لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح العاشر

 1 أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنَّ مَسَرَّةَ قَلْبِي وَطَلِْبَتِي إِلَى اللهِ لأَجْلِ إِسْرَائِيلَ هِيَ لِلْخَلاَصِ. 2 لأَنِّي أَشْهَدُ لَهُمْ أَنَّ لَهُمْ غَيْرَةً ِللهِ، وَلكِنْ لَيْسَ حَسَبَ الْمَعْرِفَةِ. 3 لأَنَّهُمْ إِذْ كَانُوا يَجْهَلُونَ بِرَّ اللهِ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِمْ لَمْ يُخْضَعُوا لِبِرِّ اللهِ. 4 لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ: الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ. (عدد 1-4). الرسول مع أنهُ أوضح سقوط إسرائيل وعثرتهم بذلك الحجر الذي هو الأساس الوحيد لخلاص أي من البشر لم يزل يحبهم ويطلب من الله خلاصهم لا دينونتهم مصرحًا بإحساسات قلبهِ لنحوهم. لا شك أنهم كانوا ملومين وقد لامهم الرسول، ولكنهُ لم يكن من الذين يغلقون أحشاء الرأفة عن شعب الله المذنب الواقع تحت قضائهِ العادل وتأديباتهِ الصارمة. كانت لهم غيرة لله لكنها لم تنفعهم لكونهم قد أهملوا التعليم المتضمن في كتبهم فإذ ذاك غاروا لله غيرة عمياء بلا معرفة أسرعت بهم إلى العصيان المُتزايد مثل إنسان قد حاج عن طريقهِ فإنهُ كلما تعصب بأفكارهِ ظانًّا أنهُ بعد في الطريق وجدَّ في المشي إنما يبعد عنهُ أكثر. جهلوا برَّ الله تلك السكة السلطانية وجدُّوا في مشيهم لتثبيت برَّهم الذاتي ذلك الطريق المودي للهلاك. طالما طلب الناموس منهم برًّا ولم يجد فإنهم كانوا كتلك التينة المُكتسية ورقًا بلا ثمر. ولما كانت حالتهم هكذا أعلن الله برَّهُ من السماء لا يطلب منهم شيئًا سوى الخضوع لهُ فقط فلم يُريدوا. لا شك أن الإنسان الساقط تحت المسئولية لأن يأتي ببرّ الله والقياس لذلك هو الناموس الذي يأمرهُ بأن يحب الرب من كل قلبهِ والقريب مثل نفسهِ. ولكن قد انتهت إمكانية حصولهِ على البرّ من هذا الشكل لأنهُ يبغض الله ويحب ذاتهُ فصارت اللعنة معلقة فوق رأسهِ عتيدة أن تقع عليهِ. ولكن لكل مَنْ يؤمن بالمسيح برًّا من الله على مبدأ آخر يقوم ليس بما يعملهُ لله بل بما عملهُ الله لهُ. وقولنا ذلك يقتضي الخضوع ولا نريد أن نخضع. وأما الذي يخضع يخلص من لعنة الناموس الذي اكتفى بموت المسيح حال كونهِ حاملاً اللعنة لأجلنا. فإذًا ينهي المسيح الناموس للمؤمن. قد استعمل الرسول لفظة ناموس في الأصل اليوناني نكرة، لأن معناهُ أوسع من ناموس موسى، فإنهُ يقول: أن المسيح غاية أو نهاية كل ناموس أو أي ناموس كان للبرَّ لكل مَنْ يؤمن، لأن المسيح نفسهُ هو برُّهُ أمام الله فلا يعود الناموس أو أي ناموس كان يتعرَّض لهُ.

5 لأَنَّ مُوسَى يَكْتُبُ فِي الْبِرِّ الَّذِي بِالنَّامُوسِ: «إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا». 6 وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالإِيمَانِ فَيَقُولُ هكَذَا:«لاَ تَقُلْ فِي قَلْبِكَ: مَنْ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟» أَيْ لِيُحْدِرَ الْمَسِيحَ، 7 «أَوْ: مَنْ يَهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ؟» أَيْ لِيُصْعِدَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ 8 لكِنْ مَاذَا يَقُولُ؟ «اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ، فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ» أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا: 9 لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ. 10 لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ، وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ. 11 لأَنَّ الْكِتَابَ يَقُولُ:«كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُخْزَى». (عدد 5-11). معلوم أن الناموس تركب على مبدأ الطلب من الإنسان لله ولو كان ممكنًا لهُ أن يعمل بموجبهِ تمامًا لكان لهُ برٌّ يؤهلهُ لأن يحيا أي يعيش على الأرض محفوظًا بعناية الله. ليس المعنى بتةً أن الخاطئ الميت روحيًّا يتجدد بحفظهِ وصايا الله ويصبر لهُ حق أن يدخل السماء، لأن ذلك مستحيل من كل الأوجه فإن الميت يحتاج إلى مَنْ يحييهِ والمجرم إلى مَنْ يُكفر عنهُ. الكتاب لا يذكر الحياة الجديدة والأبدية وغفران الخطايا ودخول المجد كأنها مُتعلقة بحفظ الشريعة. كان هذا الوهم في بال اليهود كما أنهُ تمكن في أفكار الجانب الأكبر من النصارى ولكنهُ بلا أساس مطلقًا في الكتاب ومنقوض من نفسهِ، لأنك إذا قلت أن الإنسان ميت وخاطئ قد انتهى أمرهُ من جهة الناموس الذي وُضع لمعرفة الخطية وإثبات الحكم على الخاطئ. ذلك الناموسي قام ليُجرب المسيح إذ سألهُ: يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ولما كان سؤالهُ من جهة العمل رجعهُ الرب إلى الناموس القياس الإلهي لعمل الإنسان وقال لهُ افعل هذا فتحيا (لوقا 65:10-28) لم يقل أنهُ يرث الحياة الأبدية بل تكون لهُ حياة هنا فقط حسب نص الشريعة نفسها.

وأما البرَّ الذي بالإيمان فيقول هكذا: لا تقل في قلبك: مَنْ يصعد إلى السماء أي ليُحدر المسيح؟ فالمعنى لا لزوم للذي يشعر باحتياجهِ إلى المسيح المخلص الإلهي أن يسأل: مَنْ يصعد إلى السماء ليُنزلهُ من هناك لأجلنا؟ من محبتهِ قد أرسلهُ بدون أن يطلب أحدٌ ذلك منهُ، لأن هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنهُ الوحيد. أو مَنْ يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات؟ فالمعنى أن الله قد أقامهُ من القبر ذلك القبر الذي وضعهُ الناس فيهِ بعد ما مات لأجلنا. ولم يكن أحدٌ من البشر ينتظر قيامتهُ فأقامهُ الله رغمًا عن إيمان التلاميذ الضعيف ورغمًا عن اجتهاد الأُمة اليهودية في أن يبقوه محبوسًا في القبر إلى الأبد. نعم أحياهُ الله بدون إذن من رؤساء الكهنة أو من الوالي وحرَّاسهِ الأقوياء ثم أرسل ملاكهُ فكسر ختم المملكة الرومانية المُتعظمة ودحرج الحجر ثم خرج رئيس الحياة غير مُبالٍ ببغض الكهنة أو سلاح العساكر. ماذا ينفعهم ذلك كلهُ، إن كان الإله القدير مُتدخلاً ليُجري مقاصدهُ؟ فإذًا البشر عوضًا عن أن يطلبوا إقامتهُ أو أن يساعدوا فيها إنما عملوا جميع الاحتياطات لمنعهِ عن القيام. اتخذ الله عليهِ كل المسئولية من الأول إلى الآخر، فإنهُ أرسل ابنهُ من السماء ثم وضع عليهِ إثمنا ثم أقامهُ من الأموات ثم أرسل يُبشر الناس بما عملهُ غير طالب منهم سوى أن يقبلوهُ. لأن الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك أي كلمة الإيمان التي نكرز بها. الكلمة قريبة منك. أي ليست في عبر البحر حتى ينبغي لك أن تسافر إلى موضع بعيد لكي تسمعها، في فمك. أي أنها بلغة مفهومة فإن الروح القدس لما حلَّ يوم الخمسين أخذ يُخبر الناس‘اليهود أولاً’ كل واحد بلغتهِ التي وُلد فيها ولم يزل يفعل هكذا إلى الآن. وفي قلبك. أي أنها كلمة تُناسب قلبك لأنها تُخبرك بما يسدُّ كل احتياجاتك حال كونك خاطئًا وتؤكد لك محبة الله وأنت مستحق غضبهُ وإن قبلتها تُفرّح قلبك فرحًا لا ينطق بهِ. لاحظ أن الإنجيل يُخاطب قلوبنا لا عقولنا فإنهُ خلاف التعاليم والمبادئ الفلسفية التي تتعلق بالعقل وأن كانت صحيحة أو كاذبة لا تأتي بما يُناسب قلب الإنسان المتعب الحزين. يحتاج القلب إلى مركز لعواطفهِ وطالما طلب مقرًّا بين هذه الأشياء الزائلة ولم يجد. يدعو المسيح المتعبين والثقيلي الأحمال إليهِ وإن أتوا يجدونهُ مركزًا مفيدًا لقلوبهم. كلمة الإيمان التي نكرز بها. فالكلمة هي بالحقيقة المسيح، لا عجب من الأثمار القليلة الناتجة من الكرازة والتعليم في هذه الأيام لأن الأكثرين يتعاطون كلمة الله بعقولهم وشفاههم فقط، وترى المعلم أو الواعظ ناشفًا روحيًّا كيبوسة الصيف وليست لكلامهِ فاعلية في قلوب السامعين أو ضمائرهم. إن الإنجيل لا يحتوي على مبادئ عقلية فلسفية بل حوادث جرت حقيقة في هذا العالم مصدرها الله وموضوعها شخص المسيح. وكل مَنْ امتلأ منها روحيًّا يتكلم من فضلة قلبهِ فلا بد من ثمر جيد.

لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك، أن الله أقامهُ من الأموات خلصت. الاعتراف مذكور أولاً لأنهُ يُظهر ما هو في الباطن وهو من أول أثمار الإيمان القلبي فإنهُ إن قال أحدٌ أنهُ مؤمن في الخفاء ولا يُريد أن يعترف علنًا، يُظهر أن إيمانهُ غير صحيح لأنهُ لا يمكن للذي يقبل المسيح قبولاً قلبيًا أن يمتنع عن الاعتراف بهِ قدام الناس لأن الكتاب يقول: كل مَنْ يؤمن بهِ لا يخزى. كان طريق الخلاص هكذا في أيام الرسل ولم يزل هكذا إلى الآن على أن يوجد فرق في بعض الظروف بحيث أن الجانب الأكبر من الذين نكرز لهم الآن قد وُلدوا في الإيمان المسيحي وتقلدوهُ تقليدًا من آبائهم وإذ ذاك يعترفون بالمسيح كأمر مفروض عليهم ولا يوجد اضطهاد أو خطر على كل مَنْ يُظهر نفسهُ نُصرانيًّا بين النصارى، لأنهُ منهم أصلاً. فإذًا الاعتراف بالفم وحدهُ لا يُبرهن كونهُ مسيحيًا بالحق. فيقوم الامتحان بالقول الثاني: إن آمنت بقلبك. ولكن يقول جميع النصارى ما عدا الكفرة الموجودين في وسطهم، إننا مؤمنون من كل قلوبنا، فلنسأل: ما هو الإيمان القلبي؟ فإنهُ يهمُّنا جدًّا أن نفهم ذلك. لا ندَّعي أننا نقدر أن نفحص القلوب لنكتشف باطنها ولا نطلب ذلك لأنهُ من امتيازات الله تعالى وحدهُ، ولا يتعلق موضوعنا هذا بتلك الأثمار التي تظهر في السلوك غير أن لها أهميَّة في محلها. لا يبحث الرسول هنا في السلوك الواجب والذي يُبرهن أن إيماننا صحيح للآخرين بعد مُعاشرتهم إيانا فإن موضوعهُ الخاص هو الإيمان القلبي وإظهارهُ باعتراف الفم. أقول للقارئ المسيحي: أنهُ يقدر أن يعرف إيمانهُ هل هو قلبي أو تقليدي؟ فقط أن كان يُلاحظ ما هي فاعلية خبر الإنجيل فيهِ؟ يا أخي إن كنت قد رأيت نفسك هالكًا ومذنبًا ومحتاجًا إلى برّ إلهي ليؤهلك للوقوف أمام الله ثم فرحت من كرازة الإنجيل الذي يؤكد لك إعلان برَّ الله بيسوع المسيح وخضعت لهُ تاركًا برَّك الذاتي فإيمانك قلبي وصحيح. لا يخفى أن جمهورًا من النصارى لا يعرفون شيئًا عن ذلك تراهم مُنشغلين بالفرائض والطقوس صنعهُ البشر وإضافات مُحرَّمة إلى إنجيل الله إذ يتوهمون أوهامًا باطلة من جهة أعمالهم الحسنة وما شاكلها وذلك ليس بين الذين يُقال لهم الطقسيين فقط، بل بين الإنجيليين أيضًا. فإنك ترى أُناسًا قد صرفوا سنين والإنجيل بين أيديهم وإن سألتهم: ما هو الإيمان، وكيف الخلاص؟ يظهر من جوابهم أنهم لم يستفيدوا شيئًا ويوجد وعَّاظ كثيرون يعظون على مواضيع شتى ولا يوضحون جوهر الإنجيل لأنهم لا يعرفونهُ. فلا غرو إذ ذاك من جهالة سامعيهم، لأنهُ قد انهمك المُعلِّم وتلاميذهُ في القشر مهملين اللبَّ. كلامي هذا حقٌّ وأرجو أن القارئ لا ينقهر منهُ. ولا ينقهر منهُ إن كان من الذين عرفوا حالتهم وقبلوا بشارة الإنجيل لخلاص أنفسهم، ولكن إن كان من المُشار إليهم آنفًا ألتمس منهُ أن يزِن كلامي في ميزان الحق ولا يُسرع إلى رفضهِ لكونهِ مُكدّرًا لهُ. لا عجب من حدوث التكدُّر في الأول لأن الإنسان يحب أن يعيش مرتاح البال في ديانتهِ التي تسلمها ويسؤهُ كلام من شأنهِ أن ينخس ضميرهُ ويوقظهُ من الغفلة ويكشف لهُ الأوهام الواهنة التي هو ممسك بها. أني أقول بغاية المحبة لكل أخ إنجيلي يقرأ هذا التفسير: أن لا يكتفي بتسميتهِ إنجيليًّا لأن انتسابنا إلى الإنجيل لا يغنينا عن الإيمان القلبي، فإنهُ يمكننا أن نقبلهُ بعقولنا وقلوبنا غير مُتأثرة منهُ فيكون حينئذٍ نظامًا تعليميًّا عديم الثمر كبقية النظامات. لم يهلك اليهود قديمًا لعدم وجود كتب الوحي بينهم فإنها كانت عندهم فأهملوا جوهرها الذي هو المسيح ونحن أيضًا إذا أهملناهُ نهلك كذلك. يمكن للإنسان أن يهلك حاملاً الكتاب المقدس في يديهِ نعم وكارزًا بهِ للآخرين أيضًا، وإن كنا قد عرفنا ذلك وميزنا أن الأثمار الظاهرة بيننا لا تليق بتعليمنا لنحترز من الغلط من الجهة الأخرى ولا نسرع إلى أن نُوبخ إخوتنا الفاترين توبيخات صارمة. فإنهُ يجب علينا بالأحرى أن نحزن عليهم كما حزن بولس على إخوتهِ ونمتلئ من محبة المسيح ومعرفة جوهر إنجيلهِ ثم نشهد لهم فتكون شهادتنا مؤثرة وإلاَّ فمهما أكثرنا التوبيخات وأفرطنا بالاجتهاد لا نكون إلاَّ نحاسًا يطنُّ أو صنجًا يرنُّ. نزرع كثيرًا أو ندخل قليلاً.لأن ملكوت الله ليس بكلام بل بقوة.

قد اقتبس الرسول بولس (عدد 6-9) اقتباسات من سفر التثنية وحوَّل معناها إلى كلمة الإيمان. وإذا راجعنا أصلها المتضمن في (تثنية 11:30-14) نستفيد لأننا نرى أن كلام النبي على حالة إسرائيل بعد سقوطهم وتشتيتهم إذ فقدوا امتيازاتهم الخاصة بسبب مخالفتهم الناموس ولم يحصلوا على برٍّ بهِ بل على لعنة وإذ ذاك لم يبق لهم طريق سوى التوبة والإيمان بكلمة الله. سبق قول موسى: السرائر للرب إلهنا والمُعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة (تثنية 29:29). فالمُعلنات هي نتائج عصيانهم كما سبق موسى وأوضحها في هذا السفر وكان كلامهُ هذا لإرشادهم وإنذارهم. وأما السرائر، فهي مقاصد الله التي كان مزمعًا ن يُكملها ويُظهرها رغمًا عن سقوط إسرائيل وخيانتهم في نفس الوقت الذي فيهِ عثروا بحجر الصدمة وفقدوا كل المواعيد. قال البعض: أن السرائر هي التعاليم الغامضة مثل الانتخاب أو الاختيار ولكنها ليست كذلك، لأن الاختيار لم يكن من الأمور الغامضة المكتومة فإنهُ كان مُعلنًا من البدء خاصةً من وقت دعوة إبراهيم. ولما كان بولس يقصد تثبيتهُ وإيضاحهُ لم يذكرهُ كأنهُ من التعاليم الغامضة بل أورد عليهِ شهادات من سفر التكوين والخروج. لا يجوز لنا أن نتكلم عن الاختيار كأنهُ تعليم مُبهم وغامض لأنهُ قد أُعلن في التوراة وهو واضح لكل مَنْ يتأمل فيهِ لأنهُ من الأمور القريبة للتصديق أنهُ إن كان الله يُخلص أُناسًا من هذا الجنس الساقط ينبغي أن يفعل ذلك بموجب قصدهِ السابق. فإنهُ اختارنا نحن في المسيح قبل تأسيس العالم ثم اختار الأُمة الإسرائيلية من وقت دعوة إبراهيم. ولهُ حق لو شاء أن يختار أُناسًا في الوقت الحاضر ويكون اختيارهُ مُطلقًا غير متعلق بشيء ما في الخليقة. لا شك أن قلب الإنسان يتهيج ضد سلطان الله المُطلق أن يفعل كما يشاء لأنهُ مولود بالعصيان. كان الله قد اختار إسرائيل من بين الأُمم وميَّزهم بتلك التمييزات وعلَّق تمنُّعهم بها على طاعتهم وحذرهم بالعواقب إذا خانوا وكاهن ذلك من المُعلنات وأما ما كان الله مزمعًا أن يُجريهُ بعد سقوطهم فكان من سرائرهِ. ثم راجع (تثنية أصحاح 30) ترى أن الله ترك باب التوبة مفتوحًا لهم بعد سبيهم وتشتيتهم ولكنهم لم يتوبوا إلاَّ توبة جزئية وقت سبيهم في بابل. وعند كرازة يوحنا المعمدان كما لا يخفى فلذلك لم تكن لهم البركة إلاَّ جزئية. وأما توبتهم في المستقبل فتكون كاملة والبركة كاملة أيضًا انظر (زكريا 12).

العبارة التي أوردها بولس الرسول هي هذه: إن هذه الوصية التي أُوصيك بها اليوم ليست عسرة عليك ولا بعيدة منك ولا هي في عبر البحر حتى تقول: مَنْ يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويُسمعنا إياها لنعمل بها بل الكلمة قريبة منك جدًّا في فمك وفي قلبك لتعمل بها (تثنية 1:30-14). يظهر في الأول أنهُ يستعملها استعمالاً غريبًا ليس بمحلهِ ولكن بعد إمعان النظر في كلامهِ نراهُ كاملاً كسائر الوحي فإنهُ لا يقتبسها كلها بل جزءًا منها ثم يُفسرها إلهيًّا إذ يذكر الوصية أي كلمة الله مُصرحًا أنها قريبة جدًّا حتى بعد سقوطهم، ولكنهُ لا يكمل العبارة حسب الأصل لتعمل بها. لأن ذلك على مبدأ الناموس فلذلك إنما يورد بعض العبارة بخصوص صفات الكلمة ثم يوضح ما هي الكلمة، قائلاً: أي كلمة الإيمان التي نكرز بها. وهي المسيح الذي كان الملجأ الوحيد لإسرائيل بعد سقوطهم، لأن الله مع أنهُ كان يُعاملهم حسب الناموس كان دائمًا ناظرًا إلى المسيح كالواسطة الوحيدة لخلاصهم بعد ما انتهى أمرهم حسب الناموس. فأتاهم بولس بهذا الخبر مُناديًا أن الله قد أعلن سرائرهُ في الإنجيل وما عليهم إلاَّ أن يخضعوا لهُ. كانت آمالهم المتعلقة بالعمل قد اندثرت وتلاشت إلى الأبد وأتاهم الله بشيء أفضل جدًّا وإن قبلوهُ لا يعود الناموس يلحقهم باللعنة. فلذلك ينبغي على اليهودي أن يتواضع معترفًا أنهُ عديم البرّ ويدخل من باب النعمة الذي انفتح للأُممي أيضًا.

12 لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. 13 لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ». (عدد 12، 13). كان اليهود قد تأمَّموا وصار ختانهم غرلة ولم يعد ينفعهم فإن نعمة الله المطلقة تجري مجراها الخاص ولا تراعي اليهود ولا تنحصر في دائرة امتيازاتهم الأرضية لأن كل مَنْ يدعو باسم الرب يخلص.

ثم الإيمان يقتضي وجود كلمة الله فيُبادر الرسول في ما بقي من هذا الأصحاح إلى إيضاح الكلمة وضرورتها لأجل خلاص الجميع. 14 فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ؟ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ 15 وَكَيْفَ يَكْرِزُونَ إِنْ لَمْ يُرْسَلُوا؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:«مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ». 16 لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ، لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ:«يَارَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا؟» 17 إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ. (عدد 14-17). لم يكن النظام الموسوي يحتاج إلى مُبشرين لأنهُ اختصَّ بالأُمة الإسرائيلية فقط ولم تكن فيهِ بشارة مناسبة للجميع ما دام حائط السياج المتوسط كان قائمًا خلاف الإنجيل الذي هو للجميع ولكنهُ يقتضي وجود مَنْ يُبلغهم إياهُ والمُرسل الوحيد هو الله لا الناس. لأن البرَّ هو برَّ الله والكلمة كلمة الله والمُبشرين هم مرسلون منهُ أيضًا ولا يوجد أساس بتةً لإرسالنا نحن مُبشرين. نعم إن كان الله يقيمهم ويرسلهم علينا أن نشترك معهم في خدمتهم ونساعدهم في احتياجاتهم الزمنية بكل سرور ومحبة ونكون عاملين معهم ولكن إقامتنا مُبشرين ممنوعة ومن المستحيل أيضًا كإقامتنا رُسلاً وأنبياء. الله وحدهُ قادر أن يقيم الفعلة لحصادهِ وإذا حاولنا أمرًا كهذا إنما نتعرَّض لِما لا يعنينا. من المعلوم إن كنا نقيم أُناسًا ونرسلهم ونرشدهم ونعولهم هم خُدامنا ويجب أن يطيعونا غصبًا عنهم لأننا نقدر أن نقطع معاشهم ونُشهرهم قدام العالم ولكن إن كان الله يُقيمهم ويرسلهم فهم خُدامهُ فلا بدَّ أن يُبشروا إن صادقنا عليهم أم لا.                             

لا حاجة أن أقول أن إرساليتهم من قِبَل الله لا تجعلهم معصومين من الخطأ أو مستغنين عن نصائح إخوتهم لأننا مهما كنا فلسنا سوى آنية ضعيفة خزفية مُعرضين لفخاخ إبليس وغرور قلوبنا وإذ ذاك يجب أن نكون ساهرين ومُنذرين بعضنا البعض إن كنا خُدام الكلمة أم لا. غير أنهُ لا يجوز أن نترأس على إخوتنا خاصةً الذين أقامهم الله وأرسلهم لخدمتهِ، كأنهم تحت أمرنا في خدمتهم. نعم يجب أن نمتحن تعليمهم وإن أتانا أحد بتعليم فاسد لا نقبلهُ مهما ادَّعى بأنهُ مُرسل من قِبَل الله. وإن قيل: كيف نعرف يقينًا أن تعليمهم صحيح إن لم يُصادق عليهم أولاً رؤساء الكنيسة، أقول:

أولاً- أن ليس للكنيسة رؤساء ولا مأمورون ليقوموا بهذا العمل.

ثانيًا- الكنيسة قد صادقت ولم تزل تُصادق على كل نوع من التعاليم الفاسدة، فإذًا لا يعتمد على مُصادقتها لأنها إنما تُلقينا في بحار الغش والضلال. قد نسي البعض أن كلمة الله موجودة فعلينا أن نمتحن كل شيء بها حتى ولو كنا عائشين في عصر الرسل لكان واجبًا علين أن نمتحن تعليمهم هم وغيرهم بهذا القانون. انظر (أعمال الرسل 11:17؛ يوحنا الثانية 7-11). وإن قال أحد: أنهُ ليس بممكن للعامة أن يفهموا كلمة الله ويمتحنوا تعليم مُعلميهم. أقول: ليس مصدر هذا القول إلاَّ الكفر بكلمة الله. ولا يُخفى أن إبليس قد أوقع كثيرين فيهِ. أني أقول: أن البسطاء أقرب لفهم كلمة الله من الرؤساء. كان الأمر هكذا في زمان المسيح ولم يزل هكذا في أيامنا.

18 لكِنَّنِي أَقُولُ: أَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا؟ بَلَى! «إِلَى جَمِيعِ الأَرْضِ خَرَجَ صَوْتُهُمْ، وَإِلَى أَقَاصِي الْمَسْكُونَةِ أَقْوَالُهُمْ». (عدد 18). أورد هذه الشهادة على انتشار الإنجيل عمومًا في العالم لكي يستطيع الجميع أن يسمعوهُ إن أرادوا. الضمير في، ألعلَّهُم لم يسمعوا. عائد إلى اليهود والأُمم وقد اقتبس الرسول من (مزمور 1:19-6) وإنما يقصد استعمال الكلام تشبيهًا لانتشار الإنجيل لنحو الجميع. في الأصل صوتهم وأقوالهم هي صوتها وأقوالها أي صوت السماوات وأقوالها فإن شهادة السماوات عامة وقد خرجت إلى كل الأراضي وكذلك الإنجيل انظر (مَتَّى 19:28؛ كولوسي 23:1) لا يقول الرسول أن صوت المُبشرين قد بلغ كل المسكونة بل أن صوت السماوات مُتجه للجميع وبشارة الإنجيل كذلك. لا شك ن كثيرين لا يقبلونها كما أنهم أهملوا شهادة السماوات لوجود الله (أصحاح 1) من نفس هذه الرسالة. ولكن مع ذلك كما أن الشمس تُشرق للجميع هكذا نور الإنجيل أيضًا.       

19 لكِنِّي أَقُولُ: أَلَعَلَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْلَمْ؟ أَوَّلاً مُوسَى يَقُولُ:«أَنَا أُغِيرُكُمْ بِمَا لَيْسَ أُمَّةً. بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُكُمْ». 20 ثُمَّ إِشَعْيَاءُ يَتَجَاسَرُ وَيَقُولُ:«وُجِدْتُ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَطْلُبُونِي، وَصِرْتُ ظَاهِرًا لِلَّذِينَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنِّي». 21 أَمَّا مِنْ جِهَةِ إِسْرَائِيلَ فَيَقُولُ:«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ». (عدد 19-21). ألعلَّ إسرائيل لم يعلم؟ أي ألم يكن عندهم علم بأن الله مزمع أن يأتي بالأُمم إلى معرفتهِ ويرفض الأُمة اليهودية؟ نعم كان عندهم العلم بذلك لو أرادوا أن يقبلوهُ لأن أنبياءهم سبقوا وأخبروا بدخول الأُمم إلى الإيمان ويرفض إسرائيل بسبب مُعاندتهم لصوت إلههم.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة