لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل مرقس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الأول

1 بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ، 2 كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ:«هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي، الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. 3 صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً». 4 كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ فِي الْبَرِّيَّةِ وَيَكْرِزُ بِمَعْمُودِيَّةِ التَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا. 5 وَخَرَجَ إِلَيْهِ جَمِيعُ كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَأَهْلُ أُورُشَلِيمَ وَاعْتَمَدُوا جَمِيعُهُمْ مِنْهُ فِي نَهْرِ الأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. 6 وَكَانَ يُوحَنَّا يَلْبَسُ وَبَرَ الإِبِلِ، وَمِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقْوَيْهِ، وَيَأْكُلُ جَرَادًا وَعَسَلاً بَرِّيًّا. 7 وَكَانَ يَكْرِزُ قَائِلاً:«يَأْتِي بَعْدِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. 8 أَنَا عَمَّدْتُكُمْ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا هُوَ فَسَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ». (عدد 1-8).

قلنا أنهُ يبتدئ بذكر خدمة المخلص وهو غير مسبوق سوى بشهادة يوحنا المعمدان الذي يعدّ طريق الرب ويكرز بمعمودية التوبة لغفران الخطايا ويُنذر بخادم الله الفائق المجد الذي ليس بأهل أن يحلّ سيور حذائهِ؛ فلذلك يُعمد بالروح القدس. أما معمودية النار فلا تُذكر هنا لأن الموضوع إنما هو خدمة المخلص المقترنة بالبركة لا خدمتهُ في إجراء سلطانهِ بالدينونة فأن النار تدل دلالة واضحة على الدينونة والقضاء.

9 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يَسُوعُ مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ وَاعْتَمَدَ مِنْ يُوحَنَّا فِي الأُرْدُنِّ. 10 وَلِلْوَقْتِ وَهُوَ صَاعِدٌ مِنَ الْمَاءِ رَأَى السَّمَاوَاتِ قَدِ انْشَقَّتْ، وَالرُّوحَ مِثْلَ حَمَامَةٍ نَازِلاً عَلَيْهِ. 11 وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ:«أَنْتَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». (عدد 9-11).

فالسيد يخضع لمعمودية يوحنا، هذه هي حقيقة خطيرة جزيلة الأهمية والبركة للبشر. فإنه له المجد يأخذ هنا مكان شعبهِ أمام الله. ولا حاجة لي لأن أقول أن المخلص لا يفتقر لتوبة بل شاء أن يُرافق شعبهُ في الخطوة الأولى الصالحة التي يجب أن يسيروا بها تحت قيادة الكلمة وسطوتها. ذلك كان يُحسب عندهُ إتماما لكل برّ. فقد قادتهُ المحبة والطاعة إلى إنقاذنا في كل مكان ساقتنا إليه الخطية إنما هنا يأتي مع خاصتهِ. ففي الموت أخذ مكاننا وحمل اللعنة وصار خطية لأجلنا. أما هنا فقد تبوأ مكانهُ كإنسان تام بالنسبة لله الآب ذلك المكان الذي حصله لنا بالفداء. وقد أصبحنا به أبناء الله.

فانفتحت السماء وحلّ الروح القدس حلولاً كاملاً على إنسان في شخص المسيح والصوت من السماوات المفتوحة صادق على بنوتهِ. ويعترف الآب بنا أيضًا كأولادهِ بالمسيح يسوع، فإن يسوع مُسح وخُتم بالروح القدس نظيرنا أما هو فلأنهُ أهل لذلك شخصيًا وأما نحن فلأننا قد جعلنا أهلاً لذلك بعملهِ ودمهِ. فقد انفتحت السماء لنا وانشق الحجاب فنستطيع أن نصرخ يا أبا الآب. فيا للعجب من هذه النعمة ومن هذه المحبة الغير محدودة! وهي أن ابن الله صار إنسانًا لكي نصير أبناء الله كما فاه نفسه بذلك بعد قيامته إذ قال: «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا 17:20)، فما تلك إلا مقاصد الله المجيدة  التي لا يُعبر عنها وهي أن نشترك مع ابنهِ الحبيب في مجده الخاص ونسبته لله أبيه. وأن نقاسمه مجدًا أي المجد الذي له من قِبل حقوقه الذاتية الناشئة عن كمالاتهِِ الإلهية باعتبار كونه ابن الله الوحيد وذلك «ليُظهر في الدهور الآتية غنى نعمتهِ الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع» (أفسس 7:2)، فهذا لابد أن يتم كل التمام حين يتحقق لنا فعلاً ما قاله يسوع: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدٍ وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني …» (يوحنا 22:17-26) فما أعظم المحبة التي يجب أن تكون في صدور المسيحيين نحو مخلصهم. فإنه بآلامهِ حتى الموت حصل لنا مقامًا كهذا وحولنا ثقة مباركة بأن نكون معه ومثلهُ إلى الأبد. 

ومن الأمور الخطيرة التي يجب أن نلاحظها هنا أن الثالوث قد أُعلن لنا المرة الأولى كل الإعلان عند معمودية المسيح فقد ورد في العهد القديم ذكر الابن والروح القدس، غير أن الثالوث أُعلن هنا صريحًا حيث نرى مقام الإنسان الثاني بحسب النعمة. فالإعلان هنا واضح كل الوضوح لأن الأقانيم الثلاثة ظهرت معًا أما الابن فبدا بصورة إنسان والروح القدس بمظهر حمامة وصوت الآب اعترف بيسوع ابناً قد سُرَّ به. فنلاحظ الفرق بين مسئولية الإنسان ومقصد النعمة. فإن مقصد الله قد تقرر قبل خلق العالم، ولكنه عُين في آدم الثاني يسوع المسيح. ففي سفر الأمثال الأصحاح الثامن يُكنى عن يسوع بالحكمة التي كانت عند الله، وهي موضوع بهجته وأن سروره إنما هو بأبناء الناس. غير أن الله خلق الإنسان الأول وجعله في مقام المسئولية قبل إعلان مشورتهِ التي تقررت في الإنسان الثاني أو إتمام العمل المزمع أن يُنشئ نتائج محبته. أما آدم فعجز عن القيام بواجباتهِ  ولم ينشأ عن كل الوسائل التي استخدامها الله في معاملاته المتنوعة مع البشر إلا كشف شر الإنسان حتى حضر الإنسان الثاني لكي تتم فيه مقاصد النعمة وبناء على ذلك أُعلنت مسرة الله بالإنسان.

ومع ذلك لم يشاء الإنسان قبول المخلص أو الخضوع للنعمة الظاهرة به، غير أنهُ هو بقى موضوع رضى الله الكاملة بشخصهِ الجليل فأخذ على نفسهِ مقامًا نراه معلنًا في هذه الآية وهي أن يُختم ابن الله والسماء مفتوحة بالروح القدس الذي نزل عليه بهيئة جسمية. غير أنهُ كان وحده في ذلك فقد فعل على الصليب كلما كان لازمًا بالنظر لمسئوليتنا بل فعل أكثر من ذلك فإنه مجدَ الله في محبتهِ وفي جلالهِ وحقهِ وحصل لنا الاشتراك بمقامهِ كإنسان في مجد الله ذلك ليس بالنسبة لحقهِ الخاص كالله أو بالنظر لكونه ابن الله بل بالنظر إلى اتخاذه مقامًا كاملاً كإنسان لنكون مثلهُ في المجد ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين. فهذا هو قصد الله. وقد أُعلن حين أُكمل عمل المسيح. قابل (تيموثاوس الثانية 9:1 مع تيطس 2:1-3).

12 وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، 13 وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ. (عدد 12، 13).  

فنرى هنا أن يسوع حالما تبوأ مقامهُ لدى الله كإنسان ولما ظهر كابن الله في الطبيعة الإنسانية اُقتيد بقوة الروح القدس إلى البرية وهناك باشر الجهاد مع إبليس الذي كان قد غلب على آدم الأول وأبعده عن الله واستعبده وأما يسوع فانتصر عليه بصفته كمجرّب انتصارًا تامًا، ثم تقدم إلى الخدمة التي تعينت له كإنسان بين البشر. وكان من الضرورة أن يجوز تلك النصرة ليحررنا. ولاحظوا أيضًا أن أحواله كانت تختلف كل الاختلاف عن الأحوال التي وُجد عليها آدم الأول؛ فإن آدم الأول كان مُحاطًا ببركات الله وخيراتهِِ حينئذٍ بمثابة شهادة لرضى الله على الإنسان كخليقتهِ. أما يسوع فبالعكس فإنهُ كان في القفار شاعرًا بسيادة إبليس على الإنسان وكان متجردًا من كل نعيم وراحة باعتبار أحواله الخارجية ولم تكن له شهادة خارجية على جودة الله وقتئذ فأن كل الأشياء كانت تنافي ذلك. 

لا يُخفى أن حوادث تجارب مخلصنا لا تُذكر تفصيلاً في إنجيل مرقس ولا أجوبته للمجرّب فأن الحقيقة الوحيدة المدونة به هي أن السيد قد اجتاز في تلك التجارب (وما تلك إلا حقيقة ثمينة لنا) فقد قدَّم نفسهُ طوعًا حسب مشيئة الله واُقتيد من الروح القدس ليقابل عدو البشر الفاتك. فيا للنعمة العظمى! فإنه أوضح أولاً مركزنا لدى الله. وقد تقلَّده على عاتقه بنفسهِ ثم دخل في ذلك الصدام مع إبليس المتولي أسرنا. أما الحقيقة الثالثة الوارد ذكرها في هذا الإنجيل فهي أن الملائكة أصبحت خادمة وارثي الخلاص. فقد تبين لنا مما تقدم ثلاث شهادات تتعلق بظهور يسوع كإنسان في الجسد وهي مركزنا كأولاد الله والغلبة على الشيطان والملائكة خدامنا.

14 وَبَعْدَمَا أُسْلِمَ يُوحَنَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللهِ 15 وَيَقُولُ:«قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ». 16 وَفِيمَا هُوَ يَمْشِي عِنْدَ بَحْرِ الْجَلِيلِ أَبْصَرَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ أَخَاهُ يُلْقِيَانِ شَبَكَةً فِي الْبَحْرِ، فَإِنَّهُمَا كَانَا صَيَّادَيْنِ. 17 فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ:«هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا تَصِيرَانِ صَيَّادَيِ النَّاسِ». 18 فَلِلْوَقْتِ تَرَكَا شِبَاكَهُمَا وَتَبِعَاهُ. 19 ثُمَّ اجْتَازَ مِنْ هُنَاكَ قَلِيلاً فَرَأَى يَعْقُوبَ بْنَ زَبْدِي وَيُوحَنَّا أَخَاهُ، وَهُمَا فِي السَّفِينَةِ يُصْلِحَانِ الشِّبَاكَ. 20 فَدَعَاهُمَا لِلْوَقْتِ. فَتَرَكَا أَبَاهُمَا زَبْدِي فِي السَّفِينَةِ مَعَ الأَجْرَى وَذَهَبَا وَرَاءَهُ. (عدد 14-20).

فبعد أن تبوأ يسوع مكانهُ في العالم شرع بإجراء خدمتهِ ولكن لم يكن ذلك قبلَ إلقاء يوحنا في السجن فحينئذ طفق يكرز بإنجيل الملكوت. أما شهادة يوحنا فكانت خطيرة وضرورية لاجتذاب والتفات القوم إليه ولكن لم يكن لائقًا بهِ أن يؤدي شهادة لمخلصنا بعد تأدية يسوع الشهادة لنفسهِ. فقد قال له المجد: «وأنا لا أقبل شهادة من إنسان» (يوحنا 34:5) مُشيرًا بذلك إلى يوحنا  المعمدان وعوضًا عن أن يحتاج إلى شهادةٍ من يوحنا فقد شهد ليوحنا إذ كان هو نفسه الحق متجسدًا لأن كلماته وأعماله كانت شهادة الله في العالم. فقد قال الشعب مرة أية آية تفعل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية فأجاب وقال لهم: «أنا الخبز النازل من السماء» أي أنه هو بذاته الذي انحدر من السماء الآية أو الشهادة الكافية لإجابة سؤالهم أية آية تفعل؟ لا شك أنه صنع آيات كثيرة جدًا فبذلك جعلهم بلا عذر لعدم إيمانهم ولكن الآية العظمى كانت حضور شخص إلهي في العالم وكل من انفتحت عيناهُ وآمن به إيمانًا حقيقيًا هكذا رأهُ.

فكرازة يسوع أنذرت بالملكوت وبينت أن الوقت قد كمل وأن ملكوت الله كان قريبًا وأن الشعب يجب أن يتوبوا ويؤمنوا بالإنجيل. وينبغي أن نميز بين إنجيل الملكوت وإنجيل خلاصنا مع أن يسوع هو مركزهما كليهما غير انهُ يوجد فرق جسيم بين الكرازة بملكوت قد اقترب وبين الفداء الأبدي المُكمل على الصليب. على أنهُ من الممكن الإنذار بهذين الحقين معًا. لا جُرم أن نري الرسول بولس يعظ بالملكوت، ولكنه أعلن أيضًا لا محالة فداء أبديًا قد أُكمل على الصليب، وأما يسوع فأنبأ بموته وأعلن أنهُ: ابن الإنسان الباذل نفسهُ فدية عن كثيرين ولكن لم يكن يستطيع أن ينادي بفداء كامل أثناء حياته. فكان يجب أن البشر يقبلونهُ ولا يميتونه. ومن ثمَّ قصر شهادتهُ على ملكوت الله الآخذ بالاقتراب.

فقد تأخر هذا الملكوت عن القدوم بقوته العامة لأن يسوع قد رُفض انظر (رؤيا 17:11)، وذلك الإبطاء يدوم كل الزمان الذي يجلس فيه المسيح عن يمين الله إلى أن ينهض من عرش أبيهِ للدينونة. فقد قال له الآب أجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك (مزمور 1:110) على أن ملكوت الله كان قد أتى سرا مدلولاً عليه بما ورد في إنجيل مَتَّى (أصحاح13)، وذلك يستمر في خلال الزمان الذي يجلس فيه يسوع عن يمين الله. ولكن حين تأتي الساعة المعينة من الله ينهض السيد ويقيم ملكوته وبقوته الخاصة يدين الأحياء فيتوطد السلام والسعادة على الأرض. أما نحن الذين قبلناه وهو مرفوض من العالم فسنذهب لنلاقيه في الهواء ونكون دائمًا معهُ. ثم نأتي في موكبه بالمجد لما يظهر لدى العالم وسنملك معهُ. والأفضل من ذلك جميعهُ أننا نكون مثلهُ ونجلس معه في المواطن السماوية في بيت أبينا.

فهذه الحقائق والحوادث المدونة في كلمة الله لا تظهر ظهورًا جليًا إلا بعد صعود المخلص وبعد توطيد غاية الله العظمى على دعائم موت يسوع وإتمامها. أما هنا فالرب لا يصرح إلا بدنو ذلك الملكوت المطلوب من البشر قبولهُ. فكان يُعَلم في كل المجامع فقد وُجد البعض الذين فازوا ليس بسماع كلماته فقط أو آمنوا بما عَلمه، بل تبعوه والتصقوا به أيضًا. ذلك من الأمور الخطيرة جدًا الجديرة بالاعتبار والملاحظة فأن كثيرين في أيامنا الحاضرة يعترفون بأنهم قبلوا الإنجيل ولكن ما أقل الذين يتبعون المخلص في سبيل الإيمان، وفي تلك الوداعة والطاعة اللتين ميزنا سلوك المخلص في هذا العالم. فلنبذل الجهد بأتباعهِ. ليُصيرهم صيادي الناس فلنطلب نحن الآخرين ليتمتعوا هم أيضًا بالغبطة المجيدة الباقية التي يمنحها الروح القدس. فربما لا نكون رسلاً كأولئك، ولكن كل من امتلأ من المسيح يؤدي شهادة لهُ. فأن من فضلة القلب يتكلم الفم ولابد أن تجري انهار ماء. الحياة من جوف الناهلين من المسيح.

21 ثُمَّ دَخَلُوا كَفْرَنَاحُومَ، وَلِلْوَقْتِ دَخَلَ الْمَجْمَعَ فِي السَّبْتِ وَصَارَ يُعَلِّمُ. 22 فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ. 23 وَكَانَ فِي مَجْمَعِهِمْ رَجُلٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، فَصَرَخَ 24 قَائِلاً: «آهِ! مَا لَنَا وَلَك َيَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ؟ أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ!» 25 فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «اخْرَسْ! وَاخْرُجْ مِنْهُ!» 26 فَصَرَعَهُ الرُّوحُ النَّجِسُ وَصَاحَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَخَرَجَ مِنْهُ. 27 فَتَحَيَّرُوا كُلُّهُمْ، حَتَّى سَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَائِلِينَ:«مَا هذَا؟ مَا هُوَ هذَا التَّعْلِيمُ الْجَدِيدُ؟ لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ!» 28 فَخَرَجَ خَبَرُهُ لِلْوَقْتِ فِي كُلِّ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْجَلِيلِ. (عدد 21-28).

أن إنجيل مرقس لا يمثْل شخص عمانوئيل ونعمة خدمتهِ كإنجيل مَتَّى بل يبين خدمتهُ بيانًا سريعًا بالنظر لنسبتها للجنس البشري. على أن تلك الخدمة هي بالضرورة، غير أن أسلوب انتشارها ووضوحها يختلف في الإنجيل الأول عن الثاني. فكلمتهُ وأعمالهُ تشهدان معًا للسلطان الذي علَّم بهِ الشعب. فبينما كان يتكلّم انذهل القوم في المجمع لأن تعليمهُ لم يكن كتعليم الكتبة الذين استندوا على آراء البشر. أما يسوع فعلَّم الحق كإنسان يعرفهُ كل المعرفة ويستطيع أن يشرحهُ من أُسسهِ الأصلية. حتى أن الأرواح الشريرة ارتاعت من حضورهِ وطلبت أن تنجو من الهلاك ولكنها أُرغمت على مغادرة أولئك المساكين الذين أصبحوا فريسةً لسلطتها، فمن ثمَّ قال الشعب ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد؟ فتلك شهادة على أن الله قد تداخل لتحرير الإنسان وتبليغ حقهِ الكامل لهُ. فالنعمة والحق قد أتيا بيسوع المسيح.

29 وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَجْمَعِ جَاءُوا لِلْوَقْتِ إِلَى بَيْتِ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ مَعَ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، 30 وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ مُضْطَجِعَةً مَحْمُومَةً، فَلِلْوَقْتِ أَخْبَرُوهُ عَنْهَا. 31 فَتَقَدَّمَ وَأَقَامَهَا مَاسِكًا بِيَدِهَا، فَتَرَكَتْهَا الْحُمَّى حَالاً وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. 32 وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. 33 وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. 34 فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ. 35 وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ، 36 فَتَبِعَهُ سِمْعَانُ وَالَّذِينَ مَعَهُ. 37 وَلَمَّا وَجَدُوهُ قَالُوا لَهُ: «إِنَّ الْجَمِيعَ يَطْلُبُونَكَ». 38 فَقَالَ لَهُمْ: «لِنَذْهَبْ إِلَى الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ لأَكْرِزَ هُنَاكَ أَيْضًا، لأَنِّي لِهذَا خَرَجْتُ». 39 فَكَانَ يَكْرِزُ فِي مَجَامِعِهِمْ فِي كُلِّ الْجَلِيلِ وَيُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ. (عدد 29-39).

فذاع صيتهُ في كل الجليل فترك المجمع ودخل بيت سمعان وأندراوس كانت لبطرس زوجة. وكانت أمها مريضة بالحُمَّى فأخذ الرب بيدها ففارقتها الحُمَّى وطفقت المرأة تخدمهم في صحة كاملة. وحالما انقضى السبت اجتمعت كل المدينة على باب البيت فشفى يسوع المرضى واخرج الشياطين فاعترفت الأبالسة بهِ على أن البشر لم يفعلوا ذلك. ومع ذلك ظلَّ خادمًا لله ونهض قبل شروق الشمس ليذهب إلى مكان منفرد للصلاة. فطلبهُ بطرس ولما وجدهُ قال لهُ أن الجميع يطلبونك. أما يسوع خادم الله الأمين الدائم فلا يطلب كثرة العدد ولا الشهرة لنفسهِ، بل ذهب إلى مكان آخر ليعظ ويحرّر من نير إبليس.

ومن الأمور المهمَّة الداعية إلى التأمُّل أن معجزات الرب ليست فقط من البينات والأدلَّة القاطعة على قدرتهِ بل هي أيضًا علامة الجودة العاملة في القدرة الإلهية. فهذا هو الأمر الذي يخوّل معجزات المسيح تلك الصفة الإلهية الحقيقية. فأعمالهُ كلها إنما هي ثمر محبتهِ وتشهد لإله المحبة على الأرض ولا يستثنى من ذلك في الظاهر إلا حادثة واحدة على أنها ليست إلا دليلاً على الحق الذي نحن في صددهِ وهي لعن شجرة التين إنما ذلك كناية عن بني إسرائيل وبمعنى أوسع عن الطبيعة البشرية التي مع عناية الله بها لم تأتِ بثمر بل أتت بأوراق فقط أعني الرياء. فمن ثمَّ قُضي عليها ودُينت ولن تأتي بثمر بعد. فالكرّام نقب حولها وسمَّدها، ولكن ذهب ذلك عبثًا فتركها الله ولا يعود ينتظر منها ثمرًا؛ فينبغي للإنسان أن يُولد ثانيةً ويُخلَق جديدًا بيسوع المسيح لكي يأتي بثمر لله.

40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِيًا وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَانْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ:«انْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئًا، بَلِ اذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَابْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيرًا وَيُذِيعُ الْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِرًا، بَلْ كَانَ خَارِجًا فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ. (عدد 40-45).

 فلنا دليل جميل في هذه الآيات على محبة يسوع البينة في أعمالهِ. فإن أبرص أتى إليه مقتنعًا كل الاقتناع بقدرته من نظرهِ المعجزات التي اجتز بها أو سماعه عن أعمالهِ العجيبة ولكنهُ لم يكن متأكدًا الفوز برضاهُ للشفاء فقال لهُ: إذا أردت تقدر فلم يكتفِ الرب بإبداء أرادتهِ لبرئهِ بل حقق ذلك بالعمل فلمسهُ. ولا يُخفى أن البرص مرض هائل يُمثل رداءة الخطية وكان يُفرز المصاب به عن المحلة ويُحسب نجسًا. حتى أن مَنْ لمسهُ كان يُحسب كذلك ويُفرز أيضًا، لأنهُ كان يُصاب بالعدوى ولم تكن العلاجات تنجح بشفائهِ بل أن يهوه وحدهُ كان قادرًا على ذلك. فحين كان يمُّن عليه القدير بالشفاء يُصرح الكاهن بطهارتهِ وبعد تقديم الذبائح المفروضة يعود للاشتراك بالعبادة الإلهية. فأدرك السيد ذلك السقيم بقوتهِ الإلهية ومحبتهِ وقال له: أُريد فاطهر فبدت بهذه الحادثة إرادة الله وقدرته فاستخدامها لشفاء ذلك الإنسان البائس المنفي من جماعة الرب. ولكن يوجد أمر آخر فضلاً عما ذُكر. فأن يسوع لمسه ُذلك المصاب ولم يخشَ العدوى إذ لا سلطة لها عليهِ وقد دنا من ذلك الرَّجُل ِالنجس حتى لمسهُ فهو إنسان حقيقي بين البشر وهو الله قد ظهر في الجسد أيضًا. الله في الإنسان ومحبة متجسدة وقوة تستطيع إجراء كل الوسائل اللازمة لإنقاذ الإنسان من نتائج سلطة إبليس. فقد ظهرت فيهِ على الأرض طهارة لا تتدنس مصحوبة بمحبة فائقة هو الله وإنسان معًا فلذلك الشخص الواحد يشتغل بخدمة الإنسان وإعطائهِ البركة. فشفي الأبرص في الحال وتلاشى البرص بلمسة منهُ.

ولكن وإن كان الله قد ظهر بأعمال قدرتهِ ومحبتهِ لم يَكُف عن الخدمة بعدما تقلدها. فصرف الأبرص المُطهَّر قائلاً: انظر لا تقل لأحد بل أذهب وأرِ نفسك للكاهن وقرب القربان الذي أمر به موسى. ثم يمكننا أن نلاحظ أمرًا آخر في هذه الحادثة وهي أن السيد تحرك بالشفقة لما رأى الأبرص. فما ذلك إلا لأن الله بمحبتهِ تأثر ورثى بقلبهِ الحالة التي وُجِدَ عليها الإنسان الساقط تلك حقيقة كثيرًا ما نراها في الأناجيل. أما ذلك الأبرص المُطَهر فأذاع اسم يسوع في تلك الكورة المحيطة فإن الشهادة بقوة الله المرافقة شعبهُ لابد أن تؤثر بأفكار البشر وتحملهم على السؤال عن الشخص العجيب الذي قدر أن يُجري عملاً كهذا. أما يسوع فلا يطلب مجدًا من إنسانًا بل إنما أتى ليتمم إرادة الآب والعمل الذي أعطاهُ ليعمل. فاحتاطت به الجموع حتى لم يستطع أن يدخل المدينة حيث كان القوم مستعدين أن يحتشدوا حولهُ ليروهُ.      

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة