لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح السابع

1 وَلَمَّا أَكْمَلَ أَقْوَالَهُ كُلَّهَا فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ دَخَلَ كَفْرَنَاحُومَ. 2 وَكَانَ عَبْدٌ لِقَائِدِ مِئَةٍ، مَرِيضًا مُشْرِفًا عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ عَزِيزًا عِنْدَهُ. 3 فَلَمَّا سَمِعَ عَنْ يَسُوعَ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ شُيُوخَ الْيَهُودِ يَسْأَلُهُ أَنْ يَأْتِيَ وَيَشْفِيَ عَبْدَهُ. 4 فَلَمَّا جَاءُوا إِلَى يَسُوعَ طَلَبُوا إِلَيْهِ بِاجْتِهَادٍ قَائِلِينَ:«إِنَّهُ مُسْتَحِق أَنْ يُفْعَلَ لَهُ هذَا، 5 لأَنَّهُ يُحِبُّ أُمَّتَنَا، وَهُوَ بَنَى لَنَا الْمَجْمَعَ». 6 فَذَهَبَ يَسُوعُ مَعَهُمْ. وَإِذْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ عَنِ الْبَيْتِ، أَرْسَلَ إِلَيْهِ قَائِدُ الْمِئَةِ أَصْدِقَاءَ يَقُولُ لَهُ:«يَا سَيِّدُ، لاَ تَتْعَبْ. لأَنِّي لَسْتُ مُسْتَحِقًّا أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي. 7 لِذلِكَ لَمْ أَحْسِبْ نَفْسِي أَهْلاً أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ. لكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَيَبْرَأَ غُلاَمِي. 8 لأَنِّي أَنَا أَيْضًا إِنْسَانٌ مُرَتَّبٌ تَحْتَ سُلْطَانٍ، لِي جُنْدٌ تَحْتَ يَدِي. وَأَقُولُ لِهذَا: اذْهَبْ! فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ائْتِ! فَيَأْتِي، وَلِعَبْدِي: افْعَلْ هذَا! فَيَفْعَلُ». 9 وَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ هذَا تَعَجَّبَ مِنْهُ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْجَمْعِ الَّذِي يَتْبَعُهُ وَقَالَ:«أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هذَا!». 10 وَرَجَعَ الْمُرْسَلُونَ إِلَى الْبَيْتِ، فَوَجَدُوا الْعَبْدَ الْمَرِيضَ قَدْ صَحَّ. (عدد 1-10).

يتضح من مُراجعة (مَتَّىَ 5:8-13). أن لوقا لم يدرج هذه الحادثة في محلها تاريخيًّا ولكن الوحي قاصد بإدراجها هنا أن يُظهر لنا إعلان النعمة لا مُجرد تاريخ بعض حوادث فقط. فلما أكمل يسوع أقوالهُ التعليميَّة المُناسبة لتلاميذهِ بعد أن دعاهم دعوة خصوصيَّة رجع أيضًا إلى كفر ناحوم وطنهِ. كان الرؤساءُ قد اعتمدوا على إهلاكهِ فأعلن لتلاميذهِ مقامهم الجديد في العالم ومبادئ سلوكهم. وفي هذا الفصل نرى أن نعمة الله تجري مجراها رغمًا عن تآمُرات الرؤساء وانقياد الشعب وراءهم فإنها لا تنحصر في إسرائيل بل تفتقد الأُمم أيضًا. معلوم أن قائد المائة هذا كان أُممي الجنس، ولكننَّا نرى أنهُ عرف المسيح أكثر من الذين رافقوهُ وسمعوا أقوالهُ وعاينوا أعمالهُ. لا شك أن الأخبار الشائعة في كل البلاد عن المسيح بلغتهُ من وقت إلى أخر وهو مُهتمٌّ بمأموريتهِ،واتضح أخيرًا أنهُ كان قد صدَّقها وآمن بالمسيح إيمانًا أفضل مما ظهر في إسرائيل. فإذًا الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله (رومية 17:10). كان هو في الخفاء قد حفر وعمَّق ووضع أساس إيمانهِ على الصخر ونرى هنا التمييز الروحي المُرافق الإيمان القلبي من بداءتهِ فإنهُ شعر بحالتهِ كأجنبي بالمُقابلة مع إسرائيل الشعب المُختار نعم وبعدم استحقاقهِ شخصيًا أيضًا. كان الله قد وَبخ إسرائيل على سوء حالتهم وتهدَّدهم بالدينونة إن لم يتوبوا ولكنهُ مع ذلك لم يكن من الأمور اللائقة بإنسان أُممي أن يُعظم نفسهُ عليهم فأخذ الموضع المُناسب لهُ بالتواضع والإقرار بعدم أهلَّيتهِ. فأرسل من شيوخ اليهود إلى الرب ليسألهُ بواسطتهم أن يأتي ويشفي عبدهُ. ونرى كم كانت أفكارهم تختلف من أفكار الذي كلَّفهم بهذه الخدمة فإنهم ذكروا للرب أهلَّية ذلك الأُممي وأعمالهُ الصالحة حسب فكرهم من قلة معرفتهم تلك النعمة التي يحتاج إليها اليهود والأمم بالسوية. فذهب يسوع معهم. نعم، بناءُ المجمع كان دليلاً حلوًا على محبة الأجنبي للشعب الَّذين استوطن بينهم، ولكن يسوع أجاب طلبتهم باعتبار ضيقة الرجل، وليس بسبب أعمالهِ الحسنة. فلما قرب يسوع من بيتهِ عاد أرسل من أصدقائهِ لاستقبالهِ وأخبرهُ بالسبب الذي منعهُ عن الذهاب إليهِ بذاتهِ فأنهُ إنما حسب نفسهُ غير مستحقّ لذلك، وليس من التكبُّر الأممي، أو الرسمي كأن الرب تحت أمرهِ، فأقر بإيمانهِ بأن كلمة واحدة من فم السيد تُبرئ غلامهُ. ثم عبَّر عن أفكارهِ من جهة سلطان يسوع وقدرتهِ أن الأمراض تحت أمرهِ كما أن المأمورين تحت أمر مولاهم والجنديين تحت أمر قائدهم. فهذا وصف لإيمان الأممي الذي هو المثال لإيماننا أيضًا. قيل: أن يسوع تعجَّب من سمع هذا الكلام لأننا نراهُ بمقام خدمة كإنسان، ومن نفسهِ لم يفعل شيئًا.

كان الآب قد عمل خفيةً في قلب ذلك الأممي ثمَّ أتى بهِ إلى يسوع الذي سرَّ بأقرارهِ وشهد أنهُ لم يجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا. وكان ذلك عربونًا لهُ لإيمان الأمم بهِ وأن كان إسرائيل يتهاونون بنعمتهِ  ويرفضونهُ.

11 وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبَ إِلَى مَدِينَةٍ تُدْعَى نَايِينَ، وَذَهَبَ مَعَهُ كَثِيرُونَ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. 12 فَلَمَّا اقْتَرَبَ إِلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، إِذَا مَيْتٌ مَحْمُولٌ، ابْنٌ وَحِيدٌ لأُمِّهِ، وَهِيَ أَرْمَلَةٌ وَمَعَهَا جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمَدِينَةِ. 13 فَلَمَّا رَآهَا الرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهَا:«لاَ تَبْكِي». 14 ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ النَّعْشَ، فَوَقَفَ الْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا الشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ: قُمْ!». 15 فَجَلَسَ الْمَيْتُ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. 16 فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ:«قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ». 17 وَخَرَجَ هذَا الْخَبَرُ عَنْهُ فِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي جَمِيعِ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ. (عدد 11-17).

فقولهُ: وفي اليوم التالي. يجب أن يُقرأ. وبعد ذلك. انظر حاشية الإنجيل المُشوهد. وهذه القراءة توافق أيضًا منهج لوقا كما قد رأينا بحيث أنهُ نادرًا يُحدد الوقت بل يدرج الحوادث بقصد إعلان النعمة بالتدريج وبالترتيب أيضًا، ولكن ليس ترتيبًا تاريخيًّا بل روحيًّا. لاحظ أيضًا أن لوقا وحدهُ يذكر الحادثة المُدرجة في هذا الفصل.

فالشفاءُ لأمراض إسرائيل والأُمم أيضًا لا يكفي وحدهُ لأجل سد احتياجات البشر بسبب الخطية. نعم الأمراض من عواقب الخطية بلا شك ولكن الموت موجود أيضًا الذي هو أجرة الخطية. فنرى هنا صورة مُحزنة لسطوة الموت وفعلهِ بين البشر فإنهُ لا يزال يحسمهم كبارًا وصغارًا كالحشيش. لا يُراعي خاطر الغني بل يفتقد منزلهُ الفاخر ويخطف منهُ فريستهُ ولا يشفق على الأرملة المسكينة فإن مخالبهُ تفترس وحيدها فيذهب بهِ إلى القبر البيت المُعيَّن لكل حيّ. ثروة الغني لا تمنعهُ عن الدخول إلى منزلهِ لإجراء مأموريتهِ الصارمة وعبثًا تسترحمهُ الأرملة بدموعها أن يعفو عن وحيدها لأن الثروة الكثيرة والدموع المُرَّة على حدٍ سواء قُدام مَلِك الأهوال. وأما يسوع فشفوق وحنون. فلما رآها الرب تحنَّن عليها وقال: لا تبكي. فتأثر قلبهُ من مُشاهدة حزنها ويدهُ المُقتدرة عتيدة أن تغلب على قوة الموت وتسترد فريستهُ من فكيهِ وتجعل القلب المُترمل يتهلل فرحًا. لاحظ الهدوء المُتصف بهِ إجراء أعمال يسوع. لا نرى فيهِ أقلَّ حركة أو التردد الناتج من الشعور بالضعف وعدم المقدرة، ثم تقدَّم ولمس النعش فوقف الحاملون. الموت يستخدم النعش وحامليهِ وقد تعوَّد الناس على خدمتهِ حتى أنهم لا يستغربون افتقاداتهِ ولكن لمسة واحدة من يد الرب توقفهم بغاية السهولة. فقال: أيها الشابُّ لك أقول: قُمْ. فجلس الميت فابتدأ يتكلم فدفعهُ إلى أُمِّهِ. وهكذا هي حالة الأُمة الإسرائيلية الآن لأنها ميتة ولكن الرب سيُحييها بعد ويُرجعها إلى مقامها القديم بكلمة قُدرتهِ. فإن النعمة قد افتقدت الأُمم أولاً ولكنها لا تنسى إسرائيل إلى الأبد. ولكن الوحي في لوقا لا يُراعي مُعاملات الله التدبيرية كثيرًا بل إنما يُلمح إليها في سياق الكلام ويهتمُّ أكثر بإيضاح سبيل النعمة الجارية نحو اليهود والأُمم سويةً. وأما الجموع فتأثروا من مُشاهدة تلك الآية وخافوا ومجدوا الله ولكنهم لم يروا في يسوع إلاَّ نبيًا فقط. كان هينًا عليهم أن يقرُّوا بأن الله افتقد شعبهِ بإقامة نبي عظيم لهم لأنهُ يكون كتحف يُزينون أنفسهم بهِ للافتخار ولكنهم لم يعرفوهُ كابن الله القادر أن يُخلصهم من خطاياهم ومن الموت المُتسلط عليهم كعاقبتها. فشاع هذا الخبر عنه في كل البلاد حتى في اليهودية أيضًا ولكننَّا نعلم من مواضع أخرى أن إعلان قوة المسيح وانتصارهُِ على الموت إنما زاد الرؤساء حمقًا وأسرع بهم إلى تتميم مقاصدهم المُميتة ضدَّهُ.           

18 فَأَخْبَرَ يُوحَنَّا تَلاَمِيذُهُ بِهذَا كُلِّهِ. 19 فَدَعَا يُوحَنَّا اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلاً:«أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 20 فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ الرَّجُلاَنِ قَالاَ:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ قَدْ أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ قَائِلاً: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟» 21 وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ، وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. 22 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُماَ: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. 23 وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ». (عدد 18-23).

راجع (مَتَّىَ 2:11-6). والشرح عليهِ فالفرق قليل بين الموضعين. الله لا يجري أمورهُ حسب أفكارنا وإن كُنَّا خُدامًا أُمناء لهُ فإن أفكارهُ أعلى مما نستطيع أن نتصوَّر قبل أن تُجرى فعلاً فإذًا يجب أن نتبعهُ كتلاميذ ولا نسبقهُ كمُرشدين. كانت خدمة يوحنا المعمدان استعداديَّة وحصل بها في الأول انتباه عظيم وربما ظهر لهُ أنهُ عتيد أن يتم إصلاح حقيقي استعدادًا لظهور المسيح بينهم وإن الجميع يخضعون لهُ كيهوة إلههم ومَلِكهم. ولكن كأن خدمتهُ قُطعتْ في نصفها وأصبح الخادم الأمين في السجن من أجل أمانتهِ فصار خادم الرب أسير الرب ولا يخفى أن خدمة الرب أسهل علينا من التألُّم لأجلهِ لا سيما في الظروف التي كان يوحنا فيها فأنهُ أُستخدم ليُنادي بقدوم الرب بالقوة فلما طال الوقت عليهِ تحت الظلم القاسي أخذهُ التردُّد في أفكارهِ من جهة الأمور الحاصلة هل هي تدل على حضور المسيح المُنتظر بحسب النبوات أو إنما تكون استعدادًا لهُ فقط؟ لم يخطر ببالهِ أن يسوع مُضلٌّ فإنهُ كانت قد شهد لهُ شهادة صريحة وصدَّق أيضًا الأخبار المُتواصلة إليهِ عن أعمالهِ غير أنهُ لم يقدر أن يدرك طرق أفكارهُ مُختلطة وحالة كهذه تؤلم المؤمنين الحقيقيين أوقاتًا كثيرة. لاحظ أنهُ كان واثقًا بالمسيح كنبي وكان مستعدًّا أن يقبل الجواب منهُ من جهة المسألة أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فإذًا كان كلام المسيح مقبولاً عندهُ لا بل المسيح وحدهُ قادر أن يُريح قلبهُ ويُهدئ أفكارهُ المُترددة. فالمقصد الخصوصي بذكر هذه الحادثة في لوقا ليُظهر أهمية كلمة المسيح وشهادتهِ لنفسهِ. قد رأينا أنهُ قد أفرز تلاميذ لنفسهِ وأنشأ نظامًا جديدًا كل شيء فيهِ يبني على كلامهِ وكل ما ليس هكذا يُهدم، ونرى هنا أن يوحنا نفسهُ أُضطرَّ بأن يلتجئ إلى كلمة المسيح. وجواب الرب يؤيد ذلك فإنهُ قال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتُما وسمعتما إلى الخ. فإذًا ينبغي أن يؤسَّس إيمان يوحنا كإيمان غيرهِ على الشهادة التي قدَّمها المسيح. فكان يُجري أعمال الرحمة بالقوة الإلهية ويُبشر المساكين بكلمة الله. راجع شهادتهُ في مجمع الناصرة (الإصحاح 16:4-21). ولكن هذا كُلهُ لا يوافق النظام العتيق ولا أفكار الذين تعوَّدوا عليهِ كما سبق وأوضح بعد الضيافة الكبيرة التي صنعها لهُ مَتَّىَ العشار . وكان يوحنا نفسهُ في تجربة أن يعثر في المسيح باعتبار الفرق بين النظامين العتيق والجديد؛ لذلك ختم الرب رسالتهُ لهُ قائلاً: وطوبى لِمَنْ لا يعثر فيَّ. راجع أيضًا كلام سمعان الشيخ (إصحاح 34:2، 35).

24 فَلَمَّا مَضَى رَسُولاَ يُوحَنَّا، ابْتَدَأَ يَقُولُ لِلْجُمُوعِ عَنْ يُوحَنَّا:«مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَقَصَبَةً تُحَرِّكُهَا الرِّيحُ؟ 25 بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَإِنْسَانًا لاَبِسًا ثِيَابًا نَاعِمَةً؟ هُوَذَا الَّذِينَ فِي اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالتَّنَعُّمِ هُمْ فِي قُصُورِ الْمُلُوكِ. 26 بَلْ مَاذَا خَرَجْتُمْ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيًّا؟ نَعَمْ، أَقُولُ لَكُمْ: وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ! 27 هذَا هُوَ الَّذِي كُتِبَ عَنْهُ: هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ! 28 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ نَبِيٌّ أَعْظَمَ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ أَعْظَمُ مِنْهُ». (عدد 24-28).

هذه شهادة المسيح للجموع عن يوحنا المعمدان. كان الله من رحمتهِ للشعب أقام لهم يوحنا كنبي ليُهيئهم لقبول المسيح وأما المسيح نفسهُ فلم يكن مُحتاجًا للشهادة من الناس مُطلقًا وهكذا يُصرح في (يوحنا 34:5) فإن الآب الذي أرسلهُ شهد لهُ شهادة فعالة بالأقوال والأعمال التي أعطاهُ إياها كإنسان يخدمهُ تمامًا في هذا العالم. فاحتاج يوحنا إلى الشهادة منهُ فإن الرؤساء رفضوهُ والجموع السريعة التقلُّب صارت في تجربة أن ترتاب في كرازة يوحنا فإن الرؤساء يحكمون في كل مسألة باعتبار رياستهم والشعب يتأثر من الحق ويُطاوعهُ اليوم ثم يتركهُ غدًا اعتبارًا لرؤسائهم إن لم يُغرس فيهم كلام الرب بعمل الروح القدس. فأخذ الرب يذكرهم بخروجهم إلى البرية قبلاً لينظروا يوحنا ويسألهم ما هو شكلهُ؟ هل كان من مُشاكلين هذا الدهر والدائرين مع الزمان والظروف أو مُحافظًا على السيرة المُقدسة المناسبة لأنبياء الله في وقت ابتعاد شعبهِ عنهُ؟ وكان الجواب لهذا السؤال في ضمائر السامعين فإنهم كانوا قد ميَّزوا الفرق بين يوحنا وبين الكهنة والكتبة المُتسابقين معًا للحصول على العيشة الرفيهة والتفوذ في بلاط الملوك. فلم يكن يوحنا من هذا الشكل فإنهُ نادى الجميع بالتوبة وعاش مُنفصلاً عن شرورهم.

وكان نبيًا بل أفضل من نبي بحيث تمت فيهِ نبوة ملاخي كملاك الرب أي مُرسَلهِ ليُهيئ طريقهُ قُدامهُ. فإذًا يجب على الشعب أن يثبتوا على ثقتهم في يوحنا ولو ظلمهُ الحُكام وأنهوا خدمتهُ في نصفها. لا يخفى أنهُ كان في اليهود ميل شديد أن يحكموا بحسب الظاهر ويجزموا في شأن الإنسان بنجاحهِ على مبدأهم أن الله بعنايتهِ يُنجح طريق الصالح ويقلب طريق الأثيم. لأني أقول لكم: إنهُ من المولودين من النساء ليس نبيٌّ أعظم من يوحنا المعمدان. هذا يصدق عليهِ من جهة مقامهِ الخصوصي كما قد رأينا فإن الأنبياء القدماء تنبأوا عن المسيح كآتٍ في المُستقبل وأما يوحنا فشاهدهُ عيانًا ودعا إسرائيل أن يخضعوا لهُ. فكانت لهُ كرامة عظيمة من الله مع الإهانة المُعتاد اليهود على مُمارستها لجميع أنبيائهم. وكان عظمتهُ وتفضيلهُ على غيرهِ باعتبار خدمتهِ ولا مدخل هنا للمسألة هل كان أفضل من موسى أو إشعياء شخصيًّا لأن الله لا يُقابل عبيدهُ معًا من حيثية استحقاقهم الشخصي لأنهم جميعهم ليسوا سوى التراب والرماد وهكذا يَقرُّون وليس لهم فضل في خدمتهم إلاَّ من مُجرد نعمة الله الذي يختارهم ويستخدمهم بحسب مشيئتهِ المُطلقة السلطان. كان لموسى مقام معيّن لهُ وكذلك صموئيل وإيليا إشعياء مثلاً ثم قام يوحنا في وقتهِ وأكرمهُ الله بخدمة لم يمكن للقدماء أن يفوزوا بمثلها، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منهُ. فحضر ملكوت الله بذات ابنهِ وأخذ البعض يخضعون لهُ بموجب كلمتهِ ويتبعونهُ كتلاميذهِ ولهم مقام جديد كما قد رأينا فأنهم ارتفعوا عن النظام العتيق الذي لم يزل يوحنا فيهِ مع أنهُ تنبأ عنهُ أنهُ أوشك أن يُبدّل بالجديد ولكنهُ لم يكن من طرق الله أن ينضمَّ يوحنا إلى جماعة تلاميذ المسيح. كأنهُ أُستُخدم كمن يفتح الباب للآخرين وهو نفسهُ ممنوع عن الدخول منهُ. ولكنهُ قَبّلَ ذلك بفرح وارتضى بأن المسيح يرتفع وهو يتضع.

29 وَجَمِيعُ الشَّعْبِ إِذْ سَمِعُوا وَالْعَشَّارُونَ بَرَّرُوا اللهَ مُعْتَمِدِينَ بِمَعْمُودِيَّةِ يُوحَنَّا. 30 وَأَمَّا الْفَرِّيسِيُّونَ وَالنَّامُوسِيُّونَ فَرَفَضُوا مَشُورَةَ اللهِ مِنْ جِهَةِ أَنْفُسِهِمْ، غَيْرَ مُعْتَمِدِينَ مِنْهُ. (عدد 29، 30).

هذا كلام البشير لوقا وهو كمُلحق تاريخي لشهادة الرب للجموع. فتأثر البُسطاء والخطاة من كرازة يوحنا واعتمدوا منهُ للدلالة على توبتهم وهكذا برَّروا الله يعني صادقوا على كلامهِ لهم من جهة شرّ حالتهم خلاف المُعتدّين ببرّ أنفسهم الذين رفضوا مشورة الله يعني أبطلوها من جهة أنفسهم لأن الله أظهر مشورتهُ بإقامة يوحنا لأجل هذه الخدمة قاصدًا أن يُبارك الجميع بها إن تابوا، وأما هؤلاء ففضلَّوا البقاء في خطاياهم وشرفهم الكاذب على التمتُّع ببركة الله حسب الطريق المُعيَّنة لهم كما للآخرين.

31 ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ:«فَبِمَنْ أُشَبِّهُ أُنَاسَ هذَا الْجِيلِ؟ وَمَاذَا يُشْبِهُونَ؟ 32 يُشْبِهُونَ أَوْلاَدًا جَالِسِينَ فِي السُّوقِ يُنَادُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَقُولُونَ: زَمَّرْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَرْقُصُوا. نُحْنَا لَكُمْ فَلَمْ تَبْكُوا. 33 لأَنَّهُ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ لاَ يَأْكُلُ خُبْزًا وَلاَ يَشْرَبُ خَمْرًا، فَتَقُولُونَ: بِهِ شَيْطَانٌ. 34 جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَتَقُولُونَ: هُوَذَا إِنْسَانٌ أَكُولٌ وَشِرِّيبُ خَمْرٍ، مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ. 35 وَالْحِكْمَةُ تَبَرَّرَتْ مِنْ جَمِيعِ بَنِيهَا». (عدد 31-35).

فالجيل هنا عبارة عن الجنس الإسرائيلي عمومًا والرب في هذا الفصل يتكلم عنهم على وجه الإجمال الرؤساء مع الشعب فإنهُ لم يكن قبول لهُ ولا ليوحنا إلاَّ من بقية صغيرة أو أفراد فقط فيُشير هنا إلى النتيجة الأخيرة لخدمتهِ وخدمة عبدهِ في إسرائيل لأنهم رفضوا إنذارات الله بفم نبيهِ وتهاونوا بالنعمة الظاهرة في ابنهِ فكانوا كأولاد قليلي المعرفة وسريعي التقلُّب يلتهون باللعب ولكن لا يقدر بعضهم أن يُرضي الآخر فلم يستطع الله أن يُرضي شعبهُ الذين أحبَّهم. لما شهد ضدّ شرورهم بفم نبيهِ المُعتزل عنهم كتوبيخ لهم ظهر لهم كمَنْ بهِ شيطانٌ فناح لهم بسبب خطاياهم ولكنهم لم يُجاوبوهُ بالبكاء. ثم لما أظهر كمال نعمتهِ إذ تنازل أن يطلب الخطاة والعشَّارين حيث هم مُتورطون بالشرّ لكي يُخلصهم منهُ فحسبوا ذلك غير لائق بالله وقالوا عنهُ: هوذا إنسانٌ أكول وشريب خمر مُحِبٌّ للعشارين والخطاة. هذا حُكمهم في شأن الله وهو ظاهر في الجسد. نغماتهُ الحلوة التي بها كان يجمع حولهُ المُحتاجين إلى نعمتهِ لم تقدر أن تُسرَّ قلوب المُتعدين ببرّ أنفسهم للإنسان الساقط لا سيما إذا تظاهر بالحكمة والديانة بعض أوهام وتصوُّرات من جهة الله ويُبادر إلى الحكم في أعمالهِ وكلامهِ كأنهُ قادر على ذلك وكأن الباري سبحانهُ وتعالى تحت حكم أفكار جُبلة يديهِ، ولكننَّا نُظهر الحكمة الحقيقية يخضعونا لهُ لأنهُ إلهنا وليس لنا خلاص إلاّ منهُ. والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها، فالمسيح هو قوة الله وحكمة الله انظر (كورنثوس الأولى 24:1). شاء الله وأعلن مشورتهُ الأزليَّة بإرسالهِ ابن محبتهِ في الهيئة كإنسان انظر (فيلبي5:2-11، تيموثاوس الأولى 16:3). وإذا عرفناهُ نجد فيهِ جميع كنوز الحكمة والعلم (كولوسي 3:2). غير أن العالم لا يُرى فيهِ سوى الضعف والجهالة. فبنو الحكمة عبارة عن الذين يُميزون إعلان نعمة الله بذات ابنهِ ويجتذبون إليهِ كفاديهم وإلههم. وهم يُصادقون على أعمال الله وطُرقهِ كالمذكورين في (العدد 29) الذين برَّروا الله.

36 وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَدَخَلَ بَيْتَ الْفَرِّيسِيِّ وَاتَّكَأَ. 37 وَإِذَا امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً، إِذْ عَلِمَتْ أَنَّهُ مُتَّكِئٌ فِي بَيْتِ الْفَرِّيسِيِّ، جَاءَتْ بِقَارُورَةِ طِيبٍ 38 وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ. (عدد 36-38).

التعصب في صورة التقوى بدون قوتها أكبر آفةٍ للبشر ويمنعهم دائمًا وأبدًا عن الشعور بخطاياهم الشخصيَّة وعن الخضوع القلبي لبرّ الله المُعلن بالمسيح. لم يستطع أولئك الفريسيون أن يفتكروا فكرًا واحدًا صوابيًا عن المسيح ولا أن يفعلوا فعلاً واحدًا لهُ بإخلاص النية وقد أُستُعمل اسمهم للآن عبارة عن اللإعتداد بالبرّ الذاتي والمُقاومة لنعمة الله وسنرى في هذا الفصل أن مثال هؤلاء بعيدون عن الله وعميان أيضًا حتى إذا حضر ابن الله إلى منازلهم لا يعرفونهُ. فواحد منهم سأل الرب أن يتغدى عندهُ فقَبِلَ الدعوة وذهب إلى بيتهِ، ولكن الله بطُرقهِ يزن الأفكار ويكشف خفايا القلوب. كان الفريسي يحتقر المسيح بقلبهِ ولم يكرمهُ كما يجب بحق الضيوف وإنما قصد أن يُراقبهُ لكي يجزم في هل هو نبي فقير أم لا؟ لأنهُ عرف أن أنبياء حقيقيين قد ظهروا في حالة العوز والفقر ولكن على أي وجه من الأوجه سمعان الفريسي الغيور على الطقوس اعتبر نفسهُ أفضل من يسوع الوديع المُحِبّ للخطاة والعشارين. فحدث بعناية الله أن أمرًا غير مُنتظر وقع أمام نظرهِ لامتحان حالة قلبهِ وتحريك بُغضهِ الفريسي نحو نعمة الله. كانت في المدينة امرأة مشهورة بخطاياها، لا نعلم ما هي؟ ولكن يكفينا الآن أن نعرف أنها كانت خاطئة. هذا وصفها بالوحي نعم ووصفنا جميعًا ولا يوجد فرق إلاَّ بالاعتبار درجاتها وشُهرتها عند الناس. فالكبرياء دعت جميع الضيوف إلى ذلك الغداء، إلاَّ تلك المرأة التي حضرت من دون دعوة من صاحب البيت ولكن مُجتذبة إلى يسوع بنعمة الله العاملة فيها. ويتضح أنها هي ويسوع ابن الله العزيز المُبارك دخلا كلاهما بدون كرامة الضيوف. إذ علمت أنهُ مُتكئٌ في بيت الفريسي جاءت بقارورة طيب. ليس أحد يأتي إليَّ إن لم يجتذبهُ الآب الذي أرسلني (يوحنا 41:6). كان الآب قد أعدّ لابنهِ وليمة أفخر مما أفرشهُ سمعان. نرى أن الله سبق وفعل فيها بنعمتهِ كما عمل في قائد المائة المذكور في أول هذا الإصحاح ثم عند الفرصة المناسبة قادها إلى إظهار إيمانها لأن الإيمان عطية الله الذي يُعطينا إياهُ خفيةً ثم يُحملنا أن نُظهرهُ علانيةً لمجدهِ. كانت لصاحب البيت وضيوفهِ المُكرّمين أفكار مختلفة وأما المرأة الخاطئة فلها فكر واحد فقط وطوبى لها لأنهُ فكر الآب المُهتمّ بمجد ابنهِ وبسرورهِ في خلاص الخطاة. فأتت بما عندها أي بقارورة طيب وقلب مُنسحق حاسبةُ أن يسوع ذاتهُ أفضل شيء لها في هذا العالم، فوقفت عند قدميهِ من ورائهِ باكيةً. لا شيء يُلين قلوبنا الصلّبة إلاَّ الشعور بنعمة الله. يوجد محلٌّ لرعود جبل سيناء فإنها تُرعب المُنتبهين كما رأينا في كرازة المعمدان ولكن لم ينتج من خدمتهِ منظر كهذا. يليق بغير التائبين أن يخافوا من الغضب ولا يجوز لنا أن نُطمن أفكارهم ونتركهم مُستريحين بخطاياهم على أن إعلان النعمة وحدهُ يكسر قلوبهم ويُحضرهم باكين عند قدمي يسوع. فدموع كهذه علامة التوبة والإيمان في وقت واحد. فابتدأت تبلُّ قدميهِ بالدموع وتمسحها بشعر رأسها وتدهنهما بالطيب. كل مَنْ يأتي إلى المسيح باجتذاب الآب يشعر بأن لهُ حقًا فيهِ يعني أن المسيح لهُ لأن الله أرسلهُ للخطاة وكلما تعمَّق الشعور برداءتنا يُعظم يقيننا أيضًا بأننَّا قد وجدنا الذي لنا والذي يُناسبنا كل المُناسبة. كان لها الحق الصريح بأن تمدَّ يدها وتلمس ذات ابن الله فأخذت تُكرمهُ كما يليق بشأن الضيوف بل كصاحب وليمة أيضًا أفضل جدًا مما كان الضيوف المدعوون يتلذذون بهِ. لم تقدر أن تمدَّ يدها المُتدنسة إلى مائدة سمعان لتأخذ كِسرة خبز من مواكيلهِ الفاخرة ولم تشأ ذلك لو عرضهُ عليها لأنها حصلت على خبز الحياة وماء الحياة بذات المسيح ولا يهمُّها كل ما سوى ذلك.

39 فَلَمَّا رَأَى الْفَرِّيسِيُّ الَّذِي دَعَاهُ ذلِكَ، تَكَلَّمَ فِي نَفْسِهِ قِائِلاً:«لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ». 40 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«يَاسِمْعَانُ، عِنْدِي شَيْءٌ أَقُولُهُ لَكَ». فَقَالَ:«قُلْ، يَامُعَلِّمُ». 41 «كَانَ لِمُدَايِنٍ مَدْيُونَانِ. عَلَى الْوَاحِدِ خَمْسُمِئَةِ دِينَارٍ وَعَلَى الآخَرِ خَمْسُونَ. 42 وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَا يُوفِيَانِ سَامَحَهُمَا جَمِيعًا. فَقُلْ: أَيُّهُمَا يَكُونُ أَكْثَرَ حُبًّا لَهُ؟» (عدد 39-42).

فكر الفريسيين دائمًا هو أنهُ يوجد فرق عظيم بين خطاة وخطاة وإن الذي لم يتورط في الشرور الباهظة يكون بالنتيجة أقرب إلى الله من غيرهِ فإنهم يبنون على برّ الإنسان قياسًا لرضى الله فيهِ ولا يفهمون القول. «ولكن الله بيَّن محبتهُ لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية 8:5). فيحسبون أنفسهم أبرارًا بالمُقابلة مع الآخرين وبالنتيجة يبعدون المعروفين كخطاة بين الناس عن مُعاشرتهم بل يظنون أن قداستهم الذاتية تتنجس من لمسة مَنْ أمثال هؤلاء. ويوجد جزء من الحق في هذا ولذلك تزداد قوتهُ للخداع لأنهُ من واجباتنا الاعتيادية كعائشين في العالم أن نتجنب المُعاشرات الردية التي تُفسد الأخلاق الجيدة. «المساير الحكماء يصير حكيمًا ورفيق الجهال يُضَرُّ» (أمثال 20:13). فلا شك بأنهُ من واجباتنا الصريحة أن نحترز جدًا من جهة مُعاشراتنا. هذا يجب علينا دائمًا وأبدًا ونعمة الله عينها تقودنا إلى الاعتزال عن كل ما يُظهر أنهُ مُهين لمجد الله. انظر أيضًا (أفسس8:5-14). ربما كان الفريسي يُحافظ على صيتهِ أمام الناس أفضل من تلك الخاطئة ولا لوم عليهِ لأنهُ لم يدعها لبيتهِ لأن حضورها كضيفة مُكرَّمة لا ينفع سمعان ولا يُمجد الله. فإذًا بأي شيء غلط. فأُجيب وأقول:

أولاً- أنهُ كان يعتبر صيتهُ قدام الناس على مبدأ فاسد يعني لم يفعل ذلك من باب الواجبات بل على سبيل البرّ وحسب نفسهُ أفضل من الآخرين. وإن كنَّا نحن نعتزل عن الآخرين بالزعم أننَّا أفضل منهم أو بأن ذلك يزيدنا برًّا أمام الله نخدع أنفسنا ونحذو الحذو الفريسي تمامًا.

ثانيًا- ظنَّ سمعان أن الله تعالى مُلتزم بأن يُراعي أفكار الناس ولا يعلن نعمتهُ إلاَّ حسب استحسانهم. دعنا نفرض أنهُ يليق بسمعان أن يجمع خطاة في بيتهِ ولكن يا ترى هل الله الظاهر في الجسد مُضطرٌّ بأن يفعل مثلهُ؟ ربما تختلف قداسة الله عن القداسة الذاتية التي تصوَّرها سمعان إذ جزم بأفكارهِ أن يسوع ليس نبيًّا فإنهُ لو كان هكذا لَعَلِمَ الخاطئة ولشدَّة مُحافظتهِ على قداستهِ لطردها حالاً من محضرهِ ولكن قداسة الله ليست هكذا لأنها تقدر أن تطلب الخطاة وتجتذبهم إلى مصدر القداسة. فإن الله العامل بالنعمة يجري مقاصده الصالحة بعملهِ الفعال في قلوبنا ولا يحتاج إلى الاحتياطات لحفظ صيتهِ في أعين البشر.

ثالثًا- اعتداده بما لنفسهِ أعماه إلى هذا المقدار حتى لم يقدر ان يرى ابن الله مع انه كان ضيفًا في بيتهِ، وهذا عين الغلط المستولي على عموم الناس إلى هذا اليوم. قد افتقدهم المشرق من العلاء ولكنهم لا يميزون شيئًا بنورهِ والله باسط يديهِ طول النهار، ويدعوهم إلى وليمة نعمتهِ ولا يسمعون صوتهُ. فلما حكم سمعان بأن يسوع ليس نبيًا ولا قديسًا ابتدأ الرب ينبه أفكارهُ بكشفهِ ما هو في باطن قلبهِ إذ ضرب لهُ مثلاً بسيطًا. كان لمداين مديونان. على الواحد خمس مئة دينار وعلى الأخر خمسون. فبهذا التشبيه آتى سمعان بحسب أفكارهِ فإن الفريسين لم ينكروا أن الجميع خطاة بل ارتكبوا الغلط بحكمهم حسب الظاهر الأمور كأن الإنسان يقدر ان يُقيم نفسهُ قاضيًا فاستنتجوا انه بما ان الإنسان يُميز فرقًا عظيمًا بين خطاة وخطاة كالفرق بين خمس مئة دينار وخمسين دينارًا فلابد ان الله يحكم هكذا أيضًا، وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعًا. فإذًا لو سلَّمنا ان حكم الفريسي حق لم ينفعها شيئًا لأن العدل يطلب حقهُ من الجميع وسواء ان حُسبنا من الخطاة الكبار أو الخطاة الصغار حيث مجراهُ يذهب بنا جميعًا إلى سجن جهنم ولكن إن كان الله من نعمتهِ يُسامحنا مجانًا فتكون المسألة من باب آخر. فقل أيهما يكون أكثر حبًا لهُ. «نحن نحبهُ لأنه هو احبنا أولاً» (يوحنا الأولى 19:4) العدل جميل في محلهِ ولكنهُ لا يقدر ان ينشئ قمحة واحدة من المحبة فينا خلاف النعمة التي تُسامحنا مجانًا وتملأ قلوبنا محبة وشكرًا. وكلما أزداد شعورنا برداءتنا، وبالدين الباهظ الذي سومحنا بهِ تزداد محبتنا للذي اجزل لطفهُ نحونا.

43 فَأَجَابَ سِمْعَانُ وَقَالَ:«أَظُنُّ الَّذِي سَامَحَهُ بِالأَكْثَرِ». فَقَالَ لَهُ:«بِالصَّوَابِ حَكَمْتَ».(عدد 43). ممارسة الرياء في الأمور الدينية تعدمنا البصيرة والتمييز في كل ما يتعلق بأنفسنا. يمكننا ان نحكم في المسائل عقليًا ونظريًا ونحن لا نميز تخصيصها بنا شخصيًا. كان من الأمور الهينة للفريسي ان يحكم بالصواب في المسألة التي عرضها الرب عليهِ ولكن كشيء نظري أو كإحدى المسائل الواقعة بين إنسان وإنسان. انظر حكم داود في (صموئيل الثاني 1:12-6)

44 ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ:«أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. 45 قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. 46 بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ. 47 مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَقُولُ لَكَ: قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ، لأَنَّهَا أَحَبَّتْ كَثِيرًا. وَالَّذِي يُغْفَرُ لَهُ قَلِيلٌ يُحِبُّ قَلِيلاً». 48 ثُمَّ قَالَ لَهَا:«مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ». 49 فَابْتَدَأَ الْمُتَّكِئُونَ مَعَهُ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ:«مَنْ هذَا الَّذِي يَغْفِرُ خَطَايَا أَيْضًا؟». 50 فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ:«إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ». (عدد 44-50).

 التزم الرب بأن يفسر مثلهُ لسمعان كما عمل مع داود لأن تخصيص كلام الله لأنفسنا من اصعب الأشياء ولا نقدر ان نعملهُ بدون عمل إلهي ليُنير ظلامنا الداخلي ويتنجس ضمائرنا. ونرى في جواب الرب انهُ كان قد شعر بالإهانة التي أظهرها لهُ سمعان حين دخولهِ إلى بيتهِ غير انهُ لم يذكرها في الأول. تنازل ابن الله وظهر كإنسان بين شعبهِ وكان لهُ حق بالأقل ان ينال علامات المحبة والكرامة التي أُعطيت لغيرهِ من الإسرائيليين. فالضيوف الآخرون فازوا بالالتفات المعتاد ان يقدم لهم في كهذا وأما يسوع فلم يكن عند صاحب البيت سوى رجل فقير لا يليق بهِ شيء من الكرامة، وبالحقيقة لم يكن لهُ موضع في منزل هذا العالم المشغول بما لذاتهِ. فبقى محسوبًا كأجنبي من ولادتهِ إلى موتهِ. غير انهُ حصل على الكرامة من قلوب الذين ميزوا مجد شخصهِ بالإيمان وذاقوا نعمتهُ الحلوة. فما أعظم الفرق بين معاملة سمعان لهُ وبين ما عملت تلك المرأة التي قامت من بيتها مُجتذبة من المحبة ودخلت ذلك البيت المُمتلئ من الكبرياء العالمية ولم تبالِ بأحد إلا بيسوع وحدهُ فكانت دموعها بدل الماء وشعرها بدل المنشفة. كان يجب على سمعان ان يُقبل يسوع كأخ يهودي ويدهن رأسه بزيت ولكنهُ لم يتنازل ان يفعل ذلك وأما المرأة فأكرامتهُ كربها ومخلصها ودهنت بالطيب رجليهِ ولم تكف عن تقبيلهما. فإهانة سمعان لم تكن أقل ملومًا فإنهُ قصر حتى عن الواجبات الاعتيادية وعماهُ منعهُ عن ان يُميز في يسوع الوديع اكرم ضيف في بيتهِ وفي العالم أيضًا. من أجل ذلك أقول لك قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا. سبق قولهُ ان المسامحة تُولد المحبة في الذي ينالها ثم بعد ذكرهِ علامات المحبة التي أظهرتها تلك المرأة. صرح لسمعان بأنها إنما نتجت من شعورها بغفران خطاياها. لاحظ جيدًا ان المحبة لا تسبق الغفران بل تليهِ دائمًا وأبدًا. فإنما يذكر محبتها هنا دلالة حصولها على الغفران فإنها أحبت كثيرًا لكونها قد سومحت بالكثير. ثم قول الرب لسمعان: والذي يُغفر لهُ قليل يُحب قليلاً. مثل تنبيه لضميرهِ لكي يُخصصهُ بنفسهِ إن شاء واستطاع على ذلك. كان قد أظهر الاحتقار لا المحبة القلية للرب، ولكن إن كان هو عيني نفسهِ ليس إلا خاطئًا صغيرًا بالنسبة إلى غيرهِ فمع ذلك يكون خسر أننا لو حصل على الغفران بحيث انهُ بحسب مبدأه الفريسي يكون اقل حبًا للرب من الخطاة والعشارين، ولكن بالحقيقة خطاياهُ إذا وُزنت في ميزان السماء هي اثقل من خطايا تلك المرأة مهما كانت فانهُ تهاون بالنعمة بعد إظهارها. انظر ذلك الفريسي الشهير أُغني شاول الطرسوسي الذي لما وُزن في ميزان الحق اصبح أول الخطاة (تيموثاوس الثانية 15:1) فلنعلم يقينًا أيها القارئ العزيز أن الاعتداد ببرّ أنفسنا واحتقار محبة يسوع من أعظم الخطايا التي يُمكن ارتكابها. ثم قال لها: مغفورة لكِ خطاياكِ. لنُلاحظ أن الخاطئ التائب المُجتذب بالآب إلى المسيح يشعر في قلبهِ أنهُ مقبول قبل ما يفهم صريحًا من كلمة الرب أن ذلك قد جرى وتمَّ لأن الشعور القلبي الناتج من عمل الروح القدس غالبًا يسبق المعرفة الصريحة. فإن الآب يأتي بنا إلى المسيح بقلوب مُنسحقة بسبب خطايانا فتلين عند ركوعنا أمام قدميهِ لأننا نرى أنهُ لا يرفضنا ولكن لسوء التعليم وقلَّة المعرفة نبقى بعض الأوقات في حالة الشك ولا يُخفى أن جانبًا عظيمًا من مُعلّمي النصارى يُشككون سامعيهم بأقوال فريسيَّة وعوضًا عن أن يبنوا المؤمنين ويعزُّوهم لا يزالون يُضعفون إيمانهم ويقطعون رجائهم عن القبول والغفران. فصرح الرب للمرأة أن خطاياها غُفرَتْ لأجل زيادة يقينها وتعزيتها. فابتدأ المُتكئُون معهُ يقولون في أنفسهم مَنْ هذا الذي يغفر خطايا أيضًا؟ هذا جواب الإنسان الناموسي لنعمة الله وللكلام الصريح عن غُفران الخطايا واليقين بذلك. أولئك الفريسيون ارتابوا من جهة سلطان يسوع أن يغفر الخطايا يعني لم يكونوا مؤمنين بمجد شخصهِ، وأما الفريسيون في أيامنا فيعترفون بسلطانهِ ومع ذلك يرتابون في حقيقة الغُفران نفسهِ وإمكانية الحصول عليهِ. يقولون: أن الغفران موجود وإن المسيح قادر أن يمنحهُ ولكنهم يخلطونهُ مع أشياء أخرى ودائمًا يُبالغون في ما يُطلَب منا لله كأن لهُ مدخلاً في قلوبنا مجانًا بالنعمة عندهُ لأنهم لا يعرفون برّ الله الذي ظهر لنا على مبدأ العطاء لنا خلاف الناموس الذي يُطلب منا ولم يعرفوا بعد أن حالتنا جميعًا هي كحالة المديونين اللذين لم يكن لهما ما يوفيان فإذًا الفرق بين المبلغ الكبير والمبلغ الصغير لا يُقدّم ولا يُؤخرّ في خلاص الواحد وقصاص الآخر لأن كليهما يحتاج إلى الرحمة. ولكن الرب هنا لم يلتفت إلى أفكار الضيوف مع أنهُ شعر بها. فقال للمرأة: إيمانكِ قد خلَّصكِ.اذهبي بسلامٍ. «فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح» (رومية 1:5). «لأنكم بالنعمة مُخلَّصون بالإيمان وذلك ليس منكم. هو عطية الله» (أفسس 8:2). ولكنهُ يُقال عن الإيمان: أنهُ يُخلّصنا لأنهُ العلاقة التي بها نقترن مع المُخلّص.لولا إيمان تلك المرأة لبقيت في بيتها كغيرها من الخطاة ولو كان المسيح قد مرَّ بها لَمَاَ عرفتهُ كمُخلِّص لها ولكن لما علمت أن يسوع مُتكئ قامت وأتت إليهِ. وشعرت بأنهُ يقبلها بدون شك فإنها أحضرت معها قارورة طيب. ونرى أنها لم تغلط بذلك فإن الرب ما رفضها بل قبل من يدها ما دلَّ على محبة قلبها وبرَّرها أمام المُتكبرين وأرسلها بسلام فصارت هي من بني الحكمة لأنها عرفت إلهها ومُخلّصها الذي حضر بالنعمة. قيل عن الله: أنهُ محبة ونور فظهر ذلك تمامًا في يسوع المسيح. وتلك المرأة المسكينة شعرت بالمحبة واجتذبت إلى مصدرها ورأتْ النور وابتهجت بهِ. وأما الفريسيون فبقوا في جهالتهم إذ حضر الله في وسطهم ولم يعرفوهُ.      

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة