لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

هوشع

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

مقدمة الطبعة العربية

يحجم الكثيرون عن دراسة أسفار الأنبياء الصغار (هوشع إلى ملاخي)؛ فالبعض يتخوف من ذلك اعتقاداً بصعوبة فهمها واستخراج فوائد منها، والبعض الآخر يجهل الدرر والنفائس التي تحويها هذه الأسفار بين دفتيها. والواقع أن هذه الأسفار وإن صغر حجمها - وهذا سر تسميتها - عظمت قيمتها. ففيها نجد مستودعاً لأفكار الله، ومعرضاً لطرقه ومعاملاته المختلفة؛ فنراه داعياً تارة، محذراً تارة أخرى، معلناً عن محبته لشعبه، موضحاً متطلباته في هذا الشعب الذي ارتبط به، فاتحاً بالنعمة باب رد شعبه إليه من أجل اسمه. ولذلك فكل من يحب الاطلاع على أفكار الله كما أعلنها هو - تبارك اسمه - ومن يهمه أمور الله وطرقه ومعاملاته؛ عليه ألا يهمل دراسة هذه الأسفار الثمينة، شأنها شأن كل كلمة الله.

وكاتب هذه التأملات؛ هنري أيرنسايد، كاتب متعلم في ملكوت الله، وهبه الله بصيرة مفتوحة على الحق، كما منحه أسلوباً سلساً، فتميز بقدرته على تبسيط الصعوبات التي قد تواجه الدارس. وهو، في هذه التأملات، يقدم دراسة تأملية في أسفار الأنبياء الصغار، ملقياً الضوء على محتواها، مستخرجاً الكثير من الدروس العملية لنا نحن الذين كُتِبَت كل هذه لتعليمنا وإنذارنا.

والكتاب الذي بين يديك هو الجزء الأول من هذه التأملات؛ ويشمل أسفار: هوشع، يوئيل، عاموس، عوبديا. وهو يُعَد إضافة لمكتبتنا العربية كنا في حاجة شديدة إليها. لذلك نستودع الكتاب وقرّاءه بين يدي الرب، ليكون سبب بركة وفهم أعمق للمكتوب.

سفر

هوشع

أصحاح

1

دم يزرعيل

هوشع، صاحب أولى النبوات الصغيرة، معاصراً لإشعياء طوال معظم خدمته، كما أنه عاصر زميله عاموس في مستهل تاريخه. نتبين ذلك من مقارنة الأعداد الأولى في النبوات الثلاث، ففي خلال الحقبة الطويلة التي قضاها في الحكم يربعام الثاني ملك إسرائيل، وعزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا؛ حدثت في كلتي المملكتين وقائع وأحداث اقتضت التوبيخ الإلهي. ويبدو أن هوشع يحصر الجانب الأكبر من رسائله المباشرة في يهوذا، متحدِّثاً عن العشرة الأسباط دون التحدث إليهم، بيد أن أفق نبوءته يطوي المملكتين معاً وبصورة كاملة. والواقع أنه ما من مُرسَل استطاع أن يرسم مخططاً مستوفياً لطرق الله مع شعبه الأرضي مثلما فعل هوشع، حتى دانيآل لا يُستثنى من ذلك. فإن قرأنا رؤى هوشع مقارنة برؤى دانيآل، سنجد أن الأولى تلقي بضوء أوضح من الأخيرة.

أما فيما يتصل بالتاريخ الشخصي لهوشع، فإن الله لم يشأ أن يعطينا عنه تفصيلات، إلا عن أمر زواجه وما ترتب عليه من نتائج. ولئن عرفنا أن أباه هو بئيري، فلا شيء نعرفه عن السبط الذي ينتمي إليه، ولا عن موطنه الأصلي. واسم «هوشع» يعني “خلاصاً” أو “معونة”. وبإضافة حركة لغوية (تشكيل) يُقرأ اسمه “هوشعيا” الذي يترجم “خلاص ياه”. أما أبوه «بئيري» فيُقال أن اسمه يُترجَم “بئر يهوه”، واجتماع الاسمان معاً يذكِّرنا بكلمات الرب مع المرأة السامرية يوم عرض عليها الماء الحي من بئر الرب، ماءً ينتهي بخلاصها المحقق.

أول ما كلم الرب هوشع، أمره أن يفعل شيئاً ينفر منه مجرد الإحساس الطبيعي. ولا شك أنه كان اختباراً لقلب عبد الرب بطريقة متميزة. ونظير إشعياء، كان النبي ومن له “آيات في إسرائيل”، وهكذا قيل له أن يقترن بزوجة زانية عارية من الأخلاق، علامة في ذلك على حالة إسرائيل التاعسة في عدم أمانتهم، إسرائيل الذي كان ولا يزال موضوع محبة الرب، بالرغم من إثمه وحالة الدنس التي كانوا عليها. وأيّة صورة للنعمة أدعى للعجب! فمن حيث الصورة، نعمة تتجه ليس فقط إلى من لا يستحقونها، بل إلى الذين لا يستحقون سوى عكسها! ومن المهم أن نذكر أن النعمة ليست هي فقط رضى لا يستحقه الإنسان، بل هي رضاً على الرغم مما يستحقه من دينونة.

وتلك هي رحمة إلهنا العجيبة، أن يجد هدف محبته ليس بين الأبرار والصالحين، بل بين الخطاة الضالين الهالكين، الذين لا يستحقون سوى الدينونة، الملطخين بالإثم، والمدنسين بالخطية، الذين تاهوا عن الطريق وأصبحوا غير نافعين، بيد أنه يتجه بمحبته إلى التاعسين الأرذال ليفتديهم لنفسه. ولا تنسَ أن معاملات الله مع إسرائيل قديماً هي صورة لطرق نعمته مع المؤمنين الآن. «فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتِبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور» (1كو11:10).

وفي طاعة لصوت الرب، ذهب هوشع وأخذ «جومر بنت دبلايم» زوجة له، وبذلك منح تلك التي كانت قبلاً بلا منزلة مكانة الزوجة في إسرائيل، وشرف الاقتران بإسرائيلي، بل منها أنجب عدداً من الأولاد. فإذ قد ماتت لحالة بؤسها القديمة، تلك الحالة التي كانت تستحي بها ولا ريب، فقد ولدت وأثمرت لذاك الذي ركّز حبه عليها ومنحها اسمه ورعايته وحمايته. وليس عسيراً أن تجد في هذا جميعه صورة جميلة لأقوال الروح القدس في رومية 21:6،22 «فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن؟ لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الآن إذ أُعتقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية»، كما في العدد الرابع أيضاً من الأصحاح السابع «إذاً يا إخوتي أنتم أيضاً قد مُتّم للناموس بجسد المسيح لكي تصيروا لآخر، للذي قد أُقيم من الأموات لنثمر لله».

كان على هوشع أن يحمل عار الاقتران بامرأة تاعسة، غير أنه لم يكن عليه أن يموت من أجلها. إلا أن الأمر في هذا يختلف مع ربنا المبارك يسوع كل اختلاف؛ ذلك الذي لم يأتِ فقط إلى حيث كنا في خطيتنا وعارنا، بل إنه على صليب الجلجثة جُعل خطية لأجلنا «لنصير نحن بر الله فيه»، وهناك اشترانا بدمه الكريم «لكي يفدينا من كل إثم، ويطهِّر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة».

وما كان اللطف الذي أبداه هوشع من نحو جومر إلا ظلاً باهتاً جداً لمحبة المسيح القلبية لنا، وكذلك لعواطف الرب إزاء إسرائيل العروس الأرضية، تلك العواطف الملتهبة الحيّة. ففي الصليب دفع ثمن شراء الشعب السماوي والأرضي كليهما.

وبمولد الابن الأول «قال له الرب أدعُ اسمه يزرعيل لأنني بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل (أو أنتقم لدم يزرعيل من بيت ياهو) وأبيد مملكة بيت إسرائيل. ويكون في ذلك اليوم أني أكسر قوس إسرائيل في وادي يزرعيل» (ع4،5). إن اسم يزرعيل في حد ذاته يفيد معنى البركة، ولكنه هنا يتحدث عن الدينونة. فمعنى كلمة يزرعيل “يزرع الله”، وفي الأصحاح الثاني، كما في العدد الأخير من أصحاحنا هذا الأول، يُستخدم هذا اللفظ في مناسبة تختلف كل الاختلاف عن مناسبة استخدامه في هذا العدد.

لقد كان الله مزمعاً أن يطرح إسرائيل، أي المملكة الشمالية، وينزعهم من قدام بصره، ويشتتهم بين الأمم، وذلك لتأديبهم من أجل آثامهم. كان قد افتداهم بالنعمة وأتى بهم إليه، أما هم فدلّوا على أنهم بطّالين وخائنين مخادعين. ومن هنا كان لابد أن يتعلموا عن طريق القضاء، ما لم يشاءوا أن يتعلموه بلطف المحبة. ولاحظ أنه يربط بين القضاء عليهم وبين «دم يزرعيل». وهذا أمر له دلالته، لأن البيت الذي كان يحكم إسرائيل في ذلك الوقت، اعتلى العرش بوساطة «دم يزرعيل» عينه. فعندما استخدم الرب ياهو كعصا التأديب لإبادة بيت آخاب عند يزرعيل، اعتلى العرش آنئذ، ومن نسله كان يربعام الثاني. إلا أنه لا ياهو ولا بيت ياهو استفادوا من درس القضاء على آخاب. فهم أنفسهم سلكوا طرق الأمم، وتعبدوا لآلهتهم الباطلة، ومن هنا كان لابد من الأخذ بثأر دم يزرعيل منهم، فهم أيضاً لابد من قطعهم.

لكن يرتبط بيزرعيل شيء آخر، فنحن لا ننسى أن يزرعيل في الأصل كان ميراث نابوت الرجل البار، فنقرأ في الملوك الأول21 أنه «كان لنابوت اليزرعيلي كرم في يزرعيل». وقد طمع آخاب في كرم نابوت وسعى لشرائه لتحويله إلى بستان، لكن نابوت أبى - على حق - أن يبيع ميراثه قائلاً «حاشا لي من قِبل الرب أن أعطيك ميراث آبائي» (ع3). وإذ أكتئب آخاب وأغتم «اضطجع على سريره وحول وجهه ولم يأكل خبزاً»، فإن الملك المتعجرف العنيد لم يحتمل أن يرى إنساناً مغموراً كهذا اليزرعيلي يتصدى لإفساد رغباته. لكن زوجته الوثنية إيزابل كتبت باسمه رسائل تقول فيها «نادوا بصوم وأجلسوا نابوت في رأس الشعب، وأجلسوا رجلين من بني بليعال تجاهه ليشهدا قائلين: قد جدفت على الله وعلى الملك. ثم أخرجوه وارجموه فيموت» (ع9،10). وهكذا نفذت الفاجر المكيدة بالتمام. فشهد على الرجل البار شاهدا زور، وأفقدوه الحياة «أخرجوه خارج المدينة ورجموه بحجارة فمات».

ومن ثم أُعلن ضياع الميراث بعد نابوت، فنزل آخاب ليضع يده عليه، وفي طريقه لاقاه إيليا النبي، الذي كان الرب قد أرسل على شفتيه رسالة قضاء. ذلك بأن عينيه - تبارك اسمه - كانتا تريان كل شيء، فأمر عبده أن يعلن للملك الشرير أنه قد ختم عليه بالقضاء، وأن بيته سوف يُنقض ويتحطم، وعلّة خرابه هي دم يزرعيل «هكذا قال الرب في المكان الذي لحست فيه الكلاب دم نابوت تلحس الكلاب دمك أنت أيضاً... وتكلم الرب عن إيزابل أيضاً قائلاً إن الكلاب تأكل إيزابل عند مترسة يزرعيل» (ع19،23). وقد تم هذا الوعيد بحذافيره. فآخاب قُتل في معركة راموت جلعاد، إذ نقرأ «فمات الملك وأُدخل السامرة فدفنوا الملك في السامرة، وغُسلت المركبة في بركة السامرة فلحست الكلاب دمه، وغسلوا سلاحه حسب كلام الرب الذي تكلم به» (1مل37:22،38). هذا ما حدث في يزرعيل، بيت الاصطياف لآخاب.

واستخلف آخاب على العرش ابنه الفاجر يورام أو يهورام كما يسمى أحياناً. فوضع ياهو، الذي مسحه أليشع ملكاً على إسرائيل، في رأس برنامجه أن يقتل يهورام، الذي كان قد رجع «ليبرأ في يزرعيل من الجروح التي جرحه بها الأراميون في راموت حين قاتل حزائيل ملك أرام» (2مل15:9). وفي حقل نابوت التقى الاثنان، وانضم إلى ملك إسرائيل أخزيا ملك يهوذا. «فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلام يا ياهو؟ فقال أي سلام مادام زنى إيزابل أمك وسحرها الكثير؟». وحاول يهورام أن يهرب، لكن ياهو طعنه بسهم. وإتماماً لقول الرب ألقيت جثته الدامية في حصة حقل نابوت. وكذلك ضرب أخزيا لكنه هرب إلى مجدو ومات هناك. وهكذا تمت نقمة الرب على بيت آخاب في حصة حقل يزرعيل.

وهنا أيضاً لقيت إيزابل قضاءها المرعب، كما أنبأ النبي «فجاء ياهو إلى يزرعيل، ولما سمعت إيزابل كحلت بالإثمد عينيها وزيّنت رأسها وتطلعت من كوة» وإذ كانت تعيره كقاتل، نادى واحداً من الذين كانوا إلى جانبه، وأمره أن يطرحها. وفي الحال تقدم بعض الخصيان وألقوا عليها الأيادي «فطرحوها، فسال من دمها على الحائط وعلى الخيل فداسها». ثم أرسل ياهو عبيده ليدفنوها، غير أنهم وجدوا الكلاب افترستها في قسم يزرعيل كما تكلم الرب من قبل (2مل30:9-37).

إذاً تربعت أسرة ياهو (الأسرة المالكة يومئذ) على العرش بفضل دم يزرعيل، لكنهم للأسف لم يفيدوا من الدرس الخطير، درس كراهية الله للخطية، واشمئزازه من الوثنية بوجه خاص! ومن هنا فإن وادي يزرعيل بالذات كان لابد أن يشهد دينونتهم، كما حدث بعد سنوات قليلة حين هاجم الأشوريون إسرائيل في ذات البقعة وهزموهم، وابتدأ سبيهم.

هذا من الزاوية التدبيرية يحمل حقيقة خطيرة. فإن إسرائيل، طبقاً للأصحاح الخامس من إشعياء، هو كَرْم الرب. إذاً فعن إسرائيل يتحدث كرم يزرعيل؛ فقد زرعهم الله في أرض كنعان ليكونوا حصة الرب، لكنهم استأجروا شهود زور ضد سيد الكرم، البار الذي لم يشأ أن يسلِّم للعدو ميراثه الشرعي. وبأيدي أثمة قتلوا الكرام، واستباحوا ملكية الكرم لأنفسهم. فأباح الله للخصم الأممي أن يحطم المملكة، ونقل السلطان لأيدي الأمم. وهكذا استُجيبت طلبتهم القديمة «دمه علينا وعلى أولادنا» بصورة مخيفة كما يشهد دم يزرعيل رمزياً. ففي الموضع ذاته حيث صلبوا رب المجد سالت دماؤهم، وافترستهم الكلاب؛ الأمم النجسون.

وهل الأمم بدورهم أفادوا من الدرس الخطير، درس دم “زرع الله”؟ كلا، فإذ قد استعلوا ولم يبالوا بمطالب الله منهم، استمروا في طريقهم وأبوا الاستماع لكلامه. ولذلك هم أيضاً سيُقطعون، وهكذا ينتقم الله لدم يزرعيل منهم.

نعود إلى التطبيق الحرفي لأقوال هوشع، ونلاحظ أن الرب كان مزمعاً أن يكسر «قوس إسرائيل في وادي يزرعيل» (ع5). فإذ لم يعتبر العشرة الأسباط في قلوبهم حقيقة أن بيت آخاب الشرير إنما أبيد بسبب الخطية، بل سلكوا في طرقهم الدنسة ذاتها، كان لابد من سبيهم إلى أشور. هذه نبوءة تمت كما نعلم في مدى خمسين سنة بعد ذلك، في أيام هوشع بن أيلة، الملك الذي أسره شلمنأسر الملك الأشوري وسباه هو وقومه.

وفي العدد التالي نقرأ أن جومر ولدت بنتاً سُمّيت «لورحامة» كقول الرب. وقد ترجم اسمها “غير مرحومة”، دلالة على حالة إسرائيل منذ طُردوا من الأرض. أما يهوذا فقد شاء الرب أن يظهر لهم الرحمة ويخلّصهم من أعدائهم، ذلك لأنهم لم يكونوا قد أعلنوا عصيانهم ظاهراً كما فعلت العشرة الأسباط (ع7).

ثم ولدت ثالثة ابناً دُعي «لوعمي» أي “لستم شعبي”، فأعلن الرب حينئذ «لأنكم لستم شعبي وأنا لا أكون لكم»، لقد نقضوا العهد الذي دخلوا فيه من زمان طويل عند سيناء، وأقروه في سهول موآب. ومن مطلعهم كانوا خائنين متمردين. فمن جهة الاستحقاق لم يعد لهم حق في شيء، ومن هنا تخلى عنهم الله، وأبى أن يقترن بهم كشعبه. وحُكْم «لوعمي» هذا باقٍ إلى اليوم. وقد جاء يهوذا تحت السبي البابلي أيضاً، ومنذ ذلك الحين كان إسرائيل كله في ظل «لوعمي». وهذا هو السبب في إغفال اسم الله في سفر أستير، الذي يحدّثنا عن عنايته بهم وهم مشتتون بين الأمم، إذ لم يستطع أن يرتبط بهم بصورة علنية.

بالعدد التاسع نختم الأصحاح الأول طبقاً للترتيب العبري، أما العددان التاليان فهما بمثابة مقدمة للأصحاح الثاني. وهما يتحدثان عن رحمة عتيدة، ويخبراننا أنه وإن كان كل شيء قد ضاع على أساس الأعمال، فإن الله لا يزال يحتفظ بمستودعات نعمة لا تفرغ، سوف يدخلون في الاستمتاع بها في اليوم الأخير «لكن يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يُكال ولا يُعدّ. ويكون عوضاً عن أن يُقال لهم لستم شعبي يُقال لهم أبناء الله الحي، ويُجمع بنو يهوذا وبنو إسرائيل معاً، ويجعلون لأنفسهم رأساً واحداً، ويصعدون من الأرض، لأن يوم يزرعيل عظيم» (ع10،11).

ترجع بنا الإشارة إلى رمل البحر إلى عهد النعمة المطلقة الذي قطعه الله مع إبراهيم، والذي تثبت بقسم “إيل شداي”. والله لا يرجع عن وعد أعطاه للآباء مهما تكن كبيرة سقطة الأبناء. ولسوف يدخل في البركة جماهير لا تُحصى من إسرائيل ويهوذا المتحدين معاً من جديد، في الأرض ذاتها التي مُنِحت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، واصطبغت بدم يسوع. لكن لاحظ أن هذا ليس هو رجوعهم الذي تمَّ في عهد كورش، إذ لم يرجع آنذاك سوى عدد قليل من العشرة الأسباط مع من رجع من السبطين، ثم طُردوا جميعاً من أرضهم بسبب رفضهم المسيا، يوم جاء إليهم كالملك حسب النبوات. ولكن متى جاء الوقت المعين من قِبل الرب، سيعودون من جميع الأراضي التي تبددوا إليها، ولا ينقسمون بعد، بل يصبحون شعباً واحداً سعيداً تحت رأس واحد؛ هو الرب يسوع، مسيح الله الذي رفضوه مرة. ذلك سيكون يوم يزرعيل الحقيقي، حين يكون «حقل دما» كرماً للرب، وحين يزرعهم الله في أرض آبائهم، ولا يُستأصلون منها قط.

سفر

هوشع

أصحاح

2

وادي عخور

توافق عجيب تتلاقى طرق نعمة الله وحكومته، في مستهل خدمة النبي التي يسجلها هذا الأصحاح، الذي يلي الوعد المعطى في العددين الأخيرين من الأصحاح السابق. فبعد أن يؤكد على رجوعهم وبركتهم المستقبلية يهيب الرب بشعبه «قولوا لأخوتكم عمي ولأخواتكم رحامة». ذلك هو الإيمان متطلعاً متشوقاً للزمن الذي ترفع فيه “لو” أي “لستم”، ويعود يعترف بهم كشعبه الذي نال رحمة، الأمر الذي ينتظر التحقيق كاملاً في الملكوت الألفي، يوم «يخلص جميع إسرائيل».

ولكي يقود الرب إسرائيل إلى مركز إدانة الذات هذا، وإلى كراهية طرقهم الماضية، تأتَّى في حكمته المطلقة أن يرسم صورة فاحصة لخطيتهم المحزنة حينما تحولوا عنه، وذلك في الأعداد من 2-5. فبوصفها زانية شقية، وفاسقة تاعسة، أخلاها الرب. لأنها بعد كل ما أضفى عليها من محبة ونعمة، تحولت عنه إلى الأوثان، في زنا روحي. بسبب ذلك سيجعلها تأكل ثمار أفعالها.

وفي الأعداد من 6-8 يصوِّر بأسلوب مؤثِّر خطير، معاملاته معها في حكومته المقدسة البارة. وهذا في تمام الموافقة مع أقوال إرميا « يوبخك شرك وعصيانك يؤدبك. فاعلمي وانظري إن تركك الرب إلهك شرٌّ ومُرّ» (إر19:2). وبهذه الطريقة يجعل الخطية خادماً لأغراضه تعالى. فإن لم يحوِّل شعبه أرجلهم عن الشر، وأصروا على المضي في مسالكهم، وأبوا أن يطيعوا صوته، فلابد أن يتعلموا عن طريق خطيتهم الدرس الذي لم يشاءوا أن يتعلموه من أقواله التحذيرية الإنذارية. لقد ترك إسرائيل الرب إلى الأوثان، إذاً فليتركه زماناً، وليدعه للأوثان التي اختارها حتى يقوِّمه، وفي مشقته لن يجد من يجاوبه (ع7). وإذ ينكسر قلبه، ويتملكه الإعياء في آخر المطاف، مؤدَباً باختباراته، فإنه يصرخ قائلاً «أذهب وأرجع إلى رَجلي الأول، لأنه حينئذ كان خير لي من الآن». عجيبة تلك النعمة! فبعد هذا الهجران الجاف من ناحيتها، فإن الرب بتلك النعمة يفتح لها مرة أخرى ذراعيه، في يوم التوبة العجيب.

تلك هي المحبة عينها والنعمة ذاتها، اللتان يعرفهما كل خاطئ أعيا، وكل قديس تعثر، عندما يطلب وجه الله، معترفاً بخطيته نادماً وتائباً عن طريقه الشرير. فما من معصية يشقُّ على الله غفرانها، وما من سوءة تعظُم على رحمته، إذا ما توفر الانحناء والتذلل قدامه، وإذا ما برره المخطئ، وفي الوقت عينه يدين ذاته.

وبأسلوب فاحص يصوِّر الرب ما وصل إليه إسرائيل من الاستهتار بمصدر بركته الماضية. «وهي لم تعرف أني أنا أعطيتها القمح والمسطار والزيت وكثّرت لها فضة وذهباً، جعلوه لبعل» (ع8). فالخير الذي أغدقه عليها بسخاء، سكبته على مذابح خزيها! لذلك لا يسعه إلا أن يمنع خيره حتى تتعلم الأمة أن أوثانها لم تصنع لها خيراً، بل إنما صنعت حزناً وفقراً وعوزاً. وواحدة فواحدة سوف تتعرى من كل القيم، إلى أن تتعلم أنه في الرب وحده - الذي أهانته وازدرت به - توجد كل بركة. فقد نسبت الأمة عطاياه وهباته إلى أوثانها قائلة «هما أجرتي التي أعطانيها محبيَّ» (ع12). لكنها إذ تُحرم من كل هذا، فإنها تتعلم أنها إنما كانت تخدع ذاتها وتهين الرب.

وإذ تعي الدرس في آخر المطاف، يُبرز الرب مقاصد نعمته المختزنة من أجلها، والتي ستستعلن كاملة عند توبتها. وهذا هو الموضوع الثمين الكريم الذي تدور حوله بقية الأصحاح «لكن هأنذا أتملقها، وأذهب بها إلى البرية، وألاطفها (أي أتكلم إلى قلبها)، وأعطيها كرومها من هناك، ووادي عخور (المشقة) باباً للرجاء. وهي تغني هناك كأيام صباها، وكيوم صعودها من أرض مصر» (ع14،15). وهكذا نرى أن الرب يعتزّ بذكرى أيام خطبتها الأولى، يوم سارت وراءه في البرية في أرض غير مزروعة، يوم كانت قدساً للرب وكان قلبها مثبتاً عليه وحده. ولابد أن أيامها السعيدة تلك - أيام محبتها الأولى - تتجدد، ومرة أخرى سوف يتملقها ويجتذبها بعيداً عن مشاهد سبيها وهوانها. وإذ تكون وحدها معه في برية الشعوب (أنظرحزقيال35:20) سوف يحاجها وجهاً لوجه. ويرد لها خمر أفراحها، ووادي عخور (وادي المشقة) سيكون مصدراً للرجاء. لقد كان في وادي عخور مشهد قضاء على عاخان، كما يسجل يشوع (يش24:7-26). وإذ تنجست الأمة بانحرافها الدنس عن إلهها ومطامعها في المحرّمات، فإن بركتها ستبدأ من حيث تُدان وتُنزع تلك الخطية التي كانت سبباً في مشقتها. وإذ تعود إلى ذاك الذي ضلَّت عنه مدى طويلاً، فستغني (أو تتجاوب) كما في أيام خطبتها الأولى، كما في أيام صعودها من مصر.

وتطبيق هذا على الأفراد بسيط وطبيعي، فإن أولاد الله الذين تحولوا عنه، إذ يتعلمون حماقة الانحراف عن محب نفوسهم الأبدي، ويرجعون إليه، راجمين “عاخاناتهم” ونازعين المحرمات، لابد أن يعودوا ويتمتعوا بأفراح الأيام الأولى، والشركة المخزونة لهم.

في يوم رجوع إسرائيل سوف يُعترف به كامرأة يهوه. ومن المهم أن نلاحظ الفارق بين منزلة الأمة الإسرائيلية ومنزلة عروس الخروف في رؤيا19،21. فالأولى أرضية، والأخيرة سماوية. الأولى لا تُدعى عروساً لأنها امرأة راجعة، بعد أن طال ابتعادها عن رجلها. أما الثانية فإنها تُقدَّم كالعروس للمرة الأولى في عرس الخروف في السماء. وفي الملك الألفي سوف يملك الخروف وعروسه السماوية على الخليقة المفدية. وعلى الأرض، سيكون لامرأة الرب الراجعة موضعها في أرض فلسطين. وأورشليم الجديدة السماوية ستكون عاصمة المملكة السماوية، بينما تكون أورشليم الأرضية، المسكونة من جديد، عاصمة المملكة الأرضية. ويومئذ تتم الأقوال المكتوبة «ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنك تدعينني رجلي ولا تدعينني بعد بعلي (أي سيدي). وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تُذكر أيضاً بأسمائها» (ع16،17). تلك أيام إشعياء 6:54 «لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا إذا رُذلت قال إلهك»، ويومئذ تصبح الأرض أرضاً بعولة، ويكون الشعب والأرض للرب.

وهذا الزمان السعيد يتناوله الأنبياء بقدر من الإفاضة، فهو يوم مجد الملكوت، إذ يتوَّج ربنا يسوع من العالم الذي رفضه مرة، كالمبارك العزيز الوحيد. سيكون هذا زماناً لانتشار النور الروحي والبركة.

وليس ذلك فقط، بل إن اللعنة سوف تُنزع من الأرض، وتدخل الخليقة الأولى إلى حرية المجد التي طالما أنَّت من أجلها (رو22:8). «وأقطع لهم عهداً في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض، وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، وأجعلهم يضطجعون آمنين» (ع18). كل ذلك ثمرة تمجيد ابن الإنسان، الذي يتحدث عنه مزمور8، الذي سوف تنعم كل الخليقة تحت ملكه. ويصوِّر إشعياء11، بأسلوب جميل، بركات ذلك العهد الهادئ، العصر الذهبي بحق، الذي يفتتحه رجوع الرب يسوع من السماء، ذاك الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد (مز2، رؤ19).

ولن يعود إسرائيل إلى عدم الأمانة مرة أخرى. والتاريخ القديم الملطخ سوف يُنسى، وإن طاف بالذكرى فإنما لتأكيد النعمة التي تردهم «وأخطبك لنفسي إلى الأبد، وأخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم. أخطبك لنفسي بالأمانة فتعرفين الرب» (ع19،20). ليس إلى الكنيسة تشير هذه الأقوال، بل إلى إسرائيل الحرفي، الذي بعد نهاية «أزمنة الأمم» سوف يُطعَّم ثانية في زيتونة الموعد، ويرجع إلى الله وإلى أرضه، ويرث المواعيد التي سبق وتثبتت للآباء. إن قراءة متأنية لبعض الفصول الكتابية مثل رومية11، إرميا31:30، حزقيال22:36-37؛38. من شأنها أن تجلو أمام القارئ العادي أن الله لم يطرح إلى الأبد شعبه القديم، وأنه عندما يعيدهم سيكون ذلك من خالص النعمة، وعلى قاعدة العهد الجديد المختوم بدم ابنه الكريم. ولن يكون هناك ما يفسد تلك الوحدة المقدسة، أو يفرق الخطيبة الأرضية عن الرب.

ثم يُختم الأصحاح بصورة ألفية جميلة «ويكون في ذلك اليوم أني أستجيب يقول الرب أستجيب السماوات وهي تستجيب الأرض، والأرض تستجيب القمح والمسطار والزيت وهي تستجيب يزرعيل. وأزرعها لنفسي في الأرض وأرحم لورحامة وأقول للوعمي أنت شعبي وهو يقول أنت إلهي» (ع21-23). ففي يوم مجد المسيا العتيد سوف تتحد معاً السماوات والأرض في بركة «أزمنة رد كل شيء» التي تكلم عنها الأنبياء.

حينئذ ستتجاوب السماوات، حيث يسكن القديسون الممجدَون الذين أقيموا وتغيروا عند مجيء الرب، مع أفراح الأرض المفدية، تماماً كما سيتجاوب الله نفسه معهم. سيكون مشهداً مباركاً، مفرحاً لشركة مغبوطة هانئة لن يفسدها شيء، برغم محاولة الشيطان الأخيرة ليفسد ويخرب ما عمله الله (رؤ7:20-10).

والأرض، وقد تحررت من اللعنة القديمة، سوف لا تعود تنبت شوكاً وحسكاً، بل تتجاوب مع وفرة الحنطة وفيض المسطار والزيت. والبرية سوف تبتهج وتزهر. وليس بعرق الوجه سوف يأكل الإنسان خبزاً في مشقة وعياء، بل إن الأرض وكأنها شيء حي متحرك سوف تعطي مكنوزاتها ومدخراتها لمفديي الرب.

وكذلك سوف يتجاوب الكل، يستجيب الكل ليزرعيل. فإسرائيل سوف يكون مزروعاً كبذرة الله، في الأرض ذاتها التي اصطبغت مرة بدم البار، كما اصطبغت في مجازاة عادلة مخيفة بدمائهم هم. هناك سيتعمق جذرهم في الأرض، ويطلع فرعهم سامقاً شارقاً للعلاء، والشعب الذي دُعي مرة “لورحامة” يكون “رحامة”، بينما حكم “لوعمي” سوف يُنسّخ إلى الأبد وهم يُدعون “عمي”. وفي تجاوب سعيد سوف يرنون بعيونهم وقلوبهم إلى عرش الرب، وفي عميق التوقير والتجرد من الذات سوف يصيحون “إلهي”.

هذا هو المشهد البديع الختامي ليوم يزرعيل، فلا تعود الخطية والألم، والحرب والخراب لتغشي سهول «حقل الدم»، بل سيصير مشهداً لغبطة غير مشوبة، وبركة مسكوبة، يوم يتوج ربنا يسوع سيداً عظيماً في سلطة مهوبة.

سفر

هوشع

أصحاح

3

إسرائيل في حاضره ومستقبله

هذا الأصحاح، على إيجازه، يصبح بالغ الأهمية إذ ما تيسر لنا إدراك طرق الله بالنسبة للأرض والشعب الأرضي. وأستطيع أن أقول إن هذا الأصحاح إنما هو رومية 11 العهد القديم، وإننا إذا ما تفحصناه على هدى ذلك الفصل من رسالة رومية، سنجده يلقي ضوءاً على سرِّ حالة إسرائيل الراهنة، وعلى النبوءات الخاصة بمجدهم المستقبل.

ومرة أخرى يتخذ الرب من رباط النبي بزوجته مثلاً. إن تلك التي كانت شهيرة بأنها «امرأة زنى» قد أصبحت «زانية»، والفارق بين اللفظين يتضح عند تطبيقهما على إسرائيل. فإن إسرائيل، الذي كان بلا أي حقوق قبل أن يحتضنهم يهوه في نعمته العجيبة، قد أثبت بعد أن ربطه الرب بنفسه بخاتم العهد، أنه لايزال غير مستحق لشيء، حتى شُبهوا، ليس فقط في نبوَّة هوشع، بل في نبوءات أخرى كذلك، بزانية تسعى وراء الغرباء دون سعي وراء رجلها.

واضح هنا أنه لا يقال للنبي أن يحب “زوجته”، فإنها أضاعت كل حقوق تلك الرابطة. وهي إنما تدعى “امرأة” وهي “حبيبة صاحب”، إذ أنها كانت قد اختارت، كما رأينا، رجلاً آخر مكان خطيبها الشرعي.

ومحبة هوشع لمثل هذه المرأة التافهة غير المستحقة، إنما تصور “محبة الرب لبني إسرائيل”، الذين برغم اعترافهم برباط عهد مع الرب، فقد التفتوا إلى آلهة أخرى وأحبوا أقراص الزبيب (ع1)، ذلك لأن الأقراص (أو الكعك) كانت تُعبِّر عن العلاقة الوثنية التي كانوا يتمسكون بها، كما يرى القارئ في إرميا 18:17؛19:44. فبتقديم الأقراص أو الكعك، كانوا يكرمون تلك التي كانت تحمل في يومهم لقب “ملكة السماوات”، لقباً خلعته المسيحية المرتدة على مريم أم ربنا، في تحدٍ مباشر لكلمة الله.

ويبدو أن جومر (إذ لا أرتاب في أنها هي فعلاً “المرأة” التي يتحدث عنها الفصل)، كانت قد تورطت بحيث أنه لم يمكن تحريرها من حالتها التاعسة المنحطة إلا بدفع ثمن الفداء. وهكذا اشتراها النبي «بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير»، وذلك هو ثمن العبد العادي؛ وفي ذلك تطبيق لأقوال إشعياء «مجانا بعتم (أنفسكم) وبلا فضة تفكون» (إش3:52). وعن طريق النبي ذاته كان الرب قد توسل إليهم متلطفاً «ارجع إلى لأني فديتك» (إش22:44). ومع أن ثمن الشراء قد دُفع على صليب الجلجثة، فإن يهوذا وإسرائيل لا يزالان شاردين، ورابطة الزواج لم تتجدد بعد وتستأنف.

يقول هوشع لجومر «تقعدين أياماً كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل وأنا كذلك لك» (ع3). فهي فترة اختبار، لا تحديد لها. فترة لابد أن تمرَّ قبل أن تسترد امتيازات الزواج. والروح القدس يطبِّق هذه الأقوال في الأعداد الختامية «لأن بني إسرائيل سيقعدون أياماً كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم. بعد ذلك يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم، ويفزعون إلى الرب وإلى جوده في آخر الأيام» (ع4،5). في هذين العددين إيضاح كامل لحالتهم كلها خلال هذا التدبير؛ وإيضاح كذلك لبركة المستقبل التي ستكون لهم في يوم المملكة حين يستعلن في القوة والمجد.

هذه «الأيام الكثيرة» تجري خلال الفترة الحاضرة كلها، حتى تكمل أزمنة الأمم. ومنذ خراب أورشليم على يد الرومان، فإن حالتهم تطابق الوصف الذي نراه في هوشع3. فقد كانوا، ولا يزالون، أمة تائهين، بلا قاعدة قومية «بلا ملك وبلا رئيس»، ارتحل القضيب من يهوذا والمشترع من بين رجليه. شهادة خطيرة لحقيقة خطيرة، وهي أن شيلوه قد جاء، وإنما أتى لكي يرفضوه. وهكذا تُركوا بلا ذبيحة، لأن هيكلهم نُقض، ومذبحهم تدنس. ومن أمة إلى أخرى، ومن مدينة إلى سواها جالوا خلال العصور؛ بغير وطن، شعباً مبغَضاً، يرذله الناس، ولا وسيلة لديه للاقتراب إلى الله على أساس الناموس الذي نقضوه.

والثقافة الطقسية والتلمودية حلت محل الفرائض المرتَبة من الله، ومحل سلطان الشريعة فيما بينهم. ومن سنة إلى سنة يقرعون صدورهم معترفين بمرارة “يا ويلتاه، فلا وسيط لنا”. دخان الذبيحة لا يتصاعد للسماء، ودم الكفارة لا يُرش داخل الحجاب في مقدس أرضي؛ والعمى قد لفَّهم جزئياً في لفافة من الظلام القضائي، فلا يعلمون أنه بذبيحة الرب يسوع الواحدة التي قدّمها على الصليب قد رُفعت المذنوبية وطُهرت الخطية، إذ وُجد فداء أبدي في ذلك الدم الكريم.

وهكذا، فهم ليسوا فقط بلا ذبيحة، بل كذلك بلا كاهن، بلا “أفود” إذ قد ضاعت كل السجلات، ومع أنه بقي كثيرون أحياء ممن يتفرعون عن السلسلة الكهنوتية - كما سيتضح في يوم رجوعهم - لكنهم لا يستطيعون أن يتعرفوا على سلسلة أنسابهم، وحتى إذا استطاعوا فليس هناك هيكل يخدمون فيه. وفي هذه الأثناء يقوم الكاهن السماوي بالخدمة في المقدس في الأعالي، لكن عيونهم ممسكة فلا يعرفونه.

من الطبيعي أن يفترض الإنسان أن هؤلاء القوم وقد تنكروا لجميع امتيازات ديانة آبائهم، فلابد أنهم يعودون ويسقطون في الممارسات الوثنية للأمم؛ ولكن لا؛ إذ نجد أنهم استطاعوا أن يقعدوا «بلا تمثال» وبلا «ترافيم». فإن السبي البابلي قد شفاهم من الوثنية. ومن ذلك الوقت لم تعد العبادة الوثنية إحدى خطاياهم القومية. صحيح أنه لم تعد لهم وسائل الاقتراب إلى الله الحقيقي بينما هم يرفضون مسيحه، لكنهم من الجهة الأخرى لا يسيرون وراء الأصنام، بل ينتظرون - كما فعلت زوجة النبي المفدية - إلى ذلك اليوم الذي فيه يعترف الرب بهم علناً مرة أخرى.

وحينما ينتهي التدبير الحاضر، وتخطف الكنيسة إلى السماء، سيشملهم الله بنعمته مرة أخرى، ويتمم مواعيده للآباء. وبعد أن يجتازوا في الأيام الأخيرة ضيقة لا مثيل لها، كما تنبأ إرميا (ص30) ودانيآل (ص11،12) وزكريا (ص12،14) وسيدنا العزيز نفسه في متى 24، وفصول كثيرة مشابهة «يعود بنو إسرائيل ويطلبون الرب إلههم وداود ملكهم ويفزعون إلى الرب وإلى جوده». هذا سيكون تتميماً لما كان يفتش ويبحث عنه الأنبياء، بعد أن ينتهي تيه إسرائيل وتُمحى خطاياهم، ويتجددون هم، وتتثبت لهم المملكة. في ذلك اليوم سوف يكون الرب يسوع ملكاً على كل الأرض، ويجلس على كرسي داود أبيه ويملك بالقوة المجيدة والجلال. وكذلك يبدو، من مقارنة هذا الفصل بالجزء الأخير من نبوة حزقيال، أن واحداً من سلسلة داود - ويدعى “الرئيس” - سيمارس على الأرض السلطان على الأمة الراجعة، تحت سيادة ذاك الذي سيكون قصبة ملكه أورشليم السماوية الجديدة، تلك المدينة «التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله».

وهكذا تنتهي أيام مناحة أورشليم، ويأتي يوم مجد المسيّا. فهذان أمران مرتبطان معاً. فلن تكون هناك بركة تامة لإسرائيل وللأرض إلا بعد إعلان الندم على مأساة الجلجثة، ويتحد اليهود والأمم متضامنين في الإقرار بخطية صلب رب المجد وقتل رئيس الحياة.

وحتى يتم ذلك، فسوف تبقى الحالة التاعسة التي يتحدث عنها الأصحاح التالي، فيما خلا رفع لعنة الوثنية كما رأينا.

سفر

هوشع

أصحاح

4

موثق بالأصنام

الأقوال التي كنا نتأملها في نهاية الأصحاح السابق عن إسرائيل، والأيام الكثيرة التي يقعدها بلا تمثال ولا ترافيم، تبدو أكثر عجباً إذ نتذكر الوثنية الثقيلة التي كانوا قد انحدروا إليها وقت أن دُعي هوشع من الله ليعلن فكر الرب من جهة حالتهم. كانت الوثنية آنذاك هي ما يميز حالتهم، ومنها كالأصل تفرعت الشرور الأخرى التي كان على النبي أن يوبخها.

ولأن الحق كان قد رحل، ورحلت معه الرحمة وكل معرفة عن لله، فقد كان للرب مخاصمة مع سكان الأرض، فإن عينه القدوسة لم تشهد سوى اللعن والكذب والقتل والسرقة والفسق، بدلاً من القداسة والأمانة له. فالعهد الذي دخلوا فيه عند جبل سيناء، قد نقضوه في جميع تفصيلاته. لم تبقَ كلمة واحدة من العشر إلا ونقضوها. فمن أجل ذلك جميعه كان لابد من أن يتحول ضدهم في سياسته البارة، كما أنذرهم بفم المشِّرع الأول (ع1-3).

وقد صاروا من هوان الانحطاط بحيث لم يعد من بينهم من يصلح لتوبيخ غيره. فالكل سواسية في الجريمة. فخميرة الوثنية، التي كانت قد أُدخلت علناً في البرية، ولو أنهم حملوها سراً من مصر، وربما من وراء الفرات** (يش2:24)؛ كانت تعمل عملها الدفين التحتاني، غير مقضي عليها، حتى انتهى بهم المطاف إلى الانحراف الكلي. حقاً «إن المعاشرات الردية تُفسِد الأخلاق الجيدة»، فقد صاروا «كمَنْ يخاصم كاهناً»؛ بمعنى أنهم أبوا في إصرار أن يخضعوا ذواتهم لله يوم أعلن لهم فكره.

والدرس فيما يتعلق بنا خطير. وحسناً قال واحد إن الشر لا يشيخ، ولا يموت مع الأيام. فالخطية غير المحكوم عليها بين شعب الله تصبح مثل برص متفشٍ، أو بؤرة سرطانية، تعمل وتزداد انتشاراً حتى تدنس كل الكيان (ع4).

وفيما يتصل بإسرائيل لم يكن الجهل هو الذي أدَّى إلى انحدارهم أولاً؛ ولو أن النور المرفوض ينقلب حتماً إلى ظلمة، فهم نظير من يعثر في النهار، وهكذا كان الحال مع أنبيائهم. ومن هنا كان لابد من قطعهم (ع5).

«قد هلك شعبي من عدم المعرفة»، تلك مرثاة الرب. غير أن عدم المعرفة هو النتيجة المحققة لرفض الاستماع. لقد عرض عليهم حقه، لكنهم أبوا أن يقبلوه. لذلك يضيف قوله «لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي. ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسى أنا أيضاً بنيك» (ع6). إن النور المرفوض ينقلب إلى ظلمة أكثر عتامة من ذي قبل، وتُذهب بالجاني إلي محن قاسية، ورفضٍ من الله.

وكثيراً ما نجد في تاريخ الكنيسة حالات مشابهة للحالة التي نرى هنا وصفها، وكان لها نفس النتائج. فيوم أقام الله في القرن السادس عشر مارتن لوثر ليعلن بصوت واضح نداء الإصلاح: «البار بالإيمان يحيا»، لم يكن لغالبية الكنيسة المعترفة آذان لسماع الخبر، فغرقوا في خرافات وحماقات أشد عمقاً. وبعد ذلك أقام الوسليون وشركاؤهم لينفخوا في أنف الاعتراف المحتضر في يومهم داعين للتوبة، لكن الغالبية أبت أن تسمع، وأصبحت الكنائس النظامية أكثر نظامية، وفازت الكنائس التقليدية بحصاد وفير من النفوس الهالكة.

وفي مطلع القرن الماضي، حين استُعيدت حقائق وحدة جسد المسيح وحضور الروح القدس، سخروا برجال تلك الحقبة التاريخية، واعتبروا هذه الحقائق تعليماً جديداً. والنتيجة أن المسيحية تسارع الآن منحدرة إلى الارتداد، وصار حضور الروح القدس حقاً مجهولاً في أماكن كثيرة. والكتاب المقدس لم يعد مُعترَفاً بأنه إعلان الله، ووضع في مستوٍ واحد مع الكتابات البشرية، بينما صارت الكبرياء والإدعاء عُدة اليوم ونظامه. وهنا تتم أقوال سيدنا بصورة مرعبة «إن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون (أو فما أقساه ظلاماً)!» (مت23:6).

هل القارئ واحد ممن جاء النور إليهم، ويخشى - أو يأبى - أن يطيعه؟ اذكر أنك حينما تتصرف بحسب فكر الله المعلن في حكمته، فإن سبيلك يشرق ويتزايد نوره إلى النهار الكامل. ومن الناحية الأخرى فإن تَعمُدك تجاهل الحق المعلن، أو رفضك إياه، يقسي ضميرك. ونحن نعرف أشخاصاً كانوا قد تعلموا من الكتاب جانباً من الحق، الذي لو كانوا قد تصرفوا بمقتضاه لخلّصهم من طريق العالم ومن الروابط الدينية العالمية، ولحررهم لكي يخرجوا إلى ذاك المرفوض حاملين عاره. لكنهم أحجموا خشية الخسارة المادية المحتملة، أو المشكلات العائلية. وإذ طلبوا سبلاً أيسر من التي رسمها الكتاب، اسكتوا ضمائرهم وأطفأوا روح الله. وكانت النتيجة المحزنة أن تلك الحقائق التي استمتعوا بها يوماً تجردت من القوة والفعالية الروحية، فقد أصبحت حروفاً ميتة صماء؛ وتصلبت ضمائرهم وانتهت شهادتهم لله. وعبثاً يتحدثون عن تضحيات يبذلونها بأسلوبهم، لكنها لا تجدي عند ذاك الذي قال «الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش».

حسناً أن يكون تاريخ إسرائيل الخطير إنذاراً لنا، وتحذيراً من النتائج الوخيمة لمقاومة ومناهضة الحق. «على حسبما كَثَروا هكذا أخطأوا إليَّ. فأُبدل كرامتهم بهوان» (ع7). فالبركات والخيرات، لم تحوِّل قلوبهم إلى الله، بل بالعكس. لذلك كان لابد أن يعاملهم طبقاً لما يستحقونه. لقد ابتهجوا بآثامهم وتجاهلوا كلمة الله، فلابد أن يسلمهم للهلاك، يستوي في ذلك الكاهن والشعب، كلاهما تحت ذات القضاء. وفي طريق أنانيتهم وإرضاء ذواتهم لابد أن يتعلموا وعلى حسابهم، أنه لا شيء يشبع القلب بعيداً عن السير معه. ولن تستطيع الطرق الدنسة إلا أن «تخلب القلب» فيعثرون ويسقطون «لأنهم قد تركوا عبادة الرب» (ع8-11).

كانوا على استعداد لأن يستشيروا أصنامهم، لكنهم تكبروا عن الرجوع إلى ذاك الذي يدينون له بكل بركة. ومن السهل أن نلاحظ أنه حينما كان الشعب يتحول عن الله كانوا يصبحون أكثر تمسكاً بالطقوس المفروضة والخرافات، بينما يحسبونها مشقة أن يطيعوا صوت الرب. وهذا يصدق أيضاً على الضمير والإيمان. فإن الشخص الذي يشقُّ عليه أن يثق بأقوال الكتب المقدسة البسيطة، يستطيع في يُسر كثير أن يتقبل فروضاً وقواعد، ونظريات غير المؤمنين. فلم يشق عليهم شيء مما كانت تطلبه أوثانهم؛ أما شريعة الرب فاستثـقلوها. لذلك «شعب لا يَعِقل يُصرع»، هكذا قال ذاك الذي اعتدوا عليه علناً (ع12-14). وهذه أيضاً مما «كُتب لإنذارنا». ألا ليت لنا مزيداً من النعمة لكي نتعلم ونعمل بحسب ما تعلمنا. وهذا ما حاول النبي أن يشدد به على يهوذا «إن كنت أنت زانياً يا إسرائيل فلا يأثم يهوذا» (ع15). لكننا بكل أسف نرى فيما بعد أن المملكة الجنوبية قد انحدرت إلى ذات ما ارتدت إليه المملكة الشمالية.

ولأن إسرائيل قد استسلم للارتداد «كبقرة جامحة»، فلا يسع الله إلا أن يمنحهم طريقهم. فيصبحون كخروف يرعى في مكان واسع، مطلق الحرية له أن يذهب في كل اتجاه، ولكن له دينونة آتية عليه لا محالة، ولو حسبوا أنهم سعداء بما هم عليه، فقد كانوا كخراف تسمن للذبح. وقد صاروا مثلاً! «أفرايم موثق بالأصنام؛ اتركوه (وحده)» (ع16،17).

«موثق بالأصنام: اتركوه (وحده)»! ما أخطرها حقيقة! لكأن الله قد استنفذ كل وسيلة لشفائهم، ماخلا وسيلة واحدة، وهي التخلي عنهم، لكي يتعلموا بالاختبار المرير ما أبوا أن يضعوه في قلوبهم بأية وسيلة أخرى. وهذا يقابله في العهد الجديد التسليم «للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع» (1كو5). فإذا بيَّن أحدنا أنه عنيد بالتمام وإلى النهاية، قد يقول الله عنه أحياناً كما قال عن إسرائيل «موثق بالأصنام». عندئذ فكل توبيخ أو محاولة تقويم من إخوته تكون عديمة القيمة. إذاً فليُترك وحده، حتى يتعلم في غربال الشيطان إلى أي مدى انحرف هو عن الله. ولكن الله لا يتعامل هكذا مع النفوس حتى تفشل كل الأساليب لاسترداد الضال. فلما نفذ صبره (نتكلم إنسانياً) تخلى عن أفرايم. لقد احتملهم من الأول، وخدمهم، وأدَّبهم، وتوسل إليهم، لكن بلا جدوى. لقد تعلقوا بطريقهم. وفي آخر المطاف، ولأنه كان يحبهم بهذا القدر، حتى أنه لا يتخلى عنهم إلى الأبد، قال «اتركوه (وحده)».

والآن هم في المكان الذي فيه يتعلمون، عن طريق الاختبار المحزن، نتائج الانحراف بالقلب عن الله. ليُتركوا لشهوات قلوبهم إلى أن يخجلوا من ذبائحهم (ع18،19).

ما أعمق المحبة التي تنم عنها كلمات هذا الفصل وهو يصف تلك الحالة البائسة، وما أرق النعمة التي أصرَّت للنهاية على السعي لاسترداد أولئك الذين لا يستحقون!

أما فيما يتصل بنا نحن، فكم هو أمر ثمين أن نعرف أن نعمته لا تتغير؛ فإن كنا قد خلصنا بدم المسيح الكريم، فنحن أبداً هدف تلك المحبة الأمينة الصابرة التي لا تتحول.

حقاً لن يكون لشيء تأثير فعال على طرقنا نظير هذه الحقيقة؛ وهي أن ضلالنا لم يستطع، ولن يستطيع، أن يطفئ لهيب محبته، كما أن أي تغيير يطرأ علينا لن يقابله تغيير في إلهنا. لذلك يأمرنا الوحي «لا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء». وهذا ليس - كما تصور البعض - تهديداً، بل هو تحريض المحبة الرقيقة لكل واحد من أولاد الله. وإنه لمن الوضاعة أن يستغل إنسان مثل هذه المحبة التي بلا قياس ليفعل إرادته، وهكذا يتصرف ضد روح النعمة.

سفر

هوشع

أصحاح

5

أحجب وجهي

الأصحاح حافل بالخدمة الفاحصة لضمائر شعب الله في كل العهود، وخليق بنا، نحن الذين وقعت قرعتنا في أزمنة الرخاوة التي نعيش فيها، أن نعيها في قلوبنا. ولربما كانت تكوِّن جزءاً من خطاب كان الأصحاح السابق مقدمة له، وأن تكون بقية السفر تكملة له. أو ربما كان كل جزء قد كُتب في وقت مختلف كما قاد روح الله النبي. وعلى أي حال فإن القيمة الأدبية هي هي، والهدف واحد في خلال جميع هذه الأجزاء، وهو استحضار الشعب المرتد إلى حضرة الله، لكي تردَّ نفوسهم ويتمتعون بحلاوة العشرة والشركة مع الإله الأزلي.

والعدد الأول من الأصحاح يخاطب الكهنة والشعب والأسرة المالكة على السواء؛ ويخبرهم بالدينونة المتجهة نحوهم. هي لم تقع بعد، غير أنها كانت كملاك الغضب في يده سيف مسلول معترضاً طريقهم، ولا شيء يجعل السيف يعود إلى غمده سوى التوبة.

لقد كانت توبيخاته لهم بلا جدوى، ذاك الذي كل شيء عريان ومكشوف لعينيه، فقد كان إثمهم قدامه. ومع أنه كثيراً ما حاول أن يشفيهم، إلا أنهم أصروا على أفعالهم التي «لا تدعهم يرجعون إلى إلههم»، ويبدو أن روحاً نجساً قد تملكهم، «روح الزنى... وهم لا يعرفون الرب» (ع1-4).

وليس ذلك فقط، فبالإضافة إلى حالة بؤسهم، فقد تكبّروا متمنطقين بالكبرياء. لذلك «أُذلَّت عظمة إسرائيل في وجهه. فيتعثر إسرائيل وأفرايم في إثمهما ويتعثر يهوذا أيضاً معهما» (ع5). فإن مملكة يهوذا، وقد فشلت في أن تتعلم من خطية أختها، لابد أن تُطرح هي الأخرى خارج الأرض تحت قضاء الله.

إن حكم «لوعمي» المذكور في الأصحاح الأول لا يمكن أن يلغى. فإنه ولو بدت منهم رغبة من نحو الله، فإنهم لن يجدونه؛ فقد ابغضوا المعرفة.

والشعب حينما يرفض النور، فإن النور ينسحب، أما هم فيسلَّمون لظلام قضائي. وهكذا نقرأ هنا «يذهبون بغنمهم وبقرهم (لتقديم ذبائح) ليطلبوا الرب ولا يجدونه. قد تنحى عنهم (أي انسحب عنهم)» (ع6). وبذلك تتم الكلمة التي نطق بها موسى قبل سنوات طويلة «أحجب وجهي عنهم وأنظر ماذا تكون آخرتهم. إنهم جيل متقلب أولاد لا أمانة فيهم» (تث20:32).

لاحظ أن الله لا ينساهم، وأنهم لا يُطرحون إلى الأبد من حضرته، بيد أنه يتنحى عنهم، تاركاً إياهم للمجاعة الروحية والخراب، حتى يتحققوا حالتهم ويعترفوا بها أمامه.

وفي تدبير النعمة الحاضر، لا نعدم مثلاً على هذه المعاملة. فإنه على هذا القياس تصرف سيدنا مع الجَدريين. فإذ وجدهم عاكفين على طريقهم، تركهم إلى حين، وإذ عاد رحبوا به واستقبلوه. والواقع أن هذا الحادث يصور لنا رفضه عند مجيئه الأول، كما يشير أيضاً إلى يوم يرجع بالمجد فيرحبون به هاتفين وصائحين «مبارك الآتي باسم الرب». وهذا جميعه يتوافق مع نبوءة هوشع.

وإلى أن تبدو في الجو أول بوادر التوبة، فإن الرب لا يظل بجانبهم ولصالحهم علناً. قد يسيرون في كبريائهم، يلدون أولاداً أجنبيين ويفاخرون بالتقدم والتوسع، لكن الكل خواء فراغ لأن الديان واقف قدام الباب (ع7).

من ع 8-14 نرى وكأن النبي يرى جيوش الغزاة، ويوم التأديب يحاصر إسرائيل. وعبثاً يضربون بالبوق ويحصنون أنفسهم، وعبثاً يصنعون تحالفاً مع الأشوري؛ فما ذلك إلا استناداً على عصا مكسورة. فقد صار الله كعدو، وهو الذي معه أمرهم. هو لأفرايم ويهوذا كأسد مفترس، ومن قوّته لا يفلت أحد.

غير أنه في هذا جميعه لا يزال يطلب بركتهم. وفي ذلك يقول «أذهب وأرجع إلى مكاني حتى يُجازوا (أي يعترفوا بجريمتهم) ويطلبوا وجهي. في ضيقهم يبكّرون إليَّ» (ع15).

وليس عسيراً أن نتبين روح المسيح متكلماً في النبي. فإن سمات الأيام التي عاش فيها النبي هي عينها التي عمت حين جاء الرب يسوع نفسه. صحيح أن الوثنية لم تكن موجودة بين الشعب أيام الرب يسوع، غير أن الكبرياء والتبجح والأنانية كانت تتعاظم على كل اتجاه. ومن ثم «إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله»، لذلك قال «أذهب وأرجع إلى مكاني». فإذ لم يكن عندهم مكان له، أعطاه الآب أن يجلس في عرشه. وهكذا ترك بيتهم خراباً وصعد إلى العلاء، وهناك ينتظر حتى يعترفوا بجريمتهم. إن الضيقة العظيمة - زمان ضيق يعقوب - سوف تخلق بقية تطلب وجهه بقلب منكسر منسحق. وحينئذ سوف لا يعود يحجب نفسه، بل يظهر كمنقذهم في مجد مستعلن.

سفر

هوشع

أصحاح

6

ماذا أصنع بك؟

الأعداد الأولى ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما كنا نعالجه في الأصحاح السابق، وفي بقية الأصحاح توجيه لضمائر أفرايم ويهوذا.

وليس أوفق من التعبير الذي تنطوي عليه هذه الأعداد، على شفاه البقية الراجعة في يوم قوته العتيدة، قوة ذاك الذي بقي وجهه محجوباً عنهم زماناً طويلاً: «هلم نرجع إلى الرب لأنه هو افترس فيشفينا. ضرب فيجبرنا. يحيينا بعد يومين، في اليوم الثالث يُقيمنا فنحيا أمامه. لنعرف فلنتتبع لنعرف الرب. خروجه يقين كالفجر. يأتي إلينا كالمطر. كمطر متأخر يسقي الأرض».

تلك صيحة البقية الراجعة التي تعلّمت أن تعرف الرب في الأتون المشتعل، أتون فترة الضيق. فها هي تلتمس الطريق إلى صهيون، وبأرواح جازت التأديب يرجعون إلى ذاك الذي طالما ازدروه. ولاحظ أن يقظة الأصحاح الثاني عشر من نبوءة زكريا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بما نجده أمامنا. ونظير نعمي، سوف يدركون أنه هو الذي افترسهم وضربهم، بيد أن الإيمان يُعتمد عليه للشفاء ونوال البركة. وبعد يومي الشهادة الخطيرة لضمائرهم، تلك الشهادة التي قادتهم إلى التوبة الواضحة، يحييهم في اليوم الثالث. هذا اليوم يقابل اليوم الذي يُرش فيه ماء النجاسة على المتنجس (عدد 19)، حتى تعلن طهارته في اليوم السابع، وهكذا يمكن لمن تنجس لميت أن يحيا قدامه. وإذ ينزل في يوم مجده كالوابل على العشب، فإنهم يجدون الحياة والبركة، وسيكون لهم نمو يومي في معرفته في ملكوته خلال الدهر الآتي.

ومع أن هذا هو ما سوف يتحقق فعلاً حين ينتدبون في يوم قوته، لكنهم - للأسف - لم يكونوا في تلك الحالة السعيدة يوم أُرسل إليهم هوشع. لذلك لم تُقدم لهم تلك الصورة المشتهاة للملك الألفي إلا في عبارة وجيزة، قبل أن يمضي روح الله في تعامله معهم بسبب حالة سقوطهم التاعسة، وفي توسلات لطيفة يحرّضهم على الرجوع عن طرقهم الشريرة.

لقد مرت عليهم فترات محدودة بدت فيها الرغبة في الإخلاص للرب، لكنها عبرت سريعاً وظهر أنها كانت رغبة وقتية. لذلك يصرخ بينهم قائلاً «ماذا أصنع بك يا أفرايم؟ ماذا أصنع بك يا يهوذا؟ فإن إحسانكم كسحاب الصبح وكالندى الماضي باكراً» (ع4). وهم يشبهون كنيسة أفسس في يوم تالٍ، فإنهم إلى أجل قصير تمسكوا بمحبتهم الأولى. إن عواطف تلك الأيام الباكرة، على رقتها، يوم ذهبوا وراءه في البرية، قد تبخرت، تبددت ومضت كالندى إذ تطلع الشمس في قوتها. ولذلك، وبدلاً من أن يرسل إليهم أنبياء لبهجة أرواحهم، اضطر أن يرسل لهم خدمة نظير تلك الخدمة التي أُعطيت بواسطة يوحنا المعمدان فيما بعد، حين وضع الفأس على أصل الشجر، القضاء الذي في كبريائهم خرج عليهم (ع5). لكن يجب أن نلاحظ إن أنبياء العهد القديم كانوا كمن ينقبون حول الأشجار لاستئصال الحشائش القاتلة، ويقلّمون أغصانها، وذلك لتنقية الأشجار حتى تثمر. لكن جهودهم باءت بالفشل، فجاء يوحنا ليضع الفأس على أصل الشجر. أجل، فلابد من إسقاطها، إذ لا أمل في الشفاء. والإنسان الأول لم يأت لله بشيء ما، ومن ثم لابد أن يفسح المجال للإنسان الثاني. وهذا هو الفارق الكبير بين آخر أسفار العهد القديم، وبين ما يبدأ به العهد الجديد.

إن مجرد إصلاح وتقويم الصورة الشكلية والطقسية لا يُقنع الله، لهذا يقول «إني أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من محرقات» (ع6). وبالمثل نرى إشعياء يكشف عدم التوافق بين إصلاح الشكليات الطقسية، والقلب المبتعد عن الرب، فالله يريد الحقيقة، وما عداها فإنه سخرية فارغة قدام ذاك الذي عيناه «أطهر من أن تنظرا الشر».

«كآدم تعدوا العهد» (ع7). لقد أعلن الله مشيئته لهم، غير أنهم نقضوا كل وصية، تابعيين شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة. وهكذا غدروا به، غدر به أولئك الذين أقرّوا بأنهم عبيده.

وجلعاد التي طالما كانت موطن الخيرات الطبيعية، قد أصبحت قرية إثم، وتلطخت بالدم (ع8). كان يجب - بوصفها مدينة كهنوتية - أن تكون قدساً للرب، غير أن أولئك غير الأتقياء، بالرغم من تقديسهم ككهنة، لم يكونوا إلا قُطّاع طرق يكمنون للسائرين في الطريق المستقيم؛ يعيشون في النجاسة عوضاً عن أن يعيشوا في طرق الله المقدسة. إن زعماء الشعب أضلوهم، وقادوهم بعيداً عن سبل الحق.

ومن ذا الذي لا يستطيع أن يلمس الحالة عينها، حالة الإثم والفجور التي تتطور الآن بين ما يسمى بالبروتستانتية؟ إن الفجور العلني الذي كان متفشياً في العصور المظلمة قد وَجَد رادعاً في النور الساطع من الكتاب المفتوح، الذي جعل الناس يخزون ويستحون مما كانوا يفاخرون به قبلاً منغمسين في ظلام وجهل الرومانية والقرون الوسطى. غير أن هدف الشيطان الأعظم في هذه الأيام هو تسميم أفكار الناس بتلك التصورات غير المقدسة، لقيادات دينية ملحدة، يطلقون العنان لدنس الروح، ويستغلون مراكزهم كزعماء وقادة الفكر المسيحي - على حد تعبيرهم - ليستغنوا هم، بينما قطيع المسيح الحقيقي يموت جوعاً. ويقيمون رعاة من أولئك الذين وإن كانوا يحملون أسماء مسيحية، ولكنهم رافضون لنعمة الله. وما أظلم مصيرهم يوم غضب الرب، الذي فيه يحكم على الديانة الزائفة.

وبلا جدوى علا صوت النذير قديماً. وبلا جدوى يعلو في يومنا؟ فقد مضت الغالبية في عهدهم وعهدنا على السواء في طريقها، لا تعبأ بتوبيخاته الخطيرة. «في بيت إسرائيل رأيت أمراً فظيعاً. هناك زنى أفرايم، تنجس إسرائيل» (ع10).

يبدو وكأن العدد الأخير (ع11) يسمح بتفسير مزدوج، فليهوذا قد تهيأ حصاد حين يجتمع سبيهم. وهذا قد يعنى أن الله سوف يحصل على حصاده مهما تكن خيبة الإنسان، ذلك عندما يرجعون إليه آخر الأمر. ولكن حيث أن يهوذا وحده هو الذي يُذكر هنا، بينما أعلن الرب إثم المملكتين، فأستطيع أن أتبيَّن أن الحصاد المشار إليه هو حصاد الدينونة المرعبة، التي سوف يحصدونها بسبب رفض المسيّا. ولابد أن يجتاز يهوذا في هذه الدينونة العارمة، قبيل رجوعهم وبركتهم. لأن العشرة الأسباط لم يكن لهم دور في رفض الرب يسوع، وليس على رؤوسهم تنصبُّ اللعنة التي أثارها الشيوخ المسعورون يوم صاحوا «دمه علينا وعلى أولادنا». ومن ثم فإن يهوذا ينتظره حصاد مريع. لقد زرعوا الريح، فليحصدوا الزوبعة، يوم تنسكب جامات غضب الله على الأرض النبوية.

سفر

هوشع

أصحاح

7

خبز مَلـّة لم يُقلب

الدينونة هي فعل الله الغريب. وما كانت لديه رغبة قط في معاقبة الشعب الذي أدخله معه في علاقة عهد، مع أنهم من البداية نقضوا العهد. فكم عرض عليهم البركة والرجوع مشروطين بالتوبة، وكثيراً ما أراد أن يشفي إسرائيل، عندما بدرت بينهم بادرة للحكم على الذات. حينئذ كان لابد أن يعلن «إثم أفرايم وشرور السامرة. فإنهم قد صنعوا غشاً. السارق دخل. الغزاة نهبوا في الخارج» (ع1).

ولكن ما من أي انسحاق بسبب آثامهم استطاعت عين القدوس أن ترى؛ إنما الخطية والإثم الذي أصروا على ممارسته، برغم جميع التوسلات للإقلاع والكف عنهما. وفي طمأنينة جسدية لم يفكروا بقلوبهم أن آثامهم جميعاً مخزونة، حتى أحاطت بهم أفعالهم فصاروا مكشوفين أمامه. بينما رؤساؤهم مبتهجون في شرورهم التي انحدروا إليها، راضون بحالة الشر وعدم الأمانة التي سادت في الشعب.

والعدد الرابع يرسم أمامنا صورة واضحة لهذه الحالة «كلهم فاسقون كتنور محمّى من الخباز. يبطِّل الإيقاد من وقتما يعجن العجين إلى أن يختمر». كانت خميرة الشر تعمل في الأمة سراً منذ زمن بعيد، أما الآن فقد أوشكت أن تفسد العجين كله. إذاً فقد نجحت جهود الشيطان، لقد دخلت خميرة الوثنية بينهم مبكراً، وإذ لم يحكموا عليها فقد عملت بتأثيرها في الأمة كلها. ولا ريب في أن الرسول كان يوجّه أنظار وأفكار القديسين في كورنثوس إلى هذه الحقيقة وهو يقتبس من هذه الأقوال فيكتب إليهم «ألستم تعلمون أن خميرة صغيرة تخمِّر العجين كله؟». كذلك يشدد على ذات هذه الحقيقة في رسالته إلى الغلاطيين (1كو5: 6، غل5: 9). والخمير في الكتاب ما كان ليرمز إلى شيء حسن، هو دائماً دليل على أحد أشكال الشر. ونحن هنا نرى إسرائيل مختمراً بنظام الوثنية الدنس، وبتأثيراته الفاسدة، عاملاً عمله المميت جيلاً بعد جيل. وإذا ما وضعت الخميرة في العجين، فإن الخباز يعلم أنها لابد تعمل بحسب طبيعتها، فينام الليل. ولكن تنور الدينونة معدٌّ للصباح.

وفي المسيحية الاسمية نجد ذات هذا الأمر. فقد أخبرنا الرب يسوع عن امرأة أخذت خميرة صغيرة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع. ويجب أن نلاحظ أنه لا يوجد ما يسمونه "خميرة الإنجيل"، وإنما يحذرنا الكتاب من خمير الفريسيين والصدوقيين والهيرودسيين؛ ويبدو أن هؤلاء يشيرون إلى الرياء والتعليم الفاسد والروح العالمية على التوالي. وفي رسالة كورنثوس الأولى (ص5) نقرأ عن خميرة الشر والخبث. أما ما يسمونها "خميرة النعمة" فلا ذكر لها إطلاقاً في الكتاب المقدس. إذاً نفهم من هذا أن خميرة الوثنية دخلت إلى إسرائيل يوم صنعوا العجل في البرية، وإذ لم يحكموا عليها ويقضوا عليها تماماً فقد ظلت تعمل، حتى اختمرت الأمة كلها. هكذا استطاعت امرأة في بكور تاريخ الكنيسة، وهي الكنسية الزائفة، أن تدخل خميرة الضلال في خبز شعب الله، وهي الخميرة التي لم تنتزع إلى اليوم، بل هي تعمل بنشاط لتخمر العجين كله. فهي تشبه «سر الإثم» الذي يحذرنا منه الروح القدس في تسالونيكي الثانية، والذي سيكمل في بابل العظيمة وفى ضد المسيح.

والمؤمنون مطالبون بأن ينقوا منهم «الخميرة العتيقة» كلما ظهرت في اجتماعاتهم. على أنه متى كانت الغالبية قد أُفسدت حتى لم يعد هناك عمل الطاعة لكلمة الرب، فعلى من يريد أن يكون «إناءً للكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح» أن يطهر نفسه من كل شركة غير مقدسة، وأن يسلك بالانفصال عن كل ما لا يتفق مع القداسة التي تليق ببيت الله، وأن ينشئ شركته مع الذين يتبعون البر والإيمان والمحبة والسلام، الذين يدعون الرب من قلب نقي (2تي2: 16-20).

وفيما يتعلق بإسرائيل، لم يكن هناك رجاء. فقد كانت الهيئة السياسية، ممثَّلة في الملك الذي على رأسها، الذي يمرض من سورة خمر افتخار الجسد، ويبسط يده مع المستهزئين. وكانت قلوبهم كتنور الخباز الذي ينام طوال الليل والخمير يفعل فعله، بينما التنور يُحمَّى لخبيز اليوم التالي. وهكذا هم يتممون دينونتهم إذ ليس بينهم من يدعو إلى الله (ع5-7).

«أفرايم يختلط بالشعوب، أفرايم صار خبز مَلّة لم يُقلَب. أكل الغرباء ثروته (أو قوته) وهو لا يعرف، وقد رُش عليه الشيب وهو لا يعرف. وقد أُذلَّت عظمة إسرائيل في وجهه وهم لا يرجعون إلى الرب إلههم ولا يطلبونه مع كل هذا» (ع8-10). هذا الجزء ينبِّر على حقيقة عدم إحساسهم بحالتهم الحقيقة. مثل خبز ملة (كعك) موضوع على جمرات النار، وقد نسيته ربة البيت حتى احترق من أحد جانبيه لأنها لم تقلِبه؛ هكذا الحال معهم، فقد كانوا غير مباليين بحقيقة أمرهم أمام الله، وإذ لم يستمع مجموع الشعب إلى تحذيرات النبي، فقد مضوا في طريقهم بلا اكتراث، معتقدين أن أمورهم على ما يرام، بينما كانت كلها خطأً في خطأ. إن هذا الارتداد اللا شعوري الواضح هو الخاصية المحزنة في كثيرين اليوم، فهم مبتعدون عن الرب، وإن كانوا يعترفون به. وإذ هم راضون عن حالتهم فإنهم كخبز ملة لم يُقلب، فنظرتهم هذه التي من زاوية واحدة لحالتهم هي التي تكشف لصاحب العين الممسوحة أن في الأمر خطأً جذرياً. وكم من قديسين ينظرون إلى الحق كمجرد تعليم، بينما يتساهلون في السلوك في ذلك الحق من يوم إلى يوم. إنهم خبز ملة لم يقلب، فاسودَّ أحد جانبيه، بينما الجانب الآخر عجين لم يستوِ. قد يكونون من الناحية التعليمية أصحاء، لكنهم من زاوية الاختبار العملي هم متساهلون، وغير مباليين.

وفى بعض الأحيان ينعكس الوضع، فيبلغ الاهتمام بناحية الاختبار مبلغاً كبيراً، بينما يكون قليلاً أو منعدماً من جهة ما يسمونه "التعليم الجاف". إن التمسك «بصورة الكلام الصحيح» له ذات الأهمية التي للعيشة بالتقوى. والواقع أن التعليم هو الأصل لكل ممارسة، وما نحصله من اختبارات قد يكون من النوع المغلوط إذا كانت هذه الاختبارات غير ناتجة عن معرفة فكر الله كما هو معلن في كلمته. فلا ننسَ قَط أن الحق والممارسة يسيران معاً، كما أن المركز والحالة لا ينفصلان عن أحدهما عن الآخر.

أن أول خطأ مروع سقط فيه أفرايم هو اختلاطه بالشعوب. فلقد دعا الله إسرائيل ليسكن وحده، وبين الشعوب لا يحسب. ولم ينتج من الاختلاط بأولئك الذين كانوا قد انفصلوا عنهم يوماً سوى الشر. ونحن نعلم أن "اللفيف" هو أول من جلب عليهم المشقة والعناء في البرية، بعد تذمرهم وحنينهم إلى المآكل المصرية بدلاً من الخبز النازل من السماء، رمز ربنا يسوع المسيح آتياً بالنعمة لمواجهة حاجة شعبه. ثم حين فشل بلعام في أن يلعن لأن الله قد بارك، فإنه علَّم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل بواسطة اختلاطهم ببنات موآب، الأمر الذي كانت ثمرته إيقاع الدينونة المرعبة، التي أوقعها رمح فينحاس. وهذا النوع من الاختلاط كان عِلة تحطيم شمشون النذير الجبار، الذي تخلى عن سرِّ قوته يوم نام على ركبتي دليله. ومنذ ذلك المثل كم من خادم لله جبار قد تخاذل - بكل أسف - وضعف كواحد من الناس بطريقة كهذه! وهكذا نستطيع أن نتعقب آثار السلوك في هذا الشر خلال تاريخ الأمة المختارة، حتى انتهى بها المطاف إلى أن يطرحها الرب تحت القضاء، لتختلط بالأمم حتى يشبعوا من الاختلاط بالغرباء الذين أكلوا ثروتهم (قوتهم) وخلفوهم للخراب.

والدرس خطير بالنسبة لنا، نحن الذين دُعينا دعوة عليا، لكي نسلك بالانفصال عن عالم شرير وكنيسة فسدت. ولا ننسَ أن عدم التمييز فيما يتعلق بالانفصال بين الطاهر والنجس كم كان له من الآثار المحزنة على شهادة الآلاف واختباراتهم. ومع ذلك فما أبطأنا في التعلُّم. ألا ليت لنا قلوباً بين جوانبنا، تتعلق بالرب وتسمع قوله «أخرجوا من وسطهم واعتزلوا»!

وإنه لمن العبث أن نرجو إصلاحاً أو علاجاً لما ليس من الله إذا امتزجنا واختلطنا به في شركة وعلاقة وثيقة، تماماً كما هو بلا جدوى أن نحاول تعليم العصفور المزقزق أن يقلد غناء العندليب، وذلك بوضعهما معاً في قفص واحد. فالنتيجة الوحيدة لهذا المزج غير الطبيعي أن يتوقف العندليب عن أنشودته، بينما يظل العصفور على حاله يزقزق بلا تأثر‍. وكم من قديس ضاعت منه أغانيه يوم اختلط بأهل العالم وكنيسة العالم! قد يفاخر مثل هذا القديس بروحه المتحررة وبسعة أفقه، لكنه مثل أفرايم لا يشعر بحقيقة الأمور؛ بينما الذين لهم الذهن الروحي يخفضون الرأس حزناً وهم يقولون «أكل الغرباء قوته وهو لا يعرف، وقد رُشّ عليه الشيب وهو لا يعرف».

والشيب هو مظهر القوة الذابلة الآخذة في الرحيل. وهو هنا يحدثنا عن أن صاحبه في طريق الانحدار، وأن الشيخوخة والتحلل في طريقهما إليه. لكن أفرايم، نظيره نظير غيره من المرتدين بالقلب، كان يجهل تماماً حقيقة الأمور. وفي هذه الحالة يرى الآخرون الشيب وقد رُشَّ عليه. فيرون الإهمال في ناحية، وعدم المبالاة في ناحية أخرى، يرون غراماً وحنيناً وراء الصداقات العالمية. فتتناقص الفرص التي تُقضى في الصلاة ودرس كلمة الله، مع شغف متزايد بما هو مبهج وطائش، واسم يسوع قلّما يكون على الشفاه، بينما هناك ميل متزايد للمباحثات غير النافعة، ولكن اقرأ تيموثاوس الأولى 15:4،16 لترى المباينة الكبيرة.

ويصاحب هذا بالضرورة ادعاء بالاستعلاء والتسامي «عظمة (أو كبرياء) إسرائيل تشهد على وجهه». ومع هذا فلا رجوع إلى الله ولا رغبة في معرفة فكره بشأن هذا جميعه، حتى يذلُّوا بالتأديب.

لكن أفرايم يشبه الحمامة الرعناء، لا قلب له من نحو ذاك الذي حملهم في حضنه، قد تحولوا إلى مصر ثم إلى أشور طلباً للعون في ساعة التجربة. غير أن محبة الرب لهم جعلته لا يدعهم يجدون استقراراً في أمور العالم ومظاهره وعظمته الجوفاء الخاوية. لذلك بسط عليهم شبكته كمن يصطاد عصفوراً بشراك. ولن يدع أولئك الذين هم في علاقة عهد معه أن يمضوا في طريقهم طويلاً (ع11،12).

لقد أذنبوا إليه مع أنه فداهم، هذا يذكِّرنا بقوم، في يوم تال، انحرفوا عن الله ونسوا تطهير خطاياهم السالفة. وفي عدم مبالاة بحقيقة حالهم يعودون باللوم على الله بسبب ما حدث لهم، كأنه لا يد لهم في الأمر، ومن هنا يتهمهم بأنهم تكلموا عليه بالكذب. ونذكر كلمة قالها الأخ الحبيب ويجرام "كم من مرة أفكر في أن الله كان قاسياً معي، ناسياً كم من مرة كنت أنا فيها قاسياً مع الله". وهذه هي دائماً حالة القلب الذي لا يتضع قدام الله في الحكم على الذات (ع13).

وهكذا ظلوا لسنوات، فلا هم يطلبونه وهم مختلون لأنفسهم أو على مضاجعهم في بيوتهم، ولا حين يجتمعون معاً في مناسبات كان يجب أن يكون محفلاً مقدساً، فصارت مواسمهم للانطلاق والمرح. «يولولون على مضاجعهم»، لكن ليس في توبة، وإنما في شكوى من تأديبه عوض أن تنصبَّ شكواهم على طرقهم الشريرة. كان الرب قد درَّبهم على الثقة فيه، وشدد أذرعهم ضد خصومهم، بيد أنهم كافئوه شراً، يرجعون إلى أية مناسبة دون الرجوع إلى الله. وهكذا ما أفسد قلب الإنسان، حتى القديس، عندما يتحول عن الله، ولذلك لابد من تركهم ليختبروا أعمق الحزن والمذلة نظير إنسان كورنثوس الأولى5، الذي سُلِّم للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب. فرؤساؤهم يسقطون، وهم أنفسهم يصيرون هزءاً وسخرية في أعين حلفائهم المصريين الذين اعتمدوا عليهم باطلاً (ع14-16).

إن طريق الإنسان بكل تأكيد ليست في ذاته. ليس لإنسان أن يهدى خطواته. ومن هنا الحاجة إلى انسحاق الروح والحكم على الذات قدام الله كي يهدينا في سبل البر من أجل اسمه.

سفر

هوشع

أصحاح

8

إناء لا مسرة فيه

وكأن الله يستنفذ كل أساليب التشبيه، في تصوير الحالة التاعسة التي انتهى إليها شعبه المخدوع، وقلوبهم التي ثبتوها على الانحراف عن ذاك الذي كان خيرهم الحقيقي الوحيد. لقد تأملناهم قبلاً في حالة سقوطهم الشقية البائسة، ممثلين في الزوجة الزانية، وفي السكارى بسَوْرَة الخمر، وفي البقرة الجامحة، وفي العجين المختمر، وفي خبز الملة الذي لم يُقلب، وفي الحمامة الرعناء، وفي القوس المخطئة. والآن يحذرهم أنه بسبب خطاياهم سوف يتبددون بين الأمم «كإناء لا مسرة فيه».

تلك هي النتيجة المنطقية لعهد سيناء، حيث ألزموا أنفسهم بأن يطيعوا كل كلمات الشريعة، التي وعدت بالبركة لمن يحفظونها، وتوعدت باللعنة على ناقضي وصاياها. وإسرائيل، طبقاً لهذا الأصحاح، قد نقضوا الشريعة من كل اتجاه! وعلى هذا الأساس لم يبق لهم حق في شيء. أما أن عند الله موارد نعمة عجيبة عتيدة أن تفتح أبوابها، فذلك ما يوضحه الأصحاح الأخير، لكنهم إنما يدخلون في خيره حينما يعترفون بخطيتهم، ويتخلون عن كل إدعاء بأي استحقاق.

وكأن النبي نفخ في الصور ليستدعي الجماعة كلها إلى حضرة الرب، لكي يواجهوا حقيقة حالتهم كشعب تجاوز العهد وتعدى على الشريعة (ع1).

ومن العدد الثاني نشتَّم رائحة رجوع عتيد «إليَّ يصرخون، يا إلهي نعرفك، نحن إسرائيل». لكنه قول يحمل في طياته عدم الإحساس بحقيقة حالهم يومئذ، وخلال سنوات ضلالهم وهم تحت يد الله. هم يقولون «نعرفك، نحن إسرائيل»، بينما يسيرون طوال الزمان في غبائهم، إذ طرحوا كل بر فهربوا من قدام أعدائهم. أقاموا ملوكاً بحسب قلبهم، وأقاموا رؤساء دون مشورة الرب وفي كل مكان تفشت الوثنية، ولم تكن خدمة الهيكل إلا سخرية (ع3،4). وهكذا هم يعترفون بأنهم يعرفون الله، لكنهم بالأعمال ينكرونه. وكم هو يسير بالأسف الانحدار إلى مثل هذه الحالة التي يرثى لها، والتي يصورها روح الله هنا! فاليوم ما أكثر الذين يقولون إنهم شعب الرب، أو الذين يقولون - على حد تعبيرهم - إنهم “في خط الشهادة”؛ بينما هم يتساهلون مع الإثم ويسلكون غير طائعين لكلمة الله. ولقد قال سيدنا في يومه «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون. فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون». فقد كان في مقدورهم أن يتكلموا بأقوال حسنة طبقاً للناموس، لكن التصرف كان دليلاً على حالة نفوسهم؛ وما كان أبعدها عن الله! وينبغي أن نذكر، أنه ولو كان على درجة كبرى من الأهمية أن يكون الإنسان في موقف سليم من الناحية التعليمية وغيرها من نواحي الحق، غير أن مجرد اتخاذ موقف صحيح شيء لا قيمة له إذا كان غير مصحوب بحالة قويمة للنفس. صحيح إن إغفال أي من الجانبين يجلب خسارة، لكن ليس هناك ما هو أردأ من التفاخر على أساس اتخاذ “قاعدة إلهية” ومواصلة السير في “خط الشهادة”، بينما الحياة مدنسة والقلب غير خاضع للحق.

لكن النفس التي تتحول عن الإله الحي الحقيقي إلى الأوثان من أي نوع، لابد أن تتعلم آخر الأمر معنى الحرمان والنسيان، عندما تعوزها المعونة عند الحاجة. إن عجل السامرة طوَّح بهم، فصرخوا كما فعل كهنة البعل في أيام إيليا، لكن لم يكن من مصغٍ ولا من مجيب. وهل يكون غير هذا وهم الذين وثقوا بأعمال أيديهم؟ (ع5،6).

لقد زرعوا الريح، فليحصدوا الزوبعة، وهذا عين ما يحدث مع كل نفس. على أنه ما أبطأنا في التعلم! فمن الناحية النظرية نجد أن جميع القديسين يعرفون أنه لا توجد بركة حقيقية بعيداً عن السير مع الله، ولكن من الناحية الاختبارية كم ينخدع الكثيرون وينقادون وراء آلهة أخرى حين تسنح الفرصة لكسب امتيازات. أما أخيراً، فيتحقق الجميع أن الثمرة الوحيدة لمثل هذا النوع من الزرع إنما هي الفشل والحزن. «زرع ليس له غلَّة لا يصنع دقيقاً. وإن صنع فالغرباء تبتلعه» (ع7).

دعنا نطبق هذا على كل نواحي الحياة، وحينئذ نجدها قاعدة لا تقبل استثناء. قد نرى نجاحاً ظاهرياً منظوراً، يجيء في أعقاب التمرد، ولكن يجب ألا نؤخذ بالمظهر، فليس المنتهى بعد. وقد نتخيل أنه في الإمكان عدم اعتبار الله وكلمته، ولكننا لابد أن نتبين في مرارة النفس أنه في الواقع شر عظيم أن نختار بأنفسنا سبيلاً نسلكه.

وإننا لنستطيع أن نذكر كم زوجة انكسر خاطرها، كمثال على المبدأ المذكور هنا، وكم زوجاً تاعساً صار عيِّنة حية للمبدأ ذاته. فلقد نهى الله نهياً صريحاً عن النير المتخالف؛ والكلمة في هذا الشأن واضحة، والقديس الشاب يعرفها وهي في ضميره، وكذلك القديسة الشابة. غير أنه يحدث أن يعترض سبيل أيهما شاب أو فتاة، يبدو حسناً كشريك المستقبل. فيتطور الاحترام إلى عاطفة، وتنضج العاطفة لتصبح حُباً، ومن ثم يُطرح اقتراح الزواج، وعندئذ تبدأ فترة الشك والتردد. إن كلمة الله واضحة كل الوضوح، ولكن وصاياها الواضحة كثيراً ما تُنسى، ولا تُذكر إلا صفات الملاحة والحسن. أما أن الطرف الآخر لم يخلص بعد، فتلك مسألة يُتجاوز عنها. قد يكون للطرف الآخر استعداد لحضور اجتماعات المؤمنين، ورغبة في سماع أقوال الكتاب، فيحسب المؤمن أو المؤمنة أن ذلك برهان على بداية عمل الله في النفس. وأخيراً يقع الشريك المؤمن في الفخ ويدخل تحت ضغط النير المخالف، الأمر الذي تتبعه فوراً حياة كلها ندم. وفي معظم الحالات سرعان ما يتبدد الاهتمام بالأمور الإلهية ويموت مع الأسابيع الأولى من الحياة الزوجية، ويحل في مكانه، إن لم تكن مقاومة علنية مكشوفة، فعلى الأقل برود وعدم مبالاة بالأمور الأبدية التي لا يمكن أن يعوضها اللطف أو الاحترام. وهكذا يقع الجانب المولود من الله في تعاسة مزدوجة، فمن جهة يستشعر ضميره، الذي لابد أن يستيقظ بعد فوات الأوان، بحالة عدم الطاعة التي وضع نفسه فيها؛ إذ يتحقق أن الشريك الذي أحبه لا يهتم بالله أو مسيحه. ومن الجهة الأخرى فما لم ينتبه هذا الشريك البائس ويُقبل إلى المسيح فيخلص، فإن هذين اللذين أحب كلاهما الآخر على الأرض لابد أن ينفصل أحدهما عن الأخر طوال الأبدية.

وهكذا وعلى عديد من صور العلاقات والممارسات يتم هذا الناموس عينه، سواء في حياة العمل، أو الحياة الاجتماعية أو الدينية. ألا ليتنا نتعلم مما أوضحه الله لنا بجلاء في كلمته، ومن الاختبارات غير السعيدة التي عاناها الآلاف من القديسين، ومن خطورة العبث بالضمير، والتلاعب بالحق الذي يقدس النفس الطائعة!

ولما أبى الشعب الأرضي أن يطيع كلمة الله، لم يسعَ الله، آخر الأمر، إلا أن يقول «قد ابتُلع إسرائيل، الآن صاروا بين الأمم كإناء لا مسرَّة فيه» (ع8). في عدد واحد يصف النبي تاريخهم خلال ألفين من السنوات. فإذ طُردوا من أرضهم، وتبددوا بين الأمم، كانوا كإناء لم يجد الله فيه مسرة. وهنا تتجلى المفارقة بين أولئك وبين ذاك الذي جاء لكي يخلصهم! فقد أعلن الآب إعلانه المشهور «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، يوم قدَّم نفسه في المعمودية كمن جاء ليفعل في كل حين ما يرضي الآب. هو إناء مسرة ومرضاة الله، أما إسرائيل فقد صار إناءً لا مسرة فيه. ويا لها مفارقة!

عبثاً اتجهوا نحو أشور أو سواه من الشعوب المجاورة. إذ لا معونة تُرجى لهم وهم تحت لعنة الناموس المنقوض. ومثل حمار وحشي أظهروا طبيعتهم التي لا تقبل الترويض. لم يتعلموا كيف يطيعوا، ومن ثم لابد أن يحزنوا تحت سلطان الظالم الأممي، نبوخذ نصر ملك بابل، الذي جعله الله «ملك الرؤساء» (ع9،10). وواضح أن الله يتجاوز الأشوري، ويضع عينه على الشخصية التي عُهد إليها مُلك الأمم جمعاء لأول مرة.

لقد أكثر أفرايم مذابح الخطية، حين ذبحوا للشياطين وليس لله. وخطيته لابد أن ترجع على رأسه (ع11).

وفي ع12 نجد أساس وسبب مخاصمة الرب لهم «أكتب له كثرة (أي عظائم) شرائعي، فهي (أو لكنها) تحُسب أجنبية». كان لزاماً عليهم أن يتصرفوا على هدى الكلمة المكتوبة، ولكنهم فشلوا. ولذلك فإن الديان واقف قدام الباب. وكما كان معهم، هكذا الحال مع النصرانية التي لم تتجلَّ مفضوحة مثلما تتجلى في زماننا. فإن كلمة الله محتقرة، وغير ذات موضوع من كل النواحي. والعاقبة ليست بعيدة.

وما دامت الكلمة محتقرة، فمن العبث أن يأتوا بتقدمات ويذبحوا ويأكلوا لحماً قدام الرب. فإنه لن يقبل عبادة من شعب متمرد مفترٍ. هو يذكر خطاياهم، ولابد أن يقتصّ منهم لأنهم رفضوا شريعته. فإلى مصر لابد أن يرجعوا، كما حدث بالفعل، إذ رجعت بقية إلى مصر في أيام إرميا الأخيرة «فقد نسي إسرائيل صانعه وبنى قصوراً (أي هياكل)». طرحوا وصاياه وراء ظهورهم، ومع ذلك أقاموا هياكل تقام فيها عبادة مزعومة. والتاريخ يعيد نفسه. فإن هذه الأقوال تصلح وصفاً للأمور السائدة في يومنا. لكن يوم الرب قادم، ولسوف تنزل - كما في الماضي - نار من عند الله تأكل المشاريع الباطلة التي أقامها المتكبرون المتبجحون، عندما تدق ساعة الغضب (ع13،14).

لنذكر هذا: إن المسؤولية تعظم طبقاً لحق الله المعلن. أذاً فما أخطر فترتنا الحاضرة، وما أخطر النتائج إذا كنا نختزن الحق في الأذهان، فهذا لا يمكن أن يغيِّر الحياة.

سفر

هوشع

أصحاح

9

أيام العقاب

الشخص العالمي الفاجر، لهو - نسبياً - أسعد من القديس الذي يبتعد في قلبه عن الله الذي هو أبوه. وهذا ما يعززه العدد الافتتاحي لأصحاحنا.«لا تفرح يا إسرائيل طرباً كالشعوب لأنك قد زنيت عن إلهك». فالشعوب التي لم تعرف الله قد تواصل طريقها في شيء من البهجة، جهلاً وخرافة. أما إسرائيل فلن يكون له هكذا. فإنه وقد صار يوماً موضوع رحمة الله الذي أعلن لهم ذاته كالإله الحقيقي الحي، لا يمكن أن يسعد إذا عاد إلى خطيته.

بل إن ذكريات الأفراح الماضية، والساعات والأيام التي طالما ابتهجت فيها النفس بالله، ووجدت في كلمته طعاماً شهياً، تزيد من فراغ وكآبة تلك الاختبارات المؤلمة التي يجوزها المرتد بقلبه، وهو مملوء بابتكاراته.

وكم هي رحمة لنا! فإننا خليقون بأن نحمد الله الآب لأننا لا نقدر أن نتمتع بالسلام الحقيقي والسعادة الصحيحة بينما لا نكون في شركة مع ذاك الذي نحن مدينون له بكل خير في أيدينا. صحيح أن النفس البعيدة عنه قد تجد نوعاً معيناً من النشوة في حماقات الأرض، لكنها إنما هي «تمتع وقتي بالخطية» لا يمكن أن يُقارن بتلك الحقائق الكريمة التي كانت نصب عيني المرنم وهو ينشد «في يمينك نِعم (أي مباهج أو مسرات) إلى الأبد».

وهكذا نقرأ عن إسرائيل العاثر، فلا البيدر والمعصرة كفيلان بأن يشبعانهم، ولا المسطار بقادر. كما أنهم لن يبقوا في أرض الرب، بل يرجعون إلى مصر، ومن طعام أشور النجس يأكلون. وإذ هم احتقروا خدمة الرب، فلابد يُقطعون من هيكله ولا يأكلون من ذبائحه (ع1-4).

ثم يحاصرهم بهذا السؤال «ماذا تصنعون في يوم الموسم وفي يوم عيد الرب؟»، حين يتذكرون وهم متبددين بين الوثنين مواسم البركة الماضية، ويذكرون أنه قد عادت الدورة بموسم جديد، لكنهم منزوعون عن امتيازاته، ماذا عساهم يصنعون، وكيف يتسنى لهم أن يُشبعوا نفوسهم؟

وإنه لعلى قدر كبير من الأهمية أن يتفكر شعب الله في هذه الأمور! فكم يا ترى مؤمنون غرّر بهم العالم، وشغلتهم حماسة الطموح والمطامع غير المقدسة، وتستثيرهم الكبرياء، فيسمحون لأنفسهم أن تتخلى عن البساطة التي في المسيح! أولئك الذين كانت لهم الأحاديث العذبة معاً وهم في طريقهم إلى الاجتماع، الذين كانت لهم محبة لمخلِّصهم وللحق الإلهي، ولكنهم تشتتوا! أولئك الذين مرة امتلئوا بالتأملات المعزّية وهم جالسون حول مائدة الرب، يتذكرون محبته لنا في آلامه حتى الموت، قد طواهم الظلام! وماذا عساهم تكون مشاعر أناس كهؤلاء، وهم في يوم الرب يستعيدون إلى أذهانهم من خلال مشاهد التدين العالمي، أو العالمية غير المتدنية، تلك المحافل والمناسبات الروحية التي كانوا يقضونها أمام الرب في بهجة مقدسة؟ فحتما يذكرون هذا، في الوقت الذي ينهمكون فيه بما لا يقرّه الرب، يتذكر أولئك القديسون الذين كانوا يوماً معروفين بين الأحباء الذين لهم شركة واحدة، الواحد مع أخيه، وجميعهم مع الرب نفسه، عند الموسم الذي رسمه قلبه المحب ليذكرنا بشخصه وقد غاب عن عيوننا. في مثل هذه الذكريات المؤثرة لابد أن تختلط مشاعر من الحزن والتبكيت، ليس من اليسير التغلب عليها.

هكذا لابد أن تكون - على قياسهم - طبيعة ذكريات إسرائيل عندما تحاصرهم مناسبات الفصح ويوم الكفارة العظيم أو عيد المظال البهيج، وهم قد تبددوا بين الغرباء وليس في مقدورهم أن يساهموا ويشاركوا في الامتيازات التي استخفّوا بها يوماً. لقد ذهبوا من أرضهم سلباً لمصر (رمز العالم الذي أُنقذ منه المؤمن مرة)، ومقدساتهم (نفائس فضتهم) أُخذت فريسة لأعدائهم، وهم أنفسهم يجرِّحهم العوسج بأحزان كثيرة (ع6). يا له خراباً! لكنها صورة حية لكل نفس مرتدة!

وفي هذا جميعه إنما يحصدون ما قد زرعوا. لقد قالوا «النبي أحمق، إنسان الروح (أي الإنسان الروحي) مجنون»!! وبمثل هذا القول كانوا يسكّتون ويهدّئون ضمائرهم بسبب كثرة آثامهم. ومتى جاء هذا كله سيعلمون أنه «جاءت أيام العقاب، جاءت أيام الجزاء» (ع7).

كان رقيب أفرايم - النبي الذي يريد إرجاعهم عن شرهم - مع الله، ولكنهم قالوا عنه «النبي فخ صياد على جميع طرقه». قالوا هذا بسبب حقدهم على بيت الله (ع8). من اليسير التشهير بالإنسان الذي يوبخ الخطية بأمانة، ويجاهد لوقف الانحلال في النفس. غير أن خمير شر جبعة، الذي نقرأ عنه في الأصحاحات الأخيرة من سفر القضاة، كان لا يزال يعمل بينهم، وبعد تلك الحقب الطوال. فالخطية لا تموت موتاً طبيعياً، بل ينبغي أن تدان تماماً. هي مثل الخميرة، توقفها النار، أي الدينونة، سواء دينونة القديس لنفسه أو دينونة الله. لأن الخطية تظل تعمل حتى تدان. وإذ ما سقط فيها الفرد، أو أدخلت إلى الجماعة، فإنها تظل تعمل إلى أن يحكم عليها الفرد نفسه، أو يحكم عليها شعب الله، أو الله نفسه. هذا هو الدرس الخطير الذي أمامنا. لا شك أن هؤلاء الذين كان يخاطبهم النبي قد نسوا كل ما يتصل بأيام جبعة، أو قد يحتجوا بأن حادثة جبعة وقعت قبل مولدهم بأجيال، ولذلك فمن العبث تحميلهم وزر ما مضى. لكن عين الله القدوس رأت ما هو أعمق، فقد رأى أن الفساد وإرادة الجسد اللذين ظهرا في جبعة لا يزالان سائدين عليهم، مما يتطلب تذللاً وحكماً على الذات قُدّام وجهه. وهذا ما تجاهلوه، ولذلك لابد أن يفتقدهم ويذكر خطاياهم (ع8،9).

هذا أمر خطير، ومن شأنه أن ينبّهنا إزاء حالة فشل الكنيسة وخرابها الذريع في الوقت الحاضر. أوَ لسنا بعضاً من بيت الله المقام على الأرض في المسؤولية؟ هل على قلوبنا الإحساس بما لحق الله من هوان في ذلك البيت، الذي نحن بعض منه؟ ليت الله يعطي نعمة للقارئ والكاتب، حتى يتغلغل الحق في القلب ويستثير الضمير، وهكذا يهدينا إلى أن نميز بتقوى ما يناقض القداسة التي تليق ببيته، وإلى الحكم على الذات بسبب الدور الذي أسهم به كل واحد منا في الإبقاء على ما ليس من الله. من اليسير أن نحكم على الآخرين، لكننا مطالبون أن نحكم على ذواتنا. بيد أن الحكم الصحيح يعود بنا إلى تعقب طريق الانحلال الذي سار فيه شعب الرب الذين ارتبط بهم واتحد معهم في البركة والمسؤولية. وهذا يقتضي ضميراً حياً، وهو على النقيض تماماً من الادعاء الإكليريكي والكبرياء الروحية.

في ع10 يستعيد الله، في حب عميق، ذكرى التاريخ الأول لشعبه، يوم وجد إسرائيل كعنب في البرية، ثمرة مشتهاة لذاته في أرض ناشفة بلا ماء. ولكن ما أسرع ما تلاشت بكل أسف تلك النضارة الباكرة! فبعد زمان ليس بطويل «جاءوا إلى بعل فغور ونذروا أنفسهم للخزي»، فلقد نفّذوا حرفياً مشورة بلعام اللعين الذي علَّم بالاق أن يلقي معثرة أمام الأمة المنفصلة المفترزة، ذلك أن بنات موآب أفلحن فيما خابت فيه كل رقى الأنبياء الكذبة «وصاروا رجساً كما أحبوا».

فمن البداية أثبت أفرايم أنه غير جدير بالثقة، لذلك فلتكن كرامته كطائر، وليثكلوا هم حتى لا يبقى أحد. أجل، يقول الله «ويل لهم أيضاً متى انصرفت عنهم» (ع11،12).

لنضع في بالنا أبدا أن روح التبني - الروح القدس الساكن فينا - الذي يختم جميع المؤمنين في تدبير النعمة الحاضر، لن ينصرف عمن ميّزهم الله كخاصته مهما يكن فشلهم، لكن هناك ما يناظر الحالة الموصوفة هنا، أي أن المؤمنين إذ يحزنون الروح القدس تنقطع شركتهم، ويكُفّ الرب عن الاعتراف بالقديس كشاهد له متى صار انحرافه سلوكاً مميزاً.

لقد كان أفرايم مرة مغروساً في مرعى، لكن سيحُرم البنين. إن أفرايم معناه "مثمر"، لكنهم سوف يكونون بلا ثمر، عقيمين، وحتى إن أعطوا بنين فإنهم يُعدُّون للموت (ع13،14). فالشركة مع الله، والثمر لله، يسيران معاً. فإذا انعدمت الأولى، انعدمت بالتالي الثانية.

إن الجلجال، الموضع الذي تدحرج فيه عار مصر، والشاهد على تكريسهم لقدوس إسرائيل، لم يكن الآن سوى شهادة على شرهم، وذلك بسبب تمردهم عليه. وحينما يقول «لا أعود أحبهم» فليس معنى هذا أن قلبه أو قصده قد تغيَّر، وإنما المقصود أنه سوف لا يتدخل علناً من أجلهم، يسلمهم لأعدائهم، وعلى قدر ما يرون يكون كمن لا يعود يحبهم (ع15).

وهكذا أساء أفرايم إلى معنى اسمه، فإذ يُضربون بالتأديب «لا يصنعون ثمراً» وإن صنعوا، فإن يد الرب ستكون عليهم للإبادة. وبهذا الأسلوب يبرِّر الله قداسته، فيطردهم من أمام عينيه ليكونوا تائهين بين الأمم (ع16،17). ومنذ البداية كان موسى قد حذّرهم من هذا، لكنهم لم يسمعوا ولم ينتبهوا إلى ما كان يجب أن يبقى أمامهم لو كانت لهم عيون ترى وآذان تسمع وقلب يفهم. ولهذا لابد أن يتعلموا بالتأديب لأنهم احتقروا كلمة الرب. وهل نحن، ولدينا نور أعظم، أحكم من أولئك؟ لنمتحن ذواتنا قدام ذاك الذي عيناه كلهيب نار، ونجيب على هذا التساؤل كما في حضرته المقدسة.

سفر

هوشع

أصحاح

10

جفنة ممتدة

في الأصحاح السابق نستمع إلى النبي وهو يستعيد ذكرى تاريخ إسرائيل، يوم وجده الله كعنب في البرية. ففي تلك الأيام السعيدة لخلاصهم الأول أخرجوا ثمراً قليلاً للرب (ص10:9). والآن نقرأ قضاءه الخطير عليهم كشهود خابوا في شهادتهم إلى التمام «إسرائيل جفنة ممتدة (أو فارغة) يخرج ثمراً لنفسه» (ع1).

إن درس الجفنة درس هام، نفعل حسناً إن نحن تتبعناه خلال العهدين القديم والجديد. ففي مزمور80 وابتداء من عدده الثامن نقرأ أقوالاً ذات دلالة هامة «كرمة من مصر نقلت. طردت أمماً وغرستها. هيأت قدامها فأصّلت أصولها فملأت الأرض. غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله، مدت قضبانها (أو أغصانها) إلى البحر، وإلى النهر فروعها». هذا هو إسرائيل بحسب فكر الله كشهادته على الأرض، وكان يجب أن يظلوا هكذا لو كان لهم فكر التواضع والقلب الخاضع، مما يقود إلى الثقة في الله والاتكال عليه باستمرار. لكنهم أظهروا العكس، والكتاب يجلو ذلك بوضوح. «يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحش البرية» (مز13:80). لقد جاء الله يطلب ثمراً، فنظر إلى كرمته منتظراً عنباً، لكنه وجد رديئاً (إش5). وهوشع يصف الكرمة بأنها «ممتدة» أي فارغة! لم يكن فيها ثمر للرب، بل كان كل ما فيها للذات.

من أجل هذا طُرحت كرمة الأرض وهُدمت جدرانها، وسوف تدان في القطاف المريع العتيد (رؤ18:14-21). وترتيباً على رفض الجفنة الممتدة، أدخل الله كرمة تحمل ثمراً. كرمة يجد عليها ثمراً متواصلاً. وهكذا يقول الرب يسوع، إنسان مقاصد الله، لتلاميذه في يوحنا15 إنه هو «الكرمة الحقيقة»، فيأخذ مكان إسرائيل للاحتفاظ بشهادة الله على الأرض. على أنه - تبارك اسمه - يضم معه مفدييه في هذا المشهد: «أنا الكرمة وأنتم الأغصان». ربما يمكن إقحام أغصان خاوية ضمن الأغصان، فتنتسب للكرمة دون أن تكون لها بها علاقة، ولكن لا يُرجى منها ثمر. أولئك هم المعترفون الزائفون الذين قُطعوا وطُرحوا كأغصان ذابلة، نهايتها الحريق. أما الأغصان المثمرة فإنها تُنقَّى لكي تأتي بثمر أكثر. فالآب يتمجد عندما تأتي بثمر كثير.

نفهم من هذا أن الكرمة رمز مرتبط بالأرض. فهي شهادة الله في العالم، التي سُلِّمت لإسرائيل مرة، والآن يحفظها ويصونها المسيح نفسه في شعبه المحبوب في المشهد الحاضر. لقد طُرِحت الجفنة الممتدة بالدينونة، وحلّت محلها الكرمة الحقيقة التي لن تُطرح، لأنها المسيح نفسه وشعبه فيه. ولذلك فمهما يكن الفشل الفردي فإن المسيح هو «الشاهد الأمين الصادق» (رؤ14:3).

إن الأصحاح العاشر هذا إنما هو ختام الأدلة الصارخة على فشل إسرائيل الذريع وسقوطه وحالته المحزنة التي يصفها العدد الأول. أجل، فقد ضاع في الوقت الحاضر كل أمل في الشفاء. ولابد أن يجوزوا المذلة والضيق، ثم التوبة كنتيجة حتمية، قبل أن يعودوا إلى مركزهم، وإذا ما عادوا واحتلوه، فإنما يعودون كأغصان في الكرمة الحية، مرتبطين بمسيّاهم الذي رفضوه مرة، بوصفه شهادة الله في الملكوت الألفي. لا تحت العهد القديم، ولا على أساس مسؤوليتهم (حيث فشلوا من البداية) بل تحت العهد الجديد، عهد نعمة الله الخالق المتجهة نحوهم، النعمة السامية التي لا تقوم على استحقاقات بشرية.

ومطلع العدد الثاني يذكِّرنا في عبارة موجزة بأصل الداء، «قسموا قلوبهم» أي توزعت قلوبهم. هنا علة كل حزن وخيبة، فهم لم يثبتوا في الرب بعزم القلب. كانوا ذوي رأيين، ومن ثم تقلقلوا في طرقهم. لكن القلب الموحد لمجد الله هو الضرورة الجوهرية للحياة المقدسة، الأمر الذي أغفلوه، ومن ثم كان عليهم أن يأكلوا من ثمرة اختراعهم.

إن السير مع الرب بقلب موزع، أمر مستحيل. فهو - له المجد - لا يطالب بالمكان الأول، أو بالاهتمام الأول في القلب، كما يقول الناس، بل يطلب الكل. لذلك يقول «يا ابني أعطني قلبك»، القلب كاملاً بدون أي تحفظ. وعندما يتم هذا الشرط، وعندئذ فقط، يكون سلوكنا وطريقنا بحسب فكره. وهنا تجلت خيبة إسرائيل، كما تشهد مذابحهم الوثنية. وحينما أدّبهم الله على خطيتهم، وعوض أن يعترفوا بعدالة معاملته معهم، سعوا ليقطعوا عهداً مع الأمم لكي يفلتوا من التأديب. وإذ لم يكن لهم رئيس يخلصهم، بذلوا جهوداً بائسة ليكفلوا لأنفسهم ذراع بشر يستندون إليها، لكن الله لم يسمح بذلك. (ع3،4).

فسكان السامرة، الذين ظلوا لسنوات طويلة يتقون الرب ويعبدون آلهتهم (2مل33:17)، سوف يرعبهم فيخافون «على عجول بيت آون» التي اعتمدوا عليها، إذ في آخر المطاف، وبعد اختبارات وامتحانات طويلة المدى، كتب الله “إيخابود” على المملكة الشمالية برّمتها. وهكذا ارتحل المجد وانتهى عنهم (ع5). ومن ثم فلابد أن يُحملوا إلى أشور كهدية، ويأخذ أفرايم خزياً ويخجل إسرائيل على رأيه، أي من مشورته. ويبدو ضعيفاً ملك السامرة كغثاء على وجه الماء، قد يبدو إلى لحظة كحقيقة، لكنه يذهب جفاء.

غير أن العدد الثامن ينظر إلى تطبيق قضائي آخر أخطر وأكمل من هذا التطبيق الثانوي الأول على انتصار الأشورى. فالاصطلاحات التي يستخدمها العدد تربطه بالتحطيم الشامل للنظام القائم في الأيام الأخيرة، كوصف الختم السادس في رؤيا6. حينئذ «يقولون للجبال والصخور اسقطي علينا واخفينا عن وجه الجالس على العرش»، هذا عندما ينالون من يد الرب ضعفين عن خطاياهم، ويتحققون في مرارة النفس من حماقتهم في الانتقال عن الله الحي.

ثم يعود ويذكِّرهم كما في ص9 بأنهم أخطأوا من أيام جبعة. فإن ذلك الشر الذي لازمهم لم يكونوا قد حكموا عليه وأدانوه بالتمام، بل بالحري استمر كالخمير، يفعل فعله طوال كل السنين، حتى اختمر العجين كله. لذلك لابد من تأديبهم، رغبة منه في بركتهم. لقد أحبهم، ولهذا فلابد من تأديبهم على خطاياهم.

ولعلَّ «الإثمين» المشار إليهم بالقول «في ارتباطهم بإثميهم» هما «الشرّان» اللذان يحدثنا عنهما إرميا (إر13:2). فقد تركوا ذاك الذي هو الينبوع الحي، ونقروا لأنفسهم آباراً مشققة. ويوجِّه إليهم إشعياء اتهاماً شبيهاً بذلك، حيث يتهمهم بمعصيتين: رفض مسيح الله، وإقامة العبادة الوثنية.

على أن العددين 11،12 يحملان الثمرة السعيدة لطرق تأديب الرب، وقد ورد العددان كجملة اعتراضية قبل أن يعود النبي ويستأنف في الأعداد الختامية موضوع خطيتهم وقصاصها. فإن يهوذا وأفرايم، كثورين متمرنين، سوف يخضعان للنير، ويجدان مسرة في درس الحنطة، عندما يكونا قد تعلما الدرس في حضرة الله. وإنما ذلك يكون عندما يزرعان بالبر والتقوى، فيحصدان بالرحمة. إن الأرض البور لابد أن تفتتها قوة الكلمة في نشاط الروح القدس، لابد من عملية الحرث حتى يتم التجاوب متى حان الوقت لطلب الرب حتى يأتي «ويمطر عليكم البر». وفيما يتعلق بنا، فإن لهذا القول تطبيقه الحاضر، لو أن لنا القلوب الخاضعة.

ومع أن البركة تنتظر إسرائيل ويهوذا، فإن الثلاثة الأعداد الأخيرة تصف حالتهم الشقية إلى أن ينتدبوا في يوم قوته.

لقد حرثوا النفاق فلن يحصدوا إلا الإثم، ولن يأكلوا إلا ثمر الكذب، لأنهم لم يثقوا فيه بل وثقوا بطرقهم وبكثرة أبطالهم. وتكون النتيجة الحتمية التخريب والإتلاف بدلاً من إصلاح الثغرات (انظر إشعياء12:58). إن بيت إيل التي كانت مركزاً لوثنيتهم، سوف تصبح برهان خرابهم، إذ تتحدث، كما من قبل، عن ارتدادهم المحزن. أما يهوذا فقد حُفظت، كما نعلم، إلى حين، حُفظت كسراج من أجل داود إلى أن يظهر المسيّا. لكن ملك إسرائيل آنذاك كان لابد أن يُقطع تماماً ويُهدم عرشه، ولا يعود إلى مكانه حتى يأتي الذي له حق الملك. ويومئذ سيلتئم الشرخ الذي بين إسرائيل ويهوذا، كما تنبأ جميع الأنبياء، حينما تأتي أيام الفرج من وجه الرب. وإذ ذاك لن تكون «الجفنة الممتدة» وصفاً للشعب الأرضي، بل يكونون كرمة مزهرة تتأصل وتنبت أغصاناً محملة أثماراً، أغصاناً مرتفعة، لمدح مجد نعمة الرب.

سفر

هوشع

أصحاح

11

رُبُط المحبة

مقارنة متى 15:2 مع ع1 «لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني»، يتضح أن الله كان ينظر، والنبي ينطق بهذه الأقوال، إلى ابنه العزيز ربنا يسوع المسيح. وواضح بما لا يقبل الشك أن اغتراب الطفل المقدس في أراض مصر كان «لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: من مصر دعوت ابني». على أن النظرة المدقِّقة للأعداد الأولى من أصحاحنا تكشف بجلاء أن النبي نفسه لم يكن أمامه سوى إسرائيل قومياً وهو ينطق بهذه الأقوال. فقد كان يتناول خلاص إسرائيل قديماً من بيت العبودية، يوم أحبه يهوه ودعاه كابنه من أرض سيادة الفراعنة.

فهل بين الاعتبارين تناقض؟ حاشا. بل قُلّ إنه هناك توافقاً ومطابقة كاملة تفرزها عبارة أخرى من الكتاب. فنحن نتعلم من 2كورنثوس17:3، إذاً قرأناه فيما يتصل بالأصحاح برمته، أن الرب هو روح العهد القديم، وهو يُرى في كل أجزائه للعين الممسوحة. ومن هنا كانت كلمات متى في إنجيله بوحي إلهي حين قرّر أن أقوال هوشع تحدثت نبوياً عن خروج ابن الله من مصر. فكأنه - تبارك اسمه - شاء في نعمة عجيبة أن يبدأ اغترابه الأرضي بنفس بداية شعبه، ولذلك يطلب هيرودس نفسَه وهو بعد طفل، فيُحمل على مدى الطريق ذاتها التي سلكها يعقوب، حين دفعته المجاعة إلى مصر، ومن تلك الأرض التي منها نجا شعبه وهم تحت ثقل فرعون، يرجع إلى فلسطين فيما بعد. وهكذا شاء أن يندمج معهم في تيهانهم، لكي يفهموا كيف أن الروح القدس كان يعنيه بالقول «في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم».

ومنذ دُعي من مصر، كان أبداً الشخص الذي به سُرّ الآب. وعلى النقيض تماماً مع إسرائيل! فإذ قد افتداهم يهوه بقوته من الطغيان المصري فابتعدوا عنه، مع أنه ناداهم بأرق محبة. وإذ تحولوا عنه ذبحوا للبعليم وعبدوا تماثيل من صنع الإنسان (ع2).

يومئذ درَّج أفرايم، علَّمه كيف يخطو خطواته الأولى، ممسكاً بذراعه، موجِّهاً طريقه. ولكنهم، كطفل جاحد، سرعان ما تناسوا ذاك الذي يدينون له بالكثير، ولم يعرفوا أنه كان يشفيهم. وفي لطف بالغ يعيد على أسماعهم قصة تلك السنوات الخوالي، حين كان يجذبهم بحبال البشر وبربط المحبة، رافعاً النير عنهم، مهيِّئاً لهم كل ما يلزم لإعالتهم وتمتعهم بالخير (ع3 4). وما من قديس إلا ويرى في هذه الأقوال الجميلة قصة خلاصه شخصياً من الخطية والشيطان، يوم جِيء به لأول مرة إلى معرفة المسيح. وإذ كنا مستعبدين طويلاً فيما هو أردأ من الاسترقاق المصري، فكم كان كريماً بما لا يقاس ذلك الإعلان الأول عن نعمة الله لنفوسنا، يوم اجتذبنا لذاته من شرنا وضلالنا بربط المحبة، تلك الربط التي كانت في الواقع حبال إنسان، الإنسان يسوع المسيح، الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع! هيَّا بنا نتحدى قلوبنا: بماذا قابلنا محبة عميقة رقيقة بهذا القدر! وأي بعلٍ هذا الذي غرّر بالبعض منا، فابتعدنا عن ذاك الذي كان مرة كل شيء لقلوبنا، يوم كنا نخطو خطواتنا الأولى في البرية مع ذاك الذي نحن مدينون له بالكثير والكثير جداً؟ وكن على ثقة يا أخي المؤمن أنه إلى أن نحطم كل وثن، فإننا لن نستطيع أن نختبر مرة أخرى طلاوة وحلاوة تلك السنين الخاليات، إذا كنا نسمح لأرباب أُخر أن تسيطر علينا.

وإذ تحرر إسرائيل قومياً من مصر، لم يكن في مقدوره أن يرجع إليها. ولكن بسبب خطاياهم أُسلموا ليد الأشوري، كما ستكون الحال، وعلى نطاق أكثر رعباً، في الأيام الأخيرة حين يستقر عليهم السيف «من أجل آرائهم» (ع5،6).

تلك هي النتيجة المُرة لنسيانهم إلههم وسيرهم في طريقهم الأحمق الخاطئ. فمن البداية كانوا جانحين إلى الارتداد عنه، ومع أنه دعاهم للتوبة مرة أخرى، غير أنهم واصلوا حماقتهم، حتى لم يكن شفاء (ع7).

لكن قلبه الحاني يهتف في الداخل «كيف أجعلك (أي أتخلى عنك) يا أفرايم؟... قد انقلب عليَّ قلبي. اضطرمت مراحمي جميعاً» (ع8). عزَّ عليه أن يجعلهم كمدن الأمم التي انصبَّ عليها غضبه بلا رحمة. إن أدمة وصبويم كانتا من مدن السهل (تك8:14) التي مُحيت يوم هوت سدوم وعمورة تحت قضائه (تث23:29). ومن قضاء مثل هذا كان موسى قد حذَّر إسرائيل إن هم لم يحفظوا شريعة الله المقدسة. إذاً فبحق أوقع عليهم الحكم الرهيب. ولكن الله، مستنداً إلى سلطانه، يقرر «لا أجري حموَّ غضبي، لا أعود أخرب أفرايم لأني الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط» (ع9).

وهذا شيء مبارك جداً أن نتحقق أن الله الذي أعطى كلمة بالنعمة لن يندم، أو يسمح بلعن لشعب باركه (كما أوضح لبلعام) ومع ذلك فإنه يحتفظ لنفسه بحق الرجوع عن حموِّ غضبه، مهما كان استحقاقهم، بل يظهر رحمته لشعب اختياره على أساس توبتهم. ولهذا ومع أنه كان يستطيع بحق أن يهلك أفرايم عن بكره أبيهم، فقد أبقى بقية بالنعمة، بقية تكون لمدح مجده في أرض آبائهم حين يمشون وراء الرب، في اليوم الذي فيه «كأسد يزمجر» يجعل شعبه يرتعد من كلامه، بعد أن كانوا مرة عمياناً، حين «يعيد يده ثانية ليقتني بقية شعبه التي بقيت من أشور ومن مصر ومن فتروس ومن كوش ومن عيلام ومن شنعار ومن حماة ومن جزائر البحر» (إش11:11). وتلبية لندائه سيعودون، نائحين بسبب خطيتهم، فرحين في محبته «كعصفور من مصر وكحمامة من أرض أشور» ويسكنهم في بيوتهم بحيث لا يتزعزعون مرة أخرى كما تكلم الرب (ع11).

إن هذا العدد يستكمل جزءاً محدداً من النبوءة، يمتد من دعوتهم الأولى من مصر، إلى رجوعهم إلى الله في الأرض في أيام الملكوت الألفي.

أما العدد الأخير فإنه مقدمة موافقة لأصحاح 12 الذي يفتتح موضوعاً جديداً ينتهي بنهاية الأصحاح 13. لما كان هوشع يتنبأ، لم يكن شر يهوذا قد أُعلن وتجلى مثلما تجلى شر الأسباط العشرة، الذين أضلهم يربعام من البداية، وحوّلهم عن الرب، وأقام العجول الذهبية لعبادتها. فقد كانوا وثنين من البداية، وسار جميع ملوكهم في خطوات يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ. ولذلك فقد أُعلن الحكم عليهم مبكراً، لأن الله يقول «قد أحاط بي أفرايم بالكذب وبيت إسرائيل بالمكر»، ولم يستجيبوا للإنذارات والتوسلات الكثيرة التي أرسلها إليهم الرب. لكن الأمر يختلف كثيراً فيما يتعلق بيهوذا. فإن الانحلال كان بطيئاً بينهم. ومن هنا نقرأ «ولم يزل يهوذا سائراً مع الله وأميناً للعلي» (ع12). ففي زمان نبوءة هوشع كان لا يزال في يهوذا قدر معين من التكريس للرب. وإلى جانب ذلك فقد تتابعت النهضات، استجابة لنداءات التوبة بفم الأنبياء. ولكن لنلاحظ أنهم، بمرور السنين، صاروا هم أيضاً أقل تجاوباً مع صوت الله، حتى فقدوا كل اعتبار واهتمام بقداسته. لذلك ظهر الرياء بصورة خاصة في يهوذا «هذا الشعب يكرمني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عني بعيداً». وهنا الخطر حيث يكون التعليم صحيحاً، والصورة الظاهرية حسنة، بينما القلب مبتعد عن الله. هذا هو خمير الفريسيين (لو12:1)، فليتحذر منه كل ابن لله.

سفر

هوشع

أصحاح

12

موازين الغش

12 من الأصحاح السابق يبدأ - كما قلنا - قسم جديد من النبوءة، قسم يستعرض الله فيه بأسلوب فاحص تفاصيل مفاسد أفرايم، ويعرِّى ينابيع كيانهم الأدبية، تلك التي انطلقت منها فجور تمرداتهم على الله إلههم.

لقد كان أفرايم - نظير الجامعة الملكي - في سعيه الباطل وراء ما يملأ القلب ويشبعه بعيداً عن الله، إنما يرعى الريح، يتغذى عليها، يتبع الريح الشرقية المخربة وبذلك يثبت أن «الكل باطل وقبض الريح (أو انقباض الروح)» إذ يكون القلب مبتعداً عن المصدر الحقيقي لكل خير. وفي محاولتهم لأن يتحالفوا مع الأشوري القوى الذي كانوا يرهبونه، ويرسلوا - كرشوة في الواقع - الزيت إلى مصر ليشتروا معونة عدوهم القديم، كانوا يقصدون بذلك أن يحوِّلوا اليوم الشرير، لكنهم إنما كانوا يتبعون الأكاذيب والتخريب. نعم ولن يكون في ميسور الفطنة البشرية أن تحوِّل أو تلغي يوم معاملات الرب معهم من أجل خطاياهم (ع1).

وكانت له كذلك مع يهوذا خصومة، فإن كلمة التشجيع التي حملها إليهم ع12 من ص11، لا تعني حتماً أن الله شبعان بهم. فإن ذرية يعقوب في مجموعها كانت تتباهى باعوجاجات والتواءات ذاك الذي طلعت منه. ومن هنا فلابد من معاقبتهم بحسب طرقهم، ومجازاتهم بحسب أفعالهم (ع2).

في الأعداد من 3-6 نرى يعقوب شخصياً أمامنا، صورة من كل الوجوه للشعب الذي تفرع منه. وإذ هو منذ مولده متعقب، فقد أظهر من البطن روح الطمع، قابضاً بعقب أخيه كما في تكوين26:25. بيد أن النعمة دخلت في الميدان، وفي ضيقته تمسك بالله، وجاهد معه (أو كما في هامش إحدى الترجمات "تصرف مع الله كأمير")، مترجماً عن اسمه الجديد - إسرائيل، أمير مع الله.

وإذ عجز عن مواصلة المصارعة تعلق بذاك الذي كان يتصارع معه، وهذه القوة التي بها غلب، إذ بكى واسترحمه. تلك هي التي يقول عنها واحد "قوة الضعف التي لا تقاوم"، فتعلق بذلك القوي، كما يقرر الرسول «حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوى»، وذلك هو سرُّ غلبته مع الله الذي وجده في بيت إيل، طريداً شريداً بسبب خطيته. وأعتقد أن القول «هناك تكلم معنا» يفترض ويتضمن أن كلمة الرب له في تلك الليلة حين كان يتوسد الأحجار، كانت موجهة كذلك لكل بيته، حتى إلى نهاية الزمن. فمهما تكن سقطاتهم فإن عينه أبداً عليهم «والرب إله الجنود، يهوه اسمه». أو «يهوه ذكره».

ليت إسرائيل تعلم، من هذا جميعه، أن يرجع إلى إلهه ويحفظ الرحمة والحق وينتظره دائماً! لكنهم عوض ذلك إنما سلكوا في طرق أبيهم، ومن هنا يطلق الله على أفرايم تشبيه «الكنعاني» أي التاجر الذي في يده موازين الغش. وهو فعلاً كنعاني، وهل من وصف أدق من هذا للعبراني منذ كان؟ فضميره لا يؤنبه إن هو استغل حاجة ضحاياه، وهو يطمع دائماً فيما لدى غيره، حتى أنه يهنئ نفسه على زيادة ثروته قائلاً «جميع أتعابي لا يجدون لي فيها ذنباً هو خطية» (ع8).

ولكن مهما تكن عتامة الصورة في الوقت الحاضر (أي منذ أيام هوشع حتى الآن) فإن الرب لم يطرح إلى التمام الأمة التي هو إلهها «من أرض مصر». وفي نعمة خالصة سوف يعيدهم إلى أرضهم القديمة متمِّماً مواعيده، آتياً بهم إلى كامل الاستمتاع بعيد المظال، يوم يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته بلا خوف من أحد، إذ تكون أتعابهم وقد انتهت، والدروس وقد استوعبوها، والحروب وقد أكملوها (ع9).

ولأجل هذه الغاية تكلم الله بالأنبياء، وكثَّر الرؤيا مستخدماً الأمثال، ليضغط على ضمائر الشعب بحالتهم التاعسة، مشجِّعاً إياهم بوعد البركة على أساس التوبة (ع10). وعند قراءة خدمة أولئك الأنبياء، من المهم أن نضع في بالنا تعليم العهد الجديد الذي يقول إنه ما من نبوءة في الكتاب من تفسير خاص، بل ينبغي أن نقرأ الكل على ضوء طرق الله كما أعلنها تماماً هوشع ودانيآل. فإن نهاية وحي نبوءات رجلي الله هذين، هي فتح الباب ليوم الرب وإقامة الملكوت بالمجد على الأرض، يوم يرجع إسرائيل بالقلب إلى الرب الذي مرة رفضوه، ويقترنون بمسيحهم كابن داود الذي له طال انتظارهم.

لقد كانت الغاية من خدمة الأنبياء هي الكشف عن حقيقة حالة الأشياء وهكذا كشفوا إثم الجلجال. لقد كتب على الجميع "بُطل". ففي الجلجال، حيث تدحرج عنهم عار مصر، ذبحوا ذبائح، لكن ليس للرب. كانت المذابح في كل موضع مثل أكوام الحجارة في أتلام الحقل، ولكن ليس لمجده (ع11). ولابد أن يكون لعملهم رمز سابق في يعقوب الذي بسبب خديعته هرب إلى أرام، وهناك رعى غنم لابان ليشتري زوجته بالمال والجهد (ع12). ويوم جاء وقت الرب المعيَّن لإخراج إسرائيل من مصر، فإنه بنبي أصعدهم، وبنبي قادهم في البرية وحفظهم في كل تجاربهم (ع13). فإلى هذا النوع من الخدمة ينبغي أن يلتفتوا مرة أخرى قبل أن يُنقَذوا من عبودية خطاياهم ويؤتى بهم إلى الاستمتاع بالميراث الموعود.

لكنهم عوض الانتباه إلى كلمة الله والاتضاع قدامه حين أرسل إليهم عبيده، نجد أنه قد «أغاظه إسرائيل بمرارة، فيترك دماءه عليه ويرد سيده عاره عليه» (ع14). إن الانتباه والخضوع للخدمة المرسلة من الله يؤدي إلى الاتساع والبركة، أما رفض شهادة الروح فإنما يضاعف ذنب من يقسي قلبه إزاءها، ويزيد من سوء حاله. هذه قاعدة صحيحة أن النور المرفوض يزيد من كثافة الظلام. ومن هنا تأتي الحاجة إلى ضمير حساس حي، يتجاوب مع كل كلمة من الله.

  • سفر

    هوشع

    أصحاح

    13

  • فيَّ عونك

    الكلمات الاستهلالية لهذا الأصحاح «لما تكلم أفرايم برعدة ترفّع في إسرائيل، ولما أثم ببعل مات» (ع1)، التي هي خير استطراد للوحي الذي بدأه العدد الأخير من ص 11، تطرق أبواب ذاكرتنا بكلمات الرب لشاول يوم أبى أن يستمع لصوته في صموئيل الأول 17:15.

    وهذه الأقوال تسرد لنا التاريخ الروحي لآلاف ممن بدأوا بداية طيبة، ولكن كانت نهايتهم محزنة، حين فشلوا في الثبات في الرب بعزم القلب. ولو أننا تتبعنا دراسة تاريخ كثير من ملوك يهوذا لوجدنا تجسيداً لهذا الوصف، ولكن يختلف الأمر فيما يتعلق بملوك إسرائيل وذلك، مردُّه أن واحداً منهم لم يبدأ مع الله قط، فجميعهم كانوا يعبدون الأوثان. واحد فقط من تلك الكوكبة الوثنية، هو يهوآحاز، قيل عنه إنه تضرع إلى الرب وذلك عندما كان في ضيقة شديدة.

    ولكن وجد بين ملوك يهوذا كثيرون بدأوا حسناً، ويصح أن نطبق عليهم ما قيل في أحدهم «في أيام طلبه الرب أنجحه الله»، على أن الفشل كان في طريق معظمهم، فشوَّه شهادتهم وجلب عليهم الحزن والمشقة.

    لما تبنى الله أفرايم لأول مرة كان صغيراً في عيني نفسه «وتكلم برعدة»، أي أنه، وقد استشعر هوان قدره وعدم كفايته، اتضع حينما أتت إليه كلمة الرب. ويقول الله «إلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش2:66). وهكذا كان أفرايم في طلاوة أيامه الأولى. وإذ كانت هذه حالته «ترفع إسرائيل، ولما أثم ببعل مات»، وكم يؤسفنا أن تكتب العبارة الأخيرة! ما كان أسعد أفرايم، وما كان أسعد الآلاف من القديسين الآن، لو أنهم لم يتركوا محبتهم الأولى! وهذه جميعها كُتبت مثالاً لنا، وليت إلهنا يعلمنا بها أن لا نثق بقلوبنا الخدّاعة، بل نسلك قدامه في هدوء، في توقير وخوف. وبغير هذا السبيل لن نُحفظ من الهزيمة الأدبية والروحية، فإن الثقة بالذات هي بداية الهزيمة النكراء القاصمة.

    والملاحظ بوجه عام أنه بعد الخطوة الأولى في البعد عن الله، تكون كل خطوة تتلوها أيسر من التي قبلها؛ فتَقِّل لسعات الضمير، وتخفت نبضاتنا إزاء مجاهدات الروح القدس المحزون في داخلنا، إذ تتقسى قلوبنا بغرور الخطية. وهذا ما كان مع أفرايم «والآن يزدادون خطية»، هكذا يقول النبي مستطرداً في تصويره للوثنية الشنيعة التي ملأت الأرض، وغشت كل طبقات الشعب (ع2). والنتيجة أنهم يُحملون بالدينونة. «لذلك يكونون كسحاب الصبح وكالندى الماضي باكراً، كعصافة تُخطف من البيدر وكدخان من الكوة (المدخنة)» (ع3). وبهذه الطريقة كان الرب «ينقي بيدره».

    ولكن، كما هي العادة، لم يشأ أن يقضي قضاءً نهائياً على شعب اختياره، بل بالعكس، بقي لهم الإله الوحيد الحقيقي، الرب الذي كان إلههم من أرض مصر. ولسوف يأتي اليوم الذي يعترفون به وحده، ولا يعرفون إلهاً سواه، لأنه وحده مخلص إسرائيل. ففي البرية - الأرض الناشفة واليابسة - كان يعولهم حتى ارتفع قلبهم، ولما شبعوا من كل شيء نسوه، ولذلك فإن الذي منحهم تلك المراحم سيكون لهم كنمر في الطريق، وكدبة ثكلى تشق شغاف قلوبهم، وتمزقها كأسد. وقد أعدَّ وحش البرية لكي يفترسهم (ع4-8).

    من التشبيهات التي يستخدمها النبي يبدو أننا أمام أكثر من مجرد إشارة إلى طابع الإمبراطوريات الأممية، التي كان لابد أن تتعاقب على إسرائيل مضايقة لهم. والمقارنة مع دانيآل1:7 تفتح ذهننا إلى أنه ليس من قبيل المصادفة أن الأسد يُذكر هناك رمزاً لبابل، والدب لمادي وفارس والنمر لدولة اليونان. وأعتقد أن الوصف «وحش البرية» هو إشارة متقنة للحيوان الأخير الموصوف بأنه هائل وقوى وشديد، الذي يُكنى به عن الإمبراطورية الرومانية التي ظلّت تضطهد إسرائيل سنوات طوالاً، والتي وإن كانت اليوم ساقطة فسوف تحيا في وحش رؤيا 13 الخارج من البحر، عندما تأتى النهاية، وتختم الضيقة العظيمة؛ أوجاع يعقوب.

    على أنهم هم المسؤولون وحدهم عن كل ما حدث لهم وما سوف يحدث. يقول الله «قد أهلكت نفسك يا إسرائيل، ولكن إنيَّ عونك» (ع9). لقد كانت أنانيتهم عِلّة خرابهم. غير أنه تأنى عليهم لكي يخلِّصهم، وكان على استعداد أن يستعلن ذراعه لإنقاذهم لو بدت منهم بادرة التوبة والحكم على الذات. فإن كانوا لا يرجعون إليه فلن يجدوا غيره يصلح لخلاصهم. ومن هنا يتساءل «أين هو ملكك؟» وهل وُجد من يخلصهم في جميع مدنهم؟ لقد طلبوا ملكاً ليكونوا كسائر الشعوب حولهم، فأعطاهم سؤلهم. ولكن أين كانت قوة ملكهم وقضاتهم. لقد كانوا يثقون بقصبة مرضوضة.

    قد يبدو غريباً أنه بعد قيام المملكة بقرون كثيرة، وفي نهاية تاريخ العشرة الأسباط يلومهم الله على خطية طلبهم ملكاً في أيام صموئيل، على أن هذا يُبرز الفكرة التي كنا نعرضها ونحن نتأمل في الأصحاح السابع. فإن روح الاستقلال عنه، التي حفزتهم أن يشتهوا ملكاً يخرج ويدخل قدامهم يوم كان الرب ملكهم، كانت لا تزال تسيطر عليهم، ومن أجل هذا استحقت عليهم الدينونة. وما أخطر الأقوال «أنا أعطيتك ملكاً بغضبي وأخذته بسخطي» (ع11). وهكذا يسمح الله أن يعطي أولاده ما يشتهون عندما تكون قلوبهم بعيدة عنه. يعطيهم سؤل قلوبهم ويرسل هزالاً في نفوسهم. على أن الأمور تكون إلى أحسن متى كان الإرادة خاضعة، وما دمنا نقول في صلواتنا وطلباتنا «لتكن مشيئتك». إنه يعرف خيراً مما نعرف نحن. وحيث يتوفر خضوع القلب فإنه تعالى يرُد علينا ليس حسب أدعيتنا الناقصة المغلوطة، بل حسب رحمته وحكمته. وإلا، وقد اختلفت الحال، فإنه قد يجاوب طلباتنا وصلواتنا بالدينونة والقضاء. وقد تمضي علينا سنوات نقضيها آسفين على حماقتنا إذ لم نترك مصالحنا بين يديه.

    وقد أضاف أفرايم على هذه السقطات سقطة أخرى، فإنه صَرَّ (أو كتم) أثمه، وكنز (أو غطى) خطيته (ع12). وطالما كانت هذه حال واحد، فإن يد الله لابد أن تكون عليه للتأديب؛ «من يكتم خطاياه لا ينجح». ومن الناحية الأخرى، إذا عرض كل شيء في النور ودان الخطية واعترف بها، فإن الله نفسه يسترها، وإلى الأبد تزول من أمام عينيه «طوبى للذي غُفِر إثمه وسُترت خطيته. طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش».

    وبسبب إصرار أفرايم على كتمان خطيته لابد أن يأتي عليه مخاض الوالدة. وفي تشبيه آخر، هو ابن غير حكيم، إذ وقف موقف الأحمق الذي يقوده إلى الحيرة. وهكذا ظل سائراً في حماقته بينما يسمع التحذير تلو التحذير بالرجوع عنها. (ع13).

    والعددين الأخيرين استئناف واستطراد للموضوع العام، وإعلان لمدى الدينونات الخطيرة التي لابد أن يجوزها. على أننا قبل أن نصطدم بهذه المشاهد الخطيرة، نقرأ كلمة نعمة، هي كقوس قزح ظهر في الجو الخانق المحمَّل بالغضب، تلك هي كلمات ع14. فإن ذاك الذي يزمع أن يفتقدهم بغضبه، يتحدث عن الرحمة والشفقة، واعداً بنظرة محبته في آخر الأمر. «من يد الهاوية أفديهم، من الموت أخلصهم. أين أوباؤك يا موت، أين شوكتك يا هاوية .تختفي الندامة عن عينيّ» (ع14).

    وأي شيء أسمى بركة من وعد كهذا، في وسط محاكمة خطيرة كهذه؟ ففي الغضب يذكر الله الرحمة. وهكذا سوف يظهر كفادي مختاريه، محرِّراً من الموت والهاوية أسلابهما وضحاياهما، مخلَّصاً لكل الذين يتحولون إليه بروح منكسرة، معترفين بذنبهم. ويومئذ لن يندم عن مقاصد نعمته، ولذلك فإنهم يثبتون إلى الأبد في جوده ورحمته.

    لقد كان إسرائيل منذ قرون، ولا يزال، كإنسان ميت، مدفوعاً في وسط الأمم، تائهاً كأخيلة الهاوية، لكن الساعة ليست بعيدة حين تتم رسالة دانيآل الأخيرة ونبوءة وادي العظام اليابسة في حزقيال37 «في ذلك الوقت يقوم ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك، ويكون زمان ضيق لم يكن منذ كانت أمة إلى ذلك الوقت. وفي ذلك الوقت ينجى شعبك كل من يوجد مكتوبا في السفر. وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدي» (دا1:12،2). وهناك شهادة لنبي أقدم بكثير، هو إشعياء (ص19:26). «تحيا أمواتك، تقوم الجثث. استيقظوا ترنموا يا سكان التراب لأن طلك طل أعشاب والأرض تسقط الأخيلة» كل هذه الأقوال سوف تتم بصورة مجيدة يوم تستيقظ بقية إسرائيل ويهوذا من نومة الموت، وتخرج عند نداء الله لترجع إلى صهيون بالأغاني، وفرح أبدي على رؤوسهم. وكذلك سوف تتم حرفياً أقوال سيدنا بصورة عجيبة «تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة» ويتم كذلك قول الرائي «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى» (يو28:5،29، رؤ6:20).

    وقد كان يسعدنا حقاً أن نختم أصحاحنا بهذه التذكِرة الكريمة لنعمة مخلِّصنا الله. غير أنه نافع وضروري أن نتذكر أن يوم قوة يهوه وظهور المسيا لم يأتِ بعد، ومن هنا نرجع لنتأمل في حالة إسرائيل التي يُرثى لها، وفي الأيام السوداء التي تنتظرهم قبل فجر المجد.

    وإذ نتأمل في كلمات ع 15،16 الخطيرة، نتصور أن «قوس قزح» التي هي «شبه الزمرد» قد أخذت تتلاشى، وأن سحب الدينونة السوداء تتجمع وتتكاثف على أرض الموعد، بينما «من العرش تخرج بروق ورعود وأصوات»، نُذُر العاصفة المخيفة العتيدة أن تهبَّ على أولئك الذين كانت لهم عيون تبصر، فلم يبصروا، وآذان تسمع فلم يسمعوا قعقعة يوم السخط القادم، حتى فاتتهم الفرصة للاختباء. ومن عند الرب ستطلع من القفر ريح شرقية تجفف عيون الرجاء وينابيع الفرح وتنهب كل متاع. والخراب يطوى السامرة في لفافة الليل البهيم والويل العظيم «لأنها قد تمردت على إلهها»، فيسقطون تحت يد الأشوري السفاح الذي لا يبقي على شيخ ولا شاب ولا امرأة. صحيح أن هذا تم في زحف جيوش شلمنأسر على الأرض. لكنه سيتم بصورة أخرى حينما يكتسحها الأشوري الأخير كالطوفان المتمرد حتى توقفه نفخة الرب.

    بهذا تنتهي أجزاء النبوءة. أما الأصحاح التالي والأخير فينطوي على دعوة رقيقة موجهة للشعب المرتد، تحرضهم على الرجوع إلى ذاك الذي هو رجائهم الوحيد الصالح.

    سفر

    هوشع

    أصحاح

    14

    الرجوع والبركة

    ذلك الحنين عينه الذي أدمع عيني المسيا المرفوض، وأبكاه على أورشليم يوم قال «لو علمت أنت أيضاً حتى في يومك هذا ما هو لسلامك» يتخلل أصحاحنا هذا الأخير. فهو حقاً ينطوي على أرق التوسلات المؤثرة من بين تلك التوسلات الأمينة التي يحفل بها كتاب الله، ويذكِّرنا بتلك الفرائد المؤثرة من التوسلات التي نطق بها الروح القدس في فترة تالية بفم إرميا. فهذا الأصحاح ليس يطالعنا فقط بتوسلات الرب إلى شعبه لأن يستمعوا إلى صوته ويرجعوا إليه، بل يعلن بوضوح كيف ينبغي أن يتصرفوا، إلى حد أنه يضع في أفواههم وعلى شفاههم أقوالاً، لو خرجت من قلوبهم لَسُرَّ الرب أن يسمعها. وكذلك يحفل أصحاحنا بمواعيد البركة التي ستنسكب عليهم حين يخضعون وينحنون قدامه توبة وانسحاقاً.

    «ارجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك» (ع1). نقرأ «البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية»، فلو أنهم سلكوا سبل الاستقامة التي خطّها لهم إلههم الأمين الحافظ العهد، لتغيَر وجه تاريخهم. لكنهم أبو الاستماع وحوَّلوا الكتف. وكانت النتيجة سقوطاً وخراباً من البداية إلى النهاية. فقد انحطوا أيما انحطاط. بيد أن ذاك الذي أخطأوا إليه بصورة مخزية لا يزال يستطيع أن يتجه إليهم حُباً ليرجعوا إليه، إلى ذاك الذي هو إلههم من أرض مصر.

    فلنتعلم من منهاجهم التاعس أن نتجنب خطايانا، وأن نعرف نعمة الله المتفاضلة. لكن الكنيسة، شهادة الرب الغائب، فشلت تماماً كما إسرائيل. على أنه مهما تكن عتامة اليوم، فإنه حين يتحول القلب الصادق إلى الله، حاكماً على ذاته كمن هو مشترك في الخطية التي وقع فيها أولئك الذين أعطيت لهم الامتيازات السامية العجيبة، فإن ذاك الذي كان الخطأ في حقه، وأُلحق باسمه الكريم هواناً ثقيلاً يسره أن يقبله، بل إنه في انتظار الباب المفتوح ليدخل ويتعشى بالشركة، ولو في ساعة متأخرة.

    وإن قالت النفس "لكنني أخطأت خطأً شنيعاً، ولا أعرف كيف اقترب من إله قدوس كهذا بعد الهوان الذي ألحقته باسمه الكريم إلى هذا الحد المخيف". حينئذ يضع هو بنفسه - تبارك اسمه - صلاة على شفاه عبده الراجع الخاضع، إثباتاً على استعداده لأن يسمع كل نفس تطلبه أو تسعى إليه. «خذوا معكم كلاماً وارجعوا إلى الرب. قولوا له ارفع كل إثم واقبل (اقبلنا) حسناً (أي بإحسان)، فنقدم عجول شفاهنا. لا يخلصنا أشور، لا نركب على الخيل، ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا (أنتِ) آلهتنا، إنه بك يُرحم اليتيم» (ع2،3).

    إن هذه الصلاة التي أملاها الله نفسه خليقةً بكل اعتبار. وهيا بنا نتبادلها مقطعاً مقطعاً، وازنين كل واحد منها في محضر الرب. «ارفع كل إثم واقبل بإحسان» هكذا تصرخ النفس النادمة. وإذ طال عليها الدنس، حتى كاد الضمير يصاب بالشلل، فإن نور الله أخذ الآن يكشف الأمور على حقيقتها. وهذا ينشئ بغضة ونفوراً من الانحراف والضلال الذي طالما سايرناه وتسامحنا معه كأنه ليس ضلالاً. ومن ثم ينقلب عدم المبالاة إلى تدريب عميق. وإذا بالنفس تنفس عن حقيقتها «ارفع كل إثم». فتصبح الخطية كريهة في ذات اللحظة التي تدخل فيها إلى محضر الله. وبعد ذلك تحس بالحاجة إلى النعمة ومن ثم تنطلق منها الصيحة «اقبلنا بإحسان» ويا لها من رحمة أننا نُدعى للاقتراب إلى «إله كل نعمة»!

    ولن يكون هناك رجوع طالما يتهاون الإنسان ويعبث بالخطية، فتبقى غير مقضي عليها. ولكن في اللحظة التي يصدر فيها الاعتراف كاملاً، ونتحول في أمانة عن الإثم، فإن الكلمة تضمن لنا وتؤكد المغفرة السريعة. «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم»، هذا مبدأ ينطبق على الخاطئ الهالك الذي يطلب الخلاص، كما على القديس الذي يضلُّ والذي يطلب ردَّ النفس. والخطية المقضي عليها، خطية عبرت، وفي متناول النفس أن تجدد تمتعها بالشركة التي كانت قد توقفت منذ اللحظة التي سمحت فيها للشر أن يتسلل إلى الضمير. وإذ نعرف هذا معرفة مبعثها، لا مشاعرنا، بل شهادة الكتب، حينئذ تصعد من القلب التسابيح والسجود «فنقدم عجول شفاهنا».

    وعندما تستقيم الحياة ويصفو الضمير من الدنس، يكون السجود بالروح والحق. ومن ثم يتسنى للقديس السعيد أن يسكب في أذن الله، دون عائق، تسبيحات عرفان الجميل، وينطلق سجوده كبخور متصاعد من القلب الذي صار المسيح كل شيء له. وسيدخل إسرائيل في هذا حينما يصرخون، وقد عادوا إلى أرضهم بعد تيهان التأديب، قدام ذاك الذي يسكن في وسطهم، بعد أن يكون قد نقَّاهم بروح الإحراق من كل ما يعطل اعترافهم الكامل بنعمته.

    ثم «لا يخلصنا أشور». صيحة من الشعب الذي تعلم أن يكُف عن الإنسان الذي في أنفه نسمة. لقد رأينا، من خلال السِفر كله، كيف أنهم في ساعة الشدة رجعوا، ليس إلى الله الذي تمردوا عليه، بل إلى أشور، المملكة الشمالية المتعجرفة التي كانت معينة لخرابهم. وهكذا تعلموا أن عون الإنسان باطل. ومن ثم سيقولون في يوم اقتدار يهوه «لا يخلصنا أشور» ولكن في الله وحده يجدون مخلصهم.

    كما أنهم سوف لا يعتمدون في ذلك اليوم على جيوشهم هم، «لا نركب على الخيل». والملاحَظ خلال هذا التاريخ أن قوتهم للمعارك لم تكن كامنة في تقليد عادات وأحوال الأمم، بل في الاعتماد على الله في روح الحمد. وحينما كان يقودهم يهوذا - الذي معناه "حمد" - كانت تُكتب لهم النصرة، إذ كانوا يعتمدون في معونتهم على الرب وحده. ويوم التقى يهوشافاط بالعدو وضع في مقدمة الجبهة مغنيين لا فرساناً، ومن ثم فاز بنصرة عظيمة. وإلى هذا سوف يرجعون حينما يتذللون قدام الله بسبب عثراتهم وخطيتهم «باطل هو الفرس لأجل الخلاص». والإيمان، ولو بدا أنه يضاعف المجهود البشرى في القتال ويزيد من ضراوته، ولكنه خير لنا أن نتعلم أن نستند على ذارع الرب ذاكرين أن الحرب له وليست لنا.

    لقد كانت عبادة الأوثان عِلّة خرابهم وهلاكهم فيما مضى. لكنهم في يومهم الموعود القادم سوف يصيحون «ولا نقول أيضاً لعمل أيدينا (أنتِ) آلهتنا». وإذ اختبروا عجز الآلهة الكثيرين التي كانت تسيطر عليهم، فإن الرب سوف يتعظم ويتعالى في ذلك اليوم. وإنها لَصورة مشتهاة للنفس التي استيقظت، أنه ما من قوة، منظورة أو مستورة، تنفع في مشروع الخلاص سوى قوة «عزيز يعقوب». وإذ ينكشف في حضرته كل شيء، ولا يبقى في أرواحهم غش، يقدرون أنه يزيدوا على قولهم ذاك مقولة يقين أخرى «بك يُرحم اليتيم (أي فيك يجد اليتيم رحمة)» لقد كان إسرائيل ابناً للرب، دعاه من مصر، لكنهم نسوه، وتصرفوا ضد روح نعمته. ومن هنا حكم عليهم بلوعمي ولورحامة، كما رأينا في مستهل النبوءة. فإذ يرجعون، فإنما على أساس النعمة الخالصة والرحمة. يأتون إليه "كاليتيم"، ليس لكي يطالبوا بحقوق الأبناء، بل ليكونوا رعايا تلك الرحمة التي هي أفضل من الحياة. ما أوفق كلمات هذه الصلاة على شفاه البقية في الأيام الأخيرة!

    وبعد ذلك يتتابع تجاوب الرب الكريم «أنا أشفي ارتدادهم، أحبهم فضلاً، لأن غضبي قد ارتد عنه» (ع4). لكأن قلب محبته الكبير قد امتلأ، حتى يكاد ينشق، لولا أن خطاياهم أعاقته عن التعبير بكل ما فيه. والآن قد رُفع الحاجز، ومثل جدول متدفق انطلق جوده ولطفه، قاهراً كاسحاً كل عقبة أو معثرة قد يضعها أو يثيرها عدم الإيمان. وإذ أحبهم فضلاً، مجاناً، سيقودهم في سبل البر، شافياً نفوسهم، راجعاً بهم من كل ارتدادهم. لقد غُفر الماضي الداكن وانتهى، وتلاشى سخطه، فنعمته لا تعرف حدوداً.

    ولن يكونوا فيما بعد أرضاً قحلاً خواء، بل كجنة مروية، يقلمها ويحفظها بنفسه. «أكون لإسرائيل كالندى، يزهر كالسوسن ويضرب أصوله كلبنان» (ع5). والندى في الكتاب يرمز إلى تأثيرات الروح القدس الرطبة الندية المحيية، إذ يقدم الحق بالنعمة للنفس. ومن هذا القبيل ما نقرأه في أمر جدعون يوم سأل علامتين من الرب، حيث نجد، وعلى قياس عجيب، صورة لمختلف معاملات الله. ففي المرة الأولى كان الطل، أي الندى على الجزة، وجفاف على الأرض كلها. وفي المرة الثانية جفت الجزة وحدها بينما اكتست الأرض كلها ندى. وهكذا كان إسرائيل مبَاركاً بفضل شهادة الروح، بينما كان العالم كله رازحاً في الجهالة والوثنية. لكن إسرائيل رفض مسيحه عند مجيئه الأول، والأمة المختارة صارت جافة اليوم وخربة، بينما يعمل روح الله وسط الأمم. لكنه سوف يُسكب في العصر الألفي على كل بشر، يومئذ تنتشي الجزة والأرض سواء، يحيهما الندى الإلهي الرطيب. وندى حرمون في مز133 يصوِّر نفس الصورة التي يصفها هوشع، قوة الحياة والانتعاش. فالله نفسه سيكون الندى لشعبه الراجع، واهباً حياة جديدة وطلاوة ليفرحوا به إلى الأبد. وبفضل اهتمامه الحاني، سيرفلون في جمال السوسن، ولهم عراقة أرز لبنان. ولن يكون من نصيبهم مجد زائل، بل بهاء دائم لا يبور.

    يومئذ «تمتد خراعيبه ويكون بهاؤه كالزيتونة وله رائحة كلبنان»(ع6). إن خراعيب إسرائيل السامقة إلى السماء كالأرز العتيد سوف تمتد في جلال، وعطرها الزكي سوف يضوع شذاه، ليعرف الكل معاً أن الرب عاد واحتضنهم كخاصته. ليس الأمر قاصراً على المجد والرائحة الزكية، بل سوف يتصفون بما تتصف به الزيتونة من ملاحة وإثمار. فالزيتونة، شجرة الزيت كما تترجم الكلمة العبرية، تتحدث هي الأخرى عن الروح القدس الذي سينساب في الأمة كما يسري الزيت في شجرة الزيتون، ليجعل منها منشأ بركة روحية لكل الأرض، فيكون ذِكرهم «كخمر لبنان» (ع7). وهكذا يستخدم النبي تشبيهاً في أثر تشبيه ليصور فرحة الرب بشعبه، ويرسم جمالهم وقدرهم في عينيه. وليس فقط أن يعقوب يعود ويتجمع، بل إنه سيكون وسيلة بركة للآخرين طبقاً للوعد للآباء، وهذا معنى القول إن كثيرين يكونون «ساكنين في ظله»، ليلقوا راحة من وراء الخدمة المسلَّمة إليه. ونحن نعلم أن الحنطة والخمر رمزان للقوة والفرح. فيومئذ سوف لا يقال «إسرائيل جفنة ممتدة، يخرج ثمراً لنفسه». فإنهم إذ يُغرسون من جديد في الأرض بوصفهم كرمة الرب، فإنهم يزهرون ويفرخون أغصاناً محمَّلة بالعناقيد المشتهاة، لكي يمدوا الأرض كلها بخمرة الأفراح.

    حينئذ سيقول أفرايم «ما لي أيضاً وللأصنام؟» فإذ يسكنون في شركة مع الله، ويتمتعون بمحبته ونعمته التي لا مثيل لها، فإنهم يتنكرون لحماقات الماضي. وهكذا تتملكهم العواطف الجديدة في القلب، حتى يكرهوا وينسوا تلك الأصنام الباطلة التي مرة ركعوا قدام مذابحها، وفي رضى مقدس يتطلع الرب إليهم ويقول «أنا قد أجبت (أو سمعت) فألاحظه». فيرد إسرائيل ببهجة لا تدانى «أنا كسروة خضراء» ولكن لا خضرة موسمية فقط، بل هم كشجرة دائمة الاخضرار. سيكونون في عينيه سروة طيبة مشتهاة على مدى الدهر. غير أن هذا الخير كله، وتلك المحاسن كلها، إنما هي منه، وهكذا يجاوبهم «من قِبَلي يوجد ثمرك». في البعد عنه العقم كما قال سيدنا «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً». لكنهم إذ يثبتون بغير انقطاع متمتعين بمحبته، فإن ثمرهم لن يخيب، وحلاوتهم لن تبرح.

    هنا خاتمة النبوءة، لكن الشيء الذي يلفتنا بوجه خاص هو أن الرب يشدد على كل قارئ أهمية تقييم ووزن كل شيء في محضره «من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور وفهيم حتى يعرفها. فإن طرق الرب مستقيمة والأبرار يسلكون فيها. وأما المنافقون فيعثرون فيها» (ع9). لقد كانت طرق الرب هي موضوع السفر. وما أسعدنا إذا كنا، بنعمة الله، معدودين ضمن الحكماء والمتفطنين الذين يعرفون ويفهمون، والأبرار الذين يسلكون فيها!

    ألا ليت الرب يعطي فعالية لكلمته من أجل اسمه. آمين

    آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

    حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

    جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.