لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الرابع عشر

1 وَإِذْ جَاءَ إِلَى بَيْتِ أَحَدِ رُؤَسَاءِ الْفَرِّيسِيِّينَ فِي السَّبْتِ لِيَأْكُلَ خُبْزًا، كَانُوا يُرَاقِبُونَهُ. 2 وَإِذَا إِنْسَانٌ مُسْتَسْق كَانَ قُدَّامَهُ. 3 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَكَلَّمَ النَّامُوسِيِّينَ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قِائِلاً:«هَلْ يَحِلُّ الإِبْرَاءُ فِي السَّبْتِ؟» 4 فَسَكَتُوا. فَأَمْسَكَهُ وَأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ. 5 ثُمَّ أجَابَهم وَقَالَ:«مَنْ مِنْكُمْ يَسْقُطُ حِمَارُهُ أَوْ ثَوْرُهُ فِي بِئْرٍ وَلاَ يَنْشُلُهُ حَالاً فِي يَوْمِ السَّبْتِ؟» 6 فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُجِيبُوهُ عَنْ ذلِكَ. (عدد 1-6).

هذا الإنجيل يذكر مرارًا كثيرة حضور الرب في بيوت الناس كضيف وكان أكثر الأوقات بين الفريسيين المُتصفين بالرياء وكل مرة وقعت حادثة من شأنها أن تكشف رياءهم وبُغضهم للرب ولنعمتهِ المجانية. فنراهُ هنا في بيت أحد الفريسيين في وسط ضيوف آخرين من أصدقاء صاحب البيت مُستسقٍ كان قُدَّامهُ. أينما حضر الرب ظهرت لهُ شقاوة شعبهِ واحتياجاتهم ولم يمتنع عن مُمارسة خدمتهِ لشدَّة مُقاومة رؤساءهم المُتكبرين. فسألهم إن كان الإبراء جائزًا في يوم السبت. فسكتوا ليس من الاقتناع بل من الرياء فإنهم لم يقدروا أن يُبينوا أفكارهم بسبب الظروف فشفاهُ الرب وأبكمهم عن الاعتراض إذ أوضح لهم أنهم يعتنون بصوالحهم في يوم السبت كما في أيامٍ أخرى. كان الرب ينقض وينهي النظام الأول ونرى أنهُ أوقاتًا كثيرة يعرض عليهم مسألة السبت الذي كان علامة عهد الله مع إسرائيل. فلو كانوا قد أطاعوا وصاياه لعاشوا في أرضهم مُطمئنين لا مُزعج لهم من الخارج ولا مشقات لهم من الداخل فكانت لهم الراحة وكان مُمكنًا أن إلههم يرتاح في وسطهم. كما قيل: «يسكت في محبتهِ. يبتهجُ بكِ بترنم» (صفنيا 17:3). ولكنهم لم يدخلوا في راحةٍ بعد سُكناهم في كنعان لأن خطيتهم كدرت راحتهم وألزمت إلههم أن يستمرَّ بأعمالهِ كل الأيام فتبرهن تمامًا أنهم لا يقدرون أن يحصلوا على الراحة بواسطة أعمال الناموس ولكنهم لم يُريدوا أن يقبلوها بالنعمة فلذلك السبت الذي تعيَّن علامة العهد صار عِلَّة خصام بينهم وبين إلههم حين حضر في وسطهم ليشفيهم فإنهم كانوا يحفظونهُ حفظًا خارجيًا للافتخار وأما المسيح فاستعملهُ لإظهار أعمال الرحمة فيهِ كبرهان على شقاوة إسرائيل من الجهة الواحدة ومن الأخرى ليقنعهم بسقوطهم بحسب الناموس واحتياجهم إلى النعمة التي افتقدتهم بشخصهِ.  
7 وَقَالَ لِلْمَدْعُوِّينَ مَثَلاً، وَهُوَ يُلاَحِظُ كَيْفَ اخْتَارُوا الْمُتَّكَآتِ الأُولَى قِائِلاً لَهُمْ: 8 «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ. 9 فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَانًا لِهذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَل تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. 10 بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. 11 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (عدد 7-11).

كان بيت ذاك الفريسي وضيوفهُ صورة تامة لهذا العالم باعتبار كبريائهم ومُسابقتهم معًا للارتفاع إذ كان كل واحد يُحب أن يكون في المجلس الأول. ولا يخفى أن هذا الميل الردي انغرس في الجنس البشري من ساعة سقوط آدم حين طلب أن يرفع نفسهُ فقد صار أولادهُ جميعًا مثلهُ بحيث أن كل واحد يُريد أن يحصل على شيء فوق ما هو عليهِ الآن ولا يكتفي بما تعيَّن لهُ بعناية الله فصار التواضع ضد طبيعتنا الساقطة تمامًا. وأما المسيح فلم يشترك في الطبيعة الإنسانية على حالة الانحراف فاستمرَّ يُظهر كمالاتهِ كإنسان في جميع أمورهِ فالافتخار الذاتي ليس حسب مشربهِ بتةً. فأخذ يُعلِّم الضيوف بأن الكبرياء لا بد أن تنتهي بالخجل فلذلك الأوفق لنا أن نختار الموضع الأخير بين الناس خوفًا من الخجل قُدام الجميع. قال سليمان الحكيم: «لا تتفاخر أمام المَلِك ولا تقف في مكان العُظماء لأنهُ خيرٌ أن يُقال لك: ارتفع هنا من أن تُحطَّ في حضرة الرئيس الذي رأتهُ عيناك» (أمثال 6:25، 7). لأن كل مَنْ يرفع نفسهُ يتضع ومَنْ يضع نفسهُ يرتفع. فالاتضاع يلي الارتفاع الذاتي وأما الارتفاع الحقيقي من قبل الله فيكون لمَنْ وضع نفسهُ. والمسيح نفسهُ هو قدوة لنا في ذلك. ونرى هنا قانونًا مُطلقًا لمُعاملة الله للناس وخيرٌ لنا أن نعمل بهِ في كل حين سواء كنا في بيوت الناس أو في بيت الله. «وتسربلوا بالتواضع لأن الله يُقاوم المُستكبرين وأما المُتضعون فيعُطيهم نعمة» (بطرس الأولى 5:5) راجع أيضًا تعليم الرسول بولس من جهة تصرُّفنا بالتواضع في بيت الله. (رومية 3:12-17).

وأما الفائدة الخصوصية التي لنا في هذا المثل فتتضمن في قول الرَّبِّ فيأتي الذي دعاك وإياهُ يعني ينبغي لنا أن نتجنب رفع ذواتنا في شيء ونترك للرَّبِّ الذي دعانا بنعمتهِ أن يعيّن لنا المقام الذي يستنسبهُ فأنهُ هو صاحب البيت وإن كنا قد شعرنا برداءتنا كخطاة مذنبين عرفنا أننا لسنا أهلاً لموضع إلاَّ في جهنم النار، وبما أنهُ اختارنا ودعانا للدخول في بيتهِ لا نتجاسر أن نختار موضعًا لأنفسنا بل ننتظر مشيئتهُ حتى يعطينا مقامًا فيهِ، وحينئذٍ يكون لنا مجد حقيقي منهُ خلاف المجد الباطل المُتعلق بالارتفاع. فإذًا يجب أن نسأل ماذا يعطينا الله؟ لا ماذا يمكن لنا أن نحصل عليهِ باجتهادنا. فإذ ذاك نعيش ناظرين إليهِ تاركين الحكم لهُ، وطالبين الموضع الأخير كما عمل المسيح. لا يجوز لنا أن نطلب مقامًا عاليًا لا في العالم ولا في الكنيسة بل يليق بنا أن نلتفت دائمًا إلى المقام الذي حافظ عليهِ ابن الله وهو في وسط الناس ونقتفي خطواتهِ. فكلما شغلَّنا أفكارنا وقلوبنا بهِ ننسى أنفسنا ولا نبالي بالإهانات التي لا بدَّ أن نلاقيها في وسط البشر الذين تصرفوا بالوقاحة نحو الله نفسهِ حين تجسَّد وعاش بينهم. لو قدرنا أن نحسب أنفسنا كلا شيء لكنا كاملين لأن الاعتداد بأنفسنا هو الخطية عينها وعمل الروح القدس فينا هو دائمًا لكي يفرغنا من حبَّ الذات ويملأنا من المسيح وأمجادهِ. فصاحب البيت الذي أختار الضيوف وجمعهم يعرفهم ويعيّن لكلّ منهم المقام اللائق بشأنهِ ومقدار الكرامة الذي يستنسب أن يكرمهُ بهِ إما الآن فلا يُخفى أنهُ هو الذي يعطي أن يكونوا مبشرين والبعض معلمين ورعاة. والذي يدعو كل واحد يعين مقامهُ ويعطيهِ كل ما يلزم لتكميل خدمتهِ ولكن ينبغي أن يمارسها بالمحبة والتواضع كخادم الرَّبِّ وخادم أخوتهِ أيضًا، فأن الله يعمل خلاف أفكار الناس تمامًا وإن أعطانا مقامًا في بيتهِ يرافقنا بالقوة الروحية أيضًا، وأما القوة الروحية فتقربنا إلى نفسهِ وتجعلنا نتمثَّل بسيدنا الذي وضع نفسهُ وانتظر حتى رفَّعهُ الله. ولكن إذا اخترنا مقامًا لأنفسنا فلا بدَّ أن نخسر قوة الله التي لا ترافقنا في سبيل الارتفاع الذاتي فحالمَا نطلب أن نرتفع بين أخوتنا ننسى الله ونجعل مجدنا، الغرض لنا، ونجتهد أن نحامي عن الشيء الذي اغتصبناهُ. وإن قال أحد: إني لستُ أحامي عن مغصوبٍ بل إنما أدافع عن المقام المعيَّن لي في الخدمة. فأقول أن برهان التعيَّين من الله، هو أنهُ يكون معنا في إجراء خدمتنا والبرهان على كونهِ معنا هو أننا نخدم الآخرين غير طالبين شيئًا من النفوذ والكرامة لأنفسنا. وفضلاً عن ذلك إن كنا بالحقيقة متواضعين فلا نزال في موضع المحبة والخدمة الذي هو الموضع الأخير في العالم فلا يوجد من يتسابق معنا لينزع مقامًا كهذا منا. فكلما تمثلنا بسيدنا كخادم نسلم من مخاصمة الذين يقصدون أن يضعونا لكي يأخذوا مقامنا.

فأقدّم ملاحظة أخرى على هذا الموضوع، ينبغي أن نحترز من التواضع الكاذب والغيرة الناموسية في الخدمة فأنهُ يمكن لنا أن ندرك شيئًا من رفض المسيح والدعوة السماوية والسلوك المطلوب منا ونبادر بالخدمة متظاهرين ببعض الصفات الحميدة ولكن ليس بقوة النعمة بل بروح ناموسية. فنكون قد قصدنا شيئًا حسنًا بذاتهِ، ولكن ليست فينا القوة للبصر والثبوت لأننا لم نتذلل بعد ولا تعلمنا أننا لسنا بشيء وأننا مديونون لله لأجل كل شيء صالح. كثيرون قد انتبهوا لكلمة الله واقرُّوا بالحق وربما اظهروا غيرة زائدة إلى حين ولكنهم اعيوا فيما بعد واشتبكوا في حبائل شبكة العدو وأما تركوا الحق بالكلية أو انتفخوا واخذوا يظهرون رغبتهم في الحصول على الارتفاع نفسهِ الذي رفضوهُ في الأول. للعدو عدَّة فخاخ ضدنا ولا نقدر أن نسلم منها إلاَّ بالاقتناع القلبي المتزايد كل يوم بأنهُ لا يوجد فينا شيءٌ صالح. ونتقوَّى روحيًّا بالتدريج لأن الله يعطي نعمة للمُتضعين وكلما تعلقت قلوبنا بما فوق يصير أسهل علينا أن ننكر الذات ونحاضر بالصبر في الميدان الموضوع أمامنا. وربما الشيء الذي كنا نستصعبهُ أمسًا نقدر أن نقبلهُ بفرح اليوم. ولكن ينبغي أن يكون المسيح غرضنا لأن النظر إليهِ يقوينا ويعطينا الغلبة على أنفسنا وعلى العالم أيضًا. لا بدَّ من حدوث أمور كثيرة من شأنها أن نكدر راحتنا وسلامنا، ولكنها لا تقدر أن تغلبنا ما دمنا ناظرين إلى المسيح غير طالبين ما هو لنا بل ما هو لخير الآخرين ومجد الله فيهم. فنظهر التواضع الحقيقي بمحافظتنا على المقام الأخير ورغبتنا في خدمة الآخرين بكل الوسائط التي لنا القدرة عليها وأن يظهر ذلك كشيء واطئ في أعين المتكبرين فمع ذلك هو عظيم في عيني لكونهِ من أثمار محبتهِ العاملة في قلوبنا لتنزع منها محبة الذات. ولا عجب أن كان الناس يدوسون علينا إذ يروننا عند أقدامهم فأنهم هكذا عملوا مع المسيح نفسهِ كما قد رأينا إذ كلما أتضع بين الناس احتقروهُ وحاولوا أن يضعوهُ أكثر، ولكن لا بأس بذلك لأن الله يسمح بهِ لامتحاننا حتى يظهر أنحن متواضعون قدامهُ أم لا. نعم ولكي ينقينا من الأغراض الذاتية التي يمكن أن تختلط مع خدمتنا بينما ننتظر حضور السيد كصاحب البيت ليبين حكمة في شأننا جميعًا.

12 وَقَالَ أَيْضًا لِلَّذِي دَعَاهُ:«إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً فَلاَ تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ وَلاَ إِخْوَتَكَ وَلاَ أَقْرِبَاءَكَ وَلاَ الْجِيرَانَ الأَغْنِيَاءَ، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا، فَتَكُونَ لَكَ مُكَافَاةٌ. 13 بَلْ إِذَا صَنَعْتَ ضِيَافَةً فَادْعُ: الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ، 14 فَيَكُونَ لَكَ الطُّوبَى إِذْ لَيْسَ لَهُمْ حَتَّى يُكَافُوكَ، لأَنَّكَ تُكَافَى فِي قِيَامَةِ الأَبْرَارِ». (عدد 12- 14).

في هذا الفصل يقدّم تعليمًا للذي صنع العشاء ويظهر لهُ أنهُ بدعوتهِ الضيوف عمل حسب المبادئ العالميَّة بحيث أنهُ دعا الذين لهم قدرة أن يجازوهُ. لم يكن المسيح نفسهُ قد عمل هكذا فأنهُ صنع خيرًا مع الذين لم يقدروا أن يكافئوهُ. بل إذا صنعت ضيافةً فادعُ المساكين الجدع العرج العمي. فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافئوك. لأنك تكافي في قيامة الأبرار.لاحظ:

أولاً- أنهُ يضع قانونًا سماويًا لإرشادنا في أعمال كهذه ويعلّمنا أن نتصرف باعتبار لقائنا مع الله في المستقبل. سبق في (إصحاح 33:6-38) وعلَّم تلاميذهُ أن يرهنوا أنهم من بني العلي بممارستهم الإحسان غير راجين شيئًا عوضًا عنهُ من أيدي الناس، وأما هنا فيقول صريحًا أن الذي يصنع هكذا يكافأُ في قيامة الأبرار.

ثانيًا- يذكر قيامة الأبرار كحقيقة وحدها لأن القيامة التي ننتظرها ليست عامة بل خاصة. لا يوجد في الكتاب أقل أساس للقول بقيامة عامة حيث يقوم الأبرار والأشرار سويةً. لأن الله بنعمتهِ يفصل الآن بين الصنفين فكم بالحري يفصل بينهما في القيامة. فلا يعود يخلط معًا الذين أفرزهم بعضهم عن البعض فبالحقيقة المؤمنون بالمسيح قد اقيموا روحيًّا معهُ وإنما ينتظرون مجيئهُ لتغيير أجسادهم ولنوال المكافأة عن أمانتهم في السلوك والخدمة. معلوم أن خلاصهم من مجرد نعمة الله، والمحبة هي التي تفعل فيهم للسلوك والخدمة بأمانةٍ لا الرجاء بالمكافأة لأنهُ لو خدمنا لأجل الجزاء لكنا ناموسيين، وأما المواعيد من جهة المجازاة فلتعزيتنا وتشجيعنا، ونحن في الطريق مكابدين الصعوبات والمشقات انظر المواعيد الجميلة المُتضمنة في سفر الرؤيا مثلاً في (إصحاح 2، 3) لأنها متجهة للمؤمنين الأمناء لمساعدتهم في الغلبة على ظروفهم المُتعبة. صاروا في طريق الأمانة والرب يَعَّدْهم بأنهُ يجازيهم مجازاة جميلة تعادل أتعابهم. والرسول بولس يستلفت أفكار العبرانيين إلى قدوة المسيح نفسهِ إذ كان إنسانًا في الجهاد في العالم، ولكنهُ احتمل عار الصليب وخزيهُ من أجل السرور الموضوع أمامهُ (عبرانيين 1:12-3). كذلكموسى أيضًا حسب عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر؛ لأنهُ كان ينظر إلى المجازاة. لو نزلنا في الجهاد المسيحي لأجل المجازاة فقط لكنا مثل الفعلة الناموسيين المذكورين في (مَتَّى 1:20-16) الذين قبلوا الخدمة بشروط وفقدوا كل شيء لأنهم لم يعرفوا النعمة ولا اكتفوا بالعدل. وبالحقيقة لا يوجد شيءٌ يعضدنا ويثبتنا في السياحة المسيحية إلاَّ معرفة محبة المسيح الذي فدانا بدمهِ. لأن محبة المسيح تحصرنا إذ نحن نحسب هذا أنهُ إن كان واحد قد مات لأجل الجميع فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام (كورنثوس الثانية 14:5، 15).

15 فَلَمَّا سَمِعَ ذلِكَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُتَّكِئِينَ قَالَ لَهُ:«طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا فِي مَلَكُوتِ اللهِ». 16 فَقَالَ لَهُ:«إِنْسَانٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا وَدَعَا كَثِيرِينَ، 17 وَأَرْسَلَ عَبْدَهُ فِي سَاعَةِ الْعَشَاءِ لِيَقُولَ لِلْمَدْعُوِّينَ: تَعَالَوْا لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ. 18 فَابْتَدَأَ الْجَمِيعُ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ يَسْتَعْفُونَ. قَالَ لَهُ الأَوَّلُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَخْرُجَ وَأَنْظُرَهُ. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 19 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي اشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ أَزْوَاجِ بَقَرٍ، وَأَنَا مَاضٍ لأَمْتَحِنَهَا. أَسْأَلُكَ أَنْ تُعْفِيَنِي. 20 وَقَالَ آخَرُ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ بِامْرَأَةٍ، فَلِذلِكَ لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَجِيءَ. 21 فَأَتَى ذلِكَ الْعَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذلِكَ. حِينَئِذٍ غَضِبَ رَبُّ الْبَيْتِ، وَقَالَ لِعَبْدِهِ: اخْرُجْ عَاجِلاً إِلَى شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ وَأَزِقَّتِهَا، وَأَدْخِلْ إِلَى هُنَا الْمَسَاكِينَ وَالْجُدْعَ وَالْعُرْجَ وَالْعُمْيَ. 22 فَقَالَ الْعَبْدُ: يَا سَيِّدُ، قَدْ صَارَ كَمَا أَمَرْتَ، وَيُوجَدُ أَيْضًا مَكَانٌ. 23 فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ وَالسِّيَاجَاتِ وَأَلْزِمْهُمْ بِالدُّخُولِ حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي، 24 لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ أُولئِكَ الرِّجَالِ الْمَدْعُوِّينَ يَذُوقُ عَشَائِي». (عدد 15-24).

تأثَّر أحد المتكئين من كلام الرَّبِّ إذ رأى أنهُ معلّم حكيم عندهُ التعليم المناسب لكل واحد. كان يهوديَّا فبالتبعية كانت أفكار يهودية فقال: طوبى لمن يأكل خبزًا في ملكوت الله. يعني يا ليت الله يقيم ملكوتًا لنا حسب انتظارنا ويعطينا نصيبًا فيهِ. ولكنهُ لم يكن يميز ما كان الله آخذًا بتتميمهِ في ذلك الوقت إذ كان عاملاً نفس الشيء الذي كان ذاك الرجل يتمناهُ. والرَّبُّ يجوابهِ أظهر لهُ أن الله قد أتى إسرائيل بهذه البركة المُعبَّر عنها بعشاء عظيم والعجب أن ليس أحد يريد من نفسهِ أن يقبل. فقال لهُ إنسانٌ صنع عشاء عظيمًا ودعا كثيرين. وأرسل عبدهُ في ساعة العشاء ليقول للمدعوين تعالوا لأن كل شيء قد أُعدَّ.

أولاً- العشاء هنا عبارة عن المسيح والبركات التي أتى بها بالمقابلة مع البركات التي كانت لإسرائيل حسب العهد القديم. كان الله من زمان قديم قد أقام لهم نظامهم الخاص الذي به كان يعاملهم بمبادئ تناسب قلب الإنسان إذ عرض عليهم أنهُ يباركهم ببركات أرضية على شرط أنهم يصغون لصوتهِ. كان قد أخرجهم من مصر وأسكنهم في كنعان حيث كانت بركاتهم معدَّة لهم. ولم يدعهم للحضور إلى عشاء معدّ لهم في جهة أخرى فأنهُ دعاهم إلى كنعان ليأكلوا خيراتها مطمئنين من أعدائهم إذا لم يحيدوا عن عبادة الذي دعاهم وباركهم. ولكنهم خسروا كل شيء بمخالفتهم الشرط الموضوع عليهم أي دوامهم في الخير. وقد رأيناكم كانوا قد انحطوا إذ كان أكثرهم متفرقين بين الأمم ولم يكن في أرض الموعد سوى بقية صغيرة فقط وهؤلاء كانوا تحت سلطة الرومانيين المستولين على المسكونة وقتئذٍ فإذًا نظامهم القديم لم يقدر أن ينفعهم بعد كما قد تبرهن في هذا الإنجيل. كان ينبغي أن الله يفتقدهم ثانيةً وينشئُ لهم معاملات أخرى خلاف معاملاتهِ الماضية. فأرسل إليهم ابنهُ ليحضر بينهم بالنعمة كمسيحهم ليباركهم بحسب النبوات الكثيرة التي أشارت إلى حضورهِ كأفخر البركات (انظر مزمور 1:103-17) مثلاً، حيث الإشارة إليهِ كمن يكثر حسناتهِ لشعبهِ ويغفر جميع ذنوبهم ويشفي كل أمراضهم ويفدي من الحفرة حياتهم ويشبعهم بالخير ويعيد عمرهم كأُمة إلى أيام شبابهم إلى خلاف ذلك من البركات التي أتصف بها حضورهُ في وسطهم. فكان ذلك عشاء عظيمًا يليق بمحبة الله أن تصنعهُ لهم. ولكنهُ دعاهم إلى المسيح لكي يخضعوا لهُ بالإيمان ويتمتعوا بكل ما أتاهم بهِ. وكان بالحقيقة قد دعاهم سابقًا في النبوات ثمَّ عند حضور المسيح ساعة العشاء بلغهم الخبر، بأن كل شيء مُعدٌّ فما عليهم إلاَّ أن يأتوا. ثمَّ بعد رفض المسيح وموتهِ اتسعت البركات المُعبَّر عنها بعشاء عظيم لأنهُ ارتفع إلى يمين الله ونودي بالبشارة باسمهِ والذين تابوا وآمنوا نالوا غفران خطاياهم وعطية الروح القدس. فقال لهم: توبوا وليعتمد كل واحد على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس (أعمال الرسل 38:2). لاحظ أن هذين الشيئين لكل مؤمن مسيحي لأن الله يخلّصنا من خطايانا وعواقبها ويعطينا أن نعرف ونتيقن ذلك بغاية اليقين وفضلاً عن ذلك لنا الرجاء بالمجد. والأساس لذلك هو موت المسيح كفارة عنا. وليس يطلب منا أن نقدم شيئًا لهذا العشاء العظيم من أنفسنا لأن كل شيء قد أُعدَّ.

ثانيًا- الدعوة، فكانت الدعوة مدة حضور المسيح لليهود فقط، وأما بعد موتهِ فلليهود والأمم سويةً. لا يزال الله يدعو الناس إلى العشاء العظيم الذي أعدَّهُ لهم، فإن هلكوا من الجوع فلا يجوز لهم أن يلوموا إلاَّ أنفسهم. الدعوة الإنجيلية واسعة ومجانية إذ يقول الله للجميع: تعالوا. والبرهان على إخلاص نيتهِ نحو الخطاة اتضح في هذا أنهُ أتاهم بالنعمة قبل ما دعاهم أن يأتوا إليهِ. الذي أراد أن يجمع أولاد أورشليم هو إلهها والذي يقول: تعالوا إليَّ يا جميع المُتعبين، والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم ليس سوى الله ظاهرًا في الجسد. لو تاب الجميع وأتوا إلى عشائهِ لم يصرف أحدهم فارغًا.

ثالثًا- لننظر إلى بعض الأسباب التي تمنع الناس عن الحضور. فابتدأ الجميع برأي واحد يستغنون. قال لهُ: الأول أني اشتريت حقلاً وأنا مضطرٌ أن اخرج وأنظرهُ أسألك أن تعفيني… الخ. فالأشغال اليوميَّة والاعتناء بالعيال ومحبة العالم وملذَّاتهِ إلى خلاف ذلك من أمور هذه الحياة تلهي الناس وتشغل قلوبهم وتحرمهم خلاص نفوسهم والحياة الأبدية. ومما يستحقُّ الاعتبار هنا أن الرَّبَّ إنما يذكر  بعض الأشياء التي نعرف أنها جائزة في محلها لأن شراء حقل أو بقر أو التزوُّج بامرأة ليست خطية بذاتها ولكن من رداءة قلب الإنسان يمكن أن أمورًا محللة تلهينا وتعيقنا عن التوبة والإتيان إلى المسيح. كذلك أيضًا حالة الناس الذين عاشوا في أيام نوح قبل الطوفان، فأنهم كانوا ملتهين بأمور الحياة كالمشار إليهم في هذا المثل، ولم يعرفوا حتى جاء الطوفان وأهلكهم جميعًا. كانت لهم دعوات للتوبة، ولم يتوبوا وإنذارات لو ينتبهوا. نعلم من مواضع أخرى أنهم كانوا خطاة ولكن الرَّبَّ يذكر إلتهاءهم بأمور الحياة الجائزة كسبب تغافلهم عن خلاص أنفسهم. لذلك يجب علينا جميعًا أن نتعقل وننتبه لكلمة الله لأن الوقت لقبول دعوتهِ لا يدوم إلى الأبد. ربما يكون رجل متصفًا ببعض صفات حميدة كصديق مخلص وكصاحب بيت حنون على أولادهِ ومع ذلك يتغافل عن دعوة النعمة. الاعتناء ببيوتنا حسن وواجب ولكن إذا ألتهينا بهِ نتغافل عن المسيح ونهلك. ولكن بالحقيقة ليس أحد يأتي إلى عشاء الله أن كان الأمر متروكًا لنفسهِ لأن الجميع في الأول يعتذرون مفضلين أمورهم الخاصة على ما أعدَّهُ لهم الله.

رابعًا- لننظر إلى إلزام البعض بالدخول كقول ربّ البيت لعبدهِ اخرج عاجلاً إلى شوارع المدينة وأزقَّتها وأدخل إلى هنا المساكين والجدع والعرج والعمي. لا يخفى أن هؤلاء من الذين ليس لهم حقول وبقر لأن الإنجيل يوافق الفقراء وليس كثيرون من الأغنياء والحكماء والشرفاء يقبلونهُ ولكن مع ذلك التزم صاحب البيت أن يستعمل وسائط لإدخالهم. وإن قيل فلم يستطيعوا أن يحضروا من أنفسهم لعجزهم فهذا صحيح بحيث أننا جميعًا بحالة العجز من جهة قبول دعوة الإنجيل فلذلك احتجنا إلى عمل الروح القدس ليُحيينا ويأتي بنا إلى المسيح بالإيمان ويُجلسنا في بيت الله لكي نتمتع بعشاءهِ. فكان للروح القدس أولاً عمل خصوصي في البعض من اليهود ليُدخلهم إلى الإيمان فيُعبَّر عن ذلك هنا بعمل العبد في شوارع المدينة وأزقَّتها ثم بعد يوم الخمسين اتَّسع عملهُ إلى الأماكن البعيدة المُشار إليها هنا بالطرق والسياجات ولكن أينما تنازل أن يعمل لم يجد في الناس القدرة والإرادة لقبول الإنجيل والخضوع لنعمة الله ما لم يفعل فيهم أولاً ليُلزمهم بالدخول. ينبغي أن نفهم هذا الموضوع جيدًا لأنهُ يوجد فينا الميل الشديد دائمًا أن نُعظّم قدرة الإنسان ونحتقر فعل نعمة الله التي نحتاج إليها حتى قبل قبُولنا إياها. قد رأينا أن الله يدعو الجميع عن إخلاص نية لأنهُ يُريد خلاصهم ولكن الدعوة وحدها لا تكفي لخلاصنا بل إنما تكشف الحقيقة المُحزنة أننا نُفضل قطعة أرض، أو خمسة أزواج بقر، أو أي شيء آخر مهما كان زهيدًا على خلاص نفوسنا. وليست المسألة من جهة ضعفنا، لا شك بأننا ضُعفاء ولكننا أعداءٌ لله أيضًا ولا نُريدهُ وإن دعانا بالمحبة واللطف اللذين لا مزيد عليهما فلذلك نحتاج إلى عمل الروح القدس ليزيل عدواتنا ويلزمنا بالدخول. لو لم يكن فينا إلاَّ الضعف فقط لكان ذلك أعظم نفع لنا بحيث نشعر بهِ ونصرخ إلى الله مصدر القوة الذي كان يُبادر إلى معونتنا. كنا مثل ولد مغلوب من أُناس ظالمين ومُقيَّد بحبل فحالما يسمع صوت أبيهِ الحنون المُفتش عليهِ يصرخ إليهِ بكل قوتهِ إذ يَعْلَم أنهُ يسرع إليهِ ويقطع الحبل ويُخلصهُ وإن اضطرَّ أن يموت لأجلهِ. ولكن الإنسان الساقط ليس يثق بالله وإن ناداهُ فلا يُجيب بل بالحري نختبئ عنهُ نظير آدم. فالدعوة وحدها إنما تُبرهن إثم الإنسان أكثر وإن لا علاج  لمرضهِ إلاَّ بنعمة الله المُطلقة. فلذلك كلمة الله إذا بلغت الناس تزيد مسئوليَّتهم وعوضًا عن أن تُخفف ذنبهم تجعلهُ أثقل إذ تُحرّك إرادتهم القاسية وتكشف عدواتهم للذي افتقدهم.

خامسًا- قصاص الذين يستعفون عن قبول الدعوة، لأني أقول لكم: أن ليس واحدٌ من أولئك الرجال المدعوين يذوق عشائي. يعني أن ليس لمثل هؤلاء نصيب في المسيح والبركات المُقترنة مع الإيمان بهِ. معلوم أن الدعوة كانت أولاً للأُمة اليهودية ثم بعد رفضهم المسيح بذاتهِ والإنجيل المُنادى بهِ إليهم بعد يوم الخمسين أصبحوا مرفوضين وأدركهم الغضب إلى النهاية انظر (مَتَّى 43:21؛ تسالونيكي الأولى 15:2، 16). لم يكن من الأمور المُمكنة لهم أن يرفضوا النعمة ويستمرُّوا على التمتُّع بالبركات الزمنية في أرضهم. لا يخفى أن الإنسان يرغب أن يفعل ذلك ولكنهُ من المُستحيل. لأن مَنْ رفض النعمة بوقتها ينبغي أن ينتظر الغضب بوقتهِ أيضًا وهكذا يصير الحال مع جمهور النصارى أيضًا فإنهم قد دعوا مثل اليهود وطالما سمعوا الإنجيل ولم يخضعوا لهُ بالإيمان الحيّ. لم يثبتوا في لطف الله وحكمهم مذكور في (رومية 19:11-22) والقول هو للأُمم خصوصًا. وإلاَّ فأنت أيضًا ستُقطع، ويصدق هذا الحكم أيضًا علينا كأفراد إذا تهاونَّا بدعوة النعمة فإنَّنا لا نذوق عشاء الله لا في وقت النعمة الآن ولا في وقت المجد انظر (رؤيا 8:21؛ 14:22، 15).   

25 وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ سَائِرِينَ مَعَهُ، فَالْتَفَتَ وَقَالَ لَهُمْ: 26 «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. 27 وَمَنْ لاَ يَحْمِلُ صَلِيبَهُ وَيَأْتِي وَرَائِي فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. 28 وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ 29 لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، 30 قَائِلِينَ: هذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. 31 وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا؟ 32 وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذلِكَ بَعِيدًا، يُرْسِلُ سِفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ. 33 فَكَذلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لاَ يَتْرُكُ جَمِيعَ أَمْوَالِهِ، لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا. 34 «اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ، فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ 35 لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجًا. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». (عدد 25-35).

لم يزل الرب في الطريق صاعدًا نحو أورشليم حيث ينبغي أن يُصلب وكان لهُ بعد مقدار كبير من الاعتبار والنفوذ عند الجموع كمُعلّم ونراهم هنا مُترافقين معهُ وربما حسبوا أنفسهم تلاميذ لهُ لكونهم مُعتبريهِ اعتبارًا جسديًّا وأما العلائق الإنسانية مهما كانت ظريفة في محلها فلا تثبت أمام إهانة الصليب. فإن كنا نريد أن ننتسب إلى المسيح كمُعلمنا ينبغي أن نعرفهُ ونلتصق بهِ كمُهان من الملوك ومرفوض من العالم ونقبل عار صليبهِ كنصيبنا المعهود. لم يشأ المسيح أن يخدع أحدًا بالظنّ أنهُ من الأمور الهينة أن يتبعهُ فالتفت إلى الجموع وابتدأ يُعلمهم تعليمًا مُناسبًا لهم كما سبق وعَلَّم المُجتمعين في بيت الفريسي. إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يُبغض أباهُ وأُمهُ الخ. لاحظ إنهُ يفرض في هذا الفصل إنهُ يمكن للناس أن يأتوا إليهِ كمُعَلِّم وهم غير مُستعدّين لإتباعهِ حقيقةً ويُشير إلى النسب الطبيعية كأعظم العوائق لمن يُريد أن يكون تلميذًا لهُ ولم تزل هي هكذا حتى الآن. ثم قولهُ: ولا يُبغض أباهُ الخ. يعني أنهُ يجب علينا أن نُفضّل تعليم المسيح ومحبتهُ على أعز الأشياء الموجودة عندنا وان تكن جائزة وحسنة في محلها. يقول في موضع آخر: ومَنْ أحبَّ ابنًا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني (مَتَّى 37:10). فالبُغض عبارة عن محبة أقلّ ولا يُعني البُغض حرفيًّا فإن ذلك ممنوع على أي وجه كان ونعلم أن المحبة للوالدين واجبة على الأولاد في كل حين غير أنهُ ينبغي أن يكون الموضع الأول في قلوبنا للمسيح الذي فدانا ونتبعهُ ولو ألزمتنا أن نترك جميع أقربائنا. ومَنْ لا يحمل صليبهُ ويأتي ورائي الخ. الكلام هنا عن مُحافظتنا على مقامنا كتلاميذ المسيح من بعد اعترافنا بهِ. لا شك بأنهُ مُعلِّم حكيم وقادر أن يُنمينا في معرفة مشيئتهِ ولكن ينبغي لنا أن نكون مُنفصلين روحيًّا عن العالم لأنهُ ليس مُعلمًا لعالميّين. كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب. ولا تمسُّوا نجسًا فأقبلكم وأكون لكم أبًا وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شيء (كورنثوس الثانية 16:6-18). والصليب عبارة عن كل ما يتعيَّن لنا في طريق الرب لامتحاننا نعم ولإماتة طبيعتنا أيضًا ولكل واحد ما يُقال لهُ صليبهُ. ومَنْ منكم وهو يُريد أن يبني بُرجًا لا يجلس أولاً ويحسب النفقة الخ. إذا قبلنا علينا المسئولية المسيحية بخفَّةٍ نظهر أننا لم نعرف ما هي بعد فإن النفقة هي خسارة كل شيء وأما البركات فهي لنا مجانًا كما قد رأينا في مثل العشاء العظيم. والذي صنعهُ ودعانا إليهِ لا يقبل شيئًا من أيدينا ولكنهُ يُريد أن ينزع من قلوبنا محبة الحقول والبقر وكل ما يمنعنا عن قبول دعوتهِ وعن السلوك المطلوب منا كتلاميذ ومع أن ذلك خيرٌ عظيم لنا نحسبهُ في الأول خسارة كأنهُ يُكلفنا نفقة باهظة. فيُعلمنا هنا أن نعمل حسابنا بفطنةٍ لئلا نبتدئ بخفَّةٍ وننتهي بخجلٍ. فيجب أن ننظر إلى المسيح في الجهة الواحدة وإلى العالم في الأخرى حتى نُميز حقيقة كل منهما ثم إذا اخترنا المسيح نثق بنعمتهِ أنهُ يعيننا ويُثبتنا إلى النهاية ولكننا نكون قد خسرنا العالم. وأي مَلِك إن ذهب لمُقاتلة مَلِك آخر في حرب لا يجلس أولاً ويتشاور الخ. فلا نخسر العالم فقط بل نجعلهُ عدوًّا لنا أيضًا فإذًا ينبغي أن نعلم يقينًا أنهُ يُقاومنا بكل قوتهِ إن كنا ننفصل عنهُ لنتبع المسيح. ولهُ قوة أعظم من قوتنا بحيث نحن فيهِ كحملان في وسط ذئاب. الرب معنا في الطريق ليُعيننا ولا شك بأنهُ أعظم من العالم ورئيسهِ ولكن قوتهُ إنما تحلُّ فينا على قدر ما نشعر بضعفنا. هانذا قد جعلت أمامك بابًا مفتوحًا ولا يستطيع أحد أن يغلقهُ لأن لك قوة يسيرة وقد حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي (رؤيا 8:3). فإن كنا لسنا عالمين قيمة كلمة المسيح واسمهِ إلى هذا المقدار حتى نستعد أن نتمسك بهما بقوتنا اليسيرة ضد العالم فلا يكون من الحكمة أن نتجاسر أن نُلاقيهُ في القتال لأنهُ لا بد أن يغلبنا. وإن قيل فإذًا نخسر نفوسنا إذا تركنا المسيح وتصالحنا مع العالم. فأُجيب نعم بلا شك وهذه حالة الأكثرين حتى من الذين قد انتسبوا للمسيح كتلاميذ لأن مَنْ أراد أن يكون مُحبًّا للعالم فقد صار عدوًّا لله. والكلام الخطير هنا هو لا مثال هؤلاء فيجب أن نتأمل فيهِ فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أموالهِ لا يقدر أن يكون لي تلميذًا. لاحظ أن الرب قد كرّر كلامًا كهذا كثيرًا فإنهُ عَلِمَ قوة هذا العالم في قلوب الناس وإنهُ عتيد أن يقوى على جماهير من الذين يعترفون باسمهِ بدون أن يتبعوهُ حقيقةً.

34 «اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلكِنْ إِذَا فَسَدَ الْمِلْحُ، فَبِمَاذَا يُصْلَحُ؟ 35 لاَ يَصْلُحُ لأَرْضٍ وَلاَ لِمَزْبَلَةٍ، فَيَطْرَحُونَهُ خَارِجًا. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ». (عدد 34، 35).

الملح عبارة عن القداسة الشخصية التي تحفظنا من الفساد الذي في العالم بالشهوة انظر (بطرس الثانية 3:1-11). لأن الله قد وهبنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة فبينما نحن قاصدون المجد ينبغي أن نبذل كل اجتهاد في المُحافظة على مقامنا المسيحي والنموّ في الحياة والتقوى. وإن تكاسلنا نشبه الملح الفاقد ملوحتهُ بحيث أنهُ لا يعود ينفع لشيء. مَنْ لهُ أُذنان للسمع فليسمع. بعد انحطاط تلاميذ المسيح واختلاطهم مع العالم يُعطيهم الوحي إنذارات وتنبيهات مُناسبة لأحوالهم السيئة ولكن لا يوجد أمل بأن الجميع ينتبهون فلذلك يُخاطب مَنْ منهم لهُ أُذنان للسمع أو الذين لهم ميل أن يسمعوا انظر (إصحاح 2، 3 من سفر الرؤيا) حيث يوجد خطاب كهذا في كلّ من السبع الرسائل. فالويل للأكثرين والحال هكذا فإنهم قد غُلبوا من النعاس والنوم وسكروا بمحبة العالم الشرير الذي مات المسيح لينقذهم منهُ فيبقون على هذه الحالة إلى أنهم يُطرحون خارجًا بقضاء الله كملح عاطل لا يصلح لأرض ولا لمزبلةٍ. فعبثًا يُناديهم الوحي أن يتركوا محبة العالم ويتبعوا المسيح حاملين صليبهم لأن العالم الحاضر ألذَّ لهم من المواعيد بالحياة الأبدية. نراهم مثل إسرائيل حين دعاهم الله بترك أصنامهم. احفظي رجلكِ من الحفا وحلقكِ من الظماء ،فقلتِ: باطل، لا. لأني قد أحببتُ الغرباء ووراءهم أذهب (إرميا 25:2). المغلوب من شهوات نفسهِ يتمسك بالشيء الذي يُحبهُ وإن تكن جهنم النار قُدامهُ. وكلما كان عندهُ نور أكثر يعمى ويتقسى أثر بل يتحوّل نورهُ إلى ظلمة والظلام كم يكون. لا يوجد إنجيل آخر للذين قد سمعوا الإنجيل وتظاهروا بأنهم قبلوهُ مع أن قلوبهم بعيدة عن المسيح وصليبهِ.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة