لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

تفسير إنجيل متى

 الإصحاح التاسع

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

 الإصحاح التاسع

 

شفاء المفلوج (عدد 1-8؛ مرقس 1:2-12؛ لوقا 17:5-26)

«فدخل السفينة. واجتاز وجاء إلى مدينته وإذا مفلوج يُقدمونه إليه مطروحًا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج، ثق يا بني مغفورة لك خطاياك. وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يُجدف. فعلم يسوع أفكارهم. فقال لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم أيما أيسر أن يُقال مغفورة لك خطاياك. أم أن يُقال قم وامش. ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سُلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا حينئذ قال للمفلوج قم واحمل فراشك. واذهب إلى بيتك. فقام ومضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانًا مثل هذا» (عدد 1-8).

«إلى مدينته». رجع الرب إلى مدينته، أي كفر ناحوم، التي كان قد سكن فيها، بعد تركه الناصرة حيث كان قد تربى (إصحاح 13:4). والتي كانت من المدن التي صنع فيها أكثر قواته (إصحاح 20:11-23) فعاد من أرض الجرجسيين الأمم ليخدم إسرائيل شعبه في أرضهم.

وقد قصد المسيح أن يبرهن لشعبه أنه يهوه إلههم المكتوب عنه أنه يغفر جميع ذنوبهم ويشفي كل أمراضهم (مزمور 3:103). فكان سيان عنده أن يقول مغفورة لك خطاياك أو قم وامشِ.

«وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يُجدف». لما قصد الرب أن يمتحن إيمان إسرائيل نطق في سمعهم بقوله للمفلوج «مغفورة1 لك خطاياك» فتذمر بعض الكتبة قائلين في أنفسهم أنه يجدف. ولنلاحظ أن مقاومة رؤساء الدين للمسيح تذكر هنا لأول مرة. وسنرى أنها اشتدت أكثر فأكثر. ولم يزل الشعب أقرب إلى قبول المسيح من رؤسائهم لأنهم تأثروا جدًا بمشاهدة سلطان كهذا ومجدوا الله.

 

دعوة مَتَّى وضيافته

(عدد 9-13؛ مرقس 13:2-17؛ لوقا 27:5-32)

«وفيما يسوع مُجتاز من هناك رأى إنسانًا جالسًا عند مكان الجباية اسمه مَتَّى فقال له اتبعني. فقام وتبعه. وبينما هو مُتكئ في البيت إذا عشارون وخطاة كثيرون قد جاءوا واتكأوا مع يسوع وتلاميذه. فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه. لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة. فلما سمع يسوع قال لهم لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة» (عدد 9-13).

واضح من (لوقا 29:5) أن مَتَّى نفسه صنع ضيافة كبيرة ليسوع وتلاميذه. ولكن لرغبته في الاختفاء لم يذكر شيئًا من ذلك هنا. وإذ كان قد اختبر نعمة الرب يسوع نحوه كخاطئ دعا خطاة مثله ليحضروا مع يسوع ليستفيدوا منه كما استفاد هو. أغاظ ذلك الفريسيين المُعتدين ببر أنفسهم فأخذوا يعترضون على الرب. فجاوبهم بهذا المثل الجميل «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى». كان أولئك الضيوف المتكئون في بيت مَتَّى مُصابين بلا شك بمرض الخطية. ولكن يسوع قد حضر لأجل أُناس مثلهم. ولو وُجد إنسان بار فلا يناسبه ذلك الذي أتى ليخلص الخطاة، إذ ليس برنا هو الذي يعدنا للمسيح بل فُجورنا (رومية 5:4). كان الفريسيون أبرار فينظر أنفسهم فلم يشعروا باحتياجهم إلى تلك النعمة الإلهية التي تنازلت حتى تدعو مَتَّى العشار.

«فاذهبوا وتعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة». فنفس كتبهم التي افتخروا بها توبخهم لأن الله سبق فأوضح فيها الخدمة التي ترضيه إذ قال «إني أريد رحمة لا ذبيحة. ومعرفة الله أكثر م محرقات» (هوشع 6:6). فقد كان الفريسيون يدققون في ممارسة الطقوس المتعلقة بالذبائح تاركين العدل والرحمة في تصرفهم نحو الآخرين وإذ قال ميخا النبِّي «بِمَ أتقدم إلى الرب، وانحني للإله العلي؟ هل أتقدم بمحرقات، بعجول أبناء سنة؟». أجابه الوحي «قد أُخبرك أيها الإنسان، ما هو صالح، وماذا يطلبه منك الرب. إلا أن تصنع الحق، وتحب الرحمة، وتسلك مُتواضعًا مع إلهك» (ميخا 6:6، 8).

وقد عرف سيدنا ما هي الخدمة التي وافقته كعبد كامل لمشيئة الذي أرسله. فدخل بين الذين شعروا باحتياجهم إلى الرحمة.

«لأن لم آت لأدعو أبرار بل خطاة‘إلى التوبة’». هذا يظهر حقيقة دعوته. لاشك أن المدعوين يتوبون. ولكن قصده هنا أن يوضح حقيقة إتيانه بالنعمة، لا لكي يأخذ برًا من يد الناس، بل ليمنحهم برًا. ولم يقع ذلك موقع القبول عند الذين يزعمون بأن عندهم برًا دون الآخرين.

 

سؤال تلاميذ يوحنا عن الصوم

(عدد 1-17؛ مرقس 18:2-22؛ لوقا 33:5-39)

«حينئذ أتى إليه تلاميذ يوحنا قائلين، لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيرًا. وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فقال لهم يسوع، هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟ ولكن ستأتي أيام حين يُرفع العريس عنهم. فحينئذ يصومون. ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق. لأن الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ. ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة لئلا ينشق الزقاق فالخمر ينصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة فتُحفظ جميعًا» (عدد 14-17).

كان يوحنا يومئذ في السجن (إصحاح 12:4، 13). وكانت غاية خدمته

إن «يُهيئ للرب شعبًا مُستعدًا» ولو استفاد الكل من تعليمه عن المسيح لصاروا جميعًا تلاميذ للمسيح ولِما بقى ليوحنا تلاميذ، ولكن قد انفرز بعض أشخاص للمسيح وأصبحوا معروفين كتلاميذه، فأخذوا يتميزون عن الآخرين شيئًا فشيئًا في عوائدهم. وقد لاحظ الآخرون ذلك واستنتجوا أنه لابد أن يكون ذلك نتيجة فعل تعليم معلمهم فيهم.

معلوم أن الفريسيين حافظوا على جميع الطقوس والعوائد اليهودية غاية المحافظة وعمل كذلك تلاميذ يوحنا. وكانوا في ذلك على اتفاق بينهم، مع أن الفريسيين على وجه الإجمال رفضوا تعليم يوحنا، وقد تعجب تلاميذ يوحنا من أن تلاميذ المسيح لم يكونوا يصومون. لأن الصوم كان يميز المتمسكين بديانتهم عم المُتراخين.

«فقال لهم يسوع، هل يستطيع بنو العرس أن ينوحوا ما دام العريس معهم؟». بنو العرس، هم كل من له نصيب في أفراح العرس والعريس هو المسيح (إصحاح 2:22) والعروس كان المُنتظر أن تكون هي إسرائيل كأمة1 فيجب إذن أن يكون حضور المسيح كالعريس، وقت فرح للتلاميذ، فلا يوافقهم الصوم الذي يقترن مع الحزن لا مع العرس وأفراحه وكان هذا الدفاع مقبولاً عند تلاميذ يوحنا، لأن معلمهم هو الذي سبق وعلمهم أن المسيح، هو عريس إسرائيل (يوحنا 25:3-30).

«حين يُرفع العريس عنهم فحينئذ يصومون». لأنهم إذ ذاك يكونون في حالة تناسب الصوم. وقد صل ذلك فعلاً في كل المناسبات التي دعت إليه.

«ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق.. الخ» كان النظام اليهودي مثل ثوب عتيق لم يصلح لشيء، ولا يمكن ترقيعه، بل لابد من تغييره بثوب أو نظام أو عهد جديد (انظر عبرانيين 12:7، 18، 19) ولا سيما قوله «اكمل عهدًا جديدًا- فإذ قال جديدًا عَتقَ الأول. وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال» (عبرانيين 8:8، 12). وبالتبعية كان أيضًا التصرف بحسب مبادئ العهد القديم، ثوبًا عتيقًا وأما التصرف اللائق بحضور المسيح فمثل ثوب جديد. إن التشبيهات المستعارة من اللبس تتعلق غالبًا بالسلوك فلم يقصد المسيح بتة أن يُرقع الثوب اليهودي العتيق، بل أن يأتي بثوب جديد. وللفظة «جديد» أهمية عظمى في كل ما يتعلق بالمسيح. فقد جاء ليكون وسيطًا لعهد جديد (عبرانيين 5:9). وأعد لتلاميذه سلوكًا جديدًا. ولما مات وقام، أوجد لهم مقامًا جديدًا أو الخليقة التي أبدأها عند قيامته، هي خليقة جديدة (أفسس 10:2؛ كورنثوس الثانية 17:5). وأخيرًا عند اختطافنا سيجعل أجسادنا جديدة (فيلبي 21:3). وسيفتتح الأبدية السعيدة بجعل السماوات جديدة والأرض جديدة (رؤيا 1:21، 5)

«ولا يجعلون خمرًا جديدة في زقاق عتيقة.. الخ». الخمر العتيقة كناية عن روح الديانة اليهودية الناموسية، روح اليهودية للخوف (رومية 15:8؛ عبرانيين 21:12). والزقاق العتيقة هي الطقوس والعوائد القديمة التي كانت تناسب ذلك الروح العتيق.

«بل يجعلون خمرًا جديدة في زقاق جديدة َفتُحفظ جميعًا، راجع موعظته على الجبل، فترى كم يجب أن يختلف تلاميذه عن الآخرين في الروح والسلوك. ويكني عن ذلك بالخمر الجديدة والزقاق الجديدة.

فلا يليق خلط العتيق بالجديد، بل يجب أن يُحفظ كل منهما في محله الخاص. وأن كان الأمر كذلك في زمان وجود المسيح على الأرض، فكم يجب أن يكون بالحري بعد موته وقيامته وإنشائه العهد الجديد! فيجب أن نحترس احتراسًا كُليًا من أن نمزج العهدين مع بعضهما وقد فعل ذلك جميع الذين تهودوا من المسيحيين إذ رتبوا لأنفسهم، كالغلاطيين طقوسًا يهودية، ليست هي إلا زقاقًا عتيقة، لا تناسب الإيمان المسيحي وإن كنا نخلط النظامين معًا، العتيق والجديد، فإننا نخسر كليهما لأن خلطهما معًا ينتج عنه ديانة مُشوشة، لا هي المسيحية ولا هي اليهودية لأننا لسنا يهودًا. وإن أقمنا أنفسنا مقامهم، نكذب (رؤيا 9:2)، وزقاقنا العتيقة لا تضبط خمر العهد الجديد.

 

إقامة ابنة يايرس وشفاء نازفة الدم

(عدد 18-26؛ مرقس 21:5-43؛ لوقا 40:8-56)

«وفيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء فسجد له قائلا إن ابنتي الآن ماتت. لكن تعال وضع يدك عليها فتحيا. فقام يسوع وتبعه هو وتلاميذه. وإذا امرأة نازفة دم منذ اثنتي عشرة سنة. قد جاءت من ورائه ومست هُدب ثوبه. لأنها قالت في نفسها إن مسست ثوبه شُفيت. فالتفت يسوع وأبصرها. فقال ثقي يا ابنة، إيمانك قد شفاكِ. فشفيت المرأة من تلك الساعة ولما جاء يسوع إلى بيت الرئيس، ونظر المزمرين والجمع يضجون، قال لهم تنحوا فإن الصبية لم تمت. لكنها نائمة، فضحكوا عليه، فلما أخرج الجمع دخل وأمسك بيدها. فقامت الصبية فخرج ذلك الخبر إلى تلك الأرض كلها» (عدد 18-26)

قد رأينا حالة إسرائيل أنهم كانوا أمواتًا. ومع ذلك حافظوا على طقوسهم العتيقة فاحتاجوا إلى خدمة من يستطيع أن يُحييهم. فنرى هنا صورة جميلة لخدمة المسيح لهم. فأنه يقدر أن يحيي الموتى. وكان للرئيس المذكور إيمان بأن يسوع قادر أن يُحيي ابنته الميتة وكانت وحيدة (لوقا 42:8).

وتبين من مقابلة ما جاء هنا مع ما يقابله في (مرقس 22:5؛ لوقا 41:8) أن ابنته كانت على آخر نَسمة لما خرج من بيته ليذهب إلى المسيح ليطلبه لأجلها. ثم جاءه واحد والمسيح ذاهب معه وأخبره أنها قد ماتت فلا داعي لأن يتعب المُعلم بعد. وهكذا كان الحال مع إسرائيل الذين أتى المسيح ليشفيهم ولكنه وجدهم أمواتًا وبحسب الظاهر انقطع الرجاء من جهتهم. وكم كان قد تعب فيهم قديمًا حتى لم يوجد شفاء (أخبار الأيام الثاني 15:26، 16). كان هو «يهوه» شافيهم ولكنهم لم يعرفوا ذلك (هوشع 2:11). ثم عند حضوره انكشفت حالتهم أنهم أموات، فينبغي لهم أن يولدوا من فوق أي ينالوا حياة جديدة من الله. وسيتم ذلك لهم كأمة في المستقبل. لأن اقتبالهم يكون كحياة من الأموات (رومية 15:11).

ولكن توجد حقيقة أخرى من الناحية التدبيرية، فبينما المسيح في الطريق إلى بيت يايرس ليحقق إيمانه في إقامة ابنته، لمست المرأة نازفة الدم هدب ثوبه وخَلُصت من مرضها الوبيل، هكذا أيضًا، بينما المسيح في الطريق إلى إسرائيل ليحقق لهم في المستقبل المواعيد للآباء، تتقدم إليه الآن كل نفس لها إيمان به، فتنال الخلاص

لقد كانت تلك المرأة أيضًا مقطوعة الرجاء من جهة الوسائط البشرية فأنها كانت قد أنفقت كل ما عندها بغير جدوى. وهكذا نحن، فإننا لا نأتي إلى المسيح مادمنا نأمل في الحصول على معونة من البشر أو من الجسد. ولكننا بعد أن نقطع الأمل من كليهما نتقدم إليه وننال منه ما نُريد.

ولنلاحظ أن مرقس ولوقا يذكر تفاصيل جميلة لم يذكرها مَتَّى. لأن قصد الوحي الخاص في مَتَّى هو أن يُعطينا ما يتعلق بخدمة المسيح لإسرائيل. أما مرقس ولوقا فيُدرجان فوائد عامة لخدمته المطلقة.

وماذا نظر يسوع لما جاء إلى بيت الرئيس؟ «نظر المزمرين والجمع يضجون» وهذا آخر ما يمكن للبشر أن يعملوه في محضر الموت «يزمرون ويضجون» ساعة، ثم يدفنون موتاهم عن نظرهم ويرجعون إلى طُرقهم العادية، إلى أن يقتحمهم عدوهم ثانية، وكأنه يأتيهم كل مرة فجأة.

«قال لهم، تنحوا، فإن الصبية لم تمت لكنها نائمة» (عدد 24). ما أجمل قول الرب «لكنها نائمة». لأن موت القديسين ليس سوى رُقاد بحسب تعليم الروح القدس. وسيأتي الرب عن قريب ليوقظهم، يدعوهم فيجيبونه.

«فضحكوا عليه». كانوا يصدقون قوة الموت، وأما قوة المسيح فلم يكونوا يصدقونها، فأخرجهم لأن ليس لأولئك العديمي الإيمان أن يشاهدوا العمل الذي كان مزمعًا أن يعمله. لقد أقام غيرها من الأموات على مرأى من الناس، لأنهم لم يكونوا قد ضحكوا عليه.

«وأمسك بيدها. فقامت الصبية». وهكذا من الناحية التدبيرية فإنه في المستقبل سَيُحي الأمة الميتة وسيرى الذين لهم إيمان به في خلاصه ومجده في كل الأرض في حين يُقطع من الأرض جميع المستهزئين به.

 

الاعتراف به كابن داود. وشفاء الأعميين (عدد 27-31)

«وفيما يسوع مجتاز من هناك 1 تبعه أعميان يصرخان ويقولان ارحمنا يا ابن داود2 . فلما جاء إلى البيت تقدم إليه الأعميان. فقال لهما أتؤمنان أني أقدر أن أفعل هذا؟ قالا نعم يا سيد. حينئذ لمس أعينهما قائلا بحسب إيمانكم ليكن لكما. فانفتحت أعينهما. فانتهرهما يسوع قائلاً انظر لا يعلم أحد. ولكنهما خرجا وأشاعاه في تلك الأرض كلها» (عدد 27-31)

اعترف الأعميان به كابن داود، وآمنا بقدرته، فمنحهما البصر. لم يعمل هذا العمل أمام الناس، بل في البيت. ثم أوصاهم هما أن لا يُخبرا أحدًا: وإذا راجعنا عدة حوادث أخرى، حيث أوصى الرب الذين انتفعوا من قدرته أن يكتموا الخبر بما جرى، نرى أنه إنما عمل ذلك احتراسًا من تهيج غيرة الرؤساء وحسدهم. فأنهم صاروا يرقبونه لكي يتخذوا فرصة ليتكلموا ضده ويمنعوا الشعب عن الاستماع له.

لما كان في أرض الجرجسيين، لم يسمح للرجل الذي شفاه من جنونه أن يكون معه، بل أرجعه إلى بيته وأهله ليُخبرهم كم صنع الرب ورحمه، لأنه لم يكن هناك رؤساء دينيون. وأما في إسرائيل فاقتضى الأمر أن يحترس من الذين لقبهم يوحنا المعمدان «بأولاد الأفاعي»، وشبههم المسيح بالكلاب والذئاب الخاطفة. وأما الأعميان المذكوران فخالفا أمره ولا شك أنهما أخطأ في ذلك حتى ولو كان الذي حملهما عن المخالفة هو التعبير عن شكرهما للمسيح «لأن الاستماع أفضل من الذبيحة» (صموئيل الأول 22:15).

 

شفاء الأخرس المجنون (عدد 32-34)

«وفيما هما خارجان إذا إنسان أخرس مجنون قدموه إليه. فلما أخرج الشيطان تكلم الأخرس. فتعجب الجموع قائلين، لم يظهر مثل هذا في إسرائيل. أما الفريسيون فقالوا «برئيس الشياطين يُخرج الشياطين» (عدد 32-34)

وردت شهادة جميلة عن بركات ملك إسرائيل في إشعياء النبي حيث يقول «حينئذ تتفتح عيون العُمي، وآذان الصُم تتفتح. حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس» (إشعياء 5:35، 6)، ولما حضر المسيح وسط إسرائيل أظهر بنفس القوة التي ستُجري البركة التامة للأرض في المستقبل لذلك يُقال لأعماله العجيبة التي عملها وقتئذ «قوات الدهر الآتي» (عبرانيين 5:6)، لأنها متصفة بنفس القوة التي سيُظهرها في زمان المُلك. كانت خدمته مصحوبة بالقوة ولم يكن ممكنًا أن تجري في المجاري القديمة.

«فتعجب الجموع قائلين لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل» كان الله قد أفتقد شعبه، وعمل بينهم أعمالاً برهنت حقيقة حضوره في وسطهم، فقالوا «لم يظهر قط مثل هذا في إسرائيل»، أي في كل تاريخهم الماضي كأمة. فإنه لم يفعل مثله لا موسى ولا إيليا ولا اليشع ولا غيرهم. على أن أولئك الجموع الذين تعجبوا من عمل المسيح وشهدوا له هذه الشهادة الحسنة، كان من عادتهم أن يتأثروا إلى حين فقط بمشاهدة عمل الله، ويميلوا إلى الخضوع له. وتراهم في بعض الأوقات، كما في هذه الحادثة وكأنهم قد تخلصوا من سطوة رؤسائهم. ولكن عندما جاء الامتحان الأعظم، في حادثة الصليب، نراهم قد خضعوا في الحال لرؤسائهم، وقالوا لبيلاطس عن يسوع «ليس هذا بل باراباس» (إصحاح 15:27-23).

«أما الفريسيون فقالوا برئيس الشياطين يُخرج شياطين» (عدد 34). كانت مصالح هؤلاء الرؤساء الزمنية وشرفهم ومراكزهم مرتبطة بالطقوس والترتيبات العتيقة فقاوموه، مع أنهم لو عرفوا حالتهم وحالة إسرائيل لفرحوا بهذا الافتقاد الإلهي، وارتضوا أن يصنع الله خيرًا بالطرق التي استنسبها هو. ولكنهم لم يعرفوا ذلك. وفي الواقع لم تهمهم حالة إسرائيل المنحطة ماداموا يحظون بمركزهم وشرفهم، ويحصلون على معاشهم، ولو بأكل الأرامل. فلم يُريدوا أن يقبلوا تغييرًا في الترتيب القائم، مادام ذلك لا يؤول إلى رفعة الرؤساء الدينيين.

ولكن إن كان الله ينظر بعين العطف إلى حالة شعبه ليفتقدهم، فمن المستحيل أن عمله هذا يرضي الرؤساء، لأنه إنما يُراعي خير شعبه، بينما يُراعي الرؤساء خير أنفسهم. ومن هنا ينشأ الخلاف بينهم وبينه، وتبدأ مقاومتهم له فيفترون على عمله ويقاومونه، ولكنه يُجري عمله رغمًا عنهم.

«برئيس الشياطين يُخرج الشياطين». لقد أقروا بالقوة، ولكنهم نسبوها للشيطان، ولكن الرب لم يَرُدْ عليهم، بل استمر في خدمته لخراف بيت إسرائيل الضالة.

 

استمرار التجوال والتمهيد لإرسالية الإثني عشر

(عدد 35-38؛ مرقس 6:6)

«وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يُعلم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت. ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. ولما رأى الجموع تحنن عليهم إذ كانوا منزعجين ومُنطرحين كغنم لا راعي لها. حينئذ قال لتلاميذه، الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده» (عدد 35-38).

«منزعجين ومنطرحين»، أي أنهم كانوا على أسوأ حال، إذ تركهم رُعاتَهُم وأهملوا أمرهم.

«كغنم لا راعي لها، كان هو الراعي الصالح الذي يرثي لحالة شعبه ويُشفق على غنم مرعاه. ولم يدع مقاومة رُعاتَهُم العالميين تُبرد محبته، أو قصده عن تكميل خدمته لهم. فإنه كثيرًا ما كلَّ الأنبياء الحقيقيون، كإيليا وإرميا مثلاً من خدمتهم، وقطعوا الأمل من جهة إسرائيل بسب مقاومة الأنبياء الكذبة. وأما يسوع فقد عرف محبة الله لشعبه، وأفكاره الصالحة من نحوهم. لذلك رغم مقاومة الرؤساء له، اجتهد أكثر في خدمته.

«حينئذ قال لتلاميذه، الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة لحصاده». متى كان شعب الله على ذلك المنوال من الإهمال وسوء الحال، فلا يُلزمنا أن نيأس، بل ينبغي أن نكون قربيين من الله، واثقين به من جهتهم. فإننا نُريد خيرهم، ولكننا عُرضة لأن ننظر إلى قوة العدو. ونمتلئ خوفًا. انظر مثلاً اهتمام الرسول بولس بالغلاطيين وهم واقعون تحت تأثير المعلمين الكذبة، وبذله كل الجهد لإرجاعهم إلى حق الإنجيل بعدما فقدوه. فأنه بينما كان ينظر إلى قوة العدو وسطوة الشر عليهم، خاف عليهم لئلا يكون قد تعب فيهم عبثًا. ولكن لما تَقُوى، بالنظر إلى الرب، وصارت له شركة معه في أفكاره من جهتهم، صار يثق بهم «في الرب» وتعزى.

وكذلك أيضًا في حثه لتيموثاوس، في رسالته الثانية له. فإنه إذ كان يخاطبه عن سوء حالة الكنيسة، أخذ في الوقت نفسه يستبعد عنه روح الفشل ويشجعه على زيادة الاجتهاد في خدمته (تيموثاوس الثانية 6:1، 7). هذا لأن الإيمان يعرف جيدًا أن الله لا يرجع عن مقاصده من جهة شعبه. وإن اضطرب البحر اضطرابًا عظيمًا، ولاطمتنا الأمواج، فليس هذا صدفة بالنسبة إلى الله. لأنه لما قصد أن يُباركنا، عَرَفَ ما هي قوته، وما هي قوة العدو أيضًا. وأنه لا يمكنه أن يُبارك نفسًا واحدة وينقذها من مخالب الأسد إلا عنوة. فيجب علينا إذن أن نُبقي في بالنا دائمًا هذه المسألة البسيطة، وهي أن المحاربة ليست بيننا وبين إبليس، بل بين الله وإبليس «هل تُسلب من الجبار غنيمته؟ وهل يُفلت سبي المنصور؟ فإنه هكذا قال الرب، حتى سبي الجبار يُسلب، وغنيمة العاتي تُفلت» (إشعياء 24:49، 25).

ولما سكب الرسول بولس أحزانه في قلب ابنه العزيز تيموثاوس، وأخبره أن جميع الذين في آسيا قد ارتدوا عنه، عاد وقال له «فتقوَ أنت يا ابني في بالنعمة التي في المسيح يسوع، وما سمعته مني بشهود كثيرين أودعه أُناسًا أُمناء يكونون أكفاء أن يُعلموا آخرين أيضًا. فاشترك أنتَ في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح» (تيموثاوس الثانية 1:2-3). ثم لما أخبره بالأزمنة الصعبة (إصحاح 3) عاد وقال له «أنا أُناشدك إذًا أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته. اكرز بالكلمة. اعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب. وبخ. انتهر. عظ. بكل أناة وتعليم» (إصحاح 1:4، 2). وهذا الإيمان هو عين ما نراه في الرب نفسه كإنسان وقت خدمته إسرائيل. وما كان أجمل لطفه لتلاميذه إذ أشركهم معه في اهتمامه بحالة الشعب، وأخبرهم باحتياج الحصاد إلى فعلة، حين قال لهم «اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده»

كان هو نفسه «رب الحصاد»، أو المالك للحقل، على أنه كان يشتغل كفاعل فيه. وقصد أن يقيم
آخرين فعلة أيضًا، ولكن إجابة للصلاة. ولنلاحظ أنه لم يقل اطلبوا من رب الحصاد أن يُرسلكم أنتم إلى حصاده، مع أنه كان مزمعًا أن يرسلهم. لأنه ليس من العلامات الحسنة فينا أن نقدم أنفسنا للخدمة الجهارية. وإذا تطوعنا لها بدون دعوة خصوصية لنا من الرب، ربما نجد صعوبات غير منتظرة، نظير ذلك الكاتب التسرع المذكور في (إصحاح 19:8، 20)

كما أنه إذا دعا الرب أحدنا لخدمته، فلا يصح أن نتردد كما فعل ذلك التلميذ الذي دعاه الرب (إصحاح 21:8، 22)، ولكنه رأى أن أباه لا يزال على قيد الحياة وطلب من الرب أن يعفيه من اتباعه، حتى يدفن أباه أو بعبارة أخرى إلى أجل غير مُسمى.

وإذا سأل القارئ العزيز، إذن، ما هي العلامات الحسنة التي ينتظر توفرها فينا إن كنا مدعوين حقًا من الرب للخدمة؟ فأقول، إن أحسن علامة تظهر فينا، هي أن تكون لنا شركة مع الرب في أفكاره من جهة شعبه، وفي محبته لهم، وفي عطفه أيضًا على النفوس الهالكة. ثم نواظب على الطلب إليه أن يُقيم فعلة لحصاده بحسب إرادته وحكمته. ومن ثم فلابد من جواب مفرح من عنده. ولا فرق عندنا إن كان يرسلنا نحن أو يُرسل غيرنا من إخوتنا. لأننا مُسَلِمُون الأمر لأرادته وراضون به. حتى مجرد اهتمامنا بهذه الحاجة يبرهن على أن الرب مُزمع أن يفتقد حصاده، إذ يكون قد سبق وافتكر فيه، وإذ ذاك جعل في قلوبنا أن نطلب إليه من جهته.

 أ  ب  1    2    3    4    5    6     7    8    9    10    11    12    13    14    15    16    17    18    19    20    21    22    23    24    25    26    27    28   ج  

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة