لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سِفْر زَكَرِيَّا

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب الأخ رشاد فكري

الأصحاح العاشر

ينقسم هذا الأصحاح إلى أربعة أقسام هي:

1- المطر المتأخر (ع 1)

2- الأنبياء الكذبة في الأيام الأخيرة (ع 2،3)

3- النصرة على الأعداء (ع 4-7)

4- الخلاص النهائي وامتلاك الأرض (ع 8-12)

***

أولاً: المطر المتأخر  (ع 1)

«اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقاً ويعطيهم مطر الوَبْل. لكل إنسانٍ عُشباً في الحقل» (ع 1).

قبل الكلام عن هذا الأصحاح هناك ملاحظات افتتاحية يجب الإشارة إليها:

1- هذا الأصحاح مرتبط بالأصحاح السابق، لكن ليس معنى هذا أن هناك تسلسلاً تاريخياً للأحداث فيما بينهما. فقد تواصل النبوة موضوعها من إحدى زواياه حتى تصل إلى نهايتها ثم تعود إلى باقي زوايا الموضوع.

2- يجدر بدارس النبوات أن لا يتوقع تسلسلاً تاريخياً لأنه إذا توقع ذلك سيجد نفسه في حيرة. أما إذا تابع النبوة فإنه سيجد بطول الطريق معالم زوايا موضوعات يعوزها الكشف والربط والترتيب.

3- يجب الانتباه إلى قول الرسول بطرس: «إن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص» (2بط 20:1) بمعنى أنها لا تُفسِّر نفسها بنفسها باعتبارها قائمة بذاتها، بل ينبغي أن نفهمها بالروح القدس الذي نطق بها وبحسب ما أوحى في أماكن أخرى. وهذا لا يمكن الوصول إليه عن طريق تفسير بَشَرِي لفقرة بذاتها لها تفسيرها الخاص كما لو كان إنسان هو الناطق بها، لأنها جزء من فكر الله نطق به أُناس الله القديسون مَسُوقِين من الروح القدس الذي أوحى بكل الكتاب.

وعلى سبيل المثال نجد في أصحاح 17:9 صورة موجزة للبركة الأرضية في المُلك الألفي في حين نجد الوحي في العدد الأول من هذا الأصحاح يعود بنا إلى فترة سابقة للمُلك الألفي. ففي الأصحاح التاسع وصلنا إلى القمة إلى تاج مرفوع على الأرض والشعب جواهر أي أحجار كريمة في ذلك التاج مرفوعة على أرضه التي فيها كل البركات من حنطة ومسطار نضارة للفتيان والفتيات. ولكن كيف يأتي ذلك؟ الجواب: في الأصحاح العاشر؛ فنحن نعلم أن أرض فلسطين تعتمد على المطر لذلك يُكلِّم الرب البقية التقية لكي يطلبوا المطر.

ÿ  «اطلبوا من الرب». وهنا نجد الروح القدس يُحرِّض البقية التقية على طلب البركة الألفية التي وعد بها الرب. وهو قادر على الإتيان بها. وما أجمل القول: «اطلبوا من الرب» أي لا تطلبوا من الأوثان ولا من الأنبياء الكَذَبَة لأن زكريا بمنظار النبوة يراهم في زمن الوحش ونَبيِّه الكذَّاب.

ÿ  «في أوان المطر المتأخر». كان وعد الرب الأصلي هو «فإذا سمعتم لوصاياي .. لتحبوا الرب إلهكم .. أُعْطِي مَطَرَ أرْضِكُم في حينه: المُبَكِّر والمُتَأخِّر فتجمع حنطتك وخمرك وزيتك. وأُعْطِي لبهائمك عُشباً في حقلك فتأكل أنت وتشبع» (تث 13:11-15).

لكن الشعب لعصيانهم وانحرافهم عن إلههم أضاعوا هذا الوعد. وفي طريق التأديب منع الله المَطَر المُبَكِّر والمُتَأخِّر كليهما. أمَا والرب يُريد أن يُحْسِن إلى أورشليم وشعبه فها نحن نراه يشجعهم أن يطلبوا وجهه ليُعِيد إليهم البركة السابقة، بل وأعظم.

ولنلاحظ دقة التعبير، فهو يقول لهم أن يطلبوا في أوان المَطَر المُتأخِّر. ولتوضيح ذلك نقول إنه يوجد:

1- مطر مُبَكِّر                                      2- مطر مُتَأخِّر

فنستطيع أن نجد رمزاً جميلاً للمَطَر المُبَكِّر والمَطَر المُتأخِّر في صوت دخول هارون إلى القدس وخروجه منه كما نقرأ في سفر الخروج: «جُلْجُل ذهبٍ ورُمَّانةً، جُلْجُل ذهبٍ ورُمَّانةً، على أذيال الجُبَّة حواليها. فتكون على هارون للخدمة ليُسمَع صوتها عند دخوله القدس أمام الرب، وعند خروجه، لئلا يموت» (خر 34:28،35). وكأنه كان لدخول ربنا يسوع المسيح إلى السماء رنين أعلن كفاية عمله. ونستطيع أن نسمع هذا الرنين من الحجاب المشقوق والقيامة المجيدة، ثم بعد ذلك أتت الثمار «الرُمَّانات» التي ترمز إلى نتائج دخول ربنا المبارك إلى محضر الله والتي أولها انسكاب الروح القدس يوم الخمسين. ولنلاحظ أن صوت رنين الجلاجل كان يُسْمَع عند دخوله وعند خروجه. والصوت الأول عند دخوله يُعْلِن عن الدور الخاص بالكنيسة يوم نزول الروح القدس يوم الخمسين. وهذا هو دور المَطَر المُبكِّر. وسيُسْمَع صوت الجلاجل مرة ثانية عند خروجه وهذا الدور خاص بالشعب الأرضي يوم ينسكب الروح القدس للمرة الثانية في بداية المُلك الألفي كالمَطَر المُتأخِّر.

لكن مع هذا الفارق أنه في دور المَطَر المُبَكِّر عندما نزل الروح القدس يوم الخمسين سَكَن في المؤمنين كجماعة وسَكَن فيهم كأفراد وهذا امتياز خاص بالكنيسة فقط. كما أن نزول الروح القدس كالمَطَر المُبَكِّر كَوَّن الجسد الواحد وربطه برأسه المُمَجَّد في الأعالي.

أما في دور المَطَر المُتأخِّر، يوم ينسكب الروح القدس على الشعب الألفي فلا يكون الانسكاب مقترناً بالسكنى أو تكوين جسداً للرب.

والرب هنا يُحرِّض البقية التقية لكي تطلب المَطَر المُتأخِّر الخاص بها في أوانه، لأن المَطَر المُبكِّر دوره انتهى حيث نَزَل الروح القدس يوم الخمسين كما قال الرب للتلاميذ أن لا يبرحوا من أورشليم، بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعوه منه (أع 4:1). وما موعد الآب إلا نزول الروح القدس يوم الخمسين. وفي هذا يقول الرسول بولس للأم: «أن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونَوَال موعده في المسيح بالإنجيل» (أف 6:3). وبناء على هذا الوعد «رجع التلاميذ إلى أورشليم من الجبل الذي يُدعَى جبل الزيتون .. ولما دخلوا صعدوا إلى العِلِّية التي كانوا يُقيمون فيها .. هؤلاء كلهم كانوا يُواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة مع النساء، ومريم أم يسوع، ومع إخوته» (أع 12:1-14). فكانوا يواظبون على الصلاة والطلبة لكي ينالوا المَطَر المُبكِّر. وفعلاً نالوه يوم نزول الروح القدس يوم الخمسين. أما الآن فلا يجب أن نُصلِّي لكي نحصل على المَطَر المُبكِّر لأن المَطَر المُبكِّر قد نَزَلَ فعلاً.

وها هو الرب نفسه هنا في نبوة زكريا، كما حرَّض التلاميذ قديماً لكي يلبثوا في أورشليم ويطلبوا المَطَر المُبكِّر، ها هو يُحرِّض البقية، لا لكي تطلب المَطَر المُبكِّر، بل تطلب المَطَر المُتأخِّر الخاص بهم في أوانه. وهذا المَطَر المُتَأخِّر هو المكتوب عنه في سفر الأمثال: «في نور وجه المَلك حياةٌ، ورضاه كسحاب المَطَر المُتأخِّر» (أم 15:16)، وأيضاً في نبوة هوشع: «خروجه يقين كالفجر. يأتي إلينا كالمَطَر. كمَطَر مُتأخِّر يسقي الأرض» (هو 3:6).

وفي هذه المناسبة عينها تتحدث نبوة يوئيل والتي اقتبس منها الرسول بطرس: «ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل بشر» (يؤ 28:2). ولنلاحظ أن يوئيل هنا يقول: «بعد ذلك» وهذا ينصرف إلى المستقبل أي بعد إبادة الأشوري العدو المستقبلي وبعد توبة الشعب توبة قلبية سيسكب الرب روحه على كل بشر. وانسكاب الروح القدس هذا له ارتباط بالعهد الجديد المُعطى للشعب الذي يشير إليه الأنبياء كثيراً كما نقرأ «وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم .. وأُعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأُعطيكم قلب لحم. وأجعل روحي في داخلكم» (حز 24:36-27)، وأيضاً «ولا أحجب وجهي عنهم بعد، لأني سكبت روحي على بيت إسرائيل، يقول الرب» (حز 29:39)، وأيضاً «وأُفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات» (زك 10:12). وجدير بالملاحظة أننا في نبوة يوئيل نرى بركة انسكاب الروح القدس تتجاوز حدود إسرائيل ويهوذا؛ فالقول: «أني أسكب روحي على كل بشر» يُفيد أن هذه العطية المُبَارَكة سوف لا تنسكب على شعب إسرائيل وحده، بل على جميع شعوب المُلك الألفي الذين سيكونون قد آمنوا ببشارة الملكوت (رؤ 9:7).

والرسول بطرس عندما اقتبس هذا النص من نبوة يوئيل طبقه تطبيقاً جزئياً على الانسكاب الأول للروح القدس الذي تم يوم الخمسين وهو المعروف بالمَطَر المُبكِّر، هذا وقد كان لقساوة إسرائيل نتيجة مهمة: وهي أنه ليست فقط بقية يهودية قد خلصت وأخذت مكانها في الكنيسة، بل أيضاً فتح الباب للأمم، ومن ذلك الوقت أصبح للجميع يهوداً وأمم، وهم مُصَالَحُون في جسد واحد مع الله بالصليب، أصبح لهم حق الاقتراب إلى الآب في روح واحد (أف 16:2،18). وهكذا بدأ عصر الكنيسة على الأرض. فبعد رفض إسرائيل أعَدَّ الرب لنفسه عروساً سماوية، لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، أثمن وأمجد بكثير من العروس الأرضية. والعروس السماوية ستكون معه برفقته إلى أبد الآبدين. وبمجرد أن تُخْطَف الكنيسة من الأرض إلى السماء تبدأ طُرق الله نحو شعبه القديم تستعيد مجراها من جديد، وهذا ما تؤكده لنا النُبوات، فبعد اختطاف الكنيسة ستبرز في وقت الضيقة العظيمة بقية يهودية ترجع إلى الرب إذ يكون البرقع الذي كان يُغطِّي قلبها قد رُفع (2كو 16:3) وفيما هي تجتاز آلام الضيقة العظيمة تعترف بذنبها، وعند الهجوم الأخير من جانب العدو الأشوري المستقبلي سيتم الحكم الكامل على ذاتها والتوبة الصحيحة. وبعد هذه التوبة، وبعد نصرة الرب على الأشوري، يتم انسكاب الروح القدس للمرة الثانية كما تم الانسكاب الأول يوم الخمسين، مع ملاحظة أن الروح القدس وانسكابه للمرة الثانية في ذلك اليوم الآتي سيجعل من البقية، ليس كما هو اليوم شعباً سماوياً، بل شعباً أرضياً يكون مركزه أورشليم الأرضية مدينة الملك العظيم. حينئذ يتم المكتوب: «ولا أحجب وجهي عنهم بعد، لأني سكبت روحي على بيت إسرائيل، يقول الرب» (حز 29:39).

ويتضح من كل ما قلناه إن الفصل الوارد في سفر الأعمال 16:2-21 لم يكن الإتمام الكلي لنبوة يوئيل، وهذا ما حرص الروح القدس على لسان الرسول بطرس أن يؤكده حينما قال: «لأن هؤلاء ليسوا سُكَارَى كما أنتم تظنون .. بل هذا ما قيل بيوئيل النَبيِّ» فالذي حدث يوم الخمسين لم يكن شيئاً مُصْطَنعاً بل كان من عمل الروح القدس.

والفصل الذي اقتبسه الرسول بطرس كان يُشير إلى أشياء تمت فعلاً وقت أن كان يتكلم الرسول وإلى أشياء أخرى لم تتم وكانت لا تزال محفوظة لوقت آتٍ لإتمامها وهذه الأشياء التي لم تتم هي:

1-   «فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويرى شبابكم رُؤَى ويحلم شيوخكم أحلاماً».

2-  «وأُعطي عجائب من السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل دماً وناراً وبخار دخان. تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم قبل أن يجيء يوم الرب العظيم الشهير».

وبالإضافة إلى ذلك نجد الرسول بطرس يقول: «في الأيام الأخيرة»، أما في نبوة يوئيل فنجد القول: «بعد ذلك». ومن اختلاف العبارتين نتأكد أنه ما كان ممكناً أن نبوة يوئيل تتم إتماماً كلياً في يوم الخمسين، فعبارة «في الأيام الأخيرة» والتي تُسمَّى أيضاً «آخر الدهور» قد أدركتنا نحن منذ رُفِضَ المسيح من اليهود والعالم، أما عبارة «وبعد ذلك» فتعني بعد هزيمة الأشوري، وهذا لم يحدث في يوم الخمسين.

هناك فارق آخر يجب الإشارة إليه وهو أن «كل بشر» كما يقتبسها الرسول بطرس تعني دخول الأمم الحالي في الكنيسة بمعمودية الروح القدس التي تمت يوم الخمسين. أما «كل بشر» في نبوة يؤئيل فتعني دخول الأمم في بركة المُلك الألفي الذي سيتمتع به الشعب مستقبلاً.

وهذه بعض الشواهد التي تشير إلى المَطَر المُتأخِّر: أمثال 15:16؛ أرميا 24:5؛ هوشع 3:6،10،12؛ يؤ 23:2.

ÿ  «فيصنع الرب بُرُوقاً». البُرُوق هي مقدمات المَطَر. والبُرُوق في الكتاب المقدس دلالة على الدينونة. فالرب لا بد أن يأخذ حقه قبل المَطَر المتأخر، لذلك البقية الأمينة أثناء اجتيازهم في الضيقة العظيمة يعودون فيطلبونه، وبظهور الرب يُعْطِي المَطَر لكل إنسان (انظر إر13:10).

ثانياً: الأنبياء الكذبة في الأيام الأخيرة (ع 2، 3).

«لأن الترافيم قد تكلموا بالباطل، والعَرَّافون رأوا الكذب وأخبروا بأحلام كذبٍ. يُعزون بالباطل. لذلك رحلوا كغنمٍ. ذَلُّوا إذ ليس راعٍ» (ع 2).

معنى كلمة «الترافيم»: "جالبة السعد". وهي أصنام على هيئة الآدميين تعبدها العائلات في البيوت، ومنها الكبير ومنها الصغير.

وأول ذكر للترافيم نجده في سفر التكوين «فسرقت راحيل أصنام أبيها» (تك 19:31).

والمرة الثانية في سفر القضاة 4:17، وفي هذه القصة نجد لاوياً يخدم في بيت الأوثان، ولا غرابة في ذلك لأن هذه الحادثة تمت في أيام حكم القضاة التي قيل عنها: «وفي تلك الأيام لم يكن مَلِك في إسرائيل. كان كل واحدٍ يعمل ما يَحْسُن في عينيه» (قض 6:17).

والمرة الثالثة التي ذُكِرَت فيها الترافيم في سفر صموئيل الأول «لأن التَمرُّد كخطية العِرَافة، والعِنَاد كالوثن والترافيم» (1صم 23:15).

والمرة الرابعة في صموئيل الأول حيث نقرأ «فأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش، ووضعت لُبْدَة المِعْزَى تحت رأسه وغطته بثوب .. فجاء الرُسل وإذا في الفراش الترافيم ولِبْدَة المِعْزَى تحت رأسه» (1صم 13:19-16). وكانت الترافيم في العبادة الوثنية تُسْتَخدم لسؤال الشيطان بها (حز 21:21)، وتأتي الإجابة من قِبَل الشيطان على فم كاهن الوثن والعَرَّاف، ولذلك كان أمراً طبيعياً أن تتكلم الترافيم أو بالحري كهنتها أو العَرَّافون بالكذب.

وإرميا يشير إلى ذات الأمر وهو يقول: «هل يوجد في أباطيل الأمم (أو بين عرافي الأمم) مَنْ يُمْطِر، أو هل تُعْطِي السماوات وابلاً؟ أمَا أنت هو الرب إلهنا؟ فنرجوك، لأنك أنت صنعت كل هذه» (إر 22:14). فالشعب في عدم إيمانه تحول إلى الترافيم وأنبيائهم لطلب المعونة ولكنهم لم يجدوا راحة أو تعزية «وأخبروا بأحلام كذب» كما قال عنهم إرميا: «قد سمعت ما قاله الأنبياء الذين تنبأوا باسمي بالكذب قائلين: حلمت، حلمت .. بل هم أنبياء خِدَاع قلبهم! الذين يُفكِّرُون أن يُنسُّوا شعبي اسمي بأحلامهم .. هأنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة» (إر 25:23-32)، «يُعَزُّون بالباطل» أو كما قال إرميا أيضاً: «يشفون كسر بنت شعبي على عثمٍ (أي على خطأ؛ والكسر باق)، قائلين: سلام سلام. ولا سلام» (إر 11:8). فلم يعجز الأنبياء الكذبة والعرافون عن معرفة الحقيقة فقط، بل عجزوا عن قول الصدق فأنبأوا الشعب في شره بالنصرة، ولن تكون إلا الكسرة. وما وعدوهم به من تعزيات لن يكون إلا مناحات.

ÿ  «لذلك رحلوا كغنم. ذَلُّوا إذ ليس راعٍ». فالوحي يصورهم ضالين كقطيع في يأسهم وفي ذلهم لأنه لم يكن لهم راعٍ، لم يكن لهم مَنْ يقودهم ويرعاهم إذ تحولوا عن الله لجأوا في خطاياهم إلى العرافة فرأى يهوه وأشفق على حالتهم كما نقرأ عن الرب يسوع «ولما رأى الجموع تَحنَّن عليهم إذ كانوا منزعجين ومضطربين كغنم لا راعي لها» (مت 36:9).

«على الرعاة اشتعل غضبي فعاقبت الأعتدة، لأن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت يهوذا، وجعلهم كفرس جلاله في القتال» (ع 3).

لقد كان على الرعاة مسئولية خاصة عن حالة القطيع. في سفر حزقيال ينبِّر الروح القدس على ذلك بشدة بالقول: «هكذا قال السيد الرب: هأنذا على الرعاة وأطلب غنمي من يدهم، وأَكفُّهم عن رعي الغنم، ولا يرعى الرعاة أنفسهم بعد، فأُخلِّص غنمي من أفواههم فلا تكون لهم مأكلاً» (حز 10:34). إنه لأمر خطير أن يشغل أحد مركز المسئولية بين قديسي الله. صحيح أن كل مؤمن مسئول عن حالته، غير أن المدبرين مسئولون عن حالتهم وعن حالة الجماعة. ولهذا يقول الرسول يطرس: «أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم .. ارعوا رعية الله التي بينكم نظاراً، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كَمَنْ يسود على الأنصبة، بل صائرين أمثلة للرعية» (1بط 1:5-4). والرسول بولس كمن أُؤتمن هو وشركاؤه على خدمة القطيع يقول: «بل كنا مُترفقِّين في وسطكم كما تُربِّي المُرضِعة أولادها، هكذا إذ كنا حَانِّين إليكم، كنا نَرْضَى أن نُعطيكم، لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً، لأنكم صرتم محبوبين إلينا .. كما تَعْلَمُون كيف كنا نَعِظ كل واحد منكم كالآب لأولاده، ونشجعكم» (1تس 7:2-11).

 لأجل ذلك غضب الرب على الرعاة لأنهم أضلُّوا قطيعه.

وإلى جانب الرعاة يشير الرب إلى الأعتدة. والأعتدة هي الجداء؛ أي أنها تَدَّعِي بأنها غنم ولها مركز قيادة، لذلك اشتعل غضب الرب عليها أيضاً. ويتحدث حزقيال عنهم مميزاً عن الكباش بالقول: «هأنذا أحكم بين شاة وشاة، وبين كباش وتُيوس (وهي الأعتدة)» (حز 17:34). وفي إنجيل متى 25 نجد الرب في دينونة الأحياء يفصل الخراف عن الجداء. ونفهم من ذلك أن الجداء أو الأعتدة ليست خرافاً ولو أنها مع شعب الله، وإنما هي قد أقحمت نفسها في أماكن الصدارة والشرف التي استغلتها لأغراضها الذاتية الشريرة ولذلك سيجعل لها الرب مصيرها المحتوم الذي تستحقه وهو النار الأبدية المُعَدَّة لإبليس وملائكته. ولنلاحظ القول: «عاقبت الأعتدة» وهنا نرى أن الرب عاقب كل من الرعاة والأعتدة.

ÿ  «قد تعهد قطيعه بيت يهوذا، وجعلهم كفرس جلاله في القتال». وإن كان غضب الرب سيشتعل على الرعاة الكذبة والأعتدة، لكنه تَعهَّد قطيعه بيت يهوذا حيث يقول الرب: «هأنذا أسأل عن غنمي وأفتقدها. كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون وسط غنمه المُشَتَّتَة، هكذا أفتقد غنمي وأُخلِّصها من جميع الأماكن التي تَشتَّت إليها في يوم الغيم والضباب. وأُخرجها من الشعوب وأجمعها من الأراضي، وآتي بها إلى أرضها وأرعاها على جبال إسرائيل .. أرعاها في مرعى جيدٍ .. هناك تَربُض في مراحٍ حسنٍ، وفي مرعى دسمٍ .. أنا أرعى غنمي وأُربضها» (حز 11:34-15).

أما القول: «كفرس جلاله في القتال» فهذا من حيث الزمن مرتبط بالأعداد 14-16 من الأصحاح السابق حيث يوضح لنا الرب المكانة التي سيحتلها يهوذا في معارك الرب المستقبلة حيث يضرب بهم المثل في القوة والشجاعة والإقدام والرهبة التي ترهب الأعداء فيقال: «كأمير (أو قائد ألف) في يهوذا» (زك 7:9).

ثالثاً: النصرة على الأعداء (ع 4-7)

«منه الزاوية منه الوتد. منه القتال. منه يخرج كل ظالم جميعاً» (ع 4).

«منه» أي أن المسيح في أوصافه المجيدة الآتية يكون من سبط يهوذا:

ÿ  «منه الزاوية». ونجد كلمة زاوية مطبقة على ربنا يسوع في القول: «هأنذا أُؤسِّس في صهيون حجراً، حجر امتحان، حجر زاوية كريماً، أساساً مُؤسَّسَاً: مَنْ آمَنَ لا يهرب» (إش 16:28). وفي الأصحاح الرابع قرأنا عن المسيح كحجر الزاوية «فيخرج حجر الزاوية بين الهاتفين: كرامةً، كرامةً له» (زك 7:4). فالرب يسوع شخصياً هو حجر الزاوية الذي يربط البناء، ثم هو أيضاً رأس الزاوية الحجر الجميل الذي يبدو شامخاً في قمة البناء. وإن كان البناؤون قد رفضوه ولكنه صار رأس الزاوية (1بط 7:2).

ÿ  «منه الوتد». طُبِّقَت كلمة الوتد على ألياقيم بن حلقيا بوصفه صورة رمزية للمسيّا، فنقرأ «وأُثَبِّتُه وَتَداً في موضعٍ أمينٍ، ويكون كرسي مجدٍ لبيت أبيه. ويُعَلِّقُون عليه كل مجد بيت أبيه» (إش 23:22،24). والوَتَد هو الذي يُثبِّت الخيمة، وعندما يكون الوَتَد متيناً يحمل كل الأشياء التي تُعَلَّق عليه، أي أن كل الوعود وكل البركات مُعَلَّقَة ومرتبطة بهذا الوَتَد الأمين.

ÿ  «منه القوس». قوس القتال هو أيضاً الرب يسوع الذي قيل عنه: «نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك. شعوب تحتك يَسقطون» (مز 5:45). ومكتوب عنه أيضاً «يُحَطِّم في يوم رِجْزِه ملوكاً. يدين بين الأمم. ملأ جثثاً أرضاً واسعةً. سحق رؤوسها» (مز 5:110،6).

ÿ  «من يخرج كل ظالم جميعاً». بمعنى أن ظالمي شعبه سوف يطردون إلى الأبد كوعده في الأصحاح التاسع «فلا يعبر عليهم ظالم» وكما تكلم الرب بفم إشعياء «لا يُسْمَع بعد ظلمٌ في أرضك، ولا خرابٌ ولا سَحْقٌ (أي إتلاف أو إبادة) في تُخُومِك» (إش 18:60).

«ويكونون كالجبابرة الدائسين طين الأسواق في القتال، ويحاربون لأن الرب معهم، والراكبون الخيل يخزون» (ع 5 ).

هذا العدد يرتبط بخاتمة العدد الثالث حيث يتضح أن إتمام النصرة على الظالمين سيكون بواسطة القوة التي لا تُقَاوَم الصادرة لهم من وجود الرب معهم، فهو الذي يجعلهم رجال قوة يدوسون ظالميهم «كطين الأسواق في القتال» فيخزى راكبو الخيل لمحاربتهم. وهذا يتفق مع ما جاء في نبوة ميخا «وترى عدوتي فيُغَطِّيها الخزي، القائلة لي: أين هو الرب إلهك؟ عيناي ستنظران إليها. الآن تصير للدَّوْس كطين الأزقة» (مي 10:7). وكما جاء في سفر صموئيل الثاني «فأسحقهم كغبار الأرض. مثل طين الأسواق أدُقُّهم وأدُوسهم» (2صم 43:22).

وإذ تكون هناك النصرة في وسط شعبه فإنهم يقاتلون بشجاعة فيخزى الراكبون على الخيل. وهذا سيتم حين يقود الرب شعبه في القتال، يوم يبدأ في إبطال كل رياسة وكل سلطان وكل قوة لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه، ولو أن الكلام هنا خاص بخلاص شعبه الأرضي مستقبلاً من أيدي أعدائهم، فالفترة المقصودة هنا هي التي تبدأ بظهور الرب بالمجد والقوة لتثبيت سيادته وملكوته وتنقية ملكوته من جميع المَعَاثر وفَعَلة الإثم.

«وأُقَوِّي بيت يهوذا، وأُخلِّص بيت يوسف وأُرجعهم، لأني أنا الرب إلههم فأُجيبهم» (ع 6 ).     

لا شك أن دقة التعبير الذي يستخدمه الروح القدس هنا تُلْفِت النظر، فبينما يقول الرب: «أُقوِّي بيت يهوذا» يقول: «أُخلِّص بيت يوسف وأُرجِّعهم»، والسبب غاية في الوضوح لكل دارس للنبوة، ذلك أن يهوذا سيكون موجوداً في الأرض في ذلك الوقت قبل ظهور الرب، أما بيت يوسف الذي يُشير إلى العشرة الأسباط فسيكونون مُشَتَّتِين بين الأمم ولهذا سوف يُرجِّعهم الرب ويُخلِّصهم.

وإذ يُنقذ الرب بيت يهوذا فسوف يُقويهم، أما بيت يوسف الذين يكونون مُشتتين فيستخدم التعبير «وأُرجِّعهم» ومن هنا نرى أن اختلاف التعبيرين هو في الواقع إعلان لمقاصد نعمة الله التي لا تتغير من نحو شعبه، تلك المقاصد التي تكشف عن عمق محبته الراسخة رغم تعدياتهم وخطاياهم. ومن هنا يقول: «وأُرجِّعهم»، كما نقرأ في نبوة هوشع «وأرحم لُورحامة (أي التي ليست مرحومة)، وأقول للوعمِّي (أي الذي ليس شعبي): أنت شعبي، وهو يقول: أنت إلهي» (هو 23:2).

وعلى هذا، بما أنهم موضوع رحمة الله، نجده يقول عنهم: «ويكونون كأني لم أرفضهم، لأني أنا الرب إلههم فأُجيبهم». فلوعمِّي: سيصبح شعب الله، ولورحامة: ستصبح موضوع الرحمة، وسيقول للرب: «أنت إلهي».

أي نعم، ستكون هناك محبة متبادلة وفرح غامر، فيض في الشركة مع الله، هذه كلها ستكون من نصيب الشعب التائب الراجع، فسيكون هناك توافق واستجابة بين السماء والأرض. «يكون قبلما يدعون أنا أُجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش 24:65)، وأيضاً «ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب، يقول الرب، أستجيب السماوات وهي تستجيب الأرض، والأرض تستجيب القمح والمِسْطَار والزيت، وهي تستجيب يزرعيل» (هو 21:2،22).

«ويكون أفرايم كجبَّار، ويفرح قلبهم كأنه بالخمر، وينظر بنوهم فيفرحون ويبتهج قلبهم بالرب» (ع 7 ).

ÿ  «ويكون أفرايم كجبَّار». لأنه وإن كانت القيادة ليهوذا، لأن رئيس جند الرب خرج من سبطهم، إلا أن الهجوم سيكون لجحافل أفرايم لكثرتهم، فسيكون أفرايم جبَّاراً كقول الرب عنه في الأصحاح السابق: «لأني أَوْتَرت يهوذا لنفسي، وملأت القوس أفرايم» (زك 13:9).

ÿ  «ويفرح قلبهم كأنه بالخمر». من نشوة الظفر كما يقول عنهم في الأصحاح السابق: «يشربون ويضجون كما من الخمر» (زك 15:9).

ÿ  «وينظر بنوهم فيفرحون». فلم يعد المجال أمام الأبناء أن يذكروا الخلاص كما كان الحال قديماً، بل أن الأبناء سيروا هذا الخلاص، وتكون النتيجة أن يفرح الأبناء مع الآباء بخلاص الرب. ونلاحظ أن الأبناء مذكورون هنا في العدد السابع ومذكورون أيضاً في العدد التاسع. فالرب يهتم بالبنين، وهذا فكر الرب من البداية إلى النهاية في كل التدابير أن يكون الأبناء مع الآباء. فقديماً قيل عن إبراهيم: «لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب» (تك 19:18). وهكذا قال موسى أيضاً: «نذهب بفتياننا وشيوخنا. نذهب ببنينا وبناتنا، بغنمنا وبقرنا، لأن لنا عيداً للرب» (خر 9:10). وهكذا نجد في كل التدابير أن الرب يهتم بالبنين.

ÿ     «ويبتهج قلبهم بالرب». تكررت كلمة الفرح في هذا العدد ثلاث مرات:

1-  «ويفرح قلبهم»: وهنا الفرح ناتج من رؤيتهم للخلاص الذي صنعه الرب.

2- «وينظر بنوهم فيفرحون»: وهنا الفرح خاص بالبنين الذين سيشاركون الآباء  أفراحهم بالخلاص الذي سيُجريه الرب.

3- «ويبتهج قلبهم بالرب»: هنا الفرح ليس بخلاص الرب وإن كان هذا جميلاً لكن الفرح بالرب نفسه مصدر كل خير وبركة وخلاص لشعبه.

رابعاً: الخلاص النهائي وامتلاك الأرض (ع 8-12)

«أصْفِر لهم وأجمعهم لأني قد فديتهم، ويكثرون كما كثروا» (ع 8).

نجد في هذا العدد أربع حقائق أساسية:

1- «أصفر لهم». استخدمت كلمة يصفر في الكتاب للتعبير عن المعاني الآتية:

(‌أ)     استدعاء الشعوب ليستخدمها الرب في القضاء على شعبه كما نقرأ في الشواهد الآتية: «حمي غضب الرب على شعبه .. فيرفع رايةً للأمم من بعيد، ويصفر لهم من أقصى الأرض، فإذ هم بالعجلة يأتون سريعاً» (إش 25:5،26)، وأيضاً «ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي من أقصى ترع مصر، وللنحل الذي في أرض أشور، فتأتي وتحل جميعاً في الأودية الخربة» (إش 18:7).

(‌ب)    تستخدم للتعبير عن التعجب والدهشة كما نقرأ «وهذا البيت (أي الهيكل) يكون عبرة. كل مَنْ يمر عليه يتعجَّب ويصفر، ويقولون: لماذا عمل الرب هكذا لهذه الأرض ولهذا البيت؟» (1مل 8:9).

(‌ج)    تستخدم للتعبير عن جمع المختارين كما نقرأ هنا وكما نقرأ أيضاً في نبوة إشعياء 13:27 وإنجيل متى 31:24.

2-«وأجمعهم». وهذا ما سيحدث مستقبلاً كما نقرأ في الشواهد الآتية: «يَرُدُّ الرب إلهك سبيك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بدَّدك إليهم» (تث 3:30)، وأيضاً «لُحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك» (إش 7:54)، «برائحة سروركم أرضى عنكم، حين أُخرجكم من بين الشعوب، وأجمعكم من الأراضي التي تفرقتم فيها» (حز 41:20)، وأيضاً «وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم» (حز 24:36)، وأيضاً «فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت، فيجمعون مختاريه من الأربع الرياح ..» (مت 31:24).

3- «لأني فديتهم». هذا هو أساس إحسان الرب لهم مستقبلاً، كما أن الفداء هو أساس إحسان الرب إلينا الآن، فموت المسيح هو أساس كل شيء كما قيل: «تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط، بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد» (يو 51:11،52). وكما رأينا في الأصحاح السابق أن دم العهد هو أساس المُلك وأساس المجد وأساس رضى الله وأساس كل البركات (زك 11:9).

4- «ويكثروا كما كثروا». كان الوعد لإبراهيم قديماً: «أُكثِّر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر» (تك 17:22)، وقيل ليعقوب: «ويكون نسلك كتراب الأرض» (تك 14:28). وفي بركة يعقوب لابني يوسف قال عن أفرايم: «يكون جمهوراً من الأمم» (تك 19:48). وبهذا المعنى قال موسى: «هما ربوات أفرايم وألوف منسى» (تث 17:33). فيعقوب وموسى كلاهما تنبأ عن أن زيادة العدد ستكون الطابع الذي يُميِّز أفرايم، وقيل عن هذه الكثرة في مُلك سليمان، الذي هو رمز لمُلك المسيح: «وكان يهوذا وإسرائيل كثيرين كالرمل الذي على البحر في الكثرة. يأكلون ويشربون ويفرحون» (1مل 20:4). وهكذا الحال عندما يرجعون إلى الرب على أساس الفداء سيجمعهم ويُخلِّصهم ويُباركهم ويُكثِّرهم.

وهنا يقول الرب: «يكثرون» أي حينما يرجعون تحت مُلكه الشامل سيكثرون كما كثروا في الأيام السالفة.

«وأزرعهم بين الشعوب فيذكرونني في الأراضي البعيدة، ويحيون مع بنيهم ويرجعون» (ع 9).

تعني كلمة أزرع نفس الزيادة والبركة والتثبيت وهذا نفس ما يقوله الرب في نبوة هوشع: «وأزرعهم لنفسي في الأرض» (هو 23:2) فيزرعيل معناه: الله يزرع. أي نعم إن الله يزرع في المكان الذي كان مرَّة مَسْرَحاً لوحشية الإنسان ودينونات الله، والبذار إذ تسقط على أرض قد أعدها الله تأتي في الحصاد بمئة ضعف، ويتمتعون ببركات القمح والمِسْطَار والزيت التي سيعود الشعب ويجدها تحت سيادة ملك البر والسلام ملكي صادق الحقيقي.

وإذا كان الأمر كذلك فإننا نرى الله قبيل تدخله لإعادة جمع العشرة الأسباط سيوفر لهم النجاح والتكاثر بين الأمم، وفي الوقت نفسه يبدأ بعمل في قلوبهم كما سبق وعمل مع شعبه في مصر وهكذا يجعلهم يذكرونه في الأرض البعيدة.

وكنتيجة لهذا يُقال: «ويحيون مع بنيهم ويرجعون». وهذه هي المرة الثانية التي يُذْكَر فيها الأبناء في هذا الأصحاح، كما سبق وأوضحنا في العدد السابع، وكما أصرَّ موسى، إذ كان له فكر الله، على أن يكون الأولاد مع آبائهم في خروجهم من أرض مصر. كذلك في هذا الرجوع نرى الرب يعد بأن الأبناء سيحيون مع آبائهم ويرجعون، أي يرجعون أولاً إلى الله ثم يوجههم نحو صهيون في سيرهم صوب الوطن (إر 7:31-9؛ حز 9:6).

«وأُرْجِعُهُم من أرض مصر، وأجمعهم من أشور، وآتي بهم إلى أرض جلعاد ولبنان، ولا يوجد لهم مكان» (ع 10).

ذُكرت كلمة «أُرْجِعُهُم» في هذا الأصحاح ثلاث مرات في الأعداد 6، 9، 10. وذُكرت كلمة «أجمعهم» مرتين في عددي 8، 10. لكن الوحي هنا يُحَدِّد الممالك التي يجب أن يخرج منها إسرائيل، وهي مصر وأشور، كما يذكر إشعياء هذا الموضوع أيضاً: «ويكون في ذلك اليوم أن السيد يُعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه، التي بقيت، من أشور، ومن مصر» (إش 11:10،16). فالرب سيجمعهم من مصر ومن أشور. الوحي يذكر هنا مصر وأشور كعينة من الأمم الكثيرة التي سيجمع منها شعبه، لأنهم مُتَفَرِّقُون في كل الأرض. ويأتي بهم إلى أرض جلعاد ولبنان؛ ونحن نعلم أن أرض جلعاد كانت على الجانب الشرقي من الأردن وكانت واقعة في نطاق السبطين والنصف أي رأوبين وجاد ونصف سبط منسى (عدد 32).

وذكر لبنان مع جلعاد هنا يرينا المنطقة التي يشغلها باقي العشرة الأسباط. والوعد المُعْطَى هنا مضمونه: أنهم يعودون فيستقرون في مساكنهم القديمة، وإذ يُؤْخَذُون إلى هناك فإنه لا يوجد مكان نظراً لكثرتهم ورخائهم كالوعد السابق المذكور في العدد الثامن. وكما يذكر إشعياء «أَوْسِعِي مكان خيمتك، ولتُبْسَط شقق مساكنك. لا تُمْسِكِي. أطيلي أطنابك وشَدِّدي أوتارك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار، ويَرث نسلك أمماً، ويُعْمِر مُدناً خربة» (إش 2:54،3)، وأيضاً «إن خربك وبراريك وأرض خرابك، إنك تكونين الآن ضيقة على السكان، ويتباعد مُبتلعوك. يقول أيضاً في أذنيك بنو ثكلك: ضَيِّقٌ عليَّ المكان. وَسَعِّي لي لأسكن. فتقولين في قلبك: مَنْ وَلَدَ لي هؤلاء وأنا ثكلى، وعاقرٌ منفية ومَطرودة؟ وهؤلاء من رَبَّاهم؟ هأنذا كنت متروكة وحدي. هؤلاء أين كانوا؟» (إش 19:49-21).

«ويعبر في بحر الضيق[*]، ويضرب اللجج في البحر، وتجف كل أعماق النهر[†]، وتُخفَض كبرياء أشور، ويزول قضيب مصر» (ع 11).

إذا كنا قد رأينا في العدد السابق الشعب وقد استرد مكانه، ففي هذا العدد نرى الدينونة التي ستقع على الأمم الذين تشتتوا ببنيهم.

فإذا كان البحر هو الضيق، فمن الناحية التصويرية الرمزية، فإنه ينطبق على الأمم الذين قاوموا (انظر رؤ 17) وعلى ذلك فالقول: يضرب اللجج في البحر أو لُجج البحر يشير إلى أنه عندما يثور الأمم ويهددون شعبه بالحصار والإغراق، يتدخل الرب ويضرب كبرياء ولُجج قوتهم وذلك لإتمام خلاصهم وعتقهم. والذي يؤيد ذلك عبارة وتجف كل أعماق النهر ذلك أن النهر بحصر اللفظ يشار به إلى نهر النيل كما أوضحنا في الحاشية. كما أن هنالك إشارة بغير شك إلى تاريخ الشعب قديماً يوم ضرب الله كبرياء البحر الأحمر وأخرج شعبه على اليابسة.

وكذلك سوف تخفض كبرياء أشور ويزول قضيب مصر. أما عن أشور فيقول إشعياء: «أحطم أشور في أرضي وأدوسه على جبالي، فيزول عنهم نِيرُه، ويزول عن كتفهم حِملُه» (إش 25:14)، وكذلك يقول عن مصر: «ويبيد الرب لسان بحر مصر، ويهز يده على النهر بقوة ريحه، ويضربه إلى سبع سواق، ويُجيز فيها بالأحذية» (إش 15:11). وقد ذكر أشور ومصر هنا لأنهما سيكون لهما دور كبير في حوادث النهاية تحت اسم مَلك الشمال ومَلك الجنوب (دا 11).

«وأقويهم بالرب، فيسلكون باسمه، يقول الرب» (ع 12).

هذا العدد يصف الحالة السعيدة لشعبه الراجع إليه عندما يتعلمون أن قوتهم ليست في جيوشهم ولا في المُحَالفات التي كانوا يعقدونها، بل في الرب وفي الرب وحده، وفي كامل الحرية قدامه سوف يسلكون يروحون ويغدون، ليس لإرضاء أنفسهم أو خدمة غاياتهم، بل كعبيد الرب، ولذلك فهم يسلكون باسمه، وهذا، كما نعلم من نبوة ميخا، ما كان يجب أن يُميِّزهم من الأول كشعب الرب «لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه، ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد» (مي 5:4). وبهذا تُخْتَتَم ضيقتهم، وبهذا يتميَّز مُلكهم.

إذن، فإلى جانب رجوعهم، سوف تَتَغَيَّر قلوبهم طبقاً لبنود العهد الجديد: «بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام، يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً» (إر 33:31).


[*] بحر الضيق في اللغة العربية يقابله في الأصل العبري "هكذا يعبر البحر الضيق" كما لو كان البحر هو الضيق، وقد جاء النص هكذا في بعض الترجمات الإنجليزية أيضاً.

[†] النهر بحصر اللفظ يُشار به في الكتاب إلى نهر النيل ما عدا مرة واحدة مذكورة في سفر دانيال «فنظرت أنا دانيال وإذا باثنين آخرين قد وقفا واحد من هنا على شاطئ النهر، وآخر من هناك على شاطئ النهر» (دا 5:12) حيث يُشار إلى نهر دجلة. نخلص مما سبق أن الإشارتين إلى البحر وإلى النهر تتحدثان عن الدينونة التي تقع على مصر بأن يجف النيل، ومعناه الحرمان المطلق من مصادر الحياة والخصب (انظر إش 5:19-10).

افتتاحية * مقدمة ضرورية *

*  السابع

*  السادس

*  الخامس

 *  الرابع

*  الثالث

 *  الثاني

*  الأول

*  الرابع عشر

*  الثالث عشر

*  الثاني عشر

*  الحادي عشر

*  العاشر

*  التاسع

*  الثامن

 آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة Baytallah.com

 

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.