لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب الثالث عشر

1 يو 4: 7 – 10

« أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضا لأن المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله. ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة. بهذا أظهرت محبة الله فينا (أي في حالتنا) إن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم ولكن لكي نحيا به. في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل إنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا ».

بعد القصة العارضة الاستطرادية، كما يمكن أن نسميها، التي تناولها الرسول في الأعداد الستة الأولى من هذا الإصحاح، نعود إلى الموضوع الجديد الذي كان قد مهد به الرسول في نهاية الإصحاح الثالث، فقد أبان هناك أن محبتنا لاخوتنا كعاطفة إلهية ليست فقط ضرورة ومطلوبة بل أنها بالغة الأهمية والخطورة بحيث أنها تقرر في الواقع إذا كنا مسيحيين على الإطلاق أم غير مسيحيين. وهذا من شأنه أن يجعل الأمر في غاية الأهمية لنفوسنا حتى نكون على حذر من خداع قلوبنا « أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ».

إن كان هذا الاستنتاج الإلهي أكيداً وقوياً. وهو كذلك في الحقيقة، فلا عذر لأحد أن يفشل في المحبة. فقط علينا أن نذكر أن المحبة ليست مجرد عاطفة رقيقة نحو قديس شريك، بل هي أيضاً أمانة من نحو الله، ومن أسف أن هذه الأمانة في المحبة لأي خطأ يقع فيه والذي يعتبر أمانة أخيه متعارضة مع المحبة هو بحاجة إلى حذر، لأن إعراضه عن أمانة أخيه وانغلابه من روح النفور من هذه الأمانة – كما يحدث أحياناً – قد يؤدي به إلى نتيجة تنهض دليلاً على أنه مجرد من هبة الحياة في نفسه. فكثيراً ما نجد أن الانحراف عن المحبة ولو بقدر يسير، إن استسلمت له النفس، هو علامة خطيرة للغاية، وقد يكون من أعراض ما يمكن أن يسمى بالبرص الأدبي في الإنسان، لأن كلمة الله تعلمنا هنا أنه لا يوجد شيء من الله حقاً ولا شيء سليم بالمرة في الإنسان الذي لا يحب.هذا من جهة الاختبار. وهل يوجد ما هو أصح من هذا وأوضح من جهة المبدأ؟ أن البغضاء ليست من الله بكل يقين، أما المحبة فهي منه لأنها صدى نشاط طبيعته. أن النور، إن جاز لنا هذا التعبير، هو مبدأ طبيعته الأدبي. هو الطهارة الكاملة الذي يكشف ويرفض كل شر لأنه في الله مرتبط بالقداسة ارتباطاً مطلقاً، وهو كذلك في المسيحي أيضاً حيثما وجدت الحياة الأبدية. أما المحبة فهي نشاط الطبيعة الإلهية. هي السعي في الخير دون أن يكون في الأشخاص المحبوبين ما يحفزها على العمل سوى ما في ذاتها من صلاح وجود. ومحبة الله ليست فقط تعطى الكل، بل أيضاً تغفر الكل. وما كان ليتم لنا ذلك إلا عن طريق الوسيط، لأن الله لا يمكن أن يتناقض مع نفسه ومع طرقه، فحيث توجد الخطية لا بد أن يكون أمام محبته أساس للتبرير وإلا فإن المحبة لا تكون أمينة. أين يوجد ذلك؟ طبعاً ليس في الإنسان الخاطئ. ولكن الله عرف في نفسه أين سيوجد البر الكامل حتى في الأيام التي كان يسود فيها الإثم.

لقد كان قبل الطوفان وبعد الناموس يتطلع إلى الأمام، إلى مسيحه، وفي يوم شرير تكلم بفم نبيه عن خلاصه الآتي وبره الذي كان عتيداً أن يستعلن (أش 56: 1). لم يكن البر يرى على الأرض في أي مكان، ولكن الإيمان كان يتوقعه على الدوام. لم يكن للبر أي أساس في الإنسان، ولا حتى في قديسي الله الحقيقيين، لا في أخنوخ ولا في إيليا، ناهيك عن الآخرين. هم أيضاً كانوا جميعاً ينتظرونه ويرجونه. لكنه لم يكن في يومهم حقيقة واقعة قد تمت فعلاً بل كان اعتماد كل قديس يستند استناداً كلياً على ذاك العتيد أن يأتي لأنه كما تعلم، قد أعلن للإنسان فور سقوطه وصيرورته خاطئاً. هذا ما قدمه الرب الإله لأبوينا الأولين المذنبين وبطريقة مؤثرة للغاية، لأنه لم يكن في خطاب مباشر للساقطين بل في سياق القضاء على الحية. ومن غير الله كان يمكن أن يفكر في حكم يصدره على العدو، أن يضمنه أيضاً إعلاناً عن مخلص؟ وهكذا في كامل القداسة ألمع له المجد إلى الإعلان عن مخلص يسحق قوة الشر لينقذ من بين براثنه فرائسه المسكينة، لكنه مخلص يحتمل أيضاً الآلام في كامل المحبة لتميم ذلك الخلاص. ومن سوى عديم الإيمان لا يرى بكل وضوح أن هذا هو معنى سحق العقب؟ غير أن « نسل المرأة » – رغم آلامه هذه – يسحق رأس الحية. فهو إذاً قضاء مبرم وهلاك كامل لم تقوم للشرير قائمة بعده.

إن « المحبة » المقصود هنا لا نبع لها في المخلوق بل هي « من الله ». ولو لم يكن الله هو المصدر والقوة لما استطاعت نفس أن تخلص، ولما استطاع أن يسلك في محبته. إن المحبة تعرف كيف تهيئ موارد النعمة حيث يكون الإنسان غارقاً في الحمأة والخراب الكامل. انظر إليها في المسيح الذي مات لأجل خطايا المؤمن مغفورة، إذ لو كان ذلك هو الكل، لجاز أن يقال أن القديس إن أخطأ لزم أن يبدأ طريقه من جديد. ولعلنا لا نجهل أن هناك مسيحيين يزعمون أنه إذا أخطأ المؤمن فإنه يخسر كل شيء وعليه أن يبدأ من جديد. ولكن من الواضح أن من يظنون هكذا لا يؤمنون في الحياة الأبدية باعتبارها ملك المؤمن في المسيح منذ الآن. ويؤلمنا من الجهة الأخرى أن نشير عرضاً إلى فريق آخر من النصارى ينكرون الحياة الأبدية ولو بأسلوب يختلف عن السابق. ولكن مهما تكن أساليب الإنكار فهي بلا شك خطية كبرى ضد حقيقة جوهرية من حقائق المسيحية.

بعد ذلك يقول الرسول « كل من يحب فقد ولد من الله » فكوننا من الله، هذا يتضمن أيضاً وجود المحبة فينا كأولاد. وحيث أن الأولاد حاصلون على طبيعة الله أبيهم. فكل من لا يحب لم يولد من الله. لكن قد ترى واحداً يكون تعليمه الكتابي ناقصاً أو مغلوطاً ولم يتعلم بعد كيف يحكم على فورات الجسد فلا يعرف بالتبعية أن شعوراً من البغضاء لا يتفق مطلقاً مع المسيحي لأنه لا يتفق مع الله ولا مع الحياة التي في ابنه. « إن المحبة هي من الله، وكل من...... » – ليس أوضح من هذا – « وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ». أو ليس عجيباً أن يقال هذا عن إنسان على الأرض؟ أننا نعرف القليل جداً عن بعضنا البعض، ومن الأدلة على جهلنا حتى بأقرب أصدقائنا وأقاربنا أننا نفاجئ من وقت لآخر بأمور صغيرة تثير فينا الدهشة والحيرة وتسبب عنها آلام وأحزان لا آخر لها على الأرض. نعم فلو كنا نعرف بعضنا بضاً معرفة صحيحة، ولو كنا نحمل بين جنوبنا طبيعة حبية، إذاً لانتهت هذه المفاجآت واختفت هذه الهنات الهينات. فكم هو عجيب حقاً، أننا نحن الذين هذا مبلغ جهلنا بأوثق أحباءنا وأقرب أقربائنا، نكون كفاة لأن نعرف الله؟ إننا قد نعرف القليل جداً عن إخوتنا. والسبب في ذلك ضعف محبتنا، فلو كانت محبتنا قوية بالإيمان، والحياة الجديدة عاملة عملها بغير عائق أو معطل لتوافرت لنا وثاقة المودة والإلفة وجميعهم ولاشتركنا معهم في آلامهم مع المسيح ومن أجل اسمه بطريقة ترضي الله وتطيب خواطرهم وتجلب البركة لنفوسنا. لأن الثقة وليدة المحبة. والمحبة المدركة تولد الثقة، كما رأينا بالنسبة لله وأولاده. ومن منا يجهل قلة الثقة نسبياً حتى بين أولاد الله؟ الواقع أن نقص المحبة أمر مخجل للغاية لا يليق ولا يتفق مع عائلة الله. ولكن هاهو هنا يرينا فكرة في كلمات قليلة وواضحة للغاية.

توجد في هذا العالم صعوبات خطيرة تضاعفها حالة الخراب السائدة في النصرانية فهناك عدو ماكر يعمل بلا انقطاع، وقد رأينا هذا عند تأملنا في العداد السابقة، « لا تصدقوا كل روح » إلخ... أن الروح القدس مرسلة من الآب والابن. وكما أنت مهمة الشيطان معاكسة الرب يسوع وإزعاجه حينما كان على الأرض، لذلك لم يلبث أن أرسل أرواحاً شريرة لتقليد روح الله ولم يكن ذلك فقط للأرواح النجسة بل فقي التعليم الزائف المقوض للمسيح نفسه. فكما أنا المسيح أعطى رسلاً وأنبياء ومعلمين لبنيان وأعضاء جسده بقوة الروح القدس كذلك الشيطان أيضاً يقلد هذه الإرساليات ويعاكسها. ومن هنا كان القول « لا تصدقوا كل روح » متبوعاً بالمقاييس والاختبارات التي بها نعرف ونمتحن بها كل روح – وهي المقاييس والاختبارات التي سبق أن تأملنا فيها، ولكن الكلام هنا عن سلوكنا في المحبة. فليس الأمر متعلقاً بمهاجمات ضد الحق، بل بحياة المؤمن العملية التي يريدها الله مميزة بالمحبة أكثر من أي شيء آخر في أولئك الذين ولدهم بكلمة الحق. إن البر مفروضاً في حياة القديس، وكذلك الطاعة، لكن لابد من أن تكون هناك محبة وكما أن المحبة هي القوة النشطة في طبيعة الله، كذلك هي القوة العاملة التي لا غناء عنها في حياة المسيحيين من نحو بعضهم البعض، حتى لقد تكون هي الصفة البارزة المميزة لهم أكثر من أي شيء آخر فهل الأمر معك هكذا أيها الأخ العزيز؟ وهل الأمر معي هكذا يا نفسي؟

والآن يستهل الرسول هذا الموضوع كما فعل قبلاً في مستهل الإصحاح الرابع الذي نحن بصدده بالقول « أيها الأحباء » إنه لنداء محبب يوجهه الرسول بصفة خاصة إلى عواطفهم ولو أنه كان يحمل في طياته إنذاراً وتحذيراً، إذ كان مهموماً ومشغولاً بالخطر الذي أحاط بهم يومئذ. فها هي الأرواح الشريرة قد راحت تنفث سمومها في كل مكان. وأخوف ما يخافه الرسول وكل محب لسلامة القديسين أن يوجد بين بعض الجماعات المسيحية – كما هو حاصل للآن فعلاً – عدم إيمان بالروح القدس من جهة وبحقيقة وجود الشيطان وسفرائه من جهة أخرى. والواقع أن العالم اليوم يذخر بالأرواح الشريرة أكثر من أي عهد مضى، وهي لا تعمل فقط في الممالك الوثنية، مع ما تجيش به من خرافات مظلمة وقاسية، بل في العالم المسيحي ذاته يتخذ روح الضلال شكلاً جذاباً مدعياً بحق أرفع وأسمى. ولسان حال ألئك الأدعياء يقول  « أو لسنا نملك لم يسمع به من قبل، وهو مع ذلك من أعظم الحقائق وأخطرها؟ حسن أنكم حصلتم على بر الله والدعوة السماوية وسر الكنيسة وما إلى ذلك، أما الآن فلدينا ما هو أفضل بكثير. قديماً كانوا يهيئون الأوتار، أما اليوم فقد بدأت الموسيقى الحقة ونحن رجالها! » بمثل هذا الكلام الأرواح الشريرة ويالها من دعوى فارغة جوفاء، كلها صلف وكبرياء، بالمفارقة مع الرب الوديع، رب الجميع. على أنهم يهدمون الحق ولا يبنون النفوس التي تثق بهم، وهم شر أردأ حتى من أولئك الذين يقول عنهم الكتاب أنهم « يخدمون بطونهم ». هم من العالم، ومن العالم يتكلمون، ومن الذات يستمدون بواعثهم.

ولكن الحقيقة السامية المتعلقة بالمحبة التي من الله هي أن الباعث كله مستمد من صلاح الله،لأنه ليس في طبيعة الإنسان سوى عكس هذا الصلاح. أما المؤمن فإنه كخاطئ هالك يقبل النعمة في كل كمالها باعتباره غرضها وغايتها، وإذ ينال الحياة الأبدية في المسيح فإنه ينالها فائضة فيه باستمرار. فهي إذاً من الروح القدس عاملاً في طبيعته الجديدة كمولود من الله. ومن حقه أن يفتخر بالله كما يفتخر أيضاً بمحبة الله التي اتجهت إليه في غير ما سبب أو باعث سوى ما لله من صلاح يلذ له أن يوصله للآخرين. وهكذا هم المسيحيين الذين بالإيمان بالمسيح قد امتلأوا أولاً باليقين بأنهم محبوبون بمحبته وثانياً بالرغبة القلبية في ممارسة تلك المحبة بروح الله تجاه إخوتهم (لأن هذا هو الاتجاه المقصود هنا). ولكن المبدأ واضح للغاية وهو أن المحبة غير منفصلة عن الولادة من الله لدرجة أن كل من يحب يقيم الدليل بعمله هذا على أنه ابن لله. وهذا النوع من المحبة لا دخل له إطلاقاً بالعواطف الطبيعية التي نعلم كلنا أنها قد تكون قوية وشديدة حتى في أشر الرجال والنساء. فمع أنهم أعداء لله ألداء، منغمسون في الشهوات الدنيئة والمشاعر والانفعالات المنحطة، لكن قد يوجد فيهم الكثير من حلاوة الشمائل ورقة الخصال الطبيعية بل قد حب الخير والإحساس أيضاً. ولكن شيئاً من هذا ليس محبة الله، ولا يشار إليه هنا في كثير أو قليل، ولا إلى أي شيء آخر سوى ما أضاء في ربنا يسوع

إن المحبة كما يقول الرسول « هي من الله » فكل ما هو من ذواتنا ليس من الله وهذا حق حتى بالنسبة للمؤمن. فالمحبة ليست من تصميم ذاته الطبيعية، بل هو يستمدها كاملة من فوق، فهو مولود من الروح، ومن كان كذلك فهو روح وليس جسداً. هو مولود من الله، والله محبة.

والأعداد التي أمامنا مرتبطة بالأعداد الأخيرة من الإصحاح الثالث لأول مرة في هذه الرسالة نسمع عن روح الله، لقد حدثنا الرسول هناك عن ثبا الله في المؤمن، والبرهان على ذلك الثبات هو الروح الذي أعطانا. فالروح المعطى للمؤمن يثبت فيه، وهو البرهان أن الله ثابت فيه، وهذه حقيقة تفوق كثيراً عن حقيقة نوال الحياة الجديدة، فمع عظمة هذه الهبة، هبة الطبيعة الإلهية التي نشترك فيها، فإن أعظم منها بكثير ثبات الله فينا، وهذا يتم ويتحقق بعطية الروح القدس الذي هو العلامة المميزة للمسيحي.

إذاً فالهدف الذي يرمي إليه الرسول هو تقوية محبة المسيحيين المتبادلة بإرجاعها إلى منبعها الأصلي وإلى الطبيعة التي متى كانت عاملة لا بد أن تلائمها. لكن هناك عوائق تتعارض مع المحبة وتصدمها بشدة، من داخل ومن الخارج. ومن أجل هذا يحتاج القديسون لثبات الله فيهم لكي يتسنى للمحبة أن تعمل عملها الكامل بحرية، ولهذا فإنه يعوزنا ليس فقط أن نكون مولودين من الله، بل أن تكون لنا أيضاً القوة الإلهية، لا بل أن يثبت الله فينا، حتى نستطيع أن يحب أحدنا الآخر بحسب الله، إذ لو كنا فقط مولودين من الله، لبقي هنالك عائق قوي في طريق  المحبة الكاملة وهو جهلنا بالفداء، فلابد أن يوجد فينا الإيمان بعمل المسيح لأجلنا، الإيمان بدم المسيح الذي يطهر من كل خطية. ولا يدهشنك هذا القول، فإن عملاً إلهياً قد يجري في النفس قبل أن تستريح راحة كاملة على الفداء الذي بالمسيح يسوع والأدلة كثيرة في الكتاب على هذه الحقيقة:

خذ مثلاً حادثة المرأة الخاطئة المذكورة في إنجيل لوقا (ص 7). تلك التي يصفها الروح القدس بهذه الكلمات القليلة التي تنطوي على حقائق كثيرة « امرأة في المدينة كانت خاطئة ». ومع ذلك فقد جاءت إلى بيت سمعان الفريسي حيث كان الرب متكئاً مع تلاميذه، الأمر الذي أدهش صاحب البيت كثيراً. فإنه رغماً عن الظروف المانعة استطاعت أن تدخل ذلك البيت وهي التي كانت تخشى أن تدخله في أي وقت آخر. فما الذي شجعها وقوى عزيمتها؟ إنها إذا نظرت إلى الرب بالإيمان لم يستطع أي شيء أن يعيقها عن اقتحام ذلك البيت في مثل هذه الظروف نقول « اقتحام » لأنه هكذا كان يبدو للعين المجردة ولابد أن هذا ما يقوله كل واحد بحسب الطبيعة. ولكن قوة الإيمان تحطم العراقيل وتشق طريقها غم العوائق الجبارة ومع ذلك فلم تكن تعرف حتى ذلك الوقت أن خطاياها مغفورة. ولا كانت خطاياها مفغورة فعلاً. ولكنها كانت تسير في طريق المعرفة. لقد أحبت الرب ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إنها أحبت التلاميذ أيضاً فهناك عمل قوى آخر من أعمال الله يخلق هذه العواطف في دورها. ولكن الرب كان قد اجتذبها لنفسه بعامل إلهي جديد. وهذا هو الإيمان العامل بالمحبة. إن نعمته قد خلقت فيها عاطفة لم تكن تعرفها من قبل. وكانت موقنة أن الرب مملوء بالمحبة المقدسة. وإلا فلماذا كان يجول هكذا في كل البلاد يصنع خيراً؟ وماذا كانت القوة الدافعة له في كل حياته، في أقواله وفي أعماله؟ أليست هي المحبة الإلهية؟

وهكذا كانت الحياة قد بدأت تعمل في هذه المرأة التي كانت إلى ذلك الوقت معروفة أنها خاطئة مليئة بالدنس ولها سمعة شائنة. ولكنها كانت قد آمنت بالرب وقد أحبت كثيراً كما شهد الرب لها أمام سمعان وأمام الجميع. قد وجدت فيه حياة جديدة، وقد نشأت فيها صفة جديدة فضل ذلك الشخص المبارك. وهاهو الآن في مدينتها وقريب منها. قد لا تراه على الأرض مرة ثانية وقد لا تتاح لها فرصة أخرى مناسبة مثل هذه، رغم أنها قد تكون غير مناسبة في أعين الآخرين.إن هذه فرصة نفسها وقد تكون فرصتها الوحيدة وقد استغلتها أحسن استغلال. وهذا هو دائماً الحال حينما يعمل الإيمان البسيط ويستحث القلب. ليس هناك وقت تضيعه، وليس هناك أي عذر للتسويف، بل على الفور دخلت البيت وهناك « وفقت عند قدميه من ورائه باكية ». ويالها من وقفة طبيعية غير متكلفة تسطع بالجمال الأدبي العظيم. إنها بكل يقين لم تتعلم هذا الأدب المقدس من حياتها الماضية بل كان من عمل الإيمان بالمسيح في نفسها. هناك ابتدأت تبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها. وكان الرب يعرف كل ما جرى دون أن يلتفت لينظر إلى التي وراءه. نعم، كان يعرف كل شيء معرفة كاملة، أكثر من أي شخص آخر. غير أن عملها كان مدعاة لتهكم سمعان على الرب واحتقاره، لأن الإحساس السئ من غير المؤمن يتجه إلى الرب أكثر منه إلى اتباعه، ولو أنه لا يقول ذلك دائماً إنه كذلك. ومن الممكن أنه حتى سمعان لم يكن يسمح أن يعرف عنه الشعور ولكن الواضح أن هذا هو كل الاستنتاج الذي استخلصه من هذه الحادثة، وهو استنتاج لاشك من إملاء الشيطان « لو كان هذا نبياً لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي، إنها خاطئة ».قال ذلك في نفسه، ولكن الرب سمع وأجاب. ألم يأت ليخلص ما قد هلك، وليخلص سمعان أيضاً إن هو اتضع كما اتضعت هي؟ ولكن الوقوف موقف الخاطئ أمام الله بإخلاص هو أمر أشق على نفس فريسي متكبر معتد ببره الذاتي منه على امرأة خاطئة مسكينة لم يكن لديها من البر الذاتي ما تخسره.

ولكن النعمة والحق يستطيعان أن يحطما إرادة أمثال شاول الطرسوسي من جهة كما يستطيعان أن يشعرا الفاسد بعظم خطيته من الجهة الأخرى وهنا ما الذي حطم إرادة المرأة وخلق فيها المحبة؟ إنه يسوع للإيمان والمحبة الإلهية الظاهرة في يسوع. لكن المرأة كانت بحاجة إلى أكثر من ذلك، كانت بحاجة للغفران، وقد أعطتها النعمة حاجتها على الفور، وهو اليقين بغفران خطاياها فليس أبهج للقلب حقاً من أن يعرف غفران الخطايا في حضرة الله. والرب في محبته لا يترك الخاطئ يستنتج هذه الحقيقة لنفسه بل يعلنها واضحة صريحة، وهاهو ينطق كلمة الله التي تتلهف عليها النفس « مغفورة ك خطاياك ». وقد كان حقه أن يفعل ذلك. صحيح أنه لم يكن قد تم العمل الذي عليه يقوم غفران الخطايا، غير أن ديان الأحياء والأموات لا يمكن أن ينطق إلا حقاً كما أن ديان كل الأرض لا يمكن أن يصنع إلا عدلاً. وهكذا يدافع السيد عن المرأة موبخاً عدم إيمان الفريسي، فقد أظهر له المجد أنه رب الأنبياء، ثم نطق بغفران الخطايا كما يحق لله وحده. ومن فيض نعمته أخبر المرأة أن إيمانها خلصها، ومن ثم أرسلها في سلام.

فما لم نعرف أن الإيمان قد خلصنا وأن خطايانا مغفورة، تظل مسألة سلامنا شاغلة أذهاننا مستولية على تفكيرنا وهي بلا شك المسألة الهامة التي تواجه النفس بمجرد إحيائها. وهل تستطيع النفس التي استيقظت أن تجد راحة ما لم تعرف أن خطاياها قد محيت وأنها مخلصة؟ فإنه طالما تساور النفس الشكوك ويخامرها التردد والغموض فإن القلب يكون في حالة قلق وعدم استقرار. وما لم يكن لدينا اليقين بأن خطايانا قد غفرت، فمن الطبيعي أننا لا نكون في حالة تسمح للقلب بأن يتجه بالمحبة نحو الذين خلصوا من القلق واستقرت نفوسهم واستراحت، وإلى تلك اللحظة لا نستطيع أن نتخذ بالضبط مركز أولاد الله. وكما نالت المرأة هذا اليقين من شفتي الرب، نناله نحن بالإيمان من كلمة الله. وإذا لم يكن لنا في نفوسنا يقين علاقتنا الجديدة بقوة المكتوب، فلابد أننا حينئذ نتصرف بمقتضى حساسيتنا الخاصة أو أفكارنا الشخصية، أو ربما أفكار إنسان لا يعرف أفضل منا. على أنه حتى ولو كان هذا الإنسان أفصح الكارزين وأبلغهم، وحتى لو أنه لا يكرز إلا بالحق، فإننا مكلفون أن نقبل شهادة يمكن أن تفيد شيئاً في هذه القضية سوى شهادة الله وليس من قاعدة للإيمان سوى كلمته. إذن فلابد لنا أن نستمد الحق من الله، وكيف لي أن استمد منه؟ بالكلمة المكتوبة والمودعة الآن بين أيدينا.

إذاً فليس هناك من فأس يمكنك أن تضعه على أصل شجرة الحق أخبث وأشر من إنكار السلطان الذي للكتاب.

ومن أبرز علامات الإيمان في هذه الأيام هو ما يعتقده البعض أن الكتاب المقدس يضم بين دفتيه الكلمة ولكنه ليس كله الكلمة – كما يقول الملحدون الأكثر تواضعاً. ولكن الحقيقة هي أن ما علم به الرب والرسل هو الكلمة. وبما أن « كل الكتاب هو موحى به من الله » فإن الرب والرسل قد أقروا ما هو مكتوب لكنيسة الله. صحيح أنهم في تلك « الكتب النبوية » قد يذكرون ما يقوله الشيطان أو ما يقوله أناس أردياء لكنه أمر طبيعي أن هذه الأقوال لم تعط لنا لكي نتبعها بل لكي نعرف بها الأعداء بقدر ما تشاء إرادة الله – ولئن كان عدم الإيمان يقيم الصعوبات والعراقيل فإن المؤمن يتقبل من الله ما يقوله عن الشر كما يتقبل ما يقوله عن الخير. فالمكتوب هو بالحقيقة كلمة الله المعطاة لنا لكي نستفيد من حكمته ولكي نتحذر بها ونكون أقدر على تجنب كل شرك أو خطر يأتينا من جانب الشيطان أو الذهن الطبيعي المجرد.

منذ سفك دم المسيح، أو بعبارة أعم، منذ مات وقام، أصبحت الطريق التي بها تدخل النفوس إلى دائرة السلام هي طريق الإيمان بالإنجيل. ففي رسالة الإنجيل يعلن الروح نعمة الله المخلصة. والإيمان يجد في المسيح لا الحياة فقط بل السلام أيضاً. وهذا هو الإعداد الصحيح ليس فقط للطاعة بل لمحبة المؤمنين الذين هم أولاد الله مثلنا. لاشك أن الطبيعة الجديدة تحب، وإن الحياة الأبدية الموهوبة لنا لها القدرة والكفاية على المحبة، ولكن الجسد غير المدان إدانة صحيحة يقف عائقاً في الطريق. والنعمة تنادينا أن نلاحظ ونعرف هذا التناقض وعدم الانسجام قبل أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. فقد تكون هناك آلة بخارية جاهزة ومعدة بكل أجزائها للاستخدام ولكن لابد لها من البخار ليتسنى لها العمل والسير. وهذه صورة تشبيهية لما نراه في الأعداد التي أمامنا.

وهناك الجانب المظلم كذلك. « ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة ». فمهما تكن مواهب إنسان ما، أو مهما تكن جهوده ومساعيه، ومهما يكن صيته ونفوذه، فإنه إذا كان لا يحب فهو لا يعرف الله. والكلمة هنا قاطعة مانعة لا تدع مجالاً لأي خداع أو غرور. المولود من الله يحب أخاه ويعرف الله. إن مشاعره الإلهية الجديدة لها دائرتها الخاصة المحدودة، وهو له في نفسه تلك المعرفة بالله التي يقول سيدنا بصريح العبارة أنها الحياة الأبدية. وما قاله له المجد في (يو 17: 3) نراه هنا مستعاداً في عبارة تعليمية مختصرة من الناحية السلبية « من لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة » فحيث لا محبة، لا معرفة بالله. والسبب واضح بقدر ما هو حاسم « لأن الله محبة ».

والعددان التاليان يعلنان محبة الله في سمو نعمتها وكمالها، ذلك النهر المتدفق الذي يملأ القلب الخاوي ويجعله يفيض بالمحبة. فيحدثنا الروح القدس عن محبة الله في مظهرها الرائع في المسيح الابن مرسلاً إلى عالم الخطية والأنانية والظلمة. والواقع أنه يصورها لنا بعبارة يصعب العثور على ما يدانيها في جلالها وروعة بساطتها، « بهذا أظهرت محبة الله فينا ».فهو لا يقول أنها أظهرت « إلينا » أو « إلى الكل » كما يقول الرسول بولس في (رو 3: 22). صحيح أن محبة الله قد ظهرت إلى كل إنسان من حيث المبدأ ولكنها هنا محدودة ومنصبة « على كل الذين يؤمنون » كما هو الحال في نفس العدد المشار إليه في رسالة رومية. إنها ظهرت « فينا » بمعنى أنها تمت فعلاً في حالتنا وعملت عملها لأجلنا. ولما كان المقصود في العدد التاسع هو إرسالية ابن الله واستمرار مفعولها للحياة الأبدية، أو على حد تعبير الكتاب « لكي نحيا به »، فإن الروح القدس بمهارته الفائقة يستخدم الفعل « أرسل » ليس في صيغته الماضية البسيطة (Sent) بل في صيغته الدالة على الاستمرار (Hath sent) معبراً بذلك عن الأثر الدائم لعملية الإرسال الماضية البسيطة وفي ذلك حكمة تجل عن إدراك البشر. فو إن كان المقصود هو عملية الإرسال إلا أن الهدف كان أعمق وأعظم وأخطر ما كان يشغل الآب والابن سواء في الزمان أو الأزل. قد يكون الفارق طفيفاً، لأنه ليس سوى صيغة أخرى لنفس الفعل، ولكن بما أن كل الفوارق في الكتاب مرجعها الحكمة الإلهية فإنه يجمل بنا أن نتعرف المعنى المراد من كل منها. فالفعل « أرسل » في صيغة الماضي البسيطة يعبر عن مجد الحقيقة في ذاتها، ولو أنها حقيقية لها أثرها العظيم، أما الصيغة الأخرى الدالة على الاستمرار فتعبر عن الأثر الحاضر لعمل ماض وهو يتناسب مع إرساليته له المجد لكي نحيا به. فما أروع المكتوب وما أكمله!

« بهذا أظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي يحيا به » وما أدق حرص الروح القدس في تقرير جد شخص سيدنا في هذه الحالة! « ابنه الوحيد » لم يكن ضرورياً أن يكرر هذا الوصف في العدد التالي ولو أن الابن » بطبيعة الحال هو نفس الشخص في الحالتين. ولكن الروح القدس قد رأى لزاماً وحكمة سامية أم يميز ذلك العمل العظيم، الخطير في نتائجه الباقية الأبدية، وأن يصفه بلغة غاية في البساطة حتى يستطيع بعظمته الفائقة المجردة من كل زخرف أن يؤثر على القلب ويملأه لدرجة الفيضان بمحبة الله. « أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به ». هذا هو أول أعمال النعمة الإلهية، وهو عمل جوهري وكان لابد منه لسد حاجتنا الأولى إذا كنا حقاً أمواتاً روحياً. وهذا هو الحال مع كل نفس إلى الآن. إن المطلب الأول والبرهان الأول على محبة الله المدهشة أو أولئك الذين كانوا موضوع محبته حال كونهم أمواتاً يعطون الحياة. لم يكن ليهمهم أن يعرفوا الله وأن يعرفوا حالتهم. قد تكون لديهم بعض الآراء العقلية وليدة الذهن البشري، ولكن بدون نبضة حياة واحدة من نحو الله، ولو أن فيهم الضمير الذي يجعلهم يرتعبون منه تعالى أكثر من ارتعابهم من الشيطان.

ومع ذلك ففي مواجهة هذا التدهور والانحطاط « أرسل ابنه الوحيد إلى العالم » يالها من حقيقة!! وما أعجبها في حد ذاتها، وبخاصة ولم يكن لها من حافز سوى المحبة. إنها لم تكن شيئاً عمل في السماء، بل إلى العالم قد أرسل الله ابنه الوحيد ليعطي حياة يؤهلنا بها الله في ذلك المكان الذي منه جاء، فما من عمل كان يعمل في السماء ولو بالابن نفسه كان يرضي الله أو يفيد الإنسان، فكان طريق المحبة والحالة هذه أن يصير الابن إنساناً لكي يمجد الله ويهب الحياة في أسمى طبيعتها للإنسان الميت بواسطة الإيمان. كان هناك يهود، وكان هناك أمم، ولكنهم جميعاً كانوا على السواء أمواتاً في ذنوبهم وخطاياهم، وبالطبيعة أبناء الغضب. وكبشر كانوا أمواتاً وهو يعيشون على الأرض في صورة أحياء. لم تكن فيهم كراهة للخطية ولا محبة للنعمة. ولا ذرة من الاستقامة داخلاً أو خارجاً، فإن اهتمام الجسد، سواء في الختان أو الغرلة، ليس سوى عداوة لله، ومع ذلك فالله قد أرسل ابنه الوحيد مسرة الآب في كل الأزلية – أرسله إلى العالم لكي نحيا به. والحياة الموهوبة لنا هي حياته تبارك اسمه.

يخبرنا العهد القديم كيف سلك الجنس البشري بأجمعه، يهوداً كانوا أو أمماً، طوال الآلاف من السنين، مسلك العصيان أمام الله، ويحدثنا العهد الجديد بما هو أمر وأنكى. ومع ذلك فإن الله الذي كان يعرف كل شيء مقدماً أرسل ابنه الوحيد إلى العالم، ولأي غرض؟ هل لكي يدين العالم؟ كلا، بل لما هو عكس ذلك في خط مستقيم. لكي يحي النفوس الميتة بواسطة الحياة الأبدية التي في ابنه. وهذا هو الذي يعنيه القول « لكي نحيا به » فهناك كانت حياة جديدة لم يعرفها الإنسان كإنسان، ولا حتى آدم في حالة الطهارة الأولى في جنة عدن، يوم عصى هو محوط بالخير فجلب الموت والدينونة. وقد عرضت الحياة بعد ذلك للإنسان الطبيعي، لإسرائيل تحت الناموس، فإن هو أطاع الناموس عاش. ولكن نتيجة توسيط الناموس لم تكن سوى أنه صار خدمة موت ودينونة لأن إدخال الناموس أثار إرادة الإنسان ومن ثم صار متعدياً وبذلك أصبح بعد الناموس خاطئاً أردأ مما كان قبل الناموس فلكي تظهر الخطية أنها خطية أنشأت بالصالح موتاً لكي تصير الخطية خاطئة جداً.

وهكذا لم يستطيع الإنسان تحت الناموس أن يحصل ولو على إطالة حياته القديمة وكل ما حصده الخاطئ تحت الناموس إنما كان الخراب الشامل.

غير أنه كانت هناك حياة أخرى، الحياة الأبدية، وهذه الحياة كانت في الابن، الابن الوحيد الذي أرسلته محبة الله إلى العالم. هذا كانت فيه الحياة. لا شك أن الآب يقيم الأموات ويحيي من يشاء لأن ذلك من حق الله. ومن أجل ذلك فإن الابن أيضاً يحيي من يشاء. ولكنه إذ صار إنساناً – مع أنه لم يتوقف قط عن أن يكون الله – فإنه في كامل الاتضاع يتقبل كل شيء من الله كما يليق بالإنسان الكامل. ومن هنا نفهم معنى قوله الكريم « لأنه كما أن الآب له حياة في كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته » (يو 5: 26) فالابن هو الذي أرسل ليصير إنساناً وخبيراً بالإنسان. لقد كان دائماً أبداً غرض الإيمان، وعندما صار إنسانا ًظل هو هو ومن باب أولى موضوع الإيمان باعتباره يسوع المسيح والابن في شخص واحد. وكذلك  وضح بصورة متزايدة لمن من الخلائق قد جاء له الجد في محبة الله. نعم، وضح وتجلى أنه من أجل الإنسان قد جاء وليس لأجل الملائكة، إذ « الحياة كانت نور الناس ». ولكن مجرد النور لم يكن يكفي لسد حاجة الناس فمع أن المسيح لما جاء إلى العالم كان ينير كل إنسان، بل كان هو النور لكل إنسان فإن الأمر كان يتطلب ما هو أزيد من ذلك بكثير، كان يتطلب حياة للأموات، ومن أجل ذلك جاء المسيح باعتباره الحياة لكل مؤمن. وكل الذين قبلوه أعطاهم سلطان أن يصيروا أولاد الله. وهكذا ولدوا ليس من إنسان أو من أي مصدر من مصادر الطبيعة البشرية بل من الله ولكن لا يمكن أن يكون هناك إيمان أو ولادة جديدة دون الكلمة والروح. عم لابد من وجود كلمة الله لأن جوهر الإيمان أنني عوضاً عن تصديق أفكاري الخاصة أو أفكار الآخرين أصدق الله في كلمته (رو 10: 17، يع 1: 18، 1بط 1: 23 - 25) والمسيح هو الزرع الذي لا يفنى، بكلمة الله الحية الباقية.

عندما أخطأ آدم وحواء في الجنة، كان سبب ذلك نسيانهما لكلمة الله وعدم خضوعهما لها. فأغويت حواء بغواية الحية أما آدم فلم يغو بل بجسارة تعدى. كل ذلك لأن كلمة الله لم تسيطر على نفسيهما. فوجد العدو الماكر ثغرة استطاع من خلالها أن يبذر بذارة سوء الظن بالله الذي نهاهما عن الأكل من الشجرة قالت الحية أنهما لو أكلا منها يصيران كالله عارفين الخير والشر ثم أعقب ذلك دخول الشهوة واتجهت في قلب المرأة صوب تلمك الشجرة بعد أن لم تعد تخشى الحديث لفرصة أطول مع مخلوق قد وضح جلياً أن غرضه لم يكن إلا إغواء المرأة على عصيان النهي الإلهي، والشك في حقيقة الموت كنتيجة للعصيان. وكأني بتلك الحية القديمة تقول للمرأة: « ليس هكذا يا عزيزتي. حاشا لله أن يكون قاسياً إلى هذا الحد. تطلعي إلى جمال الشجرة وأبهجي عينيك بمنظر ثمرتها الكثيرة بأن تصير كما حكيمين. إن الله يريد أن يحتفظ بمعرفة الخير والشر لنفسه دون سواه. إنكما بالأكل من هذه الشجرة ستجدان أنكما قد انتقلتما إلى حال جديد يختلف عن الأول كل الاختلاف إذ يكون في مقدوركما مستقلين ومن تلقاء نفسيكما التمييز بين الخير والشر. إنكما لا تعرفان شيئاً عن هذا الآن، ولكنكما حين تأكلان من هذه الشجرة ستعرفان من مجرد وحي الضمير كما إذا كان الشيء خيراً أو شراً، فلماذا لا تسموان بنفسيكما إلى حالة الاستقلال عن ذلك الذي يزدري الإنسان، وتتمسكان بحقوقكما كسيدين لكل الخليقة التي حولكما ».

إنها الذات، أصل الداء ومنبت الشر، ولكن ابن الله جاء بالمحبة ليقف في الثغرة ومن ثم فإن لضرورة الأولى هي إلى طبيعة من الله تتوق وتصرخ إلى الله ليهبا ما يقدمه الإنجيل ومعنى ذلك أنه لابد أن يولد الإنسان من الله قبل أن يرتاح راحة حقيقية على كفارة المسيح. ذلك لأنه إذ يحصل على الحياة الجيدة بهذه الكيفية يدرك في الحال ضرورة الكفارة وقيمتها الثمينة، وهكذا بالإيمان يأكل جسد المسيح ويشرب دمه، ولذلك يقال عنه أنه يؤمن بقلبه أن الله أقام المسيح من الأموات (رو 10: 9). وهذا ليس معناه عاطفة جياشة معينة تستولي على الإنسان في وقت من الأوقات. كلا، دخل لمشاعر النفس وانفعالاتها في الأمر، بل معناها أن قلب الشخص المتجدد عوض أن يقاوم الحق أصبح طائعاً مرحباً ببشائر الخلاص التي يرسلها الله إليه، وكما أن القلب يؤمن به للبر المؤسس على تقدير الله لعمل الرب يسوع الكفاري، كذلك الفم يعترف به للخلاص وبهذا يكرم الله وابنه، الرب المرفوض.

ولكن أول مطاليب النفس وحاجتها القصوى هي الحياة، الحياة الأبدية في الابن. فقبل أن يحصل الإنسان على الحياة ألا يكون عنده الشعور الكافي بالخطية إذ كيف يتسنى له قبل ذلك أن يعرف طبيعة الله المقدسة معرفة صحيحة. إنه لا يعرف سوى الرعب من الله، وهذا قد يتوفر لدى الوثني، بل أن الشياطين تؤمن وتقشعر كما نتعلم من الكلمة وهو ما نجد فيه التفسير لحقائق كتابية كثيرة. ومبعث خوفها واقشعرارها أنها تعرف جيداً أن لا غفران لعصيانها. ومع أنها لا تعرف من هو يسوع فإن هذه المعرفة لا تفيدها شيئاً لأنه مقضي عليها بإهلاك إذا أخطأت خطأ لا علاج له، فلا أمل في خلاص أي روح شرير أو ملاك ساقط.

ولكن الأمر مختلف كل الاختلاف فيما يتعلق بالإنسان. فإن ذات ميلاد المسيح يشهد للمسرة بالناس، فكم بالأحرى موته الكفاري! على أنه لكي يتسنى لدمه المسفوك أن يطهر القلب والضمير لابد لنا من طبيعة جديدة نعطاها بقبولنا الرب يسوع. وهي ليست الراحة الكاملة على عمله الكفاري بل الإيمان بنعمته كمن جاء في الجسد وبمجده كمن جاء بهذه الإرسالية العجيبة وإرسالية محبة الله. وما إن يقبله القلب من الله على هذه الصورة حتى تنال النفس الحياة على الفور. فالحياة هي دائماً شيء يتم مرة واحدة وفي الحال ولكنها ليست دائماً مصحوبة بالسلام فإن النفس في الواقع قد تجوز بعد ذلك في اختبارات ليست بقليلة لا تكون في خلالها متمتعة بالسلام الحقيقي وقد تدوم هذه الحالة شهوراً بل أعواماً، ومع ذلك فإنها تكون شريكة الطبيعة الإلهية بواسطة الخضوع لابن الله ولو بدون سلام ثابت. ومثل هذه النفوس تكون حاصلة على الحياة من اللحظة التي فيها قبل القلب الرب يسوع، وبذلك يكون لها الإدراك الإلهي لحقيقة وجود الشر  في الداخل والحكم الصحيح على طرقها الماضية ليس فقط ما فعلته بل ما هي في ذاتها وحقيقة طبيعتها، وهذه هي ثمرة نوال الحياة الإلهية. ومن هنا جاءت الإشارة إليها في الوقت المناسب والمكان المناسب، إذ يحدثنا عنها الروح القدس قبل أن يحدثنا عن تطبيق وتخصيص الكفارة لخلاص النفس من ثقل الخطية.

« بهذا أظهرت محبة الله فينا (أي في قضيتنا) أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به ». ذلك أننا إلى ذلك الوقت كنا أمام الله أمواتاً روحياً مجردين إطلاقاً من أية رابطة حية مع الله سوى تلك المسئولية الرهيبة الناشئة عن كوننا بالطبيعة ذرية الله مع كوننا في الوقت نفسه أعداء الله بالأعمال الأثيمة. على كوننا ذرية الله بحكم خليقتنا (بالمباينة مع العجموات البائدة) لا يفيدنا شيئاً في خلاص نفوسنا التي أتلفتها الخطية. فقد سقط الإنسان وهو تحت المسئولية وما كان تعهد اليهودي بطاعة ناموس الله إلا ليزيد في مسئوليته ولم يستطع البتة إنقاذه من الغضب الآتي. وعندئذ اصبح العالم معسكرين: أحدهما الإنسان بدون الناموس عاملاً مشيئته الخاصة وثانيهما اليهودي تحت الناموس محاولاً جهده لكسب رضاء الله. ولكن النعمة المخلصة ليست في الخاطئ بل في المخلص. « الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا ». هذا هو الإنجيل. ليس محبتنا نحن لله بل محبته هو لنا ونحن بعد خطاة – محبته التلقائية من نحونا.

وهنا أيضاً يتجلى هذا المظهر الثاني من مظاهر محبة الله، حيث يرسم لنا الرسول ما فعلته محبة الله إزاء ثقل خطايانا وليس فقط إزاء موتنا الروحي. نعم فقد عملت محبة الله ذات العمل الذي كان فوق كل شيء أقسى على قلبه وقلب ابنه من كل ما يمكن أن يخطر على بال. فالإنسان لن يستطيع أن يدرك معنى احتمال ربنا يسوع لدينونة خطايانا من يد الله، الأمر الذي فاق أيضاً أفكار القديسين، إذ حتى الرسل أنفسهم لم يروا إلا الناحية الخارجية للصليب إلى أن فتح الرب ذهنهم ليفهموا الكتب.

على أن الكتاب قد سبق فأشار برموز عديدة ومنوعة إلى الرب في نعمته الكفارية وآلامه التي لا حد لها، وذلك في كل أجزائه، في الناموس وفي المزامير وفي الأنبياء. فما من تلميذ من تلاميذ الرب إلا وقد سمع ذلك المزمور الفريد، الثاني والعشرين. وما من أحد منهم غلا وقد حيره الإصحاح الثالث والخمسون الذي ينطوي عليه. إلا أن قيام الرب يسوع بصنع الكفارة لخطايانا فيه حل اللغز المتضمن في هذه الفصول الكتابية الثلاثة. إن كلمة واحدة لم تخرج من فمه الحبيب قبل الصليب لتوضيح هذه الفصول أو لفتح مغاليقها. ولا حتى منظره مصلوباً استطاع أن يوصل الحق إلى قلوب تلاميذه. صحيح أن د صليبه صنع السلام في فكر الله، أما لديهم فكان سبب حزن مرير وخيبة أمل قاسية لأن أقواله السابقة قد وقعت عل آذان كانت بعد صماء عن إدراك معنى موته إذ كانوا لا يعرفون المكتوب أنه ينبغي أن يتألم لكي يحصلوا هم وغيرهم على بركة الفداء، وهاهم تلميذا عمواس العابسان يصوران في ذات يوم القيامة حالة جميعهم إذ يقولان للرب نفسه « ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل » – هو ذات الشيء الذي وضع بالصليب أساسه الأبدي! ولكن بماذا أجابهما المخلص المبارك؟ « أيها الغبيان والبطيئا القلوب في جميع ما تكلم به الأنبياء. أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟ » ومع ذلك فكان قد أخبرهم قبل هذا الوقت بقليل أنه « ينبغي أولاً أن يتألم كثيراً ويرفض من هذا الجيل » (لو 17: 25).

دعنا في نور الرب المقام وفي ضوء شهادة الروح القدس نتأمل في أحد تلك الإصحاحات. ماذا تعنيه تلك الصرخة القوية التي صدرت لا من اللصين عن جانبي الصليب بل من المسيا المرفوض المعلق بينهما؟ « إلهي إلهي لماذا تركتني »إن أقسى مرارة في تلك الآلام التي لا مثيل لها هي هذه، العبد البار المحبوب، متروكاً من إلهه في الوقت الذي كان فيه مرفوضاً من شعبه، مستهزأ به من الأمم، مهجوراً من تلاميذه، أي نعم لماذا – بعد أن ظل الرب طوال خطوات طريقه في التجربة والأحزان متمتعاً بضياء وجه الله بلا انقطاع – لماذا يحجب عنه ذلك الضياء في الوقت الذي كان فيه أشد حاجة إلى إشراقه وتعزياته؟ لقد كان الرب يعرف السبب جيداً، ولكنه ترك الجواب للإيمان يستخرجه من قلوب أولئك الذين كانوا مرة أمواتاً ولكنهم استطاعوا الآن – بفضل ذاك الذي حمل هو نفسه خطاياهم في جسمه على الخشبة – أن يعترفوا بأنه لم يكن لديهم سوى خطاياهم. حقاً ما كان أعمق إثمنا! ولكن أعمق منه بكثير كانت محبة الله الذي أرسل ابنه فقط كحياة للأموات بل كفارة لخطايانا مهما كان الثمن، وقد كان أعظم من أن يقاس: تعييرات، وازدراء، وضحك، واستهزاء، وسهام سخرية تطعنه من كل جانب، من رجال الدين والسياسة والجندية، بل حتى من ذينك المجرمين المصلوبين، ثيران كثيرة، أقوياء باشان، اكتفنته، كلاب وجماعة من الأشرار أحاطت به، آلام بدنية زاده إحساساً بها ولم يخفف وقعها عليه كماله الشخصي، حينما انسكب كالماء وانفصلت كل عظامه، ذاب قلبه كالشمع ويبست مثل شقفة قوته ولصق لسانه بحنكه. ولكن ما هذا كله مجتمعاً بالمقابلة مع تركه من إلهه كما أحس هو واعترف به تبارك اسمه؟

لقد لاقى الكثيرون من قديسيه آلاماً بدنية مبرحة من الأمم ومن اليهود، وكانوا في ذلك العناء الثقيل مملوئين صبراً وسروراً، وقد رأينا في تاريخ الكنيسة بعد ذلك الكثيرين من تلاميذه يجرعون كؤوساً مترعة من التعذيب الجهنمي من أولئك الذين يحملون اسم المسيح ظلماً وعدواناً، سيما في عصور محاكم التفتيش المظلمة، ومع ذلك فقد انتصروا هم أيضاً باسمه الكريم على من يعتبرون بحق أشر المضطهدين على الأرض، أما سيدنا فهو وجده الذي يعترف بفمه أن الله تركه، ويعترف بذلك لله في شدة أوجاع الصليب وأهواله العنيفة باعتباره أعمق وأقسى وبل جازت فيه نفسه، ويعترف به بصوت عظيم وصرخة داوية حتى يسمعها الأعداء ولو أنهم لم يدركوا من معنى تلك الصرخة وذلك الاعتراف أكثر مما أدركه أحباؤه إلى أن أوضح الرب المقام كل شيء وأبده بعد ذلك الروح القدس بقوة لسلام المؤمنين والشهادة للجميع.

ولكن الرب الوديع صنع ما هو أكثر من ذلك، فمع إحساسه تبارك اسمه بوقع ترك الله إياه على نفسه القدوسة والمحبة، فإنه مع ذلك برر الله وهو يضربه ويسحقه بطريقة تجل عن تفكير كل مخلوق إذ يقول « وأنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل ». وأكثر من ذلك أنه يعترف – سمه كل المجد – أن ترك الله إياه كان الاستثناء الوحيد في كل معاملاته مع المتوكلين عليه إذ يقول « عليك اتكل آباؤنا، اتكلوا فنجيتهم، إليك صرخوا فنجوا. عليك اتكلوا فلم يخزوا، أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب ». أجل، لقد كان لابد من ذلك إذ جعل نفسه كفارة عن خطايانا، لأننا نحن المذنبين ما كان ممكناً أن نخلص خلاصاً يتفق مع بر الله لولا أن الله جعل الذي لم يعرف خطية لأجلنا لكي نصير نحن بر الله فيه. هذا وهذا وحده، هو الجواب الصحيح للصرخة المريرة « لماذا » وهو الحل الوحيد الكامل لهذا اللغز الإلهي العجيب، لكنه لغز لا يزال طلسماً في عيون عديمي الإيمان وبخاصة لإسرائيل ولو أنه سيكون في يوم قادم أنشودة سبه دائم في أفواههم حين يرفع البرقع عن قلوبهم. وهكذا نرى النصف الثاني من ذات المزمور يعلن هذه الحقيقة في وضوح ويقين مبتدئاً بالقطيع المسيحي الصغير قبل أن يبزغ نور السماء على « الجماعة العظيمة » (عدد 25) ويمهد السبيل المستقيم لأقاصي الأرض لتذكر وترجع إلى الرب، ولجميع قبائل الأمم ليسجدوا قدامه، وذلك ليس في أيام المسيحية والكنيسة، بل في أيام الملكوت حين يملك الرب بين الأمم، الأمر الذي لا ظل له في الوقت الحاضر.

وإنه لمن الأهمية بمكان عظيم أن تتجلى لأبصارنا هذه الحقيقة الخطيرة، أي ترك الله للمسيح في تكفيره عن الخطية، لأن هذا الموقف هو الأساس الوحيد لنعمة الله واستقرار سلامنا. وبهذا وحده نستطيع أن نقدر تقديراً صحيحاً ولو ضعيفاً عمق آلام رجل الأحزان والأوجاع التي تحملها لأجل الله ولأجلنا، ممجداً إيانا نحن الذين نؤمن. وهنا تزل أقلام بعض اللاهوتيين، حتى الأنقياء منهم، بحيث تعود الخسارة عليهم وعلى الذين يثقون بهم. وليس الأمر هنا قاصراً على التقليديين، ولكن خذ الإنجيليكانيين واللوثريين والمصلحين ومن على شاكلتهم ممن يتباهون بتحريرهم من التقليد والتعصب، ولعل أبرزهم متى هنري الابن الورع لآب ورع، وأشهر الشراح الإنجليز بلا منازع، فإنه انزلق ولم يفطن للمعنى الجليل الذي ينطوي عليه ترك الله ليسوع على الصليب، ذلك أنه في تفسيره للعددين الأول والثاني من هذا المزمور يقول ما نصهفي هذين العددين نسمع شكوى أليمة من احتجاب وجه الله. وقد ينطبق هذا على داود أو على أي واحد من أولاد الله حينما يحسون فقدان علامات رضوان الله ويشعرون بثقل وطأة الغضب الإلهي، لاشك أن متى هنري كان يؤمن بانطباق ذينك العددين على المسيح مصلوباً وإلا فما يمكن حسبانه مسيحياً. على أن إيمانه بهذا المعنى سطحي كما لابد أن يكون الحال لدى جميع الذين يتجاوزون في التطبيق شخص المسيح إلى سواه من القديسين. إن المزمور الذي نحن بصدده إنما يتحدث عن المسيح وحده، فهو هدفه وهو محوره، وهو في مطلعه يرينا شخصه الكريم دون سواه متروكاً من الله باعتباره كفارة عن جميع القديسين السابقين واللاحقين. فما من أحد ساهم في هذا الموقف، موقف الترك من الله، الذي ما كان أحد غيره يستطيع أن يحتمله مع شدة قسوته عليه باعتباره قدوس الله أكثر بمراحل من قسوته على أي قديس ظهر على وجه البسيطة حتى أنه تبارك اسمه ينكر على سابقيه في العهد القديم مشاركة هذا الموقف (موفق الترك من الله) والروح القدس في العهد الجديد يستبعده عن كل مسيحي. ذلك أن المسيح ترك من الله لأجل خطايانا حتى لا نترك منه نحن الذين نؤمن، فمن الخطأ التام القول يعملون على إضعاف الإنجيل ضعفاً خطيراً وهم لا يدرون. فإنه حتى حينما تدعو خطية المؤمن إلى تأديب قاس فإن الله يعامله كآب يؤدب الذي يحبه ويجلد كل ابن يقبله لأننا في أشياء كثيرة نعثر جميعنا، لكنه قال « لا أترك ولا أهملك ». هذا حق مطلق من حقائق نعمته، وكما أنه ينطبق على الصعاب الأرضية ينطبق بالأكثر على الصعاب التي تعترض علاقتنا الإلهية المؤسسة على فاعلية كفارة المسيح.

ولا داعي هنا للرجوع إلى الشهادة الرمزية التي ينطوي عليها يوم الكفارة وإنما أود فقط أن أشير إلى الظاهرة الجميلة التي تميز التيسين اللذين يرمزان معاً إلى التقدمة الكفارية الواحدة عن بني إسرائيل، أحدهما من نصيب الرب والآخر لعزازيل (وهو التيس الذي يتوه بعيداً). فكان التيس الأول يذبح ويؤتى بدمه إلى داخل الحجاب. أما التيس الثاني، وهو المكمل للأول، فكان الكاهن يعترف على رأسه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، وكأنها وضعت جميعها على رأسه، ثم يرسله بيد من يلاقيه إلى أرض بعيدة، إلى البرية حيث لا يعود يرى مرة ثانية وهو شهادة لنيابة المسيح في حمل خطايانا إلى أرض النسيان، كما أن التيس المذبوح شهادة للتكفير عن الخطية المقضى عليها أمام الرب تبريراً لطبيعته تعالى وجلاله وكلمته وكلا التيسين يرمزان إلى عمل المسيح الكفاري الذي رأينا الله فيه غير مشفق على المخلص، ابنه الكريم، لكي يخلي طرف خطاة مذنبين نظيرنا. وألسنا نرى أن محبة الله في الآب والابن قد تجلت تماماً في ذبيحة المسيح التي قدمها لله نا لكي ننجو نحن ونخلص إلى الأبد؟

أما عن (أشعياء 52: 13 – ص 53) فنقول كلمات قليلة لأنه صريح في إشارته إلى مسيا المرتفع المتسامي جداً ولكنه المتألم أولاً عن الخطايا تكفيراً لشعبه الخاطئ لكي يتسنى لهم أن يساهموا في البركة والكرامة اللتين اكتسبتهما لهم نعمته السامية. صحيح أننا نقاسم المسيح آلام حياته، والبعض يقاسمونه آلام استشهاده، غير أنه تفرد في آلام الكفارة والنيابة. وهاتان فقط (الكفارة والنيابة) هما المرموز لهما في لاويين 16، وهما فقط اللتان جلبا عليه ترك الله له في مفتتح المزمور الثاني والعشرين. نعم فهو وحده دون سواه الذي احتمل دينونة الله للخطية ولخطايانا، وليس سوى هذه الدينونة يجلب الترك من جانب الله. قد نحتمل تأديباً قاسياً من أجل أخطائنا، ولكنه تأديب في محبة الله. أما المسيح فهو وحده الذي احتمل ذلك النوع الفريد من الألم باعتباره ذبيحة خطيتنا. فما معنى القول مجروح لأحل معاصينا؟ مسحوق لأجل آثامنا؟ تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا؟ وما معنى القول أن الرب وضع عليه أثم جميعنا؟ « ضرب من أجل ذنب شعبي ». بل أكثر وأدق من ذلك أن « الرب سر بأن يسحقه بالحزن » (أو بالألم) « إن جعل (الرب) نفسه (أي نفس المسيا) ذبيحة الرب أثم ». وما معنى هذا إلا عمله الكفاري؟ ثم ما معنى القول « وآثامهم هو يحملها » والقول « وهو حمل خطية كثيرين »؟ حقاً إن عدم الإيمان الأعمى العنيد وحده هو الذي يستطيع أن يتملص من المعاني التي يعلنها الله هكذا واضحة جلية على قدر سعة الكلام الذي يفهمه الناس.

« في هذا هي المحبة. ليس أننا تنحن أحببنا الله ». لقد كان الناموس يطالب الإنسان بمحبة الله ولكنه لم يجدها منه كما لم يجد منه محبة القريب. ومن السهل على الإنسان أن يخدع نفسه من جهة تقدير محبته. فكم من يهود حاولوا أن يوهموا أنفسهم أو الآخرين بأنهم كانوا يحبون الله والإنسان، ولكن المستوى الذي كانوا يقيسون به كان دون مقياس الله بمراحل كما أوضح ذلك الرب يسوع لما كان هنا على الأرض. فما لم يتحرر القلب بفداء المسيح ويكن له سلام مع الله فإنه يستحيل على المحبة أن تحطم حواجز الموت أو تخترق أغشيته السميكة. وحتى القديسون تحت الناموس يشبهون روحياً لعازر مربوطاً بأكفانه، حياً ولكنه بحاجة لمن يحله ويدعه يذهب. وكيف السبيل إلى ربح القلب؟ « في هذا هي المحبة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا » فعلى قدر ما يكون الضمير حياً ونحن تحت الناموس بالروح ى قدر ما نكون أقل سعادة. فإن المؤمنين الذين يعانون اختبار رومية 7 لا يسيرون خفافاً أحراراً أمام الله بل يشعرون بوطأة تقصيراتهم ويضنيهم الحزن والقلق على نفوسهم، إذ يقيسون موقف الله من جهتهم بمقياس موقفهم هم من جهته، ناسين أن الله الذي يبرر الفاجر بكفارة المسيح عن الخطايا قد أعطانا بذلك البرهان الأكيد الكامل على محبته لنا ونحن عد خطاة.

إن الحياة كما رأينا تسبق السلام. فقد يتنبه شخص بواسطة فصول كتابية نظير إنذارات الله وأقواله الخطيرة بخصوص الخطية والخطاة، وهذا نراه واضحاً في مثل الابن الضال الذي يرد مباشرة بعد الخروف الضال والدرهم المفقود. ففي مثل الدرهم المفقود يصور الرب حالة الهالك بصورة الميت، بينما يصوره في مثل الخروف بصورة المتحرك الضال فهناك حياة شريرة يكون فيها الإنسان عاملاً متحركاً. وهناك حياة يكون فيها خامداً ميتاً. هذان المظهران من مظاهر الموت نجدهما في المثلين الأولين، فالخروف الجاهل الذي ضل بلا اكتراث معرضاً نفسه لجميع المخاطر هو الإنسان الناشط المتحرك في حياة البعد عن الله. أما الدرهم المفقود فهو الإنسان الميت في خطاياه. والراعي يسعى ويكد محتملاً كل العناء باحثاً عن الضال، والنور يضيء بعمل الروح القدس حتى يوجد الدرهم المفقود، وليس هذا هو الكل ولا يفق الرمز عند هذا الحد. فلابد من الابن الضال ليكمل الصورة، وهنا يظهر عمل اعمل الله المزدوج. فأولاً نرى الضال « يرجع إلى نفسه » أي يتوب. يحكم على نفسه أنه خاطئ، ويعترف أنه أخطأ إلى السماء وقدام أبيه حسب منطوق المثل، فهو إذن سائر في الطريق الصحيح، يطلب الله. كان قبلاً يطلب شهواته أما الآن وقد رجع إلى نفسه فهو « يقوم ويذهب إلى أبيه ». ولكنه غير متمتع بالسلام بعد. هو لا يزال بالروح تحت الناموس لأنه يريد أن يقول لأبيه « اجعلني كأحد أجراك » وهذا عين ما يفعله الناموس، فإنه عوض أن يقود إلى الحرية يقيد النفس بأغلال العبودية. أما الإنجيل فهو وحده الذي يخبرنا أن جميع الأغلال قد حطمها المخلص وأن العبد قد جيء به إلى حرية المسيح. انظر كيف يتجلى هذا في أسلوب النعمة مع الابن الضال. « وإذا كان لم يزل بعيداً رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله ». لاشك أنه كان قلقاً من جهة نفسه وأن الأفكار والتصورات قد نازعته عن كيفية استقبال أبيه له، ولكن العجب أن الآب هو الذي يركض لمقابلة الابن. الآب هو الذي يعانقه رغم شره وأسماله الرثة. أما الابن فما أبشع منظره الذي أوصلته إليه جهالته وخطاياه! وأما الآب فما أعظم محبته الغامرة الغالبة! إنه لا يسمح للابن أن يقول اجعلني كأحد أجراك بل يأمر بالحلة الأولى تخرج له والخاتم يوضع في يده والحذاء في رجليه والعجل المسمن يذبح وتعمل وليمة لم يشهد البيت نظيرها من قبل. كل ذلك لابن كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوجد.

وهكذا نتعلم تصويرياً ما نجده مشروحاً في الكتاب تعليمياً، وهو أن صلاح الله يقتاد إلى التوبة ويحول النفس من الاتجاه الصائب في حكم صحيح على الذات وعلامات أكيدة على الحياة الإلهية. ولكن لنلاحظ أن ذلك الابن لم يتمتع بالعتق من الخوف أو الناموس إلا بعد أن ضمه حضن بيه وأدرك البنوة إدراكاً كاملاً بالنعمة. حينئذ، وحينئذ فقط، أدرك أن الجو صاف وأن السلام موفور والفضل في هذا لحضن الآب الذي جعل كل شيء واضحاً وجلياً وأن كل هذه المعاملة الطيبة مصدرها ذلك الحضن الكريم المحب. هذا هو الحال في الإنجيل، ولكن من أسف أن الكثيرين يقفون عند العتبة. صحيح أنهم خرجوا من الكورة التي لم يوجد فيها من يشفق أو يرق لأشد عوز أو احتياج، ولكنهم لم يذهبوا بعد إلى الآب الذي مع الابن يمنحنا كل شيء بكرم وسخاء. وهذا هو المكتوب هنا أيضاً « في هذا هي المحبة » – حياة للأموات وكفارة للخطاة. أليست هذه بركة أعظم مما لو لم نكن خطاة؟ إن آدم في الجنة لم يكن له شيء مثل هذا فلم يكن لآدم حياة كحياة المسيح لأن هذه الحياة لم تعط للجنة. قد يكون حاصل عليها فيما بعد، شأنه شأن المؤمنين الآخرين من قديسي العهد القديم، لكنها لم تكن له قبل ذلك. فالواقع أنه حينما قدم الإنسان أردأ ما عنده قدم الله أحسن ما عنده. هذا هو المسيح ليس فقط آتياً ليعطينا حياة بل مائتاً ككفارة لخطايانا.

عندما نفكر في مجد سيدنا الذي مات كفارة لخطايانا وفي آلامه وبخاصة من يد الله. وعندما نفكر في جميع خطايانا وآثامنا التي حملها كفارياً – أقول عندما نفكر في هذا وذاك جنباً إلى جنب كم يتبدى لنا كمال ذلك الملء الذي به استطاع دون سواه أن يسد الثغرة الهائلة التي كانت تفصل بين الله والخاطئ. هذا هو المعنى المتضمن هنا « ليس أننا أحببنا الله » – قد نكون حاولنا أن نحبه، ولكن إن كنا فعلنا ذلك، فقد فشلنا فشلاً ذريعاً. ذلك كان شأن الناموس، أما الإنجيل فيعلن أنه « هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا ». لقد أكمل كل شيء بعمله الواحد وبذبيحته الواحدة. « المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من أجل الخطايا. البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله » (1 بط 3: 18). لقد كان إنساناً، ولكن ألم يكن الله؟ بلى، هو الابن، وقد قام من الأموات. وفي قيامته الدليل المجيد على نصرته. وما كان ممكناً في الواقع أن يفشل. وهل يمكن أن الله يفشل؟ وألم يكن هو ابن الله الوحيد؟ إذا كنا نؤمن بالمكتوب فينبغي ألا نرتاب البتة في هذه الحقيقة. إن الخوف والفشل أمران طبيعيان في الإنسان الساقط، فهو خاطئ ولهذا هو يفزع من دينونة الله. ولكن الله لا يطالبك أن تثق بنفسك بل أن تؤمن بالرب يسوع المسيح. هو يعلم جيداً إنك لا تحبه، ومن أجل ذلك يأمرك أن تؤمن بمحبته الظاهرة في المسيح وفي موته ككفارة لأجلك. لا تقل أن شرك أكبر من أنلا يحتمل، أنت فعلاً شرير لأكثر درجات الشر، بل وأفظع جداً مما تظن. ولكن خذ موقف « الهالك » بكل إخلاص وأمانة، وهذا سيضع حداً لكل أفكارك عن شرك ورداءتك. فإنه من أجل الهالكين قد جاء المسيح ومات.

لقد ظن الابن الضال أنه عندما اعتزم أن يطلب إلى أبيه أن يجعله كأحد أجراه، أي كواحد من خدمه، ولكن الواقع أنه لم يكن أهلاً لمركز أجير. وإلا فهل تظن أن أحداً يقبل في خدمته شخصاً بيده شهادة سير وسلوك كشهادة الابن الضال؟ إن صفاتنا لا دخل لها في الموض1وع على الإطلاق فإن النعمة المطلقة تتسامى فوق كل خطية وإثم، وما على النفس إلا أن تأخذ مركز الخاطئ وتدع الله يظهر غنى نعمته ومحبته، فما يفعله الله في هذه الحالة هو أنه يمنحني ليس فقط الحياة لحس بما يليق بالله ويليق بأحد أولاده بل يمنحني أيضاً الكفارة التي تواجه كل خطاياي وتبعدها عني إلى الأبد. وإنما اعلم هذا وتذكره جيداً، إن الكفارة إما أنها تكفر عن كل الخطايا أو لا تكفر عن شيء منها على الإطلاق. الكل أو لا شيء. هذه هي طريقة الإنجيل التي يسوي الله القضية. وهذا هو المطلوب من كل مؤمن أن يرتاح عليه.

أيها القارئ العزيز، هل أنت مرتاح هكذا في المسيح؟ هل يخطر ببالك وأنت مؤمن بيسوع ابن الله الوحيد أن تقول « اجعلني كأحد أجراك »؟ إن ذاك الذي جاء كإنسان بالحياة الأبدية، يجعلك بنفس هبة هذه الحياة تشعر بوطأة خطاياك وفي الوقت نفسه تؤمن أنه كفارة لهذه الخطايا. لقد كان في النظام اليهودي ذبائح مستمرة وتقدمات متكررة، ولكن الآن في الإنجيل، ومنذ قدم الابن نفسه، يوجد غفران للخطايا وليس بعد ذبيحة عن الخطية (عب 10: 18) لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين، أي المفرزين لله، ليس بالناموس الآن بل بدم المسيح.

أيها الأخ الحبيب، هل هذا هو إيمانك؟ ليته يكون كذلك، وليتك تجد مسرتك فيما يعلنه الرسول يوحنا عن محبة الله الظاهرة في إرسال ابنه للغرض المزدوج: الحياة والكفارة. وهل من شيء آخر يمكن أن يبين بمثل هذه الصورة الكاملة حقيقة وطبيعة المحبة التي من الله؟ تلك المحبة التي لا شأن لها على الإطلاق بمجهودنا الشخصي؟ إنها تنبع من الله. على أننا إذا كنا مولودين من الله. فإننا نكون شركاء طبيعته. وإذا كنا شركاء طبيعته، فقد أعد الوسائل الكفيلة برفع كل ما من شأنه تعطيل ممارسة هذه الطبيعة. إن إنساننا العتيق لا يزال موجوداً كحقيقة واقعة، ولكننا نعلم أنه قد صلب مع المسيح ليبطل جسد الخطية لكي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية.

على أنه إذا تحولت العين عن المسيح فإن الطبيعة القديمة تعرقل خطواتنا لا محالة. ومن أجل هذا يعوزنا أن نعرف كيف تعامل الله مع المسيح مع خطايانا ومع الخطية التي هي أصلها ومصدرها. كذلك قد تتعرقل الحياة بسبب التناقض في علاقتنا بحيث لا تكون المحبة فائضة بحسب الله نحو أولئك الذين يريدنا الله أن نحبهم. فإن محبته توحي لنا بمحبة الذين له، أي أولاده، وتبارك اسمه فقد أهلنا لهذا بإيماننا وبالحياة الجديدة والروح الساكن فينا، وليس الأمر في ذلك أنني أحب صنفاً معيناً أو سلوكاً معيناً دون الآخر، ولكنه يتوقع منا رغم كل الصعاب أن نحبهم جميعاً بنفس المحبة التي من الله. وهو يطالعنا هنا بذينك المظهرين العظيمين للمحبة الإلهية (الحياة والكفارة) اللذين ندين لهما بعلاقتنا الجديدة ورفع خطايانا وذلك يؤهلنا أيضاً لأن يحب أحدنا الآخر كعائلة الله.

إلى هنا رأينا المحبة آتية في الابن من عليائها السماوي ومتنازلة إلى أعماق لا حد لها من أجلنا، وسنراها فيما يلي رافعة إيانا من الحضيض إلى ذلك العلياء فإلى اللقاء.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.