط داود وخطيته الشنيعة (صموئيل الثاني 2:11)1.

«فإن كانت عينك اليُمنى تعثرك فاقلعها والقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جُهنم. وإن كانت يدك اليُمنى تعثرك فاقطعها والقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جُهنم» (عدد 29،30).

العين كناية عن النظر، واليد عن إجراء الفعل. ويُكنى بالأعضاء عمومًا عن الشهوات المُحرمة، فيتكلم الرب عن وجوب نكران الذات وإماتة الشهوات كقول الرسول «فأميتوا أعضائكم التي على الأرض، الزنى النجاسة الهوى الشهوة الردية الخ» (كولوسي 5:3،6) فلا حاجة لي أن أقول أن معنى كلام الرب ليس هو قلع العين وقطع اليد حرفيًا. لأن ذلك لا يمنع ولا يخفف حركات القلب. وإن سأل أحد، فكيف إذن نُميت الشهوات الردية في قلوبنا؟ فأقول:

أولاً- يجب أن نُراعي ترتيب الله من جهة الزواج. قال الرسول «ولكن بسبب الزنى ليكن لكل واحد امرأته. وليكن لكل واحدة رجلها. ليوف الرجل المرأة حقها الواجب، كذلك المرأة أيضًا الرجل» (كورنثوس الأولى 2:7،3). مَن عاش في الزواج المُحلل بمخافة الرب يَسلم من تجارب عديدة. وكلام الرسول هنا عن وفاء الحق الواجب، الواحد للآخر، يوجب على المتزوج القيام بالواجبات المُتبادلة من هذا القبيل. لا يجوز للرجل أن يهمل امرأته ويُعرضها للتجربة بغيابه عنها، بل عليه أن يعيش معها بفطنة (بطرس الأولى 7:3) وكذلك المرأة أيضًا مع رجلها (كورنثوس الأولى 10:7) لا يستطيع إلا العدد القليل من البشر أن يعيش بطهارة بلا زواج. وان استطاع أحد أن يعيش هكذا، فيجوز له (كورنثوس الأولى 37:7)، ولكن لا يجب أن يُنسى قول الكتاب «ليكن الزواج مُكرمًا عند كل واحد والمضجع غير نجس» (عبرانيين 4:13) إذ قد امتنع كثيرون عن الزواج على أساس الزعم الفاسد بأن الزواج نوع من النجاسة، فتجنبوه طلبًا للقداسة. ولكن ذلك من تعاليم الشياطين (تيموثاوس الأولى 1:4-5)، لأن الترتيب الذي رآه الله حسنًا جدًا للإنسان (تكوين 27:1-31) حسبوه هم شيئًا نجسًا وقد أثر هذا الزعم الرديء في أفكار جانب كبير من المُتزوجين حتى أنه يُخيل إليهم أن المضجع نجس إلى درجة ما ولو حافظ كل منهم على قوانين الزواج. فلينتبه القارئ المسيحي إذن لئلا يكون من المُفترين على ترتيب الله، لأنه ليس للشهوة المُحرمة مدخل فيما يختص بالعلاقة الكائنة بين الرجل وامرأته في قيامهما بما عليهما لبعضهما من الواجبات الزوجية المُتبادلة. لأن الزواج من الوسائط التي تحفظ المسيحيين في العفة والطهارة.

ثانيًا- إننا نحتاج في أمر الطهارة الواجبة، كما في سائر واجباتنا، إلى عمل الروح القدس فينا ليُقوينا على إنكار الذات وإماتة الشهوات. قال الرسول «ولكن إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون الخ» (رومية 13:8). فإن كنا لا نُحزنه يكون فينا قوة الحياة الجديدة ويساعدنا على العيشة التقوية أمام نظر الله في الباطن كما هو الظاهر أيضًا. إن كل من عاش في الزنى ومات غير تائب لابد وأن يُلقى في نار جُهنم كما قيل «وأما العاهرون والزُناة فسيدينهم الله» (عبرانيين 4:13)1 وكثيرًا ما يُحاول إبليس أن يخدعنا، موِهَمًا إيانا، بأن مجرد نظر العين وتحرك الشهوة ليسا مُحرمين إن لم نرتكب القباحة بالفعل. ولا شك أن القلب أيضًا يحب أن يلهج بالشر لو امتنع عن العمل به. ولكن النور الصافي المضيء في كلام الرب يكشف لنا خداع إبليس من جهة واختلاجات قلوبنا الردية من جهة أخرى (عبرانيين 12:4، 13) والغرض من ذلك النور اقتيادنا إلى نقاوة القلب (عدد 8،أفسس 9:5 حاشية) وبساطة العين (إصحاح22:6، 23).

«وقِيلَ، من طلق امرأته، فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم أن من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقة فأنه يزني» (31، 32).

الزنى يحل عَقد الزواج ويفسخه أمام الله. ولا يجوز الطلاق لعلة أخرى مطلقًا. لقد سمح موسى مجرد سماح لرجال إسرائيل أن يطلقوا نسائهم لأسباب أخرى2.

ولم يكن ذلك السماح منه بحسب ترتيب الله الأصلي للإنسان. ولذلك لما حضر النور الحقيقي رَجَعَ الزواج إلى أصله بموجب هذا الحكم المطلق الذي نطق به السيد هنا. وكان الطلاق مكروهًا عند الرب من الأول (أنظر ملاخي 14:2-16) حيث يوبخهم على سوء تصرفهم في هذا الأمر ويشير إلى ترتيبه الأصلي للإنسان قائلاً «أن الرب هو الشاهد بينك وبين امرأة شبابك التي أنت غدرت بها وهي قرينتك وامرأة عهدك لأنه يكره الطلاق. قال الرب».

«من طلق امرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقة فأنه يزني» المقصود من هذا القول أن هذه المطلقة عندما تصير لرجل آخر تكون زانية. لأن علاقتها مع رجلها الأول لم تُقْطَعْ (رومية 3:7). على أن الذي طلقها هو المسئول الأول عن ذلك. وهو نفسه أيضًا إذا تزوج بأخرى يكون زانيًا. فحالة طلاق واحدة قد توجد أربعة أشخاص في حالة زنى. أما المرأة العفيفة إذا طُلقت ظلمًا من رجلها فتقعد في بيت أهلها مُستُوحَشَة. على أنها لا تزال في تجربة. ولم يتكلم الرب هنا عن زواج التي تُطَلَقْ بسبب علة الزنى. ولكن واضح من أقوال الوحي أن «من التصق بزانية هو جسد واحدًا» (كورنثوس الأولى 16:6).

«أيضًا سمعتم أنه قِيلَ للقدماء، لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. وأما أنا فأقول لكم، لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسي الله. ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف برأسك، لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء، أو سوداء. بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشيطان» (عدد 33-37).

يوجد ثلاثة أنواع من الخلف: أولاً- الحلف باطلاً أو بخفة أو بغير داع. وهو ما ينهي عنه الرب هنا نهيًا مطلقًا، سواء كان باسم الله أو بأشياء أخرى كالسماء أو الأرض (يعقوب 12:5). أو أورشليم أو خلافها مما يحسب أن له أهمية لنسبته لله، حتى إذا حلف به أحد يلتزم به. والحقيقة أنه لولا نسبة أورشليم إليه تعالى مثلاً كمدينته (مزمور 3:48). والأرض كموطئ قدميه والسماء ككرسيه (إشعياء 1:66)، لما كان للحلف بها أهمية عند الحالف. راجع (مَتَّى 16:23-22). ثم لا يجوز أيضًا أن تحلف بعضو من أعضائك كرأسك مهما كان عزيزًا عندك لأنه إنما هو جزء منك كمخلوق ضعيف أيضًا لا تقدر أن تصنع أدنى عمل من أعمال الخالق. فبحلفك بأحد أعضائك أنت في حقيقة الأمر تقيم ذاتك مقام الله الذي خلقه وله ملكيته. وكان هذا النوع من الحلف ممنوعًا في شريعة موسى كما لا يُخفى. على أن اليهود خالفوها كالجانب الأكبر من المسيحيين بالاسم في الوقت الحاضر.

ثانيًا- النذور، وعليها كلام آخر، لأنه كان مسموحًا بها لليهود (تثنية 21:23-23؛ عدد2:6-20، 2:30). ولكن لم يُحتم الله على الإسرائيلي أن يُنذر نذرًا وإنما إذا نذر بمحض اختياره، فكان ملزمًا بأن يفي بعهده. وواضح أنه يُشار بالقول الوارد هنا «بل أوف للرب أقسامك» إلى (تثنية 21:23-23)، عد2:30) حيث يتكلم موسى عن النذور، كأمر مسموح به، فكيف يُبطل الله ما سمح به قبلاً؟ فأقول أنه بحضور ابن الله، تبرهنت حقيقة الإنسان، أنه ضعيف وعاجز. في حين أن النذر يفرض وجود قوة في الإنسان، لأن أخذه على نفسه عهدًا بأن يعمل لله شيئًا فوق واجباته الاعتيادية تبرعًا منه معناه أنه يأنس في نفسه القوة لذلك. ولم يكن قد أتضح تمامًا قبل رفض المسيح وموته أن الإنسان عديم القوة، كما أنه مُنحرف إلى الشر أيضًا.

وكان الله يعامل إسرائيل بحسب المبادئ الناموسية إلى وقت مجيء المسيح. وأما بعد ذلك فلا يعاملنا هكذا، إذ قد ظهرت حقيقة حالنا. وأيضًا قد فدانا فداءٍ تامًا بدم المسيح فصرنا له بجملتنا نحن وكل ما عندنا1. ومن ثم لم يبق محل للنذور. فإذا حاولنا أن نُنذر له قسمًا من مالنا مثلاً، فهو كله له، ومن أين لنا الحق بأن نُنذر له جزءًا من شيء هو كله له؟.

ثالثًا- الحلف أمام القاضي لأجل تثبيت الشهادة قانونيًا. وهذا ليس داخلاً ضمن تحريم الرب هنا. وما يثبت ذلك أن الرب نفسه جاوب رئيس الكهنة تحت اليمين حين كان واقفًا أمامه للقضاء (مَتَّى 63:26، 64)2.

«بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير» (عدد 37) هذا هو القانون الإيجابي لنا في معاملة الآخرين. فيجب أن نُجاوب بكلام الصدق، سواء صدقوا أو لم يُصدقوا. أما إن زدنا بنطق الأقسام لأجل تثبيت كلامنا فالذي يُحركنا إلى هذا النوع من الإفراط في الكلام إنما هو إبليس. فما أكثر الذين يتكلمون بإلهام منه!

«سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن» (عدد 38). وضعت هذه الشريعة للقضاة في حكمهم3 على المُعتدين لتأديبهم ومنع المُعتدى من الأخذ بالثأر، لأن لله النقمة (رومية 19:12). وقد يستخدم الله الحاكم للانتقام (رومية 4:13) ولكن اليهود اتخذوا علة أو وسيلة للانتقام الشخصي من الذين تعدوا عليهم. ولم يكن ذلك جائزًا في العهد القديم. انظر (أمثال 22:20؛ 29:24)، فكم بالحري لا يجوز لتلاميذ المسيح في العهد الجديد!

«وأما أنا فأقول لكم، لا تُقاوموا الشر. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا. ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين. من سألك فأعطه. ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده» (عدد 39-42).

«لا تُقاوموا الشر» الشر هنا بمعنى الظلم أو التعدي علينا من الآخرين (مزمور 12:37، 14؛ رومية 17:12-21).

«من لطمك على خدك الأيمن .. الخ» اللطم على الخد هو أشنع أساليب الإهانة والتحقير4. ويجب أن نحتمله بالصبر. وإن كان الظالم لم يكتف بلطمة واحدة فليلطم الثانية. انظر ما عمل الرب نفسه فترى إنه يقصد بكلامه هذا أن يُعلمنا احتمال الظلم بالصبر5.

«ومن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضًا» (عدد 40). هذا من جهة محاولة اغتصاب ما لنا ظلمًا، أو من أراد أن يُقيم علينا دعوى كاذبة، فلا نستميت في الدفاع6 عن أموالنا كأولاد العالم الذين نصيبهم هنا (مزمور 14:17) ولكن لا ينتج من ذلك إنه لا يجوز لنا أن نُخبر القاضي بالحق لأننا نرى أن الرب نفسه له المجد اخبر الحاكم بالحق في دعواه لما اشتكوا عليه ظلمًا7، وكذلك فعل بولس الرسول8. فعلينا أن نُخبر بالحق، ثم نترك النتيجة لله. وكيفما انتهت المسألة نقبل.

وان قيل أن التصرف على النحو من المستحيل. وإن عرف الأشرار إننا على مبدأ كهذا، فانهم يسلبوننا سلبًا ويقتلعوننا من الأرض فأقول، أن التصرف بحسب تعليم سيدنا ليس مستحيلاً لأنه موجود ليُعيننا وليحفظنا في جميع طرقنا. وهو أمين لا يدعنا نُجرب فوق طاقتنا، ومع التجربة يُدبر منفذًا بحسب وعده (بطرس الثانية 9:2) وليس أدل على من استمرار وجودنا في العالم رغم ظلم الظالمين في كل حين. إذ لو كانت حياتنا مُتوقفة على إرادتهم لأهلكونا من زمان بعيد.

«ومن سخرك ميلاً واحدًا فاذهب معه اثنين» (عدد 41) التسخير هو من الأمور الصعبة1، ولكن يجب أن نقبله بصبر ملقين رجاءنا على الذي يُعين المظلومين2 وعوضًا عن أن نُقاوم، يجب أن نُطاوع (تيطس 1:3، 3). بل يكون لنا الاستعداد لنعمل أكثر مما يُطلب منا بعمل نعمة الله فينا.

ليس لأهل العالم عزاء في مثل هذه الأحوال لأنهم لا يعرفون سيرة ربنا يسوع المسيح قدوتنا الذي قيل عنه «ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه» (إشعياء 7:53).

«من سألك فأعطه». (عدد 42). هذا من جهة عمل الإحسان (لاويين 35:25). وأظن أنه مفروض أن السائل محتاج، وإنه من واجباتنا أن نتحقق ذلك قبل أن نعطيه (انظر أفسس 28:4؛ يوحنا الأولى 17:3) حيث نرى أن الذين من واجبنا أن نساعدهم هم المحتاجون. وإنه يجب علينا أن نميز أهل الإيمان عن الآخرين (غلاطية 10:6). انظر أيضًا (تسالونيكي الثانية 6:3-15) حيث يُعلم الرسول بوجوب الشغل، وإنه إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا. وانظر أيضًا (أعمال الرسل 35:20) حيث يوضح هذا الموضوع نفسه لشيوخ كنيسة أفسس ذاكرًا بصريح اللفظ وجوب الإحسان إلى الضعفاء. وهم العاجزون عن تحصيل قوتهم.

لا يُخفى أن كثيرين يقتبسون من أقوال الرب قولاً مثل هذا الذي نحن بصدده، ليس بقصد الاستفادة منه، بل ليدللوا منه على عدم إمكانية العمل بمثل هذه الوصايا زاعمين أننا إذا حاولنا أن نسلك بموجبها فلابد أن نفرق كل ما عندنا من المال في أقرب وقت، إذ سيجتمع علينا المحتاجون حالاً، بل والمحتالون أيضًا، ويأخذون كل أموالنا بموجب أمر الرب. فأقول، طوبى للعبد الذي قد عرف إنه هو وماله للرب الذي اشتراه، والذي لو أمره سيده بتفريق ماله لا يسوء ذلك في عينيه. لأن الفقر الناتج عن ذلك مغبوط (كورنثوس الثانية 9:8). ولان وصايا الرب في شأن العطاء كسائر وصاياه ليست ثقيلة إلا على قليل المحبة له3.

على أنه لم يأمرنا بالتصرف الأعمى في هذا أو خلافه. فإنه يريد أن يملأنا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي لنسلك كما يحق له في كل رضى مثمرين في كل عمل صالح (كولوسي 9:1، 10) لأننا لا نقدر أن نقوم بشيء من واجباتنا المسيحية إن لم نكن روحيين ولنا التمييز اللازم لأجل التصرف اللائق بنا كتلاميذه.

«ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده». قابل هذا مع (لوقا 34:6، 35) فترى أن معناه أن نُقرض المحتاجين ولو كان الأمل ضعيفًا في قدرتهم على رد ما يقترضون. وهذا أيضًا من باب الإحسان. (تثنية 7:15-11)4.

«سمعتم إنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم، احبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم. احسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات. فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين. لأنه إن أحببتم الذين يُحبونكم فأي فضل تصنعون؟ أليس العشارون أيضًا يفعلون هكذا؟ فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل». (عدد 43-48).

«سمعتم إنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك». هذا قولهم، أما قول الله فهو «تحب قريبك كنفسك»: (لاويين 18:19)، ولم يقل «وتبغض عدوك»1 فإن هذا مما أضافه معلمو اليهود كما حذفوا كلمة «كنفسك».

«احبوا أعدائكم. باركوا لاعنيكم .. الخ». لم يُسمع تعليم كهذا من الشريعة ولا نقدر أن نعمل به إلا بنعمة الله الفعالة العاملة فينا لأنها وحدها القادرة أن تجعلنا أن نتمثل بسيدنا وربنا الذي مات عن أعدائه2 وبأبينا السماوي أيضًا الذي لا يزال بأعمال عنايته يصنع خيرًا مع الأشرار3.

«لكي تكونوا أبناء أبيكم». أي لكي تظهروا كأبنائه، أو لكي تُبرهنوا عمليًا أنكم أبناؤه. لأننا إنما نصير أولاده بالولادة الثانية، ثم نُظهر حقيقة ولادتنا بتمثلنا به كمن ولدنا (أفسس 1:5).

يوجد نوعان من المحبة، محبة الشركة، ومحبة الشفقة. فنحن نحب اخوتنا محبة من النوع الأول. وبها نقاد لممارسة الشركة معهم. وأما محبة الشفقة فيمكننا أن نُظهرها نحو أعداءنا، إذ ننظر إليهم، ليس من حيث عداوتهم لنا، بل من حيث حالتهم كخطاة أمام الله ومُستعبدين لإبليس، فنشفق عليهم ونصنع معهم خيرًا بحسب اقتضاء الأحوال. وأما الشركة معهم فليست ممكنة (كورنثوس الثانية 14:6؛ 1:7؛ كورنثوس الأولى 33:15،34) ما داموا ليسوا في الشركة مع أبينا السماوي (أفسس 18:4) على انه لا يمتنع عن أن يُجرى لهم أعمال الرحمة كل يوم، لأنه يجود على الجميع نظرًا إلى احتياجهم، لا إلى سوء معاملتهم له. فينتفعون من ألطافه ولا يفرقون عن الحيوانات البكم التي تأكل مما أعد لها بعناية الله بدون أن تعرفه (مزمور 11:49؛ يهوذا 10)، لا بل الأشرار أردأ منها لأنهم كثيرًا ما يسبون الله (إشعياء 21:8) ويلعنون أولاده ويسيئون إليهم. ولكن، مع ذلك كله هم بشر قد مات المسيح لأجلهم. وكنا نحن أيضًا جميعًا مثلهم (أفسس 3:2؛ رومية 9:3). فيجب أن نرتفع فوق الحاسيات والانفعالات البشرية، ونعطيهم على الأقل قدوة حسنة لعلهم ينتبهون ويتوبون (تيموثاوس الثانية 25:2،26). إنه من السهل أن نحب أحباءنا ولكنه أمر ضد طبيعتنا على خط مستقيم أن نصنع معروفًا مع أعداءنا. ومع ذلك فبسبب الولادة الجديدة وسُكنى الروح القدس فينا، الذي من أول أثماره المحبة (غلاطية 22:5) نستطيع أن نحب أعداءنا.

«لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم؟». أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك؟ الخ». كان العشارون إسرائيليين واستخدموا عند الأجانب المتسلطين على أمتهم. فكانوا مكروهين عند كل يهودي بقى فيه شيء من حب الوطن والاعتبار لديانته. وبلا شك كانوا مستحقين البغض من بني جنسهم لأنهم تخلوا عن الدين وفسدوا من جراء معاشرتهم لأسيادهم الرومان. وأما نعمة الله التي ظهرت بيسوع المسيح فارتفعت فوق الشرور البشرية ولم تكن طالبة صلاحًا في الإنسان، بل أعلنت ما هو الله. فإن كان العشارون والخطاة، الذين كان يقترن اسمهم باسم الوثنيين والزناة (مَتَّى 17:18؛ 31:21) يحبون الذين يحبونهم، فماذا يفضل عنهم تلاميذ المسيح؟ إنهم مطالبون لا أن يزيد برهم عن العشارين، بل عن الكتبة والفريسيين ويبلغ إلى مستوى نعمة أبيهم السماوي في معاملة الآخرين.

«فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل». الكمال المطلوب هنا عبارة عن التصرف بحسب القانون الموضوع لإرشادنا. فهو كمال نسبي قيل عن نوح أنه وُجد كاملاً أمام الله (تكوين 9:6) لأنه تَحفظ من الظلم والفساد اللذين امتلأت الأرض منهما في أيامه. وكذلك قيل عن إبراهيم (تكوين 2:17) لأنه كان مطلوبًا منه أن يسلك بالإيمان ويستوطن أرض الموعد كغريب، فعمل كذلك. وهكذا يمكن لتلاميذ المسيح أن يتصفوا هم أيضًا بالكمال إذ اقتدوا بأبيهم السماوي في إنعامه على أعدائه وتسامحه معهم.

فالكمال المقصود إذن، ليس هو الكمال المطلق، لأن هذا لا يوجد إلا في الله وحده كمالاً لا يخفى.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة