لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

شرح إنجيل يوحنا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الخامس

1 وَبَعْدَ هذَا كَانَ عِيدٌ لِلْيَهُودِ، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ. 2 وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالْعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. 3 فِي هذِهِ كَانَ مُضْطَجِعًا جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ الْمَاءِ. 4 لأَنَّ مَلاَكًا كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَانًا فِي الْبِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ الْمَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ الْمَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ. (عدد 1-4).

إننا لسنا نعلم إلى أي عيد يُشار هنا ولكن المرجح أنهُ لم يكن عيد الفصح لأن يوحنا غالبًا يُشير إلى هذا العيد بوصفهِ. فصعد يسوع إلى أورشليم. نعلم أنهُ كان مطلوب منهُ كإسرائيلي أن يحضر إلى أورشليم ثلاث مرات كل سنة عند المواسم الثلاثة الكبار (خروج 17:23). غير أن الوحي لا يذكر صعودهُ هنا ليُظهر تقواهُ كإسرائيلي بل خدمتهُ كابن الله في المدينة المختارة التي رفضت إلهها حين أتى إليها بملء البركة. لا يخفى أن الأعياد والمواسم والاحتفالات الدينية تناسب شعبًا أرضيًا لأنها من الأركان الضعيفة الفقيرة التي لا توافق مقامنا كمسيحيين مدعوين إلى المجد ومتحدين بالمسيح الآن بالروح القدس. لاحظ أن يوحنا يُشير إلى العيد كشيء يهودي لأنهُ يتخذ اصطلاح مؤرخ أجنبي قائلاً: كان عيد لليهود الخ كأنه هو ليس منهم. ثم يصف لنا حادثة تاريخية استعدادًا لذكرهِ آية الشفاء التي أجراها المسيح في ذلك الوقت. كانت في أورشليم حينئذِ بِرْكَةٌ عند باب الضأن قريبة من الهيكل اسمها بالعبرانية بيت حَسْدا يعني بيت الرحمة. فيتضح أنها تسمَّت هكذا نظرًا إلى الشفاء الذي حصل للبعض بواسطة ماءها. فكانت لها خمسة أروقة أو أماكن مبنية كمأوى للذين اجتمعوا هناك لينتظروا الفرصة لينزلوا في البِرْكَة. فاضطجع فيها جمهور من الإسرائيليين المصابين بكل نوع من الأمراض. وأما قوة الشفاء فلم تكن في الماء نفسهِ. لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البِرْكَة ويُحرّك الماء. فمَنْ نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراهُ. لم يرد ذكر لهذه البِركة إلاَّ في هذه العبارة ولكن ذكرها هنا يكفينا لأن الوحي يخبرنا صريحًا بوجودها وبأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا ليُحرّك ماءها. ولا نعلم هل نزل أوقاتًا كثيرة في السنة أم لا؟ غير أنهُ يتضح أن عدد الذين شُفوا كان قليلاً بالنسبة إلى عدد الذين بقوا بالانتظار فإنهم كانوا جمهورًا كثيرًا. لا شك بأن أورشليم وأهلها فرحوا بوقت عيدهم ولكنهُ كان يجب أن يمعنوا نظرهم قليلاً في بيت حَسْدا وجمهور المرضى في أروقتها الخمسة لأن ذلك برهن أنهم لم يكونوا على حالة الراحة والصحة التي كان الله يُريد أن يُبقيهم عليها لو بقوا طائعين لوصاياهُ كما يجب. على أنهُ لم يكن قد تركهم كل الترك فإنهُ افتقدهم أحيانًا وحقَّق لهم حضورهُ بشفاء مريض واحد فقط من جمهور مرضاهم. فأصابوا بتسميتهم البِرْكَة المذكورة بيت حَسْدا. ولكن أعجب الأمور أنهم لم يعرفوا ربَّ الملاك حين نزل إليهم ليجري الشفاء للمصابين في جميع نواحي بلادهم وبرهن لهم بذلك أنهُ بذاتهِ إلههم ملجأُ الرحمة للمحتاجين إليها.

5 وَكَانَ هُنَاكَ إِنْسَانٌ بِهِ مَرَضٌ مُنْذُ ثَمَانٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً. 6 هذَا رَآهُ يَسُوعُ مُضْطَجِعًا، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ زَمَانًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهُ: «أَتُرِيدُ أَنْ تَبْرَأَ؟» 7 أَجَابَهُ الْمَرِيضُ:«يَا سَيِّدُ، لَيْسَ لِي إِنْسَانٌ يُلْقِينِي فِي الْبِرْكَةِ مَتَى تَحَرَّكَ الْمَاءُ. بَلْ بَيْنَمَا أَنَا آتٍ، يَنْزِلُ قُدَّامِي آخَرُ». 8 قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». 9 فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. وَكَانَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ سَبْتٌ. (عدد 5-9).

فكان المسكين الموصوف على حالة يُرثى لها. كان مُصابًا بمرض غير قابل الشفاء من يد الإنسان منذ زمان طويل وكاد صبرهُ يفرغ من الانتظار ومع ذلك مكث عند البِرْكَة بحيث لم يكن لهُ أقل رجاء بأن يحصل على الشفاء بواسطة أخرى من الوسائط. رآهُ يسوع مضطجعًا وعلم أن لهُ زمانًا كثيرًا فقال لهُ: أتُريد أن تبرأ؟ كان هذا الإنسان كغيرهِ قد جاء طالبًا البِرْكَة وأما يسوع فبخلاف ذلك قد أتى إليهِ حيث هو ليطلبهُ فعرض نفسهُ عليهِ. ولكنهُ استلفت نظرهُ إليهِ بقولهُ: أتُريد أن تبرأ؟ لا شك بأن مياه البِرْكَة كانت قد أظهرت نوعًا قوة الرب الشافية ولكنها كانت رمزًا أو مثالاً ضعيفًا جدًّا كغيرها مما ترتَّب لإسرائيل قديمًا على سبيل الرموز والشارات إلى الخيرات العتيدة عند حضور الرب ذاتهَِ المرموز والمُشار إليهِ. لم تقدر البِرْكَة أن تعرض الشفاء لأي كان أو في أي وقتٍ كان وأما يسوع فاستطاع أن يفتش على الذي كان لهُ زمانًا طويلاً متوقعًا تحريك الماء وبدون تردُّد قال لهُ: أتُريد أن تبرأ؟ وهكذا حالة الإنسان المُصاب بمرض الخطية المزمن بحيث أن يسوع قادر أن يشفيهُ حالاً بكلمة واحدة. غير أننا نرى في جوابهِ لسؤال الرب كم كانت أفكارهُ مشغولة في البِرْكَة والمشقَّات التي كابدها وهو يطلب الشفاء بواستطها. أجابهُ المريض: يا سيد ليس لي إنسان يُلقيني في البِرْكَة مَتَى تحرَّك الماء. بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر. فيتضح من جوابهِ المحزن أن مرضهُ كان قد أعدمهُ كل قوة للمشي فلم يقدر أن ينتفع من زيارات الملاك. وبذلك نراهُ مثالاً تامًّا لحالة إسرائيل تحت الناموس الذي طلب منهم وجود قوة فيهم لكي يحفظوهُ وينالوا بركاتهِ. ولكنهم عجزوا عن حفظهِ كما نعلم وعبثًا انتظروا الشفاء بواسطتهِ. قال لهُ يسوع: قُم. احمل سريرك وامشِ. فحالاً برئ الإنسان وحمل سريرهُ ومشى. لا يذكر هنا هل آمن هذا المريض أم لا قبل شفاءهِ؟ لأن مقصد الوحي هو أن يرينا رحمة يسوع وقوة كلمتهِ لإجراء الشفاء في إسرائيل حالاً بالمقابلة مع وسائط الشفاء الضعيفة التي كانت عندهم بحسب النظام القديم. فما بقى لزوم لبيت حَسْدا ولا لخلافها من الوسائط الناموسية القديمة للذين بلغتهم كلمة يسوع بالقوة. غير أنهُ ينبغي لهم أن يكونوا مديونين تمامًا لنعمتهِ لأجل كل شيء كقولهِ هنا: أتُريد أن تبرأ؟ يعني هل هو مستعدٌّ أن يضع نفسهُ كما هو في يد يسوع ويكون مديونًا لهُ ليس كمَنْ يساعدهُ قليلاً بل كمَنْ يشفيهِ تمامًا ومجانًا. وكان في ذلك اليوم سبتٌ. فيتضح أن الرب اختار أن يجري هذه الآية في يوم السبت لأجل امتحان اليهود فلم يشفِ المريض فقط بل أوصاهُ بأن يحمل سريرهُ أيضًا. يظهر من مواضع أخرى أن الرؤساء لاموهُ على شفاءهِ أُناسًا في يوم السبت. وأما هنا فمارس سلطانهُ وأمر الرجل بحمل سريرهِ مع أن عملاً كهذا لم يكن جائزًا في السبت بحسب أفكار اليهود المتعصبين كما سيظهر في الفصل القادم.

10 فَقَالَ الْيَهُودُ لِلَّذِي شُفِيَ:«إِنَّهُ سَبْتٌ! لاَ يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَحْمِلَ سَرِيرَكَ». 11 أَجَابَهُمْ:«إِنَّ الَّذِي أَبْرَأَنِي هُوَ قَالَ لِي: احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». 12 فَسَأَلُوهُ:«مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ الَّذِي قَالَ لَكَ: احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟». 13 أَمَّا الَّذِي شُفِيَ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَنْ هُوَ، لأَنَّ يَسُوعَ اعْتَزَلَ، إِذْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ جَمْعٌ. 14 بَعْدَ ذلِكَ وَجَدَهُ يَسُوعُ فِي الْهَيْكَلِ وَقَالَ لَهُ:«هَا أَنْتَ قَدْ بَرِئْتَ، فَلاَ تُخْطِئْ أَيْضًا، لِئَلاَّ يَكُونَ لَكَ أَشَرُّ».  (عدد 10-14).

كان جواب الرجل مناسبًا وفي محلهِ أن الذي أبرأهُ هو قال لهُ أن يعمل هذا العمل فإن الذي قدر أن يجري آية مثل هذه ليس سوى إله إسرائيل الواجب الامتثال لأمرهِ. وأما اليهود أي الرؤساء فتظاهروا بالغيظ ولكنهم لم يسألوهُ عن الذي أبرأهُ بل سكتوا عن الإبراء وقالوا: مَنْ هو الإنسان الذي قال لك: احمل سريرك وامشِ؟ كأنهم حسبوا صدور أمر كهذا شرًّا عظيمًا. وأما الذي شُفي فلم يقدر أن يجاوبهم بوقتهِ بحيث أن يسوع لم يقف عندهُ حتى يتعرف فيهِ بل إنما شفاهُ ثم استمرَّ في طريقهِ بسبب الجمع الذي كان هناك. ثم بعد ذلك وجدهُ يسوع في الهيكل وأنذرهُ إنذارًا شخصيًّا قائلاً: ها أنت قد برئت. فلا تُخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشرُّ. فمعناهُ أن المرض الذي أُصيب بهِ كان تأديبًا لهُ لأجل بعض خطاياهُ وإذا رجع إليها يعود الله يضربهُ بضربة أشدَّ. ولكن هذا من مبادئ سياسة الله العمومية في العالم ولا سيما بين إسرائيل وإنما يذكر هنا في سياق الكلام لأن المقصد الخصوصي هو المشاجرة التي وقعت بين الرب وأخصامهِ كما سنرى. 

15 فَمَضَى الإِنْسَانُ وَأَخْبَرَ الْيَهُودَ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الَّذِي أَبْرَأَهُ. 16 وَلِهذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَ يَسُوعَ، وَيَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ عَمِلَ هذَا فِي سَبْتٍ. 17 فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ:«أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ». 18 فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللهِ. (عدد 15-18).

فأصاب بتقديمهِ هذه الشهادة عن الذي شفاهُ فصارت لليهود فرصة مناسبة لإظهار بُغضهم القَتَّال نحو يسوع وغيرتهم الفاسدة على طهارة سبتهم. فأجابهم يسوع: أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل. معلوم أنهُ كان عندهُ جواب آخر لاعتراض اليهود على إجراءهِ الشفاء في السبوت (انظر مَتَّى 9:12-13؛ لوقا 10:13-17) حيث أبكتهم وأخجلهم بذكرهِ رياءهم فإنهم كانوا يمارسون بعض أعمال في السبوت إذا كانت صوالحهم الزمنية تقتضيها ولكنهُ أعطاهم جوابًا خلاف ذلك هنا إذ قال: أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل. لم يكن الله قد وجد راحتهُ في هذا العالم الممتلئ من الخطية وعواقبها التعيسة لأنهُ حنون ولا يستطيع أن يستريح في وسط أنينات خليقتهِ فاضطرَّهُ الأمر بأن يجري أعمال رحمتهِ كل يوم من أيام الأسبوع. والخليقة تاريخ إسرائيل أظهر من الجهة الواحدة معاصيهم ومن الأخرى لطف الله ورحمتهُ غير المنقطعة. حتى حفَّظهم السبت كان صرره فارغة فقط لأنهم لم يكونوا قد دخلوا إلى الراحة الحقيقيَّة. كان جمهور المرضى المزدحمين في بيت حَسْدا برهانًا على سوء حالة إسرائيل وعدم حصولهم على راحة الله في أرضهم. فلما حضر الابن استمرَّ في أعمال الرحمة مثل أبيهِ. نعم وأعلنهُ تمامًا. ففهم اليهود معنى جوابهِ فصارت لهم علَّتان للشكوى عليهِ يعني نقضهُ السبت وجعلهُ نفسهُ معادلاً لله.

19 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ. (عدد 19).

 فنرى:

 أولاً- أن الرب يصادق على ما استنتجهُ اليهود من جوابهِ أنهُ ابن الله وبالتبعيَّة معادل لله. فلم يرفض ذلك.    

 ثانيًا- مقام الخضوع الذي أخذهُ واتحادهُ التام مع الآب بالعمل إذ قال: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسهِ شيئًا إلاَّ ما ينظر الآب يعمل. قد رأينا في (إصحاح 1) مجدهُ ولاهوتهُ وأزليتهُ ومُساواتهُ مع الله وأنه هو الذي عمل في الخليقة حيث قيل: كل شيء بهِ كان وبغيرهِ لم يكن شيءٌ مما كان إلى خلاف ذلك من الشهادات الصريحة لكون الأُقنوم الثاني هو الخالق ثم بعد ظهورهِ بين الناس قد رأيناهُ عاملاً بالنعمة غير أنهُ كان على هيئة الاتضاع حتى تعب من السفر وجلس على بئر يعقوب وتنازل أن يطلب قليلاً من الماء من يد امرأة سامرية. ذلك مع أنهُ الله وابن الله. فكان قد أخذ صورة عبد ومقام مخلوق باختيارهِ وهذا مما يُبرهن عظمتهُ بذاتهِ لأنهُ لو كان أحد الخلائق لكان بالضرورة عبدًا ولم يستطع أن يعمل من نفسهِ شيئًا لكونهِ مخلوقًا بدون قوة في ذاتهِ. ولكنهُ يتكلم هنا عن مقام الخضوع الذي اتخذهُ اختياريًّا والذي اقتضى أنهُ يتصرَّف بغاية الطاعة للآب الذي أرسلهُ. فكان يليق بهِ باعتبار مقامهِ هذا أن الآب يسبقهُ بالعمل والإرادة في كل شيء ثم بناء على أنهُ معادل بالله كان يقدر أن يعمل مثل الآب. كما نرى في كمالة العدد الذي نحن في صددهِ. إلاَّ ما ينظر الآب يعمل لأن مهما عمل ذاك فهذا يعملهُ الابن كذلك. فلا يمكن لأحد الخلائق مهما كان عظيمًا أن يقول قولاً كهذا عن نفسهِ بالصدق. لأنهُ لا يقدر أن يعمل مهما عمل الآب حتى ولو فرضنا بأنهُ يقدر أن يرى الآب عاملاً. فنحن أولاد الله بواسطة الولادة من فوق ويمكننا بالنعمة أن نتمثل بهِ سالكين بالمحبة (انظر أفسس 1:5، 2) ولكنهُ لا يجوز لنا أن نقول: مهما عمل الآب فهذا نعملهُ نحن.

20 لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الابْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. (عدد 20).               

هذا من جهة محبة الآب الخصوصية للابن في المقام الذي اتخذهُ لمجدهِ (راجع إصحاح 35:3). ثم قولهُ: ويُريهِ جميع ما هو يعملهُ. يدلُّ على اتفاقهما التام في العمل. وهذا الاتفاق ذاتهُ يُبرهن عظمة الابن في نفسهِ. فإنهُ يمكن لله أن يستخدم بعض الخلائق لإجراء بعض أعمال ولكنهُ لا يقدر أن يتفق معهم في العمل. لاحظ أيضًا أن عمل الآب المُشار إليهِ هنا هو من أعمال الرحمة والقوة كشفاء المريض عند بِرْكَة بيت حَسْدا وإعلان النعمة كما رأينا في (إصحاح 4). فكان الآب يعمل هكذا وقتئذٍ. وأما الأعمال الأخرى المُشار إليها في آخر العدد التي تكون أعظم من تلك هي إقامة الأموات وإجراء الدينونة كما يتضح مما يأتي.

21 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الابْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ.  (عدد 21).

فللآب السلطان والقدرة على إقامة الموتى وإحياءهم يعني أجسادهم. وهذا من الأعمال العظمى المُستقبلة التي كان الآب مزمعًا أن يريها للابن وقد تم ذلك بإقامتهِ ابنهُ وإحياءهِ (انظر أفسس 17:1-20) لأن الآب مارس سلطانهُ وقدرتهُ رأسًا في تلك الحادثة العظيمة فإن ابنهُ كان قد مجدَّهُ وأطاعهُ حتى الموت موت الصليب وأصبح مضطجعًا في القبر ثم تداخل وأقامهُ ومجَّدهُ سريعًا كما سنرى في (إصحاح 32:12). ثم قولهُ كذلك: الابن يحيي من يشاء يُشير إلى قدرتهِ على إحياء الناس مُطلقًا إن كان بأرواحهم أو بأجسادهم ولا يخفى أنهُ كان يمارس ذلك نوعًا مدة حياتهِ. غير أنهُ يذكر هذا الموضوع على الإطلاق هنا ثم يُفصلهُ فيما بعد.

22 لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَدًا، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلابْنِ (عدد 22).

إجراء الدينونة مقترن مع إحياءهِ الناس لأن الذين يدينهم ينبغي لهُ أن يكون قادرًا أن يقيمهم من الأموات أيضًا (انظر رؤيا 11:20-15) على إقامتهِ الهالكين ومعاقبتهم. ونرى في كلام الرب هنا أن كل الدينونة قد سُلَّمتْ إليهِ من الآب الذي لا يجري الدينونة على أحدٍ. لأن الابن كالوسيط قد أخذ عليهِ أن يكمل الفداء ثم يملك إلى أنهُ يخضع كل سلطان ورياسة ويبطل آخر عدو وهو الموت (كورنثوس 24:15-28).                                                                         

23 لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ.مَنْ لاَ يُكْرِمُ الابْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ. (عدد 23).

نحن المؤمنون بابن الله في وقت النعمة نكرمهُ وأما الهالكون فيكرمونهُ رغمًا عن عدم إيمانهم وعصيانهم فإنهُ مزمع أن يقيمهم ويدينهم كقاضيهم فيعترفون بأنهُ ربٌّ لمجد الله الآب (انظر فيلبي 11:2).

24 «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ. 25 اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ. 26 لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، 27 وَأَعْطَاهُ سُلْطَانًا أَنْ يَدِينَ أَيْضًا، لأَنَّهُ ابْنُ الإِنْسَانِ. (عدد 24-27).

سبق وذكر بعض حقائق عموميَّة بدون تخصيصها وأما هنا فيوضحها بتفصيل:

أولاً- أن كلامهُ يحيي المؤمنين بهِ الآن إذ تصير لهم الحياة الأبدية. قابل هذا مع الكلام الكثير الوارد في (إصحاح 3).

ثانيًا- أنهم لا يأتون إلى دينونة فإنهم قد انتقلوا الآن من الموت إلى الحياة. لأن الموت مقترن مع الخطية والخطية مع الدينونة. وكما وضع للناس أن يموتوا مرةً ثم بعد ذلك الدينونة هكذا المسيح أيضًا بعد ما قدّم مرَّة لكي يحمل خطايا كثيرين سيظهر ثانيةً بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونهُ (عبرانيين 27:9، 28). فقد رفع خطايا المؤمنين بموتهِ تمامًا حتى أن الدينونة لا تعنيهم بتةً.ولنا هذا اليقين بالإيمان بالذي أتى وأعلن لنا الآب وأحيانا روحيًّا وصيَّرنا أولادًا لله.

ثالثًا- يتكلم في وقت النعمة كابن الله والذين يسمعون صوتهُ يحيون روحيًّا كما نرى في (عدد 25).

رابعًا- يحيينا بذات الحياة التي قد أُعطيت لهُ كإنسان. لأنهُ كما أن الآب لهُ حياة في ذاتهِ كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون لهُ حياة في ذاتهِ. كانت فيهِ الحياة منذ الأزل كالكلمة (راجع إصحاح 4:1) ولكن لما تجسَّد أعطاهُ الآب في هذه الحالة أن يكون مصدر الحياة للآخرين. فكما أن الآب مصدر الحياة مطلقًا هكذا الابن في مقامهِ الذي أخذهُ اختياريًّا قد أُعطي أن يكون مصدرها خصوصيًّا للمؤمنين بهِ.

خامسًا- السلطان الذي يمارسهُ للدينونة معطى لهُ أيضًا كقولهِ: وأعطاهُ سلطانًا أن يدين أيضًا لأنهُ ابن الإنسان. ينبغي أن نُلاحظ جيدًا أن المسيح مع أنهُ ابن الله والله ظاهر في الجسد كان يقبل كل شيء من يد الذي أرسلهُ فبذلك أظهر كمالهُ كإنسان عائش لمجد الله في كل شيء.

28 لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، 29 فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ. 30 أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا. كَمَا أَسْمَعُ أَدِينُ، وَدَيْنُونَتِي عَادِلَةٌ، لأَنِّي لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (عدد 28-30).

إحياء النفوس عجيب ولكن إحياء الأجساد وإخراجها من القبور أعجب من ذلك نوعًا باعتبار عظم العمل في نظر البشر. سبق وذكر عملهُ الجاري مدة النعمة إذ يسمع البعض صوتهُ فيُحييهم روحيًّا فحصل التعجب من السامعين. فعاد في هذا الفصل وذكر لهم بعض أعمالهِ المستقبلة التي تُظهر لهم أعجب من ذلك.

أولاً- تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوتهُ. فإذًا صوتهُ القادر أن يحيي روحيًّا الآن هو الصوت المُقتدر المزمع أن يبلغ إلى جميع المضطجعين في القبور سواء كانوا صالحين أو أشرارًا. ويأتي وقت يمتاز ويتصف بكونهِ وقت إقامة الموتى حرفيًّا كما أن الوقت الحاضر هو وقت إحياء المؤمنين روحيًّا. لا شك عندي أن الوقت المُشار إليهِ هو الألف السنة ويقوم المؤمنين في أولهِ والهالكون في آخرهِ كما ورد في مواضع كثيرة (انظر رؤيا إصحاح 20) مثلاً ولكن ذلك ليس موضوع الرب هنا فينبغي لنا أن نتبع النصَّ.

ثانيًا- سيخرج الجميع من قبورهم ولكن ليسوا على حالة واحدة ولا بقيامة واحدة لأن الرب يميز بين الذين فعلوا الصالحات والذين عملوا السيئات ويقول صريحًا: أن لأولئك قيامة الحياة وأما هؤلاء فلهم قيامة الدينونة. فإذًا ستكون قيامتان تختلفان عن بعضهما اختلافًا عظيمًا جدًّا بحيث أن الواحدة للحياة والثانية للدينونة. لاحظ أيضًا أن الرب يصف الذين يكون لهم النصيب في قيامة الحياة بأنهم قد فعلوا الصالحات. لا شك بأنهم قد وُلدوا من فوق كما قد رأينا آنفًا في مواضع عديدة ولكن أعمالهم الصالحة ثمر النعمة العاملة فيهم وتبرهن شكلهم أنهم للمسيح. (انظر رومية 7:2؛ يوحنا الأولى 1:3-12) وشهادات أخرى كثيرة من هذا القبيل. لاحظ أيضًا أن الرب لا يذكر هنا سوى إقامتهِ الجميع من قبورهم. نعم قد ذكر تكرارًا أن الدينونة قد فُوّضت لهُ ولكنهُ لا يذكر جزاءهُ الأبرار ولا معاقبة الأشرار إلاَّ أن ذلك يستنتج من وصفهِ كلِ من الفريقين وتعيينهما الواحد لقيامة الحياة والآخر لقيامة الدينونة.

أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئًا (راجع عدد 19). كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني. يجب أن نلاحظ جيدًا أن الرب يتكلم هنا:

 أولاً- بالنظر إلى المقام الذي تعيَّن لهُ بمشورة الآب والذي اتخذهُ اختياريًّا فإن الأُقنوم الأول هو الآب والمرسل. فإذًا الأُقنوم الثاني منتسب إليهِ كابن ومُرسَل فلا يليق بهِ أن يفعل من نفسهِ شيئًا. فعدم القدرة المذكور هنا ليس العجز والضعف كقولك إني لا أقدر أن أطير كنسر بل هو كمالهُ ذاتيًّا بحيث أنهُ كان خاضعًا وطائعًا للآب المُرسلهُ كجواب ولد مطيع إذا عرض عليه أحدٌ أن يُخالف أمر أبيهِ لو قال لهُ: إني لا أقدر على ذلك. فليس معناهُ أنهُ لا يقدر على ذلك إلاَّ من حيثية خضوعهِ التام لوالدهِ يعني عدم قدرتهِ ينتج من مشيئتهِ الطائعة لا من عجزهِ جسدًا.

ثانيًا- لا يجوز أن نقسم شخص الرب وننسب مشيئة واحدة لهُ كالله ومشيئة أخرى لهُ كإنسان لأنهُ لا يوجد أدنى أساس لذلك في كلمة الله. والكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا. ونراهُ يعمل ويتكلم كشخص واحد ولكن دائمًا باعتبار نسبتهِ للآب والمقام الجديد الذي وُجد فيهِ. كانت لهُ مشيئة كما قال ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت. وأما كمالهُ فظهر بأنهُ كان يريد ويشاء تمامًا وبدون تردُّد كل ما تعيَّن لهُ من قبل إرادة أبيهِ. وهذه نفس الطاعة المطلوبة منا غير أنهُ يمكن أن تكون محاربة فينا بين الروح والجسد لأنهُ توجد فينا مشيئتان كما لا يخفى عند المؤمن المختبر. (انظر رومية 14:7-25؛ أفسس 3:2) خلاف المسيح الذي إنما شاء أن يعمل مشيئة الذي أرسلهُ. وحسب ذلك مأكلهُ ومشربهُ. لو قلنا بوجود مضادة فيهِ من أي جهةٍ لمشيئة الآب أنكرنا كمالهُ.

ثالثًا- يُشير بقولهِ: كما أسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. إلى هذه الحقيقة نفسها. لأنهُ لو تصرَّف في القضاء أو في غيرهِ بخلاف مشيئة الآب لكان مثل آدم تمامًا الذي شاء وعمل لنفسهِ بقطع النظر عن مشيئة خالقهِ. ولكنهُ لم يفعل ذلك فدينونتهُ عادلة كونها صادرة من مشيئة الآب وليست من مشيئة وكيل أو مُرسَل تعظَّم ضد الذي وكَّلهُ وأرسلهُ. لا شك بأنهُ يتكلم هنا عن إجراءهِ الدينونة بحسب قرائن الكلام ولكن هذا المبدأ يصدق أيضًا على جميع أعمالهِ وأقوالهِ بحيث أنها كانت كاملة وصادقة لأنهُ يكملها دائمًا كالابن المطيع المُكرم أباهُ وكمُرسل أمين في كل شيء.

31 «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا. 32 الَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَق. (عدد 31، 32).

 لا يخفى أن المسيح كان الشاهد الأمين لله في العالم (انظر رؤيا 14:3) وقد شهد للحق أيضًا أمام بيلاطس البنطي (تيموثاوس الأولى 13:6)ولكنهُ لم يشهد لنفسهِ. كان يُعلِّم الناس بالحق وكان يقرُّ بحقيقة شخصهِ وقت اللزوم ولكن ذلك ليس الشهادة الذاتية التي تبرهن تعظُّم الشاهد وشعورهُ بالضعف سويةً ونرى مثال ذلك مذكورًا في (أعمال الرسل 36:5؛ 9:8). وأما يسوع المسيح مع أنهُ كان بهيئة الاتضاع فعرف مَنْ هو وتصرَّف كما يليق بحقيقة شخصهِ وبنسبتهِ للآب والمقام الذي وُجد فيهِ فاستغنى عن تقديم الشهادة لنفسهِ كمَنْ يدَّعي بما ليس لهُ. وبقولهِ الذي يشهد لي هو آخر الخ يُشير إلى الآب الذي يشهد لهُ بصوت مسموع من السماء وقت معموديتهِ ولم يزل يشهد لهُ. فلذلك يستعمل فعل المضارع هنا قائلاً: وأنا أعلم أن شهادتهُ التي يشهدها لي هي حقٌّ. لأن الآب عاد يشهد لهُ مرتين كما سنرى في هذا الإنجيل. فالمسيح كان يعلم أن شهادتهُ حق بحيث عرف نسبتهُ الخاصة للآب.

33 أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلْحَقِّ. 34 وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35 كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. (عدد 33-35).                       

راجع (إصحاح 19:1-28) حيث نرى أن الرؤساء من أنفسهم أرسلوا أُناسًا إلى يوحنا ليسألوهُ مَنْ هو فشهد للحق ودلَّهم على المسيح كمَنْ هو أعظم منهُ إلى خلاف ذلك من الحقائق المُتعلقة بخدمتهِ كمرسل أمامهُ ولكنهُ في ذلك كلهِ ما اتخذ مقامًا كشاهد للمسيح فإنما كان خادمًا لهُ وشاهدًا لإسرائيل ولتلاميذهِ. لأن الرب يقول صريحًا هنا: وأنا لا أقبل شهادة من إنسان. بحيث أنهُ يليق يملك مثلاً أن يقبل شهادة لهُ من أحد الرعية. ولكني أقول هذا لتخلصوا أنتم. فيذكرهم بنتيجة إرساليتهم إلى يوحنا لكي ينبههم على الشهادات الكافية لهم من خدمة يوحنا وأقوال الأنبياء التي إذا انتبهوا إليها يتوبون ويؤمنون بهِ ويخلصون. كان هو السراج الموقد المنير وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنورهِ ساعةً. هذه شهادتهُ لعبدهِ يوحنا الذي أقامهُ نبيًّا لإسرائيل نعم وجعلهُ أعظم من نبي. لم يكن هو النور بل ليشهد للنور (إصحاح 8:1). طالما اشتدَّ الظلام على إسرائيل وأخيرًا ظهر يوحنا في وسطهم كسراج أوقدهُ روح الله وجعلهُ ينيرهم. وشهد لهم بأن النور الحقيقي قائم في وسطهم فيجب أن يتوبوا لكي يستنيروا بهِ. فتأثروا بهِ وقتيًّا فقط ثم رفضوهُ وقتلوهُ. لاحظ أن الرب يتكلم هنا مع الرؤساء المتكبرين في أورشليم ويلومهم لعدم قبولهم السراج المنير الذي أضاء إليهم ليدلهم إليهِ كالنور الحقيقي.

36 وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. 37 وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38 وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ. 39 فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي. 40 وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. (عدد 36-40).

يعود الرب في هذا الفصل ويذكر لهم بعض الشهادات المثبتة إرساليتهُ من الآب:

أولاً- الأعمال التي تعينت لهُ كالابن المرسل والتي كان يكملها. راجع شفاء المريض المدرج في أول هذا الإصحاح وأيضًا (إصحاح 23:2) فإن أعمال القوة والرحمة هي نفسها شهدت بأن الذي عملها ليس إلاَّ إله إسرائيل حاضرًا في وسطهم نعم وأنهُ الابن المنتسب للآب كالذي أرسلهُ لخدمة كهذه. لاحظ إننا غالبًا نجد في كتابات يوحنا التعليم المتعلق بنسبة الآب والابن لأن ذلك مصدر النعمة ويبرهن حقيقة شخص المسيح.

ثانيًا- شهادة الآب التي سبق وأشار إليها على نوع من الإبهام في (عدد 32) فيذكرها صريحًا هنا ثم يضيف إليها قولهُ لهم: لم تسمعوا صوتهُ قط ولا أبصرتم هيئتهُ. فيشير هنا إلى الصوت الذي تكلم معهُ من السماء وقت معموديتهِ (انظر مَتَى 17:3؛ مرقس 11:1؛ لوقا 22:3). فيتضح أن ذلك كان لهُ وحدهُ. وأما رؤية الروح القدس نازلاً عليهِ بهيئة جسمية فكانت ليوحنا المعمدان (إصحاح 32:1-34). ثم الصوت السماوي وقت التجلي سُمع من التلاميذ الثلاث (بطرس الثانية 18:1). وأما الصوت المذكور في (إصحاح 28:12) فكان لأجل الجمع الواقفين غير أنهُ يظهر إنما سمعوا صوتًا ينوُّن أن يميزوا الكلمات بتفصيل فإن البعض قالوا: قد حدث رعد وآخرون قالوا: قد كلَّمهُ ملاك. ولكن يسوع كان متعوَّدًا على صوت الآب ولم يستغربهُ لأنهُ لم يزل في حضنهِ فكان قادرًا أن يعلنهُ. ولا أبصرتم هيئتهُ (راجع إصحاح 18:1). فإذًا يسوع عرف الآب بالسمع والرؤية بخلاف غيرهِ من الناس. وليست لكم كلمتهُ ثابتة فيكم. فثبوت الكلمة فينا عبارة عن فعلها فينا لكي تجعلنا طائعين لله. لم يكن أولئك اليهود قد سمعوا صوت الآب ولا أبصروا هيئتهُ ولكنهُ كان قد أعطاهم كلمتهُ فكان يجب عليهم أن يقبلوها حقيقةً ولم يفعلوا ذلك. لأن الذي أرسلهُ هو لستم أنتم تؤمنون بهِ. فعدم إيمانهم بالمسيح كالمُرسَل من الآب هو البرهان على عدم ثبوت كلمتهِ فيهم. فإنهم لو كانوا قد قبلوا الكلمة المكتوبة لهم لكانوا مستعدّين أن يقبلوا الكلمة الأزلي حين تجسَّد وظهر بينهم بمجدهِ (راجع إصحاح 14:1) والشرح عليهِ. الحاصل إن صوت الآب شهد للابن رأسًا وأما كلمتهُ فشهدت لهم وجعلتهم بلا عذر في عدم إيمانهم. فتّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية. فلا يزال يحتجُّ لهم من جهة الشهادة التي كانت لهُ والتي هي أعظم من يوحنا المعمدان. فالكتب المُشار إليها هي أسفار التوراة الموجودة عندهم. فكانوا يعتبرونها كواسطة الحياة الأبدية لهم فأصابوا بذلك. وقولهُ: لأنكم تظنون الخ لا يفيد الشكَّ بل يراعي حالة أفكارهم في شأن الكتب المقدسة. فلم يقدر أن يقول لأنكم تعلمون الخ بحيث أن ذلك يفرض وجود الإيمان ويقينهُ فيهم وقد رأينا أن كلمة الله لم تكن ثابتة فيهم وأما إيمانهم فكان تقليديًّا فقط غير أنهم اعتبروا كُتبهم وظنوها الواسطة الوحيدة للحياة الأبدية. ففحوى كلامهِ لهم. فتّشوا الكتب وتجدون فيها شهادة أبي لي. فالواضح أنهُ يكلمهم على سبيل الاحتجاج. وهي التي تشهد لي. معلوم عند القارئ المسيحي ان الكتب المُتضمنة في التوراة مشحونة من الإعلانات المتعلقة بالمسيح. ولا تريدون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم حياة. فنرى هنا أن سبب عدم إيمانهم لم يكن من قلَّة وسائط المعرفة بل من عدم إرادتهم أن يأتوا إلى المسيح. كانت فيهِ الحياة منذ الأزل ولما تجسَّد صارت الحياة نور الناس ولم يمكنهم أن يحصلوا على الحياة إلاَّ بالإيمان بهِ. ولكنهم عثروا بهِ بسبب هيئة الاتضاع التي ظهر فيها. أرادوا أن يبتهجوا بنور السراج يوحنا إلى حين ولكن لما ميَّزوا أنهُ يقودهم إلى المسيح الوديع المتواضع القلب رفضوا السراج والنور الحقيقي سويةً وبقوا في ظلامهم وعصيانهم.

41 «مَجْدًا مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42 وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43 أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44 كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ (عدد 41-44).

المجد أو المدح الذي يأتي من الناس باطل من أصلهِ وهو محرَّم من الجهتين أي مَنْ يقبلهُ ومَنْ يعطيهِ سويةً ولا يمكن وجود الافتخار البشري ومحبة الله في قلوبنا في وقت واحد. فلم يكن المسيح قد أتى إلى هذا العالم المُبتعد عن الله لكي ينال مجدًا فيهِ وكان يعرف الذين رفضوهُ أنهم عديمو محبة الله مع أنهم افتخروا بالناموس الذي طلب أن يحبُّوهُ بكل قلوبهم. أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. فيُشير إلى كيفيَّة إتيانهِ بحيث أنهُ أتى باسم أبيهِ يعني كابنهِ والمرسل منهُ فلذلك كان يطلب أن يُمجدهُ تمامًا في هذا المشهد الذي كان البشر أهانوهُ فيهِ. وذلك لا يوافق أفكار الناس الطالبين المجد الباطل. إن أتى آخر باسم نفسهِ فلذلك تقبلونهُ. لما رفض اليهود مسيحهم الحقيقي انفتح الباب بينهم للمسحاء الكذبة كما لا يخفى وقد قيل أنهُ ظهر لهم نحو أربعة وستين شخصًا كاذبًا كل واحد منهم ادَّعى بأنهُ المسيح ولكنهم أتوا على سبيل الادّعاء والتعظم الذاتي. فكلما مضت الأيام وقرب الوقت لرجوع المسيح ثانيةً من السماء تكثر لهم التجارب من هذا القبيل حتى أخيرًا سيظهر بينهم ضد المسيح المُتنبأ عنهُ الذي سينكر الآب والابن ويدَّعي بأنهُ هو الله. ولكن هذا من المواضيع النبوية التي لا يليق الشرح عليها هنا لأن الرب إنما يظهر أميال اليهود الردية التي حملتهم أن يرفضوهُ وهي التي جعلت بابًا مفتوحًا لإتيان آخر باسم نفسهِ. كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تقبلونهُ. قابل هذا مع (مَتَّى إصحاح 23) حيث أوضح الرب تمامًا صفات أولئك الرؤساء. فنرى هنا أن محبة الكرامة من الناس هي من أعظم الموانع التي تبعدنا عن الإيمان بالمسيح.

45 «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46 لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47 فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟». (عدد 45-47).

كان المسيح قد أتاهم مملوًّا من النعمة والحق. الحق ألزمهُ بأن يريهم سوء حالتهم والأصول الفاسدة لعدم إيمانهم ومع ذلك بقى مملوًّا من النعمة. ولم يتكلم كمشتكِ فأن الاشتكاء لا يوافق خدمة من يريد خلاصهم فإنما كان يبكتهم عسى أن ينتبهوا ويتوبوا. كان اعتمادهم على موسى يعني كتب موسى، وبالتبعية كل الكتب الموحى بها كما قد رأينا آنفًا. فبدل ما يصدقونها ويأتون بالإثمار التي تليق بالتوبة افتخروا بها افتخارًا باطلاً بدون أن تثبت فيهم كلمة الله. فلما رفضوا ذاك الذي كتب عنهُ موسى، حوَّلوا موسى نفسهُ إلى مشتكٍ لأن شهاداتهِ الصريحة من جهة المسيح، تكون أعظم شكوى عليهم وقت الدينونة. فإن كنتم لستم تصدّقون كتب ذاك! فكيف تصدقون كلامي؟! كان تصديقهم بكتب موسى صورة فارغة فقط فمن أجل ذلك لم يكن فيهم مبدأ لقبول كلام المتنبأ عنهُ حين وقف في وسطهم وكلَّمهم كإنسان بنعمة لا تُوصف.

حقًّا يملُّ القارئ من مطالعة تاريخ إسرائيل المُتصف بعدم إيمانهم بالله، وعصيانهم عليهِ من وقت خروجهم من أرض مصر إلى حين ظهور المسيح في وسطهم. افتخروا بموسى كمُشترعهم الشهير، وبنسبتهم لله كشعب أرضي، واقتربوا إليهِ بفمهم مع أن قلوبهم مبتعدة عنهُ. ولكن هذا الأمر نفسهُ بصير، وقد صار بيننا نحن المسيحيين، فلذلك يجب أن نمتحن طرقنا، ونميز حقيقة حالتنا، لأن مجرد وجود النور في وسطنا لا يكفي لخلاصنا فأنهُ ينبغي أن نستنير بهِ ونسلك فيهِ.

فلنراجع بالاختصار مقام المسيح في إسرائيل بحسب مضمون هذا الإصحاح. قد رأيناهُ في أورشليم في آخر الإصحاح الثاني، وفي أوائل الإصحاح الثالث أيضًا. وكان يتحدث مع أحد رؤساء إسرائيل، ولكن في الليل، فإذًا لم يكن الوقت مُناسبًا لهُ، ليعرض نفسهُ على رؤساء أورشليم جهارًا. ثمَّ بعد ذلك مضى أيضًا إلى الجليل مُجتازًا في السامرة، ثمَّ صعد إلى أورشليم في وقت عيد من أعيادهم، واتخذ الفرصة ليشفي إنسانًا كان بهِ مرض منذ ثماني وثلاثين سنة، وعمل ذلك عن قصدٍ في يوم السبت، وأوصاهُ أيضًا، بأن يحمل سريرهُ، لكي يستلفت أنظار الرؤساء إليهِ فحينئذٍ ابتدأوا يتحاورون مع المسيح الذي عرض نفسهُ عليهم باعتبار حقيقة شخصهِ كابن الآب ومُرسل منهُ وانكشف عدم إيمانهم بهِ تمامًا.

10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المقدمة
21 20 19 18 17 16 15 14 13 12 11

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة