لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الرابع والعشرون

1 ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، أَوَّلَ الْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2 فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجًا عَنِ الْقَبْرِ، 3 فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. 4 وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذلِكَ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5 وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ، قَالاَ لَهُنَّ:«لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ 6 لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ 7 قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». 8 فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ، 9 وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهذَا كُلِّهِ. 10 وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ، اللَّوَاتِي قُلْنَ هذَا لِلرُّسُلِ. 11 فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12 فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ، فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا، فَمَضَى مُتَعَجِّبًا فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ. (عدد 1-12).

كل واحد من الأربعة البشيرين قد أدرج من الحوادث المُتعلقة بقيامة الرب وظهورهِ للتلاميذ مقامًا من الأموات ما يوافق مقصد الوحي بإنجيلهِ. وقد رأينا أن مَتَّى أدرج الشهادات والأدلَّة التي من شأنها أن تبرهن لإسرائيل حقيقة قيامة مسيحهم بعد رفضهم إياهُ وقتلهِ. لأنهُ كتب إنجيلهُ لأجل إفادتهم على نوع خصوصي وأما لوقا فيدرج بعض حوادث ليعلن لنا حقيقة شخص الرب بعد قيامتهِ وصدور شهادة النعمة منهُ لإسرائيل والعالم أجمع بعد قيامتهِ طبقًا للنعمة التي سبق وأظهرها وهو حيٌّ على الأرض. فلذلك يجب أن نتتبع الحوادث ذاتها كما هي مذكورة.

جميع المؤمنين القدماء صدقوا حقيقة قيامة الأموات ولكن حالة شخص مُقام من الأموات لم تظهر حتى بعد قيامة المسيح ذاتهِ. معلوم أن بعض أشخاص كانوا قد رجعوا بعد موتهم إلى حياتهم الأرضية ثانيةً بقوة الله ولكن ذلك ليس قيامة الأموات بمعناها الصحيح فإن أُولئك ماتوا أيضًا فإذًا المسيح أول واحد قام على حالة التغيُّر من بعد انتصارهِ التام على الموت والقبر. قال بولس الرسول. أن يؤلم المسيح يكن هو أوَّل قيامة الأموات (أعمال الرسل 23:26) وأيضًا. المسيح باكورة ثم الذين للمسيح في مجيئهِ (كورنثوس الأولى 23:15). صليب المسيح قد أنهى جنس آدم بحسب الطبيعة وقيامتهُ أبدأت جنسًا جديدًا. قيل عنهُ: أنهُ بداءة خليقة الله (رؤيا 14:3) وأيضًا فإذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا (كورنثوس الثانية 17:5). فننضمُّ إليهِ الآن روحيًّا كمُقام من الأموات ونحسب حساب الإيمان إننا متنا وقُمنا معهُ ومع أن أجسادنا لم تزل مُتعلقة بالخليقة الأولى المُنحرفة ننتظر تغيُّرها عند مجيء الرب لكي نصير معهُ ومثلهُ في الخليقة الجديدة التي لا يمكن دخول الخطية والموت فيها. لم يكن التلاميذ قد أدركوا لزوم موتهِ ونرى هنا كم كان الأمر صعبًا عليهم! أن يدركوا حقيقة قيامتهِ بعد أن قام وظهر لهم. ولكنهُ يعلن نفسهُ لهم على هيئات مختلفة لكي يحقق لهم ليس أنهُ مُقام فقط بل معتنٍ بهم بنعمتهِ المعهودة وبما أنهُ لا يقدر أن يعود إلى الحالة القديمة ليقترن معهم فيها فيُظهر ذاتهُ لهم في حالة أخرى جديدة ويقرنهم معهُ فيها إلى الأبد. نعم، وتكون بركاتهم روحية أيضًا توافق حالتهم الروحية، وهذه أفضل من بركات إسرائيل حسب الجسد بحيث أن الإنسان مهما تمتَّع بالبركات الأرضية تحت رضى الله فلا بدَّ أن يموت أخيرًا ويتركها وهذه البركات نفسها تزيد الموت مرارةً لهُ من حيث أنها كلما ازدادت لهُ تزيد لذَّة العيشة الأرضية وتربط قلبهُ بالعالم الذي لا بدَّ من زوالانهِ يومًا ما بدينونة الله. ونرى في (رؤيا إصحاح 20) أن الأتقياء المتمتعين براحة الملكوت مدة الألف السنة، سيختبرون في آخرهِ هذه الحقيقة المرَّة. وأما نحن في مدة غياب السيد فليس لنا سوى الضيق كنصيبنا في العالم فإذًا الموت لا يعنينا لأننا قد انتقلنا منهُ روحيًّا واشتركنا في حياة فادينا بعد قيامتهِ. «فقال لها يسوع: أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي ولو مات فَسَيَحْيَا، وكل من كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يوحنا 25:11، 26).ونرى هنا ما هو إيماننا المسيحي بحيث أنهُ بالمسيح وهو حيٌ بعد قيامتهِ. فلو كنا قد عرفناهُ مدة حياتهِ على الأرض لالتزمنا كتلاميذهِ بأن نتعرف فيهِ وهو مقام من الموت وبداءة خليقة الله. فلننظر الآن إلى الفصل الأول من هذا الإصحاح ولنختصر أيضًا لآن الحوادث المذكورة قليلة وواضحة والمقصد بها إظهار ضعف إيمان جميع التلاميذ الرجال والنساء وعدم انتظارهم قيامة الرَّبِّ. فالذكر الأول هنا للنساء التقيات المشار إليهنَّ في آخر (إصحاح 23) حيث رأينا محبتهنَّ للرَّبِّ الظاهرة بمراقبتهنَّ قبرهُ وأعدادهنَّ كل ما يلزم لتحنيط جسدهِ المكرَّم كأنهُ عتيد أن يمكث زمانًا طويلاً تحت سلطة الموت. فالوحي يذكر خدمتهنَّ لكرامتهنَّ مع أن محبتهنَّ كانت مخلوطة بمقدار من الجهالة. فمقصدهنَّ بالزيارة المذكورة هنا هو الاعتناءُ بجسد ميت، لا، رؤية مخلّص حيّ. حضر معهنَّ بعض أناس، ولكن الخدمة المقصود تتميمها كانت للنساء. كان الحجر مدحرجًا عن فم المغارة التي كان القبر فيها وبعد دخولهنَّ لم يجدن جسد الرَّبِّ. فلما وقعن في حيرةٍ شديدة وقف بهنَّ ملاكان بهيئة رجلين بثياب برَّاقة وقالا لهنَّ لماذا تطلبنَ الحيَّ بين الأموات…إلخ. وكان كلامهما هذا كتوبيخ لهنَّ على قلَّة انتباههنَّ لأقوال السيد الصريحة السابقة. فتذكرن كلامهُ. لاحظ أن مقصد خدمة الملاكين كان لتذكرهنَّ بكلام الرَّبِّ نفسهِ لأن هذا أساس الإيمان في كل حين. غير أن التذكر وحدهُ ليس بالإيمان، ولكن الرَّبُّ يقودهنَّ بتدريج لكي يهيئهنَّ لرؤيتهِ فيما بعد. ورجعن من القبر وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كلهِ. فيتضح أن الرسل الأحد عشر لم يكونوا من الذين زاروا القبر أولاً ونعلم من موضع آخر أنهم هم والذين بقيا معهم كانوا ينوحون ويبكون حين رجوع النساء إليهم. ولكن الوحي ألهم لوقا بأن يخبرنا بعدم إيمانهم لا بحزنهم الشديد على فقدانهم معلّمهم وسيدهم. وكانت مريم المجدلية ويونَّا وأم يعقوب والباقيات معهنَّ اللواتي قلن هذا للرسل. (راجع إصحاح 2:8، 3) حيث تذكر هؤلاء النساء اللواتي تبعن الرَّبَّ وكنَّ يخدمنهُ من أموالهنَّ مدة حياتهِ. فطوبى لهنَّ لأن لهنَّ ذكرًا حميدًا في كلمة الله. لا شك أن الرسل كانوا أفهم منهنَّ في أمور كثيرة ولكننا نرى هنا أن المحبة للرب ذاتهِ تقربنا إليهِ أكثر من المعرفة وحدها. نعم خدمتهنَّ هذه الأخيرة للسيد العزيز لم تكن في محلها ولكن المحبة التي حملتهنَّ لتتميمها أسرعت بهنَّ لقبرهِ باكرًا فإذ ذاك وصلنَ إلى حيث يمكنهنَّ أن ينلنَ خدمة منهُ ولو كان مستغنيًّا عن خدمتهنَّ لهُ الآن. فتراءى كلامهنَّ لهم كالهذيان ولم يصدّقوهنَّ. لاحظ أن هذا هو مقصد الوحي الخصوصي بهذا الفصل. كانت النساء في الغلط إذ طلبنَ الحيَّ بين الأموات، ومع ذلك كنَّ أقرب إلى الحق من الرسل أنفسهم لأنهنَّ تذكرنَ كلام الرَّبِّ ثمَّ رجعنَ وأخبرن الرسل بما جرى وأما هم فلم يصدقوا شيئًا من شهادتهنَّ وحسبوا كلامهنَّ كالهذيان. كان يجب عليهم بالقليل أن ينتبهوا لما بلغهم ذلك بواسطة نساء تقيات كهؤلاء ولكنهم استمرُّوا في عدم إيمانهم والحزن المرّ الناتج منهُ. فقام بطرس وركض إلى القبر فانحنى ونظر الأكفان موضوعة وحدها فمضى متعجبًا في نفسهِ مما كان. الغيرة الجسدية المؤسسة على عدم الإيمان تقدر أن تجعلنا نركض، ولكنها لا تقربنا إلى الرَّبِّ، ولا تهيئنا لرؤيتهِ. ركض بطرس إلى القبر بعدم إيمانهِ ورجع منهُ متعجبًا. والمعلوم أن التعجب يختلف عن الإيمان كل الاختلاف. نعلم من (مرقس 9:16-11؛ يوحنا 1:20-18) أن يوحنا كان مع بطرس، وأنه آمن بالقيامة بموجب ما شاهد، ولكن لوقا لا يذكر يوحنا لأن قصدهُ أن يظهر عدم الإيمان الذي استولى على قلوب الجميع، ونعلم أيضًا أن مريم المجدلية رجعت حالاً إلى القبر قبل حضور بطرس ويوحنا وبقيت هناك بعد رجوعهما إلى المدينة وحينئذٍ ظهر لها الرَّبُّ قبل أن يظهر لأحد غيرها، ولكن الروح القدس لا يقصد أن يعطينا تاريخًا بشريًّا مفصَّلاً بل يدرج من الحوادث ما يوافق مقصدهُ وما يؤول لتعليمنا وتعزيتنا. كل من يصرف وقتهُ في البحث في حوادث القيامة كموضوع تاريخي يتعب عبثًا لأنهُ لا يرى السيد الحيّ بل يجد القبر الفارغ فقط. فالروح القدس يشاء أن يعرّفنا بشخص المسيح المُقام ويقرننا بهِ ولا يعطينا بعض حوادث تاريخيَّة مرتَّبة أو على هيئة منفصلة بقصد أننا نرتبها بمعرفتنا ثمَّ نفتخر بما عملنا. فإذًا الوحي في هذا الإنجيل قصد أن يُرينا أولاً عدم إيمان التلاميذ جميعًا فلم يذكر يوحنا ومريم المجدلية اللذين آمنا أولاً.

13 وَإِذَا اثْنَانِ مِنْهُمْ كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِلَى قَرْيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أُورُشَلِيمَ سِتِّينَ غَلْوَةً، اسْمُهَا «عِمْوَاسُ». 14 وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بَعْضُهُمَا مَعَ بَعْضٍ عَنْ جَمِيعِ هذِهِ الْحَوَادِثِ. 15 وَفِيمَا هُمَا يَتَكَلَّمَانِ وَيَتَحَاوَرَانِ، اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا. 16 وَلكِنْ أُمْسِكَتْ أَعْيُنُهُمَا عَنْ مَعْرِفَتِهِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا:«مَا هذَا الْكَلاَمُ الَّذِي تَتَطَارَحَانِ بِهِ وَأَنْتُمَا مَاشِيَانِ عَابِسَيْنِ؟» 18 فَأَجَابَ أَحَدُهُمَا، الَّذِي اسْمُهُ كَِلْيُوبَاسُ وَقَالَ لَهُ:«هَلْ أَنْتَ مُتَغَرِّبٌ وَحْدَكَ فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ تَعْلَمِ الأُمُورَ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ؟» 19 فَقَالَ لَهُمَا:«وَمَا هِيَ؟» فَقَالاَ:«الْمُخْتَصَّةُ بِيَسُوعَ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي كَانَ إِنْسَانًا نَبِيًّا مُقْتَدِرًا فِي الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَمَامَ اللهِ وَجَمِيعِ الشَّعْبِ. 20 كَيْفَ أَسْلَمَهُ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَحُكَّامُنَا لِقَضَاءِ الْمَوْتِ وَصَلَبُوهُ. 21 وَنَحْنُ كُنَّا نَرْجُو أَنَّهُ هُوَ الْمُزْمِعُ أَنْ يَفْدِيَ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ، مَعَ هذَا كُلِّهِ، الْيَوْمَ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ مُنْذُ حَدَثَ ذلِكَ. 22 بَلْ بَعْضُ النِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِرًا عِنْدَ الْقَبْرِ، 23 وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاَتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلاَئِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ. 24 وَمَضَى قَوْمٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَنَا إِلَى الْقَبْرِ، فَوَجَدُوا هكَذَا كَمَا قَالَتْ أَيْضًا النِّسَاءُ، وَأَمَّا هُوَ فَلَمْ يَرَوْهُ». (عدد 13-24). 

ستين غلوه مسافة سبعة أميال ونصف. لاحظ أن لوقا لم يذكر بعد ظهور الرب لأحدٍ. معلوم أنهُ ظهر على هيئات مختلفة موافقة لأفكار الذين ظهر لهم لكي يزيل شكوكهم ويُطمن قلوبهم. ربما كان الاثنان المُشار إليهما هنا راجعين إلى بيتهما إذ ظنَّا أن رجاءهما بالمسيح قد انقطع إلى الأبد فما بقى عليهما شيءٌ الآن يرجعا إلى بلدهما ونراهما مغلوبين من الحزن وعدم الإيمان. وكان يتكلمان أحدهما مع الآخر عن جميع هذه الحوادث. كان فيهما إخلاص النية ولكن الأفكار القديمة اليهودية ملأت قلوبهما ومنعتهما عن أقل تعزية لأن اليهود الأتقياء انتظروا بركاتهم بدون الموت وعلى الأرض الموضع الذي يسطو الموت عليهِ ولكم يخطر ببال التلاميذ بعد أن الرب مزمع أن يبدأ لهم موضعًا جديدًا عبر الموت حيث ملك الأهوال لا يدخل ليفسد بركاتهم ويُعكّر كأس تعزيتهم. فالحديث عن الموت وعملهِ لا ينفعنا مادُمنا لا نعرف الرب غالبًا عليهِ روحيًّا بالقيامة. وفيما هما يتكلمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسهُ وكان يمشي معهما. ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفتهِ. فكان ذاهبين من أُورشليم فترافق الرب معهما على هيئة إنسان مسافر عن أُورشليم. كانت أفكارهما مُنشغلة في ملكوت أرضي مركزهُ أُورشليم ولما خاب انتظارهما بحسب الجسد أدارا قفاهما للمدينة واتجها إلى جهة أخرى وترافق معهما يسوع لأنهُ كان مُنطلقًا إلى جهة أخرى. راجع قولهُ السابق للذين كانوا يظنون أن ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال. فقال: إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسهِ مُلكًا ويرجع (إصحاح 12:19). فمن جهة إقامتهِ مُلكهُ بالفعل ينبغي لإسرائيل ولنا نحن أيضًا أن نعرفهُ على هذه الهيئة. فذهب إلى كورة بعيدة بطريق الصليب والقيامة نعم والصعود أيضًا ليأخذ لنفسهِ ملكوتًا أمجد جدًّا مما كان في أفكار ذينك التلميذين الماشيين معهُ في الطريق بكآبة القلب وعبوسة الوجه. لم يفهما بعد معنى شقّ حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل فبقى البرقع اليهودي على قلوبهما ومنعهما عن معرفة سيدهما المُقام. فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان بهِ وأنتما ماشيان عابسين. لم يزل الرب مُعلَّمًا لتلاميذهِ ونرى حكمتهُ ولطفهُ فإنهُ أعطاهما فرصة ليظهرا حالة أفكارهما المُضربة وسبب حزنهما الثقيل. ونرى هنا أيضًا أنهُ مَتَى كانت نية تلاميذهِ مُستقيمة يُبادر إلى تتميم وظيفتهِ كمُعلِّم وهذه الحقيقة عظيمة ومشحونة من التعزية لنا باعتبار جهالتنا. فأجاب أحدهما الذي اسمهُ كليوباس وقال لهُ: هل أنت متغرَّب وحدك في أُورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ نظن دائمًا أن الشيء الذي علينا وملأ أفكارنا لا بد أن يكون قد عمل هكذا مع الآخرين أيضًا فاستغربا وجود أحدٍ في نواحي أُورشليم ليس ممتلئًا مما جرى مثلهما. فقال لهما: وما هي؟ لم يقُل إنهُ لا يعرفها بل كمُعلّم تركهما يُخبرانهِ بها بحسب اختباراتهما المُحزنة. نعم كان هو تغرَّب وحدهُ في أُورشليم وفي إسرائيل والعالم أيضًا واختبر ما جرى ولكن على خلاف اختبار الآخرين. كان الجميع حتى أحباؤهُ نظروا إلى الحوادث نظرًا بشريًّا من الخارج وجزموا فيها كل واحد بحسب حالة قلبهِ وأما هو فاجتاز في وسطها وعرف حقيقتها مع الله.

فقالا المختصَّة بيسوع الناصري الذي كان إنسانًا نبيًا مُقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب: كيف أسلمهُ رؤساء الكهنة وحُكامنا لقضاء الموت وصلبوهُ ونحن كنا نرجو أنهُ هو المزمع أن يفدي إسرائيل. فأظهرا أفكارهما تمامًا بكلام مُختصر فحواهُ أن التلاميذ جميعًا بقوا على رجاءهم بأن المسيح لا يموت بل يظهر قوتهُ بخلاص إسرائيل من أعداءهم مع أنهُ سبق وقال لهم مرة بعد أخرى أنهُ ينبغي لهُ أن يُرفض ويُهان ويموت ويقوم أيضًا. وهذه هي الأفكار التي أمسكت أعينهما عن معرفتهِ. ولكن مع هذا كلهِ اليوم لهُ ثلاثة أيام منذ حدث ذلك. بل بعض نساءٍ منا حيَّرننا إذ كنَّ باكرًا عند القبر ولما لم يجدنَ جسدهُ أتينَ قائلات: إنهنَّ رأينَ منظر ملائكة قالوا: أنهُ حيٌّ. فإذًا كلام الملائكة الذي يُنبههم على كلام السيد نفسهِ بل إنما أضاف حيرةً إلى حزنهم. ومضى قوم من الذين معنا إلى القبر فوجدوا هكذا كما قالت أيضًا النساء وأما هم فلم يروهُ. فالقوم المُشار إليهم هم بطرس ويوحنا ولكن شهادتهما لم تثبت إلاَّ أن القبر فارغ وهذه الحقيقة سلبية لا إيجابية ولها عدَّة أوجه والوجه الأقرب لهم في الأول أن بعض الأعداء أتوا بالليل ونقلوا الجسد. (انظر يوحنا 13:20-15) مع إننا نعلم أن عملاً كهذا كان بعيدًا جدًّا عن أفكار الأعداء. مَتَى اضطربت قلوبنا تتوه أفكارنا وكأننا نستعدُّ أن نقبل بسرعةٍ أي خبر كان إلاَّ الصحيح وأما أفكار الله فتعلو عن أفكارنا القاصرة إلى هذا المقدار حتى لا يُمكننا أن نقبلها إلاَّ بالإيمان.

25 فَقَالَ لَهُمَا:«أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! 26 أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟» 27 ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ. (عدد 25-27).

كان فيهما إيمان بالنبوات القديمة ولكنهما لم يقدرا أن يفهماها بعد لأن فحواها هو الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعد ذلك. فوبخهما الرب على عدم معرفتها ولكنهُ يُمارس التوبيخات لأحبائهِ لإنهاضهم من الغفلة وتنبيه قلوبهم لقبول الحق. أَما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجدهِ؟ لاحظ قولهُ ينبغي لأنهُ يُشير بهِ إلى مشورة الله ومقاصدهِ المُعلنة في الكتب المقدسة التي ينبغي أن يكون المسيح موضوعها ومركزها. إذا جعلنا بركاتنا غرضًا وبحثنا فيها نغضُّ النظر عن مجد الله بالمسيح لأن الله مُفتكر في موت المسيح ودخولهِ إلى مجدهِ الخاص. ونرى هنا إلى أي مقدار اختلفت أفكار التلاميذ عن أفكار الله المُعلنة في كتب الأنبياء. لا شك بأنهُ يفدي إسرائيل بعد ولكن بطريق يفوق أفكارهم بما لا يوصف لأنهم هم أيضًا سيقبلونهُ كآتٍ من السماء بقوة ومجد كثير. ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأُمور المختصَّة بهِ من شأنها أن ترفع قلوبهما الضيقة عما يختصُّ بإسرائيل. وهذا هو قانون لنا أيضًا للحصول على الفرج من ضيقاتنا والتعزية في أحزاننا فإنهُ ينبغي لنا أن ننظر إلى مقاصد الله في المسيح ونتتبع أمجادهُ المُتنوعة لأن الأمور المختصَّة بهِ ترفعنا إلى حيث هو وفيما نتأمل فيها نجد بركاتنا الروحية ونتمتع بها في الشركة مع الآب ومع ابنهِ يسوع المسيح. فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. اهتموا بما فوق لا بما على الأرض لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مُستترة مع المسيح في الله. مَتَى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معهُ في المجد (كولوسي 1:3-4).

28 ثُمَّ اقْتَرَبُوا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَا مُنْطَلِقَيْنِ إِلَيْهَا، وَهُوَ تَظَاهَرَ كَأَنَّهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى مَكَانٍ أَبْعَدَ. 29 فَأَلْزَمَاهُ قَائِلَيْنِ:«امْكُثْ مَعَنَا، لأَنَّهُ نَحْوُ الْمَسَاءِ وَقَدْ مَالَ النَّهَارُ». فَدَخَلَ لِيَمْكُثَ مَعَهُمَا. 30 فَلَمَّا اتَّكَأَ مَعَهُمَا، أَخَذَ خُبْزًا وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَنَاوَلَهُمَا، 31 فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَرَفَاهُ ثُمَّ اخْتَفَى عَنْهُمَا. (عدد 28-31).

 نرى دائمًا كامل الحكمة واللطافة في أعمال المسيح سواء كان في حياتهِ أو بعد قيامتهِ فحين وصولهم جميعًا إلى القرية تقدَّم الرب في طريقهِ إلى مكان أبعد لأنهُ لم يكن لهُ حقٌّ كغريب أن يدخل منزلهما بدون دعوة وبالحقيقة كان قاصدًا الذهاب إلى مكان أبعد من تلك القرية وأعلى منها جدًّا وإنما ترافق قليلاً معهما لكي يُعزيهما ويرفع أفكارهما المحصورة في الدائرة اليهودية الضيقة إلى دائرة مقاصد الله الواسعة في موت ابنهِ وارتفاعهِ وقد رأينا أنهُ تصرف معهما كمُعلّم حكيم إذ أفادهما شيئًا فشيئًا باعتبار طاقتهما فصارت الفرصة مناسبة لهما أن يُظهرا لهُ أنهما مُرتضيين برفقتهِ وإن لهما رغبة في الإفادة أكثر. فألزماهُ قائلين: امكث معنا لأنهُ نحو المساء وقد مال النهار. فدخل ليمكث معهما. فما ألطف تصرُّف المسيح مع خاصتهِ فإنهُ لا يُثقل عليهم ولا يغصبهم بقبول مُعاشرتهِ بل يُراعي عواطف قلوبهم ويُعاملهم كأحبائهِ. لا أعود أُسميكم عبيدًا لأن العبد لا يعلم ما يعملهُ سيدهُ لكني قد سميتكم أحبَّاء لأني أعلمتكم بكل ما سمعتهُ من أبي (يوحنا 15:15). ولكنهُ يستعمل الوسائط المناسبة لحالتنا في وقتٍ ما ليجعل قلوبنا تلتهب في داخلنا حتى نطلب إليهِ أن يمكث معنا ومَتَى طلبنا حضورهُ يحضر. فإلزامهما إياهُ كان من مفعول كلامهِ فيهما ثم استجاب طلبتهما بغاية اللطف وسنراهُ يُقدمها بالتدريج إلى أنهُ يُظهر نفسهُ لهما. فلما اتكأ معهما أخذ خبزًا وبارك وكسر وناولهما. معلوم أن هذا كان العشاء الاعتيادي وليس العشاء الرباني. لا تنسوا إضافة الغرباء لأن بها أضاف أُناس ملائكة وهم لا يدرون (عبرانيين 2:13) فهذان ألزما غريبًا بأن يمكث معهما فظهر أنهُ ليس ملاكًا بل ربَّ الملائكة. (انظر تكوين إصحاح 18). ولكن إذا دعونا الرب أن يدخل إلى بيوتنا فلا بد أنهُ يتصرف كربّ البيت لأنهُ يحضر ليُبارك ويُعطي لا لكي ينال بركة منا ويأخذ شيئًا. نعلم أنهُ سبق وعيَّن كسر الخبز تذكارًا لموتهِ ولكن لا مدخل لذلك في هذه الحادثة غير أن الرب اتخذ الفرصة وأعلن نفسهُ لهما عند كسر الخبز. فانفتحت أعينهما وعرفاهُ ثم اختفى عنهما. قد بلغ مُرادهُ لما عرفا أن الغريب الذي ترافق معهما ليس إلاَّ الرب المُقام من الأموات فانتهت خدمتهُ معهما في ذلك الوقت فحالاً توارى عن النظر لأنهُ بالحقيقة كان مُنطلقًا إلى مكان أبعد وإنما تعوَّق في سفرهِ حتى يُحقق لتلاميذهِ أنهُ قد قام ولم يزل يُحبُّهم ويعتني بهم كما كان يفعل معهم قبل موتهِ. ونرى هيئات ظهورهِ المذكورة في هذا الإنجيل توافق إعلان صفاتهِ اللطيفة كابن الإنسان المُقام من الأموات والمُنطلق إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسهِ مُلكًا ويرجع. وفي أثناء انتظار رجوعهِ ينبغي أن تلاميذهُ يعرفونهُ على هذه الحالة الجديدة التي لم يسبق إنسانٌ عليها قبل.

عَنْهُمَا، 32 فَقَالَ بَعْضُهُمَا لِبَعْضٍ:«أَلَمْ يَكُنْ قَلْبُنَا مُلْتَهِبًا فِينَا إِذْ كَانَ يُكَلِّمُنَا فِي الطَّرِيقِ وَيُوضِحُ لَنَا الْكُتُبَ؟» 33 فَقَامَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَرَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَا الأَحَدَ عَشَرَ مُجْتَمِعِينَ، هُمْ وَالَّذِينَ مَعَهُمْ 34 وَهُمْ يَقُولُونَ:«إِنَّ الرَّبَّ قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَظَهَرَ لِسِمْعَانَ!» 35 وَأَمَّا هُمَا فَكَانَا يُخْبِرَانِ بِمَا حَدَثَ فِي الطَّرِيقِ، وَكَيْفَ عَرَفَاهُ عِنْدَ كَسْرِ الْخُبْزِ. (عدد 32-35).

بقيا تحت مفعول كلام الرب الذي جعل قلوبهما تلتهب إلى أنهُ اختفى عنهما وبعد زولان الالتهاب انتبها وتذكرا كيف كان وتحققا أكثر بأنهُ كان اختبارًا من الله ونشط إيمانهما. فقاما في تلك الساعة ورجعا إلى أُورشليم ووجدا الأحد عشر مجتمعين هم والذين معهم وهم يقولون: أن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان. لم يحسب الليل شيء الآن لأن معرفة الرب المُقام من الأموات تُبدد الظلام وتُنيرنا نورًا بهيًا أبديًا لأننا نجد أنفسنا في عالم جديد حيث المسيح المجيد هو نور أعيننا وبهجة قلوبنا. كانا قد ذهبا من أُورشليم بعدم إيمان كما قد رأينا ولكنهما رجعا إليها بالإيمان وفي فمهما بشارة حلوة ولكنهما وجدا الأحد عشر والآخرين ممتلئين أيضًا من هذه الحقيقة أن الرب قام وكان قد ظهر لسمعان (انظر كورنثوس الأولى 5:15-8) حيث يتضح أن المقصد هو ظهورات الرب للذين كان الاعتماد على شهادتهم لأجل تثبيت القيامة للآخرين فلذلك ظُهورهُ أولاً لمريم المجدلية ليس مذكورًا. وأما هما فكانا يُخبران بما حدث في الطريق وكيف عرفاهُ عند كسر الخبز. فأخبارهما هذه بلغت الآخرين في الوقت المناسب لا سيما ما نقلا من حديث الرب معهما في الطريق إذ فسَّر لهما الأمور المُختصة بهِ في جميع الكتب. لاحظ أهميَّة الكتب المقدسة وشهادتها للمسيح من جهة آلامهِ وأمجادهِ.

36 وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسْطِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ:«سَلاَمٌ لَكُمْ!» 37 فَجَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحًا. 38 فَقَالَ لَهُمْ:«مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ 39 اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي». 40 وَحِينَ قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. 41 وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ:«أَعِنْدَكُمْ ههُنَا طَعَامٌ؟» 42 فَنَاوَلُوهُ جُزْءًا مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئًا مِنْ شَهْدِ عَسَل. 43 فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ. (عدد 36-43).

إذا قابلنا هذا مع ما ورد في (مرقس 14:16) يظهر أن شهادات الذين كان الرب قد ظهر لهم لم تكن مقبولة بعد عند الباقين وقيل عن ظُهورهِ هذا: أنهُ كان للأحد عشر مع أنهُ كان أيضًا بعض تلاميذ غيرهم حاضرين. فبينما كانوا في المُخابرة من جهة مسألة قيامتهِ أقام حقًّا أم لا وقف يسوع نفسهُ في وسطهم وقال لهم: سلامٌ لكم. كان الرب مدة حياتهِ قد طمَّن قلوبهم المُضطربة أوقاتًا كثيرة فعاد بعد قيامتهِ يُنادي لهم بسلام. انظر ما ورد في (أفسس 14:2-18) وترى أنهُ جاء بعد قيامتهِ يُبشر بسلام وهو السلام الكامل المبني على العمل الذي أكملهُ بموتهِ. فجزعوا وخافوا وظنُّوا أنهم نظروا روحًا. لم يستطيعوا بعد أن يحتملوا حضورهُ كمُقام من الأموات لأن الإنسان لا يقدر أن يدرك حالة مَنْ أُقيم من بعد الموت وإذا ظهر لهُ أحد على هذه الحالة فلا بد أن يخاف. فامتلأوا خوفًا شديدًا وظنُّوهُ روحًا أو خيالاً فقط. فقال لهم: ما بالكم مضطربين ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم الخ؟ تنازل من لطفهِ وحقق لهم حقيقة شخصهِ. لاحظ الفرق بين عملهِ معهم هنا وبين عملهِ مع مريم المجدلية لما سبق وظهر لها باكرًا في الصباح قبل أن ظهر لغيرها لأنها تقدمت إليهِ مصدقةً بأنهُ سيدها نفسهُ ولكنها ظنَّت أنهُ قد رجع إليهم ليكون معهم كما كان قبل فبادر إلى إصلاح أفكارها الغلطانة ومنعها عن لمسهِ وفكّرها بأنهُ مزمع أن يصعد إلى أبيه وأرسلها لتُخبر التلاميذ بذلك وأما هم فلم يكونوا مُصدقين بأنهُ هو بذاتهِ فبادر إلى إزالة شكوكهم بالوسائط المُناسبة لذلك. فإن الروح ليس لهُ لحم وعظام كما ترون لي. يعني أنهُ لم يكن روحًا أو خيالاً كما ظنوهُ إياهُ لأن ذلك ليس مادَّة تُلمَس وإن ظهر للناس فإنما يكون ظهورًا وقتيًا فقط وأما هو فكان لابسًا جسدُ الحقيقي الذي سبق وسُمّر على الصليب. نعلم أنهُ تغيَّر من جهة حالتهِ ولكنهُ لم يكن شخصًا آخر. وحين قال هذا: أراهم يديهِ وجليهِ. فنراهُ يُعلمهم ما هي القيامة ليس كتعليم بل كحقيقة قد تمت في ذاتهِ ويُبدد شكوكهم تدريجيًا ويردّ نفوسهم المضطربة حتى يعودوا يعرفونهُ بالمعاشرة والمحبة واللطف التي ظهرت منهُ قبلاً لأنهُ يريد أن تكون بينهُ وبيننا علاقة حيَّة ومعرفة شخصيَّة. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبين …إلخ. إن ابتدأ الرَّبُّ عملاً ما يكملهُ. حضور الرَّبُّ وكلامهُ نفعاهم قليلاً، ولكن لم تزل أفكارهم مخلوطة فطلب طعامًا وأكل قدامهم. وعمل ذلك ليبرهن لهم أنهُ شخص حقيقي وليس خيالاً (انظر قضاة 17:6-22) وترى مناولة الطعام كانت محسوبة من الأدلَّة التي تحقق أن الظهورات من هذا القبيل كانت صحيحة. سبق الرَّبُّ وأعلن نفسهُ للاثنين عند كسر الخبز وأما هنا فحقَّق حضورهُ للجميع بمناولة شيء من الطعام الموجود. نعلم أن جسده المُقام لا يحتاج إلى القوت، فإنما أكل شيئًا من تنازلهِ إلى ضعفهم.

44 وَقَالَ لَهُمْ:«هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ». 45 حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ. 46 وَقَالَ لَهُمْ:«هكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، 47 وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ. 48 وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذلِكَ. 49 وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي». (عدد 44-49).

هذا مختصر تعليمهُ لهم كما أُلهم لوقا بأن يدرجهُ. فلا يذكر ذهابهُ إلى الجليل وظهوراتهِ للتلاميذ هناك وحسب ظاهر الكلام الوارد هنا كنا نستنتج أن الرب نطق بهِ في تلك الليلة وحالاً صعد إلى السماء، ولكن في (أعمال الرسل إصحاح 1) لوقا نفسهُ يخبرنا بأنهُ أراهم نفسهُ حيًّا ببراهين كثيرة بعد ما تألم وهو يظهر لهم أ{بعين يومًا، ويتكلم عن الأمور المُختصة بملكوت الله إلى خلاف ذلك مما يدل على أنهُ عرف تمامًا جميع ظهورات الرب وكلماتهِ، فإذًا الوحي قادهُ لأدراج ما يوافق مقصدهُ المخصوص بإنجيلهِ. وقلت آنفًا أنهُ يقصد ليس أن يحقق لنا حادثة القيامة فقط بل يُرينا أيضًا بعض صفات المسيح بعد قيامتهِ لا سيما إنسانيَّتهِ ولطفهُ واقترانهُ مع تلاميذهِ في حالة القيامة وصدور بشارة النعمة منهُ، وذلك كلهُ مبني على ما ورد لهم في كُتب الأنبياء وكلامهِ لهم مدة حياتهِ.

وقال لهم هذا هو الكلام الذي كلمتكم بهِ وأنا بعد معكم أنهُ لا بدَّ أن يتم جميع ما هو مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير. نعم، نراهُ حاضرًا معهم ولكنهُ ليس مزمعًا أن يقيم عندهم فأنهُ منطلق إلى مجدهِ، فلذلك يقرن إيمانهم بهِ مع كلمة الله الحية الباقية إلى الأبد. ونرى في سفر الأعمال والرسائل أنهم يفسرون الكتب القديمة لكي يقنعوا السامعين بجميع ما يختصُّ بالمسيح. ففتح ذهنهم ليفهموا الكتب. فَتْحُ أذهاننا لنفهم كلمة الله، هو من الأفعال الإلهية فنحن نحتاج إليهِ مثل التلاميذ. كما قيل عن ليدية. ففتح الرَّبُّ قلبها لتصغي إلى ما يقولهُ بولس (أعمال الرسل 14:16؛ انظر أفسس 17:1-23) أيضًا لا نقدر أن نفهم أقوال الله إن لم يفعل فينا فعلاً خصوصيًّا ليُهيئنا لذلك لأن قلوبنا غليظة وأذهاننا مُظلمة. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنهُ عندهُ جهالة ولا يقدر أن يعرفهُ لأنهُ إنما يحكم فيهِ روحيًّا (كورنثوس الأولى 14:2). يوجد فرق بين الانتباه العقلي وبين فتح الذهن روحيًّا بحيث أنهُ يمكن أن ننتبه عقليًّا ونبحث في مسائل كثيرة مُتعلقة بتفسير كلمة الله ومع ذلك العمل كلهُ عقلي والبرهان على ذلك إننا ننتفخ ونجعل معرفتنا غرضًا لنا وربما يظنُّ البسطاء إننا مُتقدمون كثيرًا في معرفة الكتاب وغالبًا كان الهراتقة الكبار أُناسًا من هذه الصفة وأما فتح أذهاننا روحيَّا فلا ينفخنا لأننا ننظر إلى المسيح المُنتصر على الموت والجحيم الذي فدانا بدمهِ وجعلنا أبيض من الثلج لدى الله أبيهِ فبدل ما نرتفع عقليًّا نتواضع قلبيًّا إذ نتحقق أكثر فأكثر حقيقة حالتنا كأولاد آدم وإننا قد قطعنا العلاقة معهُ بصليب المسيح إذ متنا وقمنا روحيًّا وصرنا للذي مات لأجلنا وقام. فلنحترز جدًّا من الانتباه العقلي في أمور الله والبحث في أقوالهِ كموضوع نظري فإن نتائج ذلك ردية جدًّا. نرى أن السيد نفسهُ المُعلِّم العظيم أجرى مُعاملاتهِ مع التلاميذ ليجعلهم يفهمون الكتب باعتبار إعلانها ذاتهُ لهم لكي يعرفوهُ هو نفسهُ لتعزيتهم وليس ليكون لهم مقدارٌ من المعرفة العقليَّة. قال الرسول: لأعرفهُ وقوة قيامتهِ وشركة آلامهِ مُتشبهًا بموتهِ (فيلبي 10:3). إذا اجتهدنا في درس الكتاب بمعونة الروح القدس نزداد في معرفة ابن الله الذي أحبنا وبذل نفسهُ لأجلنا وذلك يزيد فينا الشركة معهُ ويحملنا إلى الافتكار في شخصهِ العجيب وموتهِ وقيامتهِ وأمجادهِ السامية ونسبتنا إليهِ فإذ ذاك يبقى هو الغرض الذي ننظرهُ ونقصد الوصول إليهِ. فلذلك نتنشط في الإيمان والمحبة ونسعى إلى ما هو قدام. وهذه الحالة هي مُناقضة تمامًا لحالة الذين يفتخرون بذواتهم ومعرفتهم.

وقال لهم: هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. في هذا الفصل القصير يذكر الكتب المُقدسة عدَّة مِرار لأنهُ يُريد أن يُنبههم ليس إلى حقيقة قيامتهِ وحدها كحادثة استثنائية قائمة بذاتها ومُنفصلة عن غيرها بل أيضًا على أن ذلك كلهُ كان مُتضمنًا في مقاصد الله السابقة فلذلك يقول لهم جميعًا ما سبق وقال للاثنين في (عدد 26) : أنهُ كان ينبغي بموجب الكتب أن المسيح يتألم. لا يخفى إننا نحن إذا عرفنا شيئًا عن المسيح نعرف أنهُ قد تألم ومات لأن ذلك كان قد تم قبل أن بلغنا شيءٌ عنهُ بخلاف حالة أُولئك الذين التصقوا بهِ كمسيحهم الحي في وسط إسرائيل غير أننا في تجربة أن نقبل ذلك كعقيدة تسليميَّة بدون أن نشعر باحتياجنا إليهِ كمُخلِّص قد تألم وبدون علاقة حيَّة معهُ وهو مُقام من الأموات ومُمَّجد في السماء. وان يُكرز باسمهِ بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأُمم مُبتدئًا من أُورشليم. نراهُ بعد قيامتهِ في إنجيل مَتَّى في نواحي الجليل في وسط تلاميذهِ كالبقية الإسرائيلية وأعطاهم بعض تعاليم توافق تلك البقية إلى أنهُ يأتي ثانيةً. فلا يخفى أن الوحي لا يذكر صعودهُ في ذلك الإنجيل وأما في لوقا فلا يوجد ذكر ذهابهِ إلى الجليل بعد قيامتهِ فإنهُ يُرينا إياهُ في أُورشليم وعمواس وبيت عنيا ولكن كمُتأهبٍ للانطلاق من الأرض إلى السماء التي هي المركز للمقاصد الإلهية ومصدر النعمة التي ينبغي أن يُنادى بها للجميع الأُمم واليهود سويةً بالنظر إلى احتياجهم إليها لا إلى امتياز بعضهم عن البعض. راجع (إصحاح 15) على صفات النعمة السماوية التي أعلنها الرب يسوع مدة حياتهِ وبعد قيامتهِ أيضًا. ورأينا وجوب التوبة للجميع وإن رجوع التائبين يُسبب فرحًا في السماء. لاحظ إنهُ يذكر الأُمم أولاً ولا يذكر أُورشليم إلاَّ كالموضع الذي يجب أن تبتدئ منهُ شهادة النعمة هذه. كانت أُورشليم أذنب من جميع الآخرين فإذًا النعمة السماوية الصادرة من المسيح المُقام تفتقد أُورشليم قبل الكل ولكنها لا تكون محصورة فيها بل تبلغ إلى جميع الأُمم. كانت أُورشليم قد أهانت المسيح الحي ولم تعرفهُ كربها وإلهها حين افتقدها بالنعمة كالمُشرق من العلاء ففقدت حقوقها بحسب الجسد ولم يكن لها امتياز عن الأُمم سوى زيادة خطاياها فإذًا المُناداة بالتوبة ومغفرة خطايا التائبين يجب أن تُعرض عليها أولاً. وأنتم شهود لذلك.(انظر أعمال الرسل 8:1) من جهة دائرة شهادتهم. وقد رأينا في إرشادات الرب لهم إنهُ كان يجب عليهم كشهود أن يسندوا شهادتهم إلى الكتب المُقدسة فحينئذٍ يستطيعون أن يقولوا: ليس إننا رأيناهُ وسمعناهُ بعد قيامتهِ فقط بل أيضًا هكذا مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم الخ. كان الأحد عشر شهودًا على نوع خُصوصي ولكن الكلام هنا وفي (أعمال الرسل إصحاح 1) يطلق علينا جميعًا بحسب طاقتنا كتلاميذ المسيح. وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أُورشليم إلى أن تلبسوا قوةً من الأعالي معلوم أن موعد الآب هو الروح القدس. فيوصيهم هنا بأن يمكثوا في أُورشليم إلى أن يأتيهم الروح القدس من السماء بموجب وعد الآب ليُعطيهم قوةً لتقديم شهادتهم في أُورشليم والعالم أجمع. الحصول على الميلاد الثاني من فوق لا يمنحنا قوةً ونرى هنا أن فتح الأذهان لفهم كلمة الله ليس بقوة في حد ذاتهِ. ولكن الإنسان المسيحي لا يقدر أن يُتمم خدمتهُ للرب من أي نوع كان في هذا العالم بدون قوة. والروح القدس المُعطى لنا جميعًا هو الذي يمنحنا القوة للسلوك والخدمة لا شك أنهُ يفعل في البعض على أنواع خلاف البعض الآخر ويُقال لاختلاف عملهِ مواهب روحيَّة ولكن الروح نفسهُ يُعطي لجميع المؤمنين وإن كانت لهُ أفعال متنوعة فيهم إذ يستخدم البعض استخدامًا أخصَّ من البعض الآخر لأننا نرى في (أعمال الرسل إصحاح 1) ومواضع أخرى أنهُ حلَّ على جميع المؤمنين بدون استثناء. فالروح لما حلَّ لو ينحصر في الرسل ولا في أصحاب المواهب بل كان للجميع نحن. جميعًا مقترنون مع المسيح المُنتصر على الموت والمُمَّجد في السماء فصرنا جنسًا جديدًا ومادُمنا في هذا العالم ينبغي أن نشهد لهُ ونثبت ضد مكايد إبليس ونسعى ونُجاهد في الإيمان وذلك يقتضِ قوة منهُ. لكي يُعطيكم بحسب غنى مجدهِ أن تتأيدوا بالقوة بروحهِ في الإنسان الباطن ليحلَّ المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم مُتأصلون ومُتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًّا مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا لهُ المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال الدهر آمين (أفسس 17:3-21). وأيضًا لتسلكوا كما يحقُّ للرب في كل رضى مُثمرين في كل عملٍ صالح ونامين في معرفة الله مُتقوين بكل قوة بحسب قدرة مجدهِ لكل صبر وطول أناة بفرح (كولوسي 10:1، 11). كان ينبغي للتلاميذ الأولين أن ينتظروا حلول الروح القدس بحسب أمر الرب بل أن يطلبوهُ أيضًا كما قال لهم آنفًا: فكم بالحري الآب الذي من السماء يُعطي الروح القدس للذين يسألونهُ (إصحاح 13:11) ولكننا لا نرى أحد المؤمنين بعد يوم الخمسين يطلبهُ. لأنهُ أتى من السماء ولم يزل حالاً هنا فيُعطي للذين يتوبون ويؤمنون. وإن كنا نطلبهُ ننكر إننا للمسيح الآن. ثم إذا عرفنا أنهُ ساكن فينا لا نقول للآخرين أن يطلبوهُ لأنفسهم ولو عرفنا أنهُ لم يحلَّ فيهم لأننا نعلم أنهم مُحتاجون إلى معرفة المسيح المُقام من الأموات والمُرتفع إلى المجد فلذلك نبذل جهدنا في تعليمهم من الكتب المقدسة فإن كانوا يصغون لكلام الله يكون الروح نفسهُ عاملاً فيهم لذلك ويحلُّ فيهم بواسطة سماعهم الشهادة للمسيح الفادي المُمَّجد انظر (أعمال الرسل 44:10؛ غلاطية 2:3) وشهادات أخرى كثيرة على أن الروح القدس يحلُّ على المؤمنين الآن بواسطة سماعهم كلمة الله. ونعلم أنهُ قد أتى لكي يشهد للمسيح ويُمجدهُ فإذًا لا يجوز لنا أن نلتفت إليهِ ولعملهِ ونجعل ذلك غرضًا أو موضوعًا للنظر إليهِ فإن المسيح في المجد هو الغرض الإلهي الذي يجب أن ننظر إليهِ.

50 وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجًا إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. 51 وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. 52 فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ، 53 وَكَانُوا كُلَّ حِينٍ فِي الْهَيْكَلِ يُسَبِّحُونَ وَيُبَارِكُونَ اللهَ. آمِينَ. (عدد 50-53).

معلوم أن بيت عنيا كانت قرية على رأس جبل الزيتون ليست بعيدة عن أُورشليم وهي مذكورة عدَّة مِرار في الإنجيل. العائلة المحبوبة أي مرثا ومريم ولعازر أخوهما سكنت هناك. وهناك أقام المسيح لعازر حبيبهُ من الأموات وكان مُعتادًا أن يبيت هناك بعد رفض شهادته من أُورشليم المُتمردة راجع القول: وكان في النهار يُعلِّم في الهيكل وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل الذي يُدعى جبل الزيتون (إصحاح 37:21). وكان قد ابتدأ بقدومهِ على أُورشليم كملك من هناك أيضًا انظر (إصحاح 40:28) نعم وسيرجع إلى هناك على صفة رسمية في المستقبل بحسب ما ورد في (زكريا 4:14). فنرى في هذا الفصل الأخير أنهُ خرج تلاميذهُ من أُورشليم في اليوم المُعين لانطلاقهِ إلى مجدهِ من بعد أن رفضتهُ الأرض وقادهم إلى بيت عنيا. ورفع يديهِ وباركهم. سبق وبشرهم بسلام وطمَّن قلوبهم المُضطربة برؤيتهم إياهُ في حالة القيامة وهنا يُباركهم قبل أن يُفارق الأرض ليتوارى عن نظرهم إلى أن يأتي أيضًا ليأخذهم وإيانا إليهِ. وفيما هو يُباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء. لم يظهر منهُ أقل اضطراب ساعة صعودهِ لأنهُ كان راجعًا إلى المجد الذي كان مُعتادًا عليهِ قبل تأسيس العالم. قابل هدوءهُ التام مع قلق إيليا النبي لما حان وقت إصعادهِ جسدًا إلى السماء وترى الفرق العظيم بين السيد نفسهِ وبين أعظم عبيدهِ. قيل هنا: أنهُ أُصعد إلى السماء لأن الوحي يُراعى ارتفاعهُ كإنسان بحيث أن الله أصعدهُ ومجدهُ. وأما في بعض المواضع الأخرى في (أفسس 8:4، 9) مثلاً فقيل: أنهُ صعد بحيث الإشارة إلى مجدهِ الشخصي. فسجدوا لهُ ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم. صارت لهم الآن علاقة جديدة مع السماء حيث سبقهم الرب. وقعوا في حيرة وحزن شديد لما سُمّر على الصليب ثم مات وضمنتهُ الأرض لأنهم ظنوا أنهم فقدوهُ إلى الأبد ولكنهم فرحوا جدًّا يوم صعودهِ إذ قبلتهُ السماء لأنهم شعروا بأنهم مرتبطون بهِ هناك ولو ذهب عنهم فلم يفقدوهُ نعم وليس بعيدًا أيضًا لأنهُ كما أن نزولهُ قد قرَّب السماء إلى الأرض هكذا صعودهُ إليها قرَّبنا إليها. وكانوا كلّ حين في الهيكل يُسبحون ويُباركون الله. فاضت قلوبهم سرورًا وفرحًا إذ تم فيهم وعد المسيح. ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم (يوحنا 22:16) قد رأينا أن ملائكة الله فرحوا وقت ولادتهِ ونرى هنا شيئًا أعظم إذ فرح تلاميذهُ بصعودهِ مع أن تلك الحادثة أنهت انتظارهم الملكوت كإسرائيليين وجعلت بركاتهم في السماء لا في الأرض. ولكن الموت الذي لاشى آمالهم اليهودية وضع أساسًا للبركات السماوية وانطلاق سيدهم إلى السماء عيانًا سحب قلوبهم معهُ فلا بد من الفرح الشديد إذا تيقنَّا نصيبنا المجيد.

أخيرًا أقول للذين اشتركوا معي في درس هذا الإنجيل وفي بعض فوائد روحية استخرجناها منهُ لبنيان نفوسنا المُحتاجة: أن لا يكتفوا بالكلمات البشرية ولو كانت حقًّا ومفيدة لأنهُ ينبغي لنا أن نُطالع دائمًا ذات كلمة الله. لا شك أنهُ واجب علينا أن نُمارس ما عندنا من المواهب الروحيَّة لأن الله أعطانا إياها لإفادة الآخرين ولكن مع ذلك إذا اقتصرنا على سماع مواعظ وقراءة تفاسير تضعف نفوسنا روحيًّا وتبقى أطفالاً مُضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال. نصرف وقتنا بالبحث في المسائل التفسيرية ونتعب في الاختلافات الحاصلة بين المُفسرين فنشتغل في الحرف ونفقد الجوهر. قال الرسول: والآن استودعكم يا إخوتي لله ولكلمة نعمتهِ القادرة أن تبنيكم وتعطيكم ميراثًا مع جميع المُقدسين (أعمال الرسل 32:20) معرفة حرف الكتاب لا تبنينا وربما تنفخنا وتبعدنا عن المعرفة الروحية القلبية. قد شاء إلهنا وأعطانا كلمتهُ ولكنهُ يقصد تبليغها إلى قلوبنا وضمائرنا ولا يُخاطب عقولنا. ينبغي لنا أن نجد لذَّتنا وسرورنا دائمًا وأبدًا في بشارة نعمتهِ التي افتقدتنا من العلاء بالنظر إلى احتياجات نفوسنا المسكينة وإذا قبلناها بالإيمان تبني نفوسنا وتعطينا ميراثًا لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحلُّ محفوظًا لنا في السماوات. ليحفظنا الربُّ يا إخوتي بقلوب بسيطة وثياب غير مُدنسة لكي نلتصق بهِ وحدهُ في هذا العالم الشرير بينما ننتظرهُ ثانيةً ليأخذنا إليهِ حتى نكون معهُ ومثلهُ في بيت الآب إلى أبد الآبدين. آمين

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة