لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة التاسعة

العمل التام

« مرة عند انقضاء الدهور »

9: 16 ـ- 28

« لأنه حيث توجد وصية يلزم بيان موت المُوصِي. لأن الوصية ثابتة على الموتى، إذ لا قوة لها البتة مادام الموصِي حيّاً » (9: 16-17)

لقد سمعنا كثيراً في هذا الجزء من رسالتنا عن العهدين: العهد القديم عهد الناموس، والعهد الجديد الذي حقق بركاته الرب يسوع المسيح، والذي على أساسه سينعم شعب الله القديم بالبركة الأبدية. ونلاحظ أنه في الأصل كلمه « العهد » وكلمة « الوصية » هما كلمة واحدة؛ والعهد معناه تدبير الأمور بحسب ترتيب الله. وفي الكلام عن العهد تحدّث الرسول، بإرشاد الروح القدس، بإفاضة عن الجانب الآخر منه، والذي ندعوه عادة « وصية ». فقد تكلم قبل ذلك مباشرة عن الميراث الأبدي الذي لنا بفداء المسيح، الذي أبطل التعديات التي كانت في العهد الأول حتى أن المدعوين الآن بالنعمة ينالون أو يرثون البركات الأبدية.

وإذ يتكلم عن الميراث يحدّثنا كيف يتحقق هذا الأمر الخطير في الحياة العادية. فهناك شخص يملك والده ممتلكات هائلة، ولكنه من الناحية العملية رجل فقير، وقد يفقد والده مثلاً كل ثروته، فعندئذ يصبح الابن فقيراً للغاية، أو بسبب سوء تصرف الابن، قد يفقد حقه في موافقة أبيه، وبذلك يُحرم من ميراث أي جزء من التركة. وفي هذه الحالة المليئة بالاحتمالات، لا يمكنك أن تقول عن الابن، طالما كان الوالد حياً، إنه شخص ثري بحكم حقه الشخصي، رغم أن له وعد الميراث ويتوقع أسعد الأماني والانتظارات. ولكن الأب يعمل وصيته ويهب كل ثروته وممتلكاته لابنه، والابن يعلم أن كلمة والده مؤكدة ثابتة، وأنه عندما يجئ الوقت لتنفيذها، لابد وأنه سيكون الوارث لكل ثروته؛ أما الآن فإنه لا يملك شيئاً ما دام الموصي حياً، وكل انتظاراته مستقبلة. إن الوصية مكتوبة، وهي تعبر عن رغبات أبيه، ولكن قبل أن تصبح نافذة يلزم موت الموصي، يجب أن يتدخل الموت في الأمر.

والآن طبِّق هذا على الأمور الروحية. تأمل في ميراث الله. من ذا الذي يستطيع أن يصف عظمة الميراث السماوي الذي « لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل ». وقد قضت مشيئة الله أن يكون ذلك الميراث من نصيب شعبه، في المسيح، وبواسطة المسيح. قد تقول إن تلك المشيئة تمّت في الأزل كما نقرأ في أفسس « الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم »، ولكن هل هذا يضمن الميراث لنا؟ هل التوصية بهذا الميراث الأبدي تضمن ملكيتنا له؟ إن شيئاً آخر يجب أن يتداخل لكي يجعل هذه التوصية نافذة، وهذا الشيء هو موت الموصي. ولذلك فإنه قبل أن يتسنى لنا وراثة أية بركة، كان يجب أن يحدث أولاً موت ذاك الذي فيه وبواسطته كان الوعد بكل هذه البركات. وهذا لا يتطلع فقط إلى الأمام إلى الميراث الأبدي، بل يتطلع أيضاً إلى الوراء وإلى كل بركاتنا، حتى أن كل شيء حصلنا عليه في الماضي، بما في ذلك المراحم الزمنية، ليس إلا جزءاً من تلك البركات المشتراة بالدم، والموهوبة لنا بالنعمة، فكل شيء قد تقدس لنا بموت ربنا يسوع المسيح، وإن هذا من شأنه أن يمجد أبسط المراحم اليومية التي ننالها في الطريق. وكم هو ممتع حقاً أن نكون باستمرار في حالة الوعي الروحي، حتى أننا كلما أحنينا رؤوسنا بكلمات الشكر من أجل طعامنا اليومي، نفعل هذا ونحن فرحون متهللون لحصولنا عليه كشيء قد اشتراه لنا ربنا يسوع بموته الثمين. نعم إن جميع بركاتنا، ماضية وحاضرة ومستقبلة، قد كلّفته حياته له المجد.

« فمن ثَم الأول أيضاً (العهد الأول) لم يُكرَّس بلا دم، لأن موسى بعدما كلّم جميع الشعب بكل وصية بحسب الناموس، أخذ دم العجول والتيوس مع ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا، ورشّ الكتاب نفسه وجميع الشعب، قائلاً: هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به. والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة رشّها كذلك بالدم. وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة. فكان يلزم أن أمثلة الأشياء التي في السماوات تُطهَر بهذه، وأما السماويات عينها، فبذبائح أفضل من هذه » (9: 18-23).

كما رأينا طوال تأملنا فيما سبق، لم يكن الناموس مغايراً فقط لبركات النعمة، بل كان ظلاً لها كذلك. ذلك مذكور بوضوح اللفظ في مستهل الأصحاح العاشر، حيث نسمع القول « لأن الناموس إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء ». فقد كان الناموس مغايراً للنعمة من وجوه كثيرة. كان ضعيفاً، كان يعتق ويشيخ، وكان لابد من وضعه جانباً، ولكنه في نفس الوقت كان ظلاً لأشياء عظيمة ومجيدة. وهكذا نجد في رش الدم تحت الناموس، المباينة والظل لرش الدم تحت النعمة، المكتوب عنه « دم رش يتكلم أفضل من هابيل ». فعندما تقدم ممثلو الشعب للدخول في عهد العلاقة مع الله، حدث رشّ الدم المشار إليه.

وإذا رجعنا إلى الفصل الخاص بهذا الموضوع في العهد القديم، لا نجد أية إشارة هناك إلى الأشياء التي رافقت الرش. فكل ما يذكره الوحي هناك أن موسى رشّ نصف الدم على المذبح والنصف الآخر على الكتاب والشعب. ولكن هنا يقال لنا أن الوسيلة التي فعل بها ذلك كانت « ماء وصوفاً قرمزياً وزوفا »، وذلك يربط بين ما كنا نتأمل فيه من فترة وجيزة، فإن هذه التفصيلات تومئ إلى نوعي العمل الكفاري إن جاز لي هذا التعبير: النوع الأول ما يتعلق بالقدس المتضمن في الدم محمولاً إلى داخل القدس ومرشوشاً على غطاء التابوت أو كرسي الرحمة. ثم النوع الثاني رماد العجلة أو البقرة الحمراء التي كانت تُحرق بكاملها مع خشب أرز وزوفا وقرمز.

ولكن ماذا كان يعني ذلك؟ نعلم أن العهد الأول كان خدمة موت. لم يكن في مقدوره أن يعطي الحياة. كان خدمة دينونة، إذ كل ما فعلته أنها أثبتت ذنب الإنسان عليه. فالإنسان لم يستطع الاستمرار لحظة واحدة في إتمام الجزء الذي تعهد به. وهنا رُشّ الدم، وكأنه يدعو الله ليكون شاهداً، فالدم المرشوش على المذبح كان شاهداً أن الناموس المكسور يستلزم سفك الدم وتنفيذ الدينونة. ومن جهة الشعب كان يعلن أنهم إذا كسروا الناموس سيكونون موضوع غضب الله طبقاً لنصوص العهد. وبعبارة أخرى، إنهم سوف لا يدانون فقط كسائر البشر بسبب إثمهم العام، بل بصفة خاصة بسبب دخولهم في عهد علاقة مع الله وكسرهم لنصوص هذا العهد.

ولست أراني بحاجة أن أقول كيف كسروا فعلا نصوص ذلك العهد. وهكذا فإن خطية الذين لهم إعلان سابق من الله أعظم بكثير من خطية الذين يعيشون في ظلمة، كما هو مكتوب « لأن كل من أخطأ بدون الناموس فبدون الناموس يهلك. وكل من أخطأ في الناموس فبالناموس يدان ». ومع ذلك فلا مكان في الكتاب لتعليم خاطئ كالذي يقول أن الذين يجهلون الكتاب هم لأجل ذلك غير مذنبين أمام الله، فالحقيقة هي أن كل إنسان بحكم خليقته كائن مسئول، ولأنه مسئول لابد أن يعطي حساباً لله عن كل شيء فعله. ولكن ذلك الحساب سيكون على أساس معرفته، فالأممي سوف لا يدان لأنه كسر الناموس كما سيدان اليهودي، ولا هو كذلك سيدان لأنه رفض المسيح (قبل أن يُقدَّم إليه بالكرازة).

إننا كثيراً ما نتكلم عن امتياز وجودنا في أرض مسيحية. نعم، إنه لامتياز عظيم حقاً، ولكن مسئوليته عظيمة مثله، وإنه لشيء مخيف ورهيب للغاية إذا كنا رغم كل هذه البركات نهمل نعمة الله. ذلك في اعتقادي هو المعنى المقصود من رش الدم على الكتاب والشعب. إن ذلك كان إعلاناً واضحاً أنه إذا خولفت نصوص هذا العهد، فلا شيء يبقى سوى الدينونة لا محالة. وكم كانت ثقة في الذات في منتهى الغباوة، وعمى روحياً لا حد له، أن يُدخل الشعب عنقه تحت نير ذلك العهد، غير حاسب عجزه الكامل عن حفظ الناموس، وبذلك استحقوا الدينونة المريعة فور مخالفته! ومن هنا يمكنك القول إنهم منذ ذلك الوقت كانوا دائماً أبداً شعباً يعيشون تحت دينونة ذلك الدم المرشوش. ولقد أضافوا على ذلك جريمة أخرى وجلبوا على أنفسهم ذنباً فظيعاً، هو ذنب قتل المسيح عندما صاحوا قائلين: « دمه علينا وعلى أولادنا ». وهكذا تماماً فيما يتعلق بالمسيحيين، بالاسم الذين يعترفون بالولاء للمسيح دون أن تكون فيهم حياة المسيح الحقيقية، فإنه ينتظرهم الحكم الرهيب كمن يحتقرون ويرفضون إنجيل نعمة الله.

ولكننا لا ندرك معنى الكلمة الكامل إذا كنا نقصر نظرتنا إلى ناحية واحدة من الأمور‍! فبينما كان ناموس العهد القديم خدمة موت ودينونة، كان في الوقت نفسه ظلاً أو رمزاً للخيرات العتيدة أو البركات الآتية، فبالارتباط مع إعطاء الناموس عُمل الترتيب أيضاً لمسكن الله وسط شعبه، فإن جبل سيناء يقع بين بحر سوف وخيمة الاجتماع. وبهذا المعنى كان الناموس يرمز إلى إطاعة الإيمان التي هي ثمر الفداء. وكما رأينا عندما كنا نتأمل في المسئولية التي يوحى بها رش الدم على الكتاب والشعب في حالة فشلهم في حفظ الناموس، كذلك نستطيع أن نرى فيه الحقيقة الثمينة الخاصة بما أثمره لنا دم الفداء، دم المسيح، إذ أدخلنا في علاقة أبدية مع الله، حتى أن طاعتنا وكل شيء آخر أساسه قوة ذلك الدم الثمين.

تفكر في هذا وأنت تتناول هذا الكتاب الغالي؛ الكتاب المقدس، فإن كل صفحة فيه مرشوشة بدم الفداء! وما معنى هذا؟ معناه أننا نقرأه ليس كمن تعهدوا بحفظه بقوتنا الذاتية، بل باعتبارنا أول كل شيء مفديين بدم المسيح الغالي. أكثر من هذا، أننا نستطيع الآن أن نتحول إليه مشتاقين، بقوة تلك النعمة التي خلّصتنا، أن نتمم حكم الناموس، أي مطالبه العادلة، ونحن سالكون « ليس حسب الجسد بل حسب الروح ». وهكذا يختمنا الفداء باعتبارنا خاصة الله، ويدخلنا في علاقة يمكننا فيها الآن إتمام مطاليب ذلك الناموس، ناموس الله المقدس، الذي بغير ذلك كان يقضى بدينونتنا وهلاكنا.

لقد حاولت فيما سبق أن أوضح ما أعتقد أنه المعنى المزدوج، الوجهان الرمزيان لرش الكتاب والشعب بالدم.

وبالإضافة إلى ما رأينا، فإن المسكن (الخيمة) وجميع آنية الخدمة « وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم. وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة ». والمعنى هنا واضحجداً وثمين للغاية، وهو بما لا يدع مجالاً لأي شك ما كنا نتطارحه فيما سبق من قول. فقد كان الهدف من ذلك هو إعلان الحق الخطير، وهو أن مسكن الله وسط الشعب كان على أساس الفداء، وأن الأساس الوحيد الذي عليه يمكن لإله قدوس أن يسكن وسط شعب خاطئ هو الدم لا سواه. فلو افترضنا أنه عندما دخل الكاهن إلى المسكن لتتميم الخدمة دخل وراءه دخيل، فإنه ولا شك كان يسأل: ماذا تعني أيها الكاهن بكل هذه العلامات من الدم على الحجاب المجيد وعلى جانبي المسكن والمائدة والمذبح والمنارة؟ كل شيء مرشوش بالدم. لماذا لا تمسح هذه البقع التي تشوه جمال هذه الأشياء الغالية المقدسة؟ لا شك كان الكاهن يجيب أن ذلك الدم يُعطي جمالاً حقيقياً لها جميعاً. إنه العربون أننا نحن الشعب الخاطئ لنا حق التمتع بالامتيازات التي تقدمها لنا هذه الأشياء الغالية. إن الإله القدوس ما كان ليستطيع أن يسكن وسطنا ولا أن يخدمنا، ونحن ما كنا نستطيع أن نقدم له عبادتنا لو لم تكن على أساس الدم.

وعندما نأتي إلى العبادة المسيحية، فكم من فرح، وكم من حرية، بالارتباط أيضاً مع كل خدمة، أن نعلم أن علامة الدم موضوعة على كل ناحية فيها! وهكذا على أساس الفداء يخدم أحدنا الآخر ونقدم « ذبائح روحية مقبولة لله بيسوع المسيح ». يا له من حق ثمين ذلك الحق الخاص بالدم. فأينما تطلّع المؤمن، يرى الدم أساساً لسلامه وفرحه. فإن تطلع إلى الوراء إلى ماضيه الأثيم يرى دم المسيح الغإلى وقد محاه. وإن تطلع إلى الأمام إلى المجد الأبدي يراه مضموناً له بواسطة ذلك الدم الثمين. وإذا تطلع إلى نفسه كالإنسان المسكين الفاشل الضعيف يستطيع أن يقول إن نفس الدم الذي على عرش الله هو أيضاً علي، وهو الضامن للإتيان بي إلى ذلك المكان، مكان البركة الأبدية عينه. فلا مجال هناك للتفكير في استحقاقنا أو برّنا الذاتي أو كفايتنا الذاتية. كما يقول الرسول في مكان آخر: « فأين الافتخار؟ قد انتفى ». نعم، إن الدم الثمين يذلنا ويمجد الله ولكنه يأتي بنا إلى البركة الأبدية.

وهنا يجدر بنا أن نقف لحيظة متسائلين إذا كان يوجد بيننا من يسعون لنوال القبول لدى الله. ومع ذلك لازالوا يثقون في أنفسهم وفي برهم الذاتي، فإننا بإخلاص نوجه انتباههم إلى هذه الكلمات التي تقضي على هذه الأوهام جميعها بجرة قلم واحدة « بدون سفك دم لا تحصل مغفرة ».

إن أمثلة الأشياء التي في السماوات، كانت تُطهر بدم ذبائح لا قيمة لها في ذاتها، فقد كانت كل قيمتها تنحصر في كونها مجرد رموز لتلك الذبيحة الأفضل، ولدم أثمن بما لا يقاس من دمائها جميعاً. « وأما السماويات عينها » فكان يلزم أن تُطهَّر « بذبائح أفضل من هذه »، وإني أوجّه التفاتكم إلى هذه العبارة العجيبة؛ وهي أن « السماويات » كانت تحتاج لأن تطهر. إن المسكن (أو خيمة الاجتماع نفسها) كان يبقى مكاناً مدنَّساً، لأنه قائم وسط شعب أثيم ودنس. والله يعلن بأوضح صورة أن الأساس الوحيد الذي كان يمكنه على أساسه أن يسكن وسطهم هو أساس الدم (أنظر لا16: 16). فإذا كان مسكن الله يبقى وسط شعب، وهم أنفسهم خطاة دنسون، فإنه كان يتحتم تطهيره من الخطية التي تسربت إليه. يا له من فكر خطير! إن الإنسان الذي يرتكب الخطية قد يقول إني أُسئ إلى نفسي فقط، إن أحداً غيري لا يُضار بخطيتي ولا دخل لأحد آخر في الأمر. وقد يقال له بحق أن هذا لا يستلزم عزله عن المجتمع. ولكن الحقيقة هي أنه إذا جاء إلى المدينة شخص مصاب بمرض معدٍ فإنه لا يُسمح له بالبقاء فيها. وهكذا يمكن أن يقال للخاطئ بحق إن تأثيره غير قاصر على نفسه، بل يمتد إلى المجتمع من حوله. فهو يقيم مثالاً ويدنس أولئك الذين يتعامل معهم، وبذلك هو في الواقع يحط من المستوى الأدبي للجنس البشري.

ولكن هناك ما هو أخطر من هذا الفكر أيضاً. إن كل خطية تُرتكب تتسرب إلى السماء نفسها. فإذا كانت السماء لها أية علاقة بالإنسان، وإذا كان الله لابد أن يكون له على الأقل علم بما تفعله خلائقه، فإنه ينتج بالضرورة من هذه الحقيقة أن كل خطية قد تسربت هناك. وعلى ذلك فإن المكان الذي يتطلع إليه الخاطئ بحثاً عن خطاياه ليس فقط قاصراً على سجل حياته الخاصة، كما يحفظه هو وكما يستطيع أن يقرأه بينه وبين نفسه، ولا أن يتطلع إلى حضنه ويرى هناك الأسرار المخيفة، ولكن - وياله فكر رهيب - أن خطاياه مسجلة جميعاً في سجلات محضر مجد الله. وكم كانت تبقى هذه السماء مدنَّسة أمام عيني إله قدوس لو لم تُطهَّر من وجود الخطية المسجلة هناك!

ولكن دعنا ننظر قليلاً إلى ما هو أبعد من ذلك، ونسأل من صار رئيساً لهذا العالم وإلهاً لهذا الدهر؟ إنه الشيطان، الذي نال حق الإشراف والسيطرة على الإنسان، نتيجة لعصيان الإنسان وإصغائه لأكذوبته. وهكذا تجد أن الشيطان هو أيضاً له أن يدخل إلى السماء نفسها. ففي سفر أيوب نراه يمثُل أمام الله. وكذلك في سفر الرؤيا نراه يشتكي على قديسي الله نهاراً وليلاً أمامه. إن هذه حقاً أفكار خطيرة للغاية. إن خطايانا هناك تدنِّس ذلك المكان المقدس، وتُسبب وجود ذلك الدخيل القذر، الذي كأنه يطالب بحقه في الوجود هناك ليشتكي، وذلك كله لأن الله يسمح بوجود الخطية في هذا العالم.

ولكن ما الذي يطهر ذلك المكان؟ ما الذي طهره وأبعد منه كل لطخة، وكل أثر أو دليل على عدم الانسجام أو التناقض من جانب الله؟ إنها ولا شك ذبيحة أفضل من تلك التي كانت تطهِّر القدس الأرضي. فالقدس السماوي قد تطهر بدم المسيح الثمين. وعلى هذا الأساس نفسه نقول إن القوة التي بها سيُغلب الشيطان ويطرح من السماء هي قوة الدم ولا شيء غيره، كما هو مكتوب: « وهم غلبوه بدم الخروف ».

هذه حقائق عميقة وغالية للغاية. نقرأ في كولوسي أن المسيح قد صالح بموته ليس فقط أشخاصاً، بل كل شيء. حتى أن الله يستطيع أن يسكن في شركة أبدية مع شعبه. فالله ما كان يستطيع قط أن يسكن بالاقتران مع أرض ملطخة بالخطية. إن السماوات ليست طاهرة أمام عينيه، بسبب اقترانها بخطية المخلوق، والطريقة الوحيدة التي كان يمكن بها تطهير هذه وتلك هو دم المسيح. فعندما سفك دمه الكريم وُجد الأساس الذي عليه طهرت السماء نفسها من كل ما كان يمكن أن يوجه إلى الله من اتهام بسبب موافقته أو سماحه بالخطية. وهكذا على هذا الأساس، وفي بر أبدي يسكن الله في علاقة مع خليقته.

وإني لعلى يقين أننا كلما تقدمنا في تعلّم الأساس الذي عليه يتعامل الله مع كل خليقته، من الأزل إلى الأبد، سنجد أنه دم المسيح الثمين ولا سواه. فالصليب هو المركز والمحور الذي عليه تستقر، وحوله تدور، كل صفات الله وكل طرقه ومشوراته وأغراضه. ولكن يا له من فكر فائق السمو! فما أعجب أن نعلم أن ذلك الدم الثمين الذي مجّد الله هكذا في السماوات هو الختم الموضوع علينا أيضاً. لقد طهرنا وأهلنا لذلك المكان المجيد، حتى أن العلامة التي علينا هي نفسها التي على عرش الله ذاته!

آه، أيها الأحباء، إن الله لا يفكر أفكاراً هامشية بشأن الصليب. إن الصليب لا يشغل مكاناً ثانوياً في برنامج الخلاص العظيم. إنه إعلان بر الله ونعمته، وهو أساس سلامنا وكل بركاتنا.

ولست بحاجة إلى القول أن المقصود ليس رشّاً حرفياً على العرش، بل إن الله قد تمجد تمجيداً كاملاً بما عُمل. فاحتمال سيدنا للخطية احتمالاً فعلياً على الصليب، وقبول الله لذلك العمل، هو المقصود برش الدم.

« لأن المسيح لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقية، بل إلى السماء عينها، ليظهَر الآن أمام وجه الله لأجلنا. ولا ليقدم نفسه مراراً كثيرة، كما يدخل رئيس الكهنة إلى الأقداس كل سنة بدمِ آخر، فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطل الخطية بذبيحة نفسه » (9: 24-26).

هنا نجد الرسول، وهو لا يزال في مجال المقارنة بين المسكن الأول (خيمة الاجتماع) وأمثلة العهد القديم من جانب، وبين الحقيقة من جانب آخر، فيخبرنا أن المسيح بصفته كاهننا لم يدخل إلى أقداس مصنوعة بالأيدي، كما كان يفعل رئيس الكهنة قديماً، بل إلى السماء نفسها كالشاهد هناك لقيام أساس لعلاقة أبدية بين الله وشعبه. وكيف دخل المسيح؟ لقد كان له حق الدخول بصفته الشخصية، على أساس ما كان شخصياً له المجد، ولكن دخوله بهذه الطريقة لا يكون باعتباره ممثلنا. فإذ كان لابد أن يظهر، كان لابد أن يظهر لأجلنا كان يتحتم أن يكون ذلك بشهادة الدم. فالكاهن الذي كان يظهر قديماً من أجل الشعب ومن أجل نفسه، كان لابد أن يحمل الدم إلى الأقداس. والمسيح قد دخل بدم نفسه بعد أن صنع فداء أبدياً.

تأمل في ذلك الإنسان الذي مشى بأقدامه على هذه الأرض، والذي اجتاز في كل تجاربها ومجّد الله في حياته اليومية. هذا الإنسان هو الآن في حضرة الله! وهو ليس هناك لأجل نفسه، ولكنه يظهر أمام الله لأجلنا. إنسان أمام الله، إنسان باعتباره ممثلنا، إنسان هو سرور الله، إنسان هو الشهادة الأبدية والعربون الإلهي الأبدي على أنه، كما هو موضوع لذة ومسرة الله هكذا، وبكل يقين، كل واحد من شعبه المفدي هو كذلك موضوع لذة ومسرة الله! نعم، إذا كنت تريد أن تعرف مقياس قبولك أمام الله، فلا تفكر في ذاتك المسكينة الضعيفة غير المستحقة، بل انظر إلى فوق، إلى ذلك العرش، ستري هناك واحداً قد دخل إلى السماء نفسها لكي يظهر أمام الله لأجلنا. تذكرون أنه في إشعياء50 يسأل الرب متحدياً من يخاصمه، والجواب قريب هو الله الذي يبرره. وعندما ترجع إلى رومية8 تجد نفس الحجة ونفس اللغة مستعملة فيما يتعلق بشعبه.

إنه يظهر أمام وجه الله لأجلنا، وما أعظم ما تحمل هذه الكلمة من معنى. إنها تعنى أن المسافة أو الرحلة الطويلة قد تمت وانتهت فيما يتعلق بمقامنا، وأن الموضوع كله قد سُوي أبدياً. إن المسيح نفسه كان لابد أن يُنزل من مكان مجده، قبل أن يصبح قبول أي مؤمن فيه معرَّضاً للتساؤل أو الشك. إن الشكوك تهين نعمة الله. آه، ليت هذا الحق يتأصل في أعماق كل مسيحي. إن مجرد الشك في أمننا الكامل الأبدي، هو شك في مكان المسيح أمام وجه الله. ألا فلتعلم كل نفس أنه له المجد يظهر لأجلنا.

ثم بعد ذلك يسترسل الرسول قائلاً إنه هناك لا ليقدم نفسهمراراً كثيرة، كماكانيفعل رئيس الكهنة، إذ كان يدخل إلى الأقداس كل سنة بدم آخر. لو أن تلك هي الحقيقة، فانظر كم من القرون كان ينبغي أن يتألم فيها الرب يسوع المبارك! « فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم ». ولكن ما هي الحقيقة؟ الحقيقة هي أنه بدلاً من الذبائح المتكررة التي لم يكن في مقدورها أن تُبطل الخطية، وبدلاً من المجئ مراراً وتكراراً كل عام بذبائح، فيها كل سنة ذكر لنفس الخطايا؛ قد جاء الله بذبيحة واحدة كان فيها العلاج الإلهي الأبدي الكامل، وهي المعبَّر عنها بالقول « مرة عند انقضاء الدهور ».

« عند انقضاء الدهور » - يقول البعض إن المقصود بذلك عند انتهاء العالم. إننا إذا كنا نرىد أن نرى نهاية العالم، فما علينا إلا أن نلقي نظرة إلى الوراء إلى الجلجثة. إن الناس يتحدثون عن تحسين العالم وتقدمه، ولكن الصليب قد أنهى هذا كله. إن الصليب هو حكم الله على العالم. لقد جرّب الله الإنسان بكل طريقة. لقد أعطاه كل فرصة. نور الوعد قبل نوح لمع بنور أكثر بإعلان جديد. ثم دعا الله شعباً مختاراً، وأعطاهم كل الامتيازات الخاصة بكهنوت أقامه لهم بنفسه، وأرسل لهم أنبياء وملوكاً وكل ما من شأنه أن ينفعهم ويخدمهم. فما كانت نتيجة هذا كله؟ خراب جديد ودينونة جديدة. وعندما أرسل ابنه الوحيد ختموا على كل إثمهم وفجورهم بقتله على الصليب. هناك انتهى تاريخ العالم. هناك ظهر المسيح عند انتهاء العالم - أو انقضاء الدهور، وهو التعبير الأفضل هنا - أي عندما انتهى الإنسان من كل تجاربه وامتحاناته، فكل إثمه، وكل يأسه وعدم نفعه، وكل فشله وانقطاع رجائه، ظهر في الصليب بأجلى وأكمل بيان.

وهو قد ظهر ليُبطِل الخطية، ليمحوها من أمام وجه الله، وليخلّصنا من إثمها ومن قوتها. وبأية طريقة؟ « بذبيحة نفسه ». آه، لم تكن هناك طريقة غير هذه يمكنها أن تبطل الخطية، وهو - له المجد - قد ظهر مرة ليصنع هذا الأمر. ولم تعد هناك حاجة لتكرار العمل. فعندما دوت من الجلجثة صيحة النصرة الخالدة « قد أكمل »، كان كل شيء قد تمّ. وبلغة ابن الله نفسه، كان معنى هذه الصيحة المباركة أن شيئاً آخر، مهما كان، لا يمكن إضافته إلى العمل الذي تم. آه، ليت هذه الكلمة تأخذ مكانها في أعماق نفوسنا جميعاً، كلمة العمل الكامل، لمدح مجده!

« وكما وُضِع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيَظهَر ثانية بلا خطية للخلاص للذين ينتظرونه » (9: 27-28).

يتكلم الرسول الآن عن حقيقة يعترف بها جميع الناس فيقول: « وكما وضع للناس أن يموتوا مرة ». ويا لها من كلمة خطيرة! كلمة نطق بها الرب الإله في عدن قبل السقوط: « يوم تأكل منها موتاً تموت ». كلمة وجدت صداها في كل تنهد مرير، وفي كل دمعة حزينة حول فراش الموت. من ذلك اليوم إلى وقتنا الحاضر. لقد ملك الموت من آدم إلى موسى، ونشر بساطه الأسود في كل مكان، شهادة مريعة على سيادة الخطية على العالم أجمع. لقد دخل الموت إلى العالم بسبب الخطية، وليس هناك من مشهد موت ولا ينهض كشاهد لحقيقة الخطية والانفصال عن الله. لقد أعلن الله أن الأمر لابد أن يكون كذلك، وقد نُفذ هذا الإعلان الخطير بلا هوادة في تاريخ البشرية كله.

قد يحاول الناس تأخير يوم الموت. والواقع أن كل ما عند الإنسان من أساليب المهارة والبراعة والعلم، قد تفاعلت وتآمرت معاً لتأخير ذلك اليوم المرير، ومع ذلك فإنك تحسب مجنوناً إن قلت لأشهر الأطباء أنك تريده أن يضمن لك عدم الموت. بل الأكثر من ذلك، أن يد أمهر الجراحين ستصبح يوماً شاحبة وباردة بالموت نفسه، وإن أولئك الذين خدموا بالرعاية حاجات المرضى، سيصبحون شهوداً على أنه لم يكن في مقدورهم مساعدة أنفسهم.

« وضع للناس أن يموتوا مرة »، ذلك هو نصف الحق الخطير فقط؛ « وبعد ذلك الدينونة »، هذا هو النصف الآخر. وكلاهما موضوعان أو مرسومان وكلاهما مؤكدان. والموت بدلاً من أن يكون النهاية، هو في الحقيقة البداية. وهذا الوقت الحاضر ليس هو إلا غرفة انتظار الأبدية. ولا أحد يستطيع أن ينكر يقينية الموت للجنس البشرى، وبعد ذلك تأتي الدينونة، ولا أحد يستطيع أن ينكر تلك الدينونة أيضاً. فالله الذي يعلن الواحد ويشهد له بحالات الموت التي لا عداد لها، هو نفسه الذي يعلن ويشهد ليقينية الدينونة الآتية أيضاً؛ ويا لها من حقائق رهيبة، لابد لكل واحد من مواجهتها.

ولكني أود أن أوجه التفاتكم إلى كلمة واحدة تشرق بفيض من نور النعمة على العبارة كلها. فالعبارة تبدأ بكلمة « كما » وماذا بعد ذلك؟ « هكذا المسيح أيضاً بعدما قدم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين »؛ ففي ذات المشهد، حيث يعلن الموت عن وجود الخطية، وحيث سيف الدينونة معلق في المستقبل، مهدِداً ومتوعداً بالضربة التي لا شك فيها، في هذا المشهد عينه قُدِّم المسيح ليحمل ذات الدينونة والموت اللذين كانا استحقاقنا جزاء خطايانا. الإنسان يموت أولاً ثم بعد الموت الدينونة؛ أما المسيح، سيدنا المبارك، فقد احتمل الدينونة أولاً، إذ مضى إلى الصليب حاملاً الغضب. تأمل في ذلك المشهد في الجلجثة، استمع وتأمل في تلك الصرخات الخارجة من الصليب، استمع إلى تلك الصرخة المريرة، صرخة المتألم المتروك عندما كان كل ما حوله ظلاماً؛ فإنك لن تصل في الواقع إلى إدراك كلي لحقيقة الصليب ما لم تدخل في عمق معنى تلك الكلمات « إلهي إلهي لماذا تركتني؟ »، ذلك هو ذات الشيء الذي سيتحققه ويعاينه الأشرار في الدينونة عندما يسمعون القول « اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية ». نقرأ أن المسيح جُعل لعنة لأجلنا، وهو ذات الشيء الذي يستحقه الخاطئ. فالخاطئ سيُطرح بعيداً عن الله. وهكذا كان المسيح في تلك الظلمة حيث أحتمل دينونة الله التي وقعت عليه كالعقاب الكامل للخطية.

احتمل الدينونة ثم بعد ذلك الموت. والموت، بعد كل شيء، ليس الجانب الأعمق من الصليب، وليس الجزء الأخطر فيه، لأنه يتعلق بالجسد ليس إلا. ولكن سيدنا المبارك أنقذنا وخلّصنا خلاصاً كاملاً من كل نتائج خطيتنا، حاملاً في جسده حكم تعدياتنا وباذلاً حياته الجسدية هنا على الأرض. وهكذا احتمل - له المجد - الدينونة في هذه الصفة المزدوجة؛ دينونة على النفس ودينونة على الجسد، وقد رفعها كلها بذبيحة نفسه إذ « قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين ».

وأود أن أدعو انتباهكم مرة أخرى إلى تلك الكلمة المباركة « مرة‌ ». إنها تدل على عمل قد تم. عمل كامل. هل تتجاسر على التفكير في نزوله من ذلك المجد الأسنى، وتسميره على الصليب من جديد؟! مستحيل، مستحيل. وهكذا، من جهة المؤمن، يستحيل إطلاقاً أن خطاياه تعود عليه ثانية، لأنها جميعها أُبعِدت عنه إلى الأبد بذبيحة المسيح.

والآن لاحظ النتيجة المباركة. نعم، فإننا لا نكف عن الارتفاع إلى أعلى فأعلي. « للذين ينتظرونه ». نحن لا ننتظر الموت، ولو أنه نصيب الناس المشترك. إن المسيح قد أبطل الموت بنزع شوكته، برفع الخطية. قد يأتي الموت كحادث، ولكنه فيما يتعلق بالمؤمنين تطلق عليه كلمة جديدة مختلفة: « الراقدون بيسوع ». إن دعانا الرب هذه الليلة أيها الأحباء، وإن وضع يده علينا وأمامنا هذا المساء، هل من رعب في هذا الرقاد؟ هل من شوكة؟ وهل من خوف البتة؟ نحن على استعداد لأن نذهب إلى سيدنا الآن، وأن نضطجع بين ذراعيه وفي هدوء وسلام.

ولكن ذلك ليس هو الرجاء المبارك الموضوع أمامنا، فالموت قد أُبطِل لدرجة أننا لا نفكر مجرد تفكير في رقادنا. « للذين ينتظرونه ». لقد نظرناه على الصليب، لقد نظرنا العمل الذي أنهى خطيتنا هناك؛ والآن نحن ننتظره ليس فقط وهو في حضرة الله، ولكننا ننتظره. ننتظر استعلانه « للذين ينتظرونه »؛ إذ « سيظهر ثانية، بلا خطية، للخلاص ».

لقد ظهر مرة في اتضاع كرجل أوجاع، ولم يكن سوى الإيمان يستطيع أن يخترق حجب ذلك الستار الخارجي ويرى الأمجاد والمشتهيات المختبئة وراءه. ظهر ليكون ذبيحة خطية، ليبطل الخطية بذبيحة نفسه. ونحن ننتظره الآن لكي يظهر المرة الثانية بلا خطية. نعم، فلا أثر للخطية عليه الآن. أليس كذلك؟ لقد نظرناه في الجلجثة حاملاً كل دينونة شعبه المفدي، ولكننا ننظره الآن في المجد وليس من ظل واحد على وجهه المجيد الكريم. ليس من خطية عليه الآن، ولا علينا. نحن لا ننتظره لكي يبطل خطايانا عندما يأتي، ولا ليطهر ضمائرنا. ولكننا ننتظره مرة ثانية، بغير أدنى علاقة بمشكلة الخطية كلها؛ للخلاص.

رجاء مبارك مجئ الرب هذا! وكما تتبعناه إلى الآن، وتتبعنا دم العهد الجديد الثمين من الصليب إلى محضر الله، ووصل بنا المطاف حتى تأملناه آتياً مرة ثانية، فكم يكون خارجاً عن الموضوع كلية لو خطر بالبال أي فكر عن مجيئه إلا لغرض واحد خاص، وهو أخذ مفدييه من هذا المشهد حيث توجد الخطية، إلى ذلك المشهد الذي اقتناه لنا بدمه، مسكننا مع الله إلى الأبد.

كم تنتعش النفس، وكم يتلذذ القلب بهذه الموضوعات المجيدة التي تملأ النفس بالسجود والتعبد! إننا نتأمل في النعمة التي أعطتنا، بهذه الكيفية، فداءً كاملاً، وجعلتنا ننتظر رجاءً مجيداً. ولا شك أنه لزام علينا أن نعمل أثناء انتظارنا، ولكنه عمل مبعثه المحبة. نعمل، لا لنحيا، بل لأننا أحياء وننتظر ابن الله من السماء. فليس هناك من فرح، أو رجاء، أو نصرة للمؤمن يمكن مقارنتها بذلك الهتاف البهيج الذي سيدوي من كل قلب، ونحن نصعد إلى دوائر نوره المبارك لنكون كل حين معه.

عندئذ سيستكمل الخلاص معناه الكامل. فهو ليس خلاص النفس الذي حصلنا عليه الآن. وليس الإنقاذ بنعمته من عبودية الخطية الذي من امتيازنا أن نتمتع به الآن. وليس تعضيدنا في مختلف ظروفنا وتجاربنا في طريق غربتنا وسياحتنا هنا، ولكن خلاصه الكامل، عندما تتم مقاصده من جهتنا أخيراً. يا للأسف، إننا لم نسلِّم أنفسنا لإرادته كما يجب وكما يريدنا هنا. ولكن عندما تتم أخيراً مقاصد محبته من جهتنا، عندما يغيّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده، حسب عمل استطاعته أن يخضع لنفسه كل شيء، عندئذ تكون قد تمت كل رغائبه.

تلك أيها الأحباء هي قيمة دم يسوع المسيح عندما تقارنه بكل أعمالنا، وبكل الطقوس البشرية والفرائض اليهودية، وبكل أسس القبول أمام الله من أي نوع. وعندماتتأمل في الأمر ملياً، كم تشتاق أن تتمسك بحق الله المعلن بشأنه بكل بساطة، لكي يمسك به قلبك ويؤمن به. فلا شيء غير دم يسوع المسيح، ولا شيء غير الإنسان الممجد الجالس عن يمين الله في الأعإلى كالشاهد على ما صرناه نحن في نظر الله، ولا شيء أخيراً غير مجيئه مرة ثانية يبهج قلوبنا ويملأنا ترنماً وأغاني في الليل، ونحن ننتظر ونطلب سرعة مجيئه قائلين « أن مجئ الرب قد اقترب ». الرب قريب.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.