لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح السادس

 1 فَمَاذَا نَقُولُ؟ أَنَبْقَى فِي الْخَطِيَّةِ لِكَيْ تَكْثُرَ النِّعْمَةُ؟ (عدد 1). الإنسان ينقهر ويغتاظ جدًّا من إيضاح نعمة الله ولا يوجد شيء آخر يُحرّك شر قلبهِ أكثر من ذلك ويقيم عليها اعتراضات من كل الأوجه. فحوى هذا السؤال هو إن كان الكلام السابق صحيحًا أي حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًّا ينتج أنهُ لا مانع لبقاءنا في حال الخطية لأن ذلك إنما يُظهر عُظم النعمة في خلاصنا أخيرًا رغمًا عن سوء سلوكنا. لو كان الإنسان يحب القداسة لما خطر على بالهِ فكر كهذا قط بل كان يشتهي معرفة ما ينقذهُ من عبودية الفساد ولكنهُ ليس مُستعبدًا لإبليس فقط بل يحب أن يكون هكذا لأن إبليس يسودهُ بواسطة شهواتهِ واضعًا أمامهُ في هذا العالم كل ما يوافقها. لا شك أنهُ يخاف من أجرة الخطية التي لا بد من قبضها فيما بعد ولكن مع ذلك يعيش في الشر أوقاتًا ناسيًا دينونة الله وأخرى مجتهدًا أن يعدّ نفسهُ للموت بوسائط يستنسبها هو وإذ ذاك تكون من شأنها أن تجعلهُ يعيش متراخيًا في هذا العالم وعلى كل حال يرفض نعمة الله مفتريًا عليها بكلام يصدر من قلبهِ الردي. المؤمن الحقيقي لا يتصور أبدًا إمكانية بقاءهِ في الخطية فإنهُ يحسبها عدوهُ الأكبر ويخاف منها ولو فاز بالأمن من جهة عقابها الأبدي، فيقول الرسول: 2 حَاشَا! نَحْنُ الَّذِينَ مُتْنَا عَنِ الْخَطِيَّةِ، كَيْفَ نَعِيشُ بَعْدُ فِيهَا؟ (عدد 2). فيمكن للمؤمن أن يسقط في الخطية ولكنهُ لا يعيش فيها كما أنهُ ممكن للخروف أن يسقط في البحر ولكنهُ لا يعيش هناك وأما السمك فمن خصوصيَّات طبيعتهِ أن يعيش في الماء.

3 أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، 4 فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ (عدد 3، 4). فيشير إلى معموديتنا ‘معمودية البالغين’ قائلاً: أن حتى المعمودية تُعلّمنا أننا لم ندخل الإيمان المسيحي لكي نبقى في الخطية، بل لنعيش حياة جديدة فإن يسوع المسيح الذي نعترف بهِ في معموديتنا قد مات وغاية موتهِ خلاصنا من الخطية. قولهُ: فدُفنَّا معهُ بالمعمودية. يشير إلى إجراء العماد بالتغطيس، بمجد الآب. أي أن مجد الآب اقتضى إقامة ابنهِ من الأموات من بعد ما قد احتمل كل ما كان ضروريًا لخلاصنا بطريق موافق للعدل الإلهي، لهذا يحبني الآب لأني أضع نفسي لآخذها أيضًا (يوحنا 27:10). قال يسوع: الآن تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيهِ إن كان الله قد تمجد فيهِ فإن الله سيُمجدهُ في ذاتهِ ويُمجدهُ سريعًا (يوحنا 30:13-32). إذا نظرنا إليهِ كونهُ إنسانًا عائشًا على الأرض كان الله يتمجد فيهِ ثم وقت صلبهِ حمل كل ما ينبغي أن يُحمل من يد الله لكي ينزع الخطية من أمام محضرهِ المُقدَّس ولما كان قد شرب كأس الغضب ومات ودُفن أقامهُ الآب ليس بمقتضى العدل فقط من أجل مسرَّتهِ فيهِ أيضًا وبذلك أظهر حقيقة النسبة التي بينهُ وبين ابنهِ (راجع أصحاح 4:1). جدة الحياة، إن المسيح لما قام من الأموات أخذ حياتهُ التي كانت فيهِ كإنسان قبل موتهِ ولكن على هيئة جديدة. لا شك أنهُ كان من ساعة ولادتهِ في هذا العالم تلك الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا (يوحنا الأولى 2:1؛ يوحنا 4:1). ولكنهُ لم يزل قبل موتهِ في جسد لم يتغير ذلك التغيُّر العظيم الذي نُعبّر عنهُ بالموت وعند قيامتهِ أخذ جسدهُ لكن في حال القيامة، وأما نحن فلنا حياة منهُ وفيهِ لا بل هو ذاتهُ حياتنا حال كونهِ مقامنا من الأموات فإذًا حياتنا هي جديدة ليس إصلاح الحياة العتيقة التي ورثناها من آدم بتةً لأن ما كان لنا من آدم هو موت روحيًا لا حياة وإذ ذاك فحياتنا هي إلهية أبدية نظرًا إلى كون المسيح هو إياها وهي جديدة أيضًا:

أولاً- بالمقابلة مع حالتنا القديمة.

ثانيًا- لأننا فزنا بها في المسيح وهو في حال القيامة فيصح أن نُسميها حياة القيامة. فكما أن المسيح أُقيم من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن في جدة الحياة، لأن كل حيّ يتحرك ولهُ دائرة مخصوصة لحركاتهِ ونحن كذلك لأن المسيح هو مصدر حياتنا ومركزها ودائرتها ويصدق علينا روحيًّا القول: لأننا بهِ نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال الرسل 28:17) فعوضًا عن أن نبقى في الخطية نسلك في جدة الحياة.

5 لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ. (عدد 5). بشبه موتهِ، أي بالمعمودية بالنظر إلى كونها مثالاً للموت فعندما نعتمد بالماء نشترك في العلامة التي تدل على الموت. قد غلبي الفكر بين النصارى عمومًا أن المعمودية تُشير إلى نوال الحياة بالمسيح وقد ذهب كثيرون إلى الاعتقاد بأن كل مَنْ يعتمد بالماء يتجدد أيضًا ولكن ليس لذلك أساس مطلقًا في الكتاب الذي يُعلمنا أن المعمودية تُشير إلى الموت لا إلى الحياة صرنا متحدين معهُ بشبه موتهِ. يجب أن نُلاحظ جيدًا أن الاتحاد هذا ليس اتحادنا معهُ حقيقة كاتحاد الأعضاء مع الرأس الذي لا يصير إلاَّ بالروح القدس المُعطى لنا. وأيضًا أنهُ لا يقول إننا متحدين معهُ في موتهِ بل بشبههِ فقط وهو المعمودية بالماء كما تقدم. فإن المسيح كان وحدهُ ساعة موتهِ قائمًا مقامنا الأثيم لدى الله ومع أنهُ ناب عنا فلم نكن متحدين معهُ بل بالعكس كنا قائمين ضدهُ وكان الله ضدهُ فكان مرفوضًا من البشر ومتروكًا من الله وإذ ذاك فكان وحدهُ ولكن عندما نعترف بهِ جهارًا نقبل علانية موتهِ دلالةً على أننا قد متنا معهُ وانفصلنا عن آدم والعالم لا بل عن ذواتنا أيضًا ولا نكتفي بالموت وعلامتهِ فقط، بل نصير متحدين معهُ بقيامتهِ أيضًا. لاحظ جيدًا أنهُ لا يقول هنا: بشبه قيامتهِ لأننا متحدون معهُ في القيامة حقيقة لا رمزًا وليس للمعمودية أدنى مدخل في ذلك. لا يُخفى أنهُ يفرض هنا عملاً فعَّالاً من نعمة الله لأنهُ يمكننا أن نأخذ علامة موتهِ بدون أن يصير لنا شيء أكثر وأمتا اتحادنا معهُ بقيامتهِ فهو بالإيمان وعمل الروح القدس.

6 عَالِمِينَ هذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ. (عدد 6). فمعرفة هذا هي من المبادئ الأولية للمسيحي وليست من الحقائق التي للمُتقدمين. إنساننا العتيق، هو آدم وبالتبعية مقامنا فيهِ مع الشهوات والإرادة العاصية الموروثة منهُ ولكن عند انضمامنا إلى المسيح يجوز لنا أن نقول: مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ (غلاطية 20:2). معلوم أننا لم نكن في قيد الوجود زمان موت المسيح ولكن عند اتحادنا معهُ حقيقة بقيامتهِ نأخذ مقامهُ كما أن المرأة مثلاً تأخذ مقام رجلها وكل ما لهُ لها أيضًا بموجب اقترانها معهُ وليس ذلك على سبيل الحسبان بتةً. لاحظ جيدًا أن الكلام هنا كلهُ عن مقامنا الجديد في المسيح لا عن تبريرنا بدمهِ. فإن الفرق بين هاتين المسألتين عظيم جدًّا ولا نقدر أن نحصل على الراحة التامة حتى نُميز بينهما. إن كان السؤال عن مسئوليتنا وتعرُّضنا للقصاص نقول: لسنا خائفين من الدينونة لأن المسيح حمل خطايانا وأما إذا سُئلنا: لأي آدم أنتم الأول أو للثاني؟ نقول: شكرًا لله نحن للثاني ومقامهُ أمام الله هو مقامنا.

الذين يحوّلون كلام الرسول في هذا الأصحاح إلى مسألة تبريرنا يفعلون ذلك لأنهم لم يستفيدوا بعد كما يجب من الأصحاح الثالث وبما أنهم ليسوا حاصلين على يقين الإيمان من جهة غفران خطاياهم يريدون أن يحوّلوا كل شيء إلى تلك المسألة وإذ ذاك لا يحصدون سوى ثمر سهوهم ومثلهم مثل الإنسان الجائع الذي لا يعتبر شيئًا إلاَّ بالنسبة إلى جوعهِ. المؤمن الذي لا يتمعن في (أصحاح 3) حتى يتأكد تأكيدًا تامًّا تبريرهُ لا يقدر أن يقبل شيئًا من جهة مقامهِ السامي في المسيح لأن أفكارهُ غير مطمئنة وتراهُ خائفًا من عواقب خطاياهُ. ليُبطل جسد الخطية، هو الجسد بالنظر إلى كونهِ موضع الشهوات فغاية صلب إنساننا العتيق مع المسيح أن يكفّ الجسد عن كونهِ آلة الخطية ليكون آلة البرّ كما سيأتي. وإذ ذاك المؤمن مع أنهُ يتعذَّب من الخطية لا يستعبد لها. 7 لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ. (عدد 7). فلفظة تبرّأ ليست بمعنى تبرَّر، لأن التبرير بالنظر إلى تعرُّضنا للدينونة وأما التبرؤ فنظرًا إلى وجود الشهوات والإرادة العاصية التي هي أصل الخطية، فالذي مات قد تخلص منها كما لا يُخفى لأنك لا نقدر أن تشتكي على ميت في كون شيء مما هو مثل ذلك فيهِ. هذه الحقيقة عامة مطلقة وسنرى كيف تصدق علينا.

8 فَإِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَ الْمَسِيحِ، نُؤْمِنُ أَنَّنَا سَنَحْيَا أَيْضًا مَعَهُ. (عدد 8). فالحياة مستقبلة. إننا نحيا بهِ وفيهِ الآن وأما في المستقبل فسنحيا معهُ. هذا رجاؤنا. 9 عَالِمِينَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَعْدَمَا أُقِيمَ مِنَ الأَمْوَاتِ لاَ يَمُوتُ أَيْضًا. لاَ يَسُودُ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بَعْدُ. 10 لأَنَّ الْمَوْتَ الَّذِي مَاتَهُ قَدْ مَاتَهُ لِلْخَطِيَّةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْحَيَاةُ الَّتِي يَحْيَاهَا فَيَحْيَاهَا ِللهِ. (عدد 9، 10). فمن معرفتنا المسيحية أن الموت لا يتعرض للمسيح بعد قيامتهِ فإنهُ كان أمامهُ مرة فسمح بأنهُ يسود عليهِ فمات ولكن الآن هو حيّ لله بقوة حياة لا تزول. قد ماتهُ للخطية مرة واحدة، ليس أن الخطية كانت فيهِ كما أنها فينا. حاشا! بل كانت في طريقهِ الذي كان يسلكهُ قاصدًا أن يفتدينا فقبلها عليهِ ومات لها وتخلص من هذه المسئولية إلى الأبد. هكذا المسيح أيضًا بعد ما قدّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونهُ (عبرانيين 28:9). فإنهُ حينئذٍ لا تكون مسألة ما من جهة حملهِ الخطايا، 11 كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا احْسِبُوا أَنْفُسَكُمْ أَمْوَاتًا عَنِ الْخَطِيَّةِ، وَلكِنْ أَحْيَاءً ِللهِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. (عدد 11). معلوم أننا ما متنا حقيقة للخطية لأنها لا تزال باقية فينا ولكن لنا حقًّا أن نحسب أنفسنا أمواتًا عنها وإذ ذاك لنا قوة عليها كما سيأتي. 12 إِذًا لاَ تَمْلِكَنَّ الْخَطِيَّةُ فِي جَسَدِكُمُ الْمَائِتِ لِكَيْ تُطِيعُوهَا فِي شَهَوَاتِهِ، 13 وَلاَ تُقَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ إِثْمٍ لِلْخَطِيَّةِ، بَلْ قَدِّمُوا ذَوَاتِكُمْ للهِ كَأَحْيَاءٍ مِنَ الأَمْوَاتِ وَأَعْضَاءَكُمْ آلاَتِ بِرّ ِللهِ. 14 فَإِنَّ الْخَطِيَّةَ لَنْ تَسُودَكُمْ، لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ. (عدد 12-14). فمن الأمور المتأكدة أن كل مَنْ تجدَّد بنعمة الله يقصد القداسة هي من جهة غلبتنا عليها عمليًّا. ومع أنها تحاربنا لا تقدر أن تسود علينا لأمننا لسنا تحت الناموس الذي يطلب منا ولا يمنحنا قوة بل تحت النعمة التي تعطي ولا تطلب منا إلاَّ ثمر ما تكون قد منحتنا إياهُ. فإن الناموس مثل إنسان لهُ أراضي بور لم يتكلف بتحسينها ولا بزرعها يطلب منها الأثمار الواجبة من كونها خاصتهُ ولأنهُ من خصوصيَّا الأرض أصلاً أن تأتي بثمر موافق للبشر فالواضح أنهُ لا ينال منها شيئًا وأما النعمة فخلاف ذلك لأنها تخلق أراضي جديدة ثم تفلح وتزرع وتسقي وتنضج الزريعة.

15 فَمَاذَا إِذًا؟ أَنُخْطِئُ لأَنَّنَا لَسْنَا تَحْتَ النَّامُوسِ بَلْ تَحْتَ النِّعْمَةِ؟ حَاشَا! (عدد 15). الإنسان الناموسي لا يقدر أن يتصوّر شيئًا آخر يضبط شهواتنا سوى الناموس فقط وإن سمع كلامًا مثل قول الرسول هنا: إننا لسنا تحت الناموس. يحتدم غيرةً على القداسة حسب فهمهِ السقيم قائلاً: إن كان ذلك كذلك لا بد أن نخطئ، ولكن الله أحكم منا ويحب القداسة في بنيهِ أكثر منا بأضعاف ويعرف كيف يحصلها، فإنهُ لا يُبرِّرنا إكرامًا لدم المسيح ثم يضعنا تحت الناموس قانونًا لحياتنا، بل يضعنا في المسيح تحت النعمة الضرورية لنا دائمًتا وأبدًا قوة القداسة وقانونًا لها أيضًا. لا شك أنهُ يمكن للناس أن يجعلوها للدعارة ويستعملوها سترًا لشهواتهم ولكن ذلك ليس إلاَّ سؤ استعمالها لا نعمة الله الحقيقية. قال بطرس الرسول: كتبت إليكم بكلمات قليلة واعظًا وشاهدًا أن هذه هي نعمة الله الحقيقية التي فيها تقومون (بطرس الأولى 12:5). وذلك بآخر رسالتهِ التي بها ينذرهم ضد الشهوات العالمية التي تحارب النفس ويحثهم على القيام بواجباتهم المتبادلة وعلى ذلك أيضًا رسالتهُ الثانية ورسالة يهوذا. لا عجب من وجود كثيرين انتهزوا فرصة لشهواتهم متوكئين على نعمة الله زاعمين أنها وافرة بهذا المقدار حتى لا مانع إن عاشوا في الخطية لأن الإنسان يحب ذلك ولم يسيء استعمال النعمة فقط، بل الناموس أيضًا وجميع العطايا الحسنة المعطاة لهُ أولاً وآخرًا. فإن وضعتهُ تحت الناموس يتعداهُ ومع ذلك يحاول أن يثبت برهُ الذاتي بهِ رافضًا برَّ الله وإن وضعتهُ تحت النعمة يزعم بأنهُ قد أُطلق ليعمل مثلما يريد فلذلك ينبغي أن يولد من فوق ويعرف نعمة الله حقيقة وحينئذٍ يقول لأن محبة المسيح تحصرنا. الحاصل أن كل مؤمن حقيقي مُتصف بالطاعة لله مع أنهُ يقصر عنها أوقاتًا كثيرة ويعترف بقصوراتهِ وإلاَّ فليس بمؤمن لأن الشجرة تُعرف بثمرها.

16 أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي تُقَدِّمُونَ ذَوَاتِكُمْ لَهُ عَبِيدًا لِلطَّاعَةِ، أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَهُ: إِمَّا لِلْخَطِيَّةِ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ؟  (عدد 16). فالرسول لا يوضح هنا مسألة كوننا لسنا تحت الناموس، بل بدحض اعتراض المعترضين إذ يُجاوبهم بحقيقة واضحة عامة وفحوى كلامهِ هو إن كنا نرى عبدًا في بيت إنسان دائمًا يخدمهُ نستدلُّ أنهُ عبدهُ بلا شك. كذلك الذي يعيش في الخطية هو عبدها والذي يطيع الله هو لهُ ولا توجد مسألة أوضح من ذلك. نعم يمكن أن عبدي المُتصف بالطاعة غالبًا يقصر عنها بعض الأوقات ولكن قصوراتهُ لا تُبرهن أنهُ ليس لي. 17 فَشُكْراً ِللهِ، أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ، وَلكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا. (عدد 17). فأول عمل من أعمال الطاعة هو الإيمان القلبي وقبول التعليم الصحيح عن المسيح وذلك يُحررنا. تعرفون الحق والحق يحرركم (يوحنا 32:8). 18 وَإِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ صِرْتُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ. 19 أَتَكَلَّمُ إِنْسَانِيًّا مِنْ أَجْلِ ضَعْفِ جَسَدِكُمْ. (عدد 18، 19). أي أنهُ استعمل تشبيهات مأخوذة من الأمور البشرية المعروفة تسهيلاً لإدراكهم هذه الحقيقة التي هي على غاية البساطة ولكن عسر علينا فهمها بسبب غلاظة قلوبنا وتباطؤنا عن إدراك نعمة الله ومقامنا الجديد في المسيح والسلوك الناشئ من ذلك. لأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُمْ أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلنَّجَاسَةِ وَالإِثْمِ لِلإِثْمِ، هكَذَا الآنَ قَدِّمُوا أَعْضَاءَكُمْ عَبِيدًا لِلْبِرِّ لِلْقَدَاسَةِ. (عدد 19). فيكلمهم على سبيل الأمر لأنهُ من واجباتنا الاعتيادية أن نطيع الله.

20 لأَنَّكُمْ لَمَّا كُنْتُمْ عَبِيدَ الْخَطِيَّةِ، كُنْتُمْ أَحْرَارًا مِنَ الْبِرِّ. 21 فَأَيُّ ثَمَرٍ كَانَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تَسْتَحُونَ بِهَا الآنَ؟ لأَنَّ نِهَايَةَ تِلْكَ الأُمُورِ هِيَ الْمَوْتُ. (عدد 20، 21). أحرارًا من البر، أي خاليين منهُ. والمقصد بلفظة البر في كلامهِ عن هذا الموضوع هو السلوك المطيع كما لا يخفى. كل مؤمن حقيقي إذا راجع حياتهُ القديمة التي صرفها بعدم الإيمان يرى كثيرًا مما يستحي بهِ ليس من الأفعال فقط، بل من الأقوال والأفكار أيضًا. ولا نتكلم هنا عن الخوف بل الحياء لأن الخوف قد زال عن قلب المؤمن من جهة عواقب حياتهِ الماضية، وأما الحياء فلا، لأنهُ يجب علينا أن نستحي أمام الله عند مراجعتنا أحوالنا قبل الإيمان نعم وعند مشاهدتنا قصوراتنا العديدة بعد ذلك أيضًا. ويفرض يوحنا الرسول أنهُ ممكن أن يحصل لنا نوع من الخجل عند ظهورنا أمام المسيح في مجيئهِ حين نُقدّم لهُ حسابًا عن تصرُّفاتنا إن لم تكن كما يجب (يوحنا الأولى 28:2) فعلى كل حال إلهنا لم يشاء أن نبقى في الخطية لكي تكثر النعمة ولا أن نخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة. وكل قلب يحب القداسة يصادق على قول بولس: شكرًا لله. وكل مَنْ لا يحب القداسة لا يمارسها سواء كان ناموسيًا معتدًّا ببرّ ذاتهِ معترضًا على نعمة الله أو من الذين يعترفون بالنعمة شفاهًا بينما ينكرونها عملاً. لأن القانون عام. مَنْ يظلم فليُظلّم بعد ومَنْ هو نجس فليتنجس بعد ومَنْ هو بار فليتبرر بعد ومَنْ هو مقدس فليتقدس بعد (رؤيا 11:22). لا شك مهما تكلفت من المشقة على الخنزير لا تقدر أن تُغيرهُ عن حب الأقذار فإنهُ سواء عليهِ أن وضعتهُ في موضع نظيف أو وسخ لا يكفُّ عن العمل حسب طبيعتهِ ولا يمكن أن يتحول إلى خروف كذلك الإنسان غير المُتجدد ولا ينفعنا من هذا القبيل إلاَّ نعمة الله التي تخلقنا جديدًا وتضمُّنا إلى المسيح وتحملنا إلى المجد.

22 وَأَمَّا الآنَ إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ، وَصِرْتُمْ عَبِيدًا ِللهِ، فَلَكُمْ ثَمَرُكُمْ لِلْقَدَاسَةِ، وَالنِّهَايَةُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. 23 لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. (عدد 22، 23) إن العيشة في الخطية تنتهي في الموت لا محالة، لأن مصدرها الوحيد هو الموت الروحي فلا بد من الموت الأبدي لكل مَنْ يستمر عليها. توجد طرق كثيرة يؤدي كل واحد إلى موضع معيّن ومَنْ سلك في طريق ما إذا استمر فيهِ لا بد من وصولهِ إلى الموضع الذي يودي إليهِ. فالخطية تودي إلى جهنم النار ولا يمكن أن نعيش فيها بدون أن نصل إلى هناك. فلذلك كل مَنْ لا يُريد أن يصرف أبديتهُ هناك عليهِ بأن يتوب ما دام باب التوبة مفتوحًا. نعم الله لا يشاء موت الخاطئ وقد أظهر نعمتهُ ولكن مع أن نعمتهُ واسعة بهذا المقدار لم تبطل النسبة الضرورية التي بين الخطية وعواقبها ولا أطفأت نار جهنم تلك النار المؤبدة التي لم تعدّ أصلاً للإنسان بل لإبليس وملائكتهِ ولكن جميع الذين يستمرون على خدمة إبليس يتعذبون مع سيدهم إلى الأبد.

الحياة الأبدية هي لنا الآن هبة من الله بالإيمان ولكنهُ لا يخفى أننا لا نقدر أن نتمتع بها تمامًا من أجل الضعف والتجارب المتنوعة. فشكرًا لله أن لنا رجاء أكيدًا أن نكون يومًا ما مع المسيح حيث نتمتع بها إلى أبد الآبدين. طوبى للرجل الذي يحتمل التجربة لأنهُ إذا تزكى ينال إكليل الحياة الذي وعد بهِ الرب للذين يحبونهُ (يعقوب 12:1). فالحياة فينا الآن ولكننا في الظروف المرّة التي من شأنها أن تزكينا وإكليلها عبارة عن الانتصار فبعد غلبتنا على كل مقاومة وآخر عدو هو الموت حينئذٍ يبتلع الموت نفسهُ إلى الغلبة ونفوز بدخول النعيم لنأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله (رؤيا 7:2). وقد تيقنت قلوبنا أن تلك الشجرة النفيسة ليست سوى المسيح يسوع ربنا.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة