لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة الثامنة

الكاهن وذبيحته

« بدم نفسه دخل »

9: 1 - 15

يتناول الرسول الآن الحقائق الكبرى الخاصة بأقداس الله، وطريق الدخول إلى حضرته. والأمر الأول الذي يطالعنا به في هذا الموضوع هو القدس نفسه، وكيف دخله المسيح، ثم في الأصحاح العاشر نرى امتيازاتنا وحقنا في الدخول نحن أيضاً، بعبارة أخرى، نجد في هذين الأصحاحين قدس أقداس الرسالة والاقتراب إلى ذات محضر الله، حيث نقدِّم، ككهنة، أمام عرشه، تسبيحات حمدنا وسجودنا، وهذا موضوع يجب أن يشغل في الواقع كل حاسة بين حاسيات طبيعتنا الجديدة، ونحن ندرك أننا لا نستطيع استيعابه إلا جزئياً، ولكن ليس أقل من أن نتوق بإخلاص متزايد، أن نرى أبعاده، وأن نضع أيدينا على ملئه العجيب.

« ثُم العهد الأول كان له أيضاً فرائض خدمة والقدس العالمي، لأنه نُصِب المسكن الأول الذي يُقال له القدس، الذي كان فيه المنارة والمائدة وخبز التقدمة. ووراء الحجاب الثاني المسكن الذي يُقال له قدس الأقداس، فيه مبخرة من ذهب، وتابوت العهد مغشى من كل جهة بالذهب، الذي فيه قسط من ذهب فيه المَنّ، وعصا هارون التي أفرخت، ولوحا العهد، وفوقه كروبا المجد مظللين الغطاء. أشياء ليس لنا الآن أن نتكلم عنها بالتفصيل ». (9: 1-5).

في هذه الأعداد يعطينا الوحي وصفاً موجزاً للمسكن الأول (خيمة الاجتماع) ومحتوياتها المختلفة. ومن دواعي غبطتنا أن نتأمل بإيجاز في كل منها لنلاحظ معناها الروحي الجميل.

يتحدث إلينا الرسول عن المسكن باعتباره يتكون من قسمين. القسم الأول: القدس، كان فيه المنارة ومائدة خبز الوجوه، وقد كانت المنارة عبارة عن « شمعدان » ذي سبعة فروع مصنوعة من الذهب الخالص؛ وكانت بذلك تشير إلى مجد المسيح الإلهي، ولكن كمن جاء إلينا مُعلِناً نفسه لمداركنا، وكمن أصبح الآن بالقيامة الوسيلة لإنارة شعبه. فالروح القدس هو الذي ينير شعب الله، ولكنه يفعل ذلك بواسطة المخلِّص المُقام والممجد. فالمنارة إذاً تتحدث عن المسيح المقام والممجد.

أما المائدة، من الناحية الأخرى، فتتحدث عن المسيح في كمال طبيعته الناسوتية والإلهية، وكمن لنا بواسطته شركة مع الله. فالحياة تُمنح لنا، ولكنها بحاجة إلى تغذية، وهنا يأتي دور المائدة التي تصوِّر لنا المسيح كالغذاء الذي يتمتع به شعب الله. كما يذكرنا خبز الوجوه أيضاً كيف أن شعبه ممثل فيهتمثيلاً كاملاًودائماً في حضرة الله.

ونلاحظ أن قطعة واحدة من التي في القدس محذوفة هنا، فلا ذكر لمذبح البخور الذي كان يلي الحجاب مباشرة. وسبب هذا الحذف له معناه، وهو أن السجود الحقيقي يجب أن يكون في محضر الله، ومن أناس يدركون حقيقة أنهم في محضر الله. فما لم نكن في حضرته، فإننا لا نستطيع أن نكون ساجدين حقيقيين. ولذلك ففي التعليمات والإرشادات الخاصة بصنع الخيمة، لم تَرد إشارة إلى مذبح البخور إلا بعد أن تم إعداد كل شيء يتعلق بتقلد هارون لوظيفته ككاهن. وبعبارة أخرى يجب أن يكون هناك كاهن قبل أن يكون هناك سجود، ولسبب مماثل لا يشار إلى وجود هذا المذبح في الجزء الخارجي من المسكن، ولكننا عندما نأتي إلى قدس الأقداس، نرى أول شيء يذكر هو المبخرة الذهبية. تلك هي في الواقع مذبح البخور في جوهره. صحيح لم تكن هي ذات قطعة الأثاث، ولكن لما كان هارون يدخل إلى قدس الأقداس في يوم الكفارة، كان يحمل بيده هذه المبخرة، ويقدم من فوقها البخور العطر أمام الله. وهكذا نرى أن السجود عمل كهنوتي في طبيعته، على أساس الكفارة، في حضرة الله. وعدم الإشارة إلى مذبح البخور في القدس، يدل على أن هذه الأشياء التي هي قوام السجود الحقيقي لم تكن قد تهيأت بعد.

نجد بعد ذلك تابوت العهد، الذي يشير إلى عرش الله، كما يشير إلى المسيح نفسه كمن يملك. وكذلك المواد التي يتكون منها التابوت تشير إلى أمجاد المسيح الناسوتية والإلهية. وفي داخله كان يوجد القسط الذهبي الذي فيه المن. وهذا يتحدث عن المسيح كمن تنازل واتضع ليكون غذاءً لشعبه، ولكنه الآن بالقيامة قد أصبح - إن جاز التعبير - محفوظاً لهم في المجد. ثم كانت هناك أيضاً عصا هارون التي أفرخت، وهي الشهادة على أن الله قد دعاه حقاً للكهنوت. كانت عصاً مقطوعة، منزوعة منها الحياة، ولكنها في حضرة الله أفرخت وأثمرت، رمزاً جميلاً للمسيح، الذي قطع بالموت، وبالقيامة جاء بأثمار كثيرة، وقد تعين بذلك كالكاهن الحقيقي.

كذلك كان لوحا العهد داخل التابوت - ناموس الله المقدس - محفوظاً في المكان الوحيد الذي يمكن أن يقوم فيه غير مكسور، ذلك المكان كان حضن المسيح نفسه، بحيث أن القول « شريعتك في وسط أحشائي »، كان ذلك شعار حياته الخارجية على طول الخط. وبعد هذا كله كروبا المجد، الشاهدان لبر الله وقضاء الله اللذين هما أساس عرشه، يتطلعان ويظللان الغطاء المرشوش بدم الكفارة.

هذه كانت الأواني المختلفة الموجودة في المسكن أو الخيمة، وأنت ترى لأول وهلة أننا نستطيع أن نصرف وقتاً طويلاً في استعراض الحقائق الروحية العجيبة التي كانت تشير إليها، ولكن كما يقول الرسول « أشياء ليس لنا الآن أن نتكلم عنها بالتفصيل »؛ أعني ليس هذا هو المكان للتحدث عنها بالكامل، ولكنه يذكرها فقط ليبين الفارق بين هذا القدس الأرضي وما يمارس فيه من عبادة، والمكان السماوي الذي من حق شعب المسيح أن يدخلوه الآن.

« ثُم إذ صارت هذه مهيأة هكذا، يدخل الكهنة إلى المسكن الأول كل حين صانعين الخدمة. وأما إلى الثاني، فرئيس الكهنة فقط، مرة في السنة، ليس بلا دم يقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب، معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يُظهَر بعد ما دام المسكن الأول له إقامة، الذي هو رمز للوقت الحاضر، الذي فيه تُقدّم قرابين وذبائح، لا يمكن من جهة الضمير أن تكمِّل الذي يخدم، وهي قائمة بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة وفرائض جسدية فقط، موضوعة إلى وقت الإصلاح » (9: 6-10).

والآن وقد تأملنا في محتويات المسكن، فإننا نلقي نظرة إلى الخدمة فيه. إن العائلة الكهنوتية جميعاً كانت تدخل إلى المسكن الأول، أي القدس، قائمين بخدمة الله يومياً. كانوا يدخلون ويخرجون معتنين بتنظيف وإصعاد السرج على المنارة، وواضعين خبز الوجوه على المائدة أسبوعاً بعد أسبوع، رمزاً مجدداً باستمرار لكمال قيام الشعب أمام الله. ولكن عند هذا الحد كانت تقف خدمتهم ولا تتعداه. ففي المسكن الثاني، قدس الأقداس، لم يكن الكهنة يدخلون، بل رئيس الكهنة وحده، مرة واحدة في السنة، بالمقابلة مع الخدمات اليومية في القدس. وهو لا يدخل بغير دم، بالمقابلة مع دخوله إلى القدس بمجرد غسل يديه ورجليه عند المرحضة في الدار الخارجية. وقد كان يقدم الدم، ليس فقط من أجل الشعب، بل من أجل نفسه أيضاً. وهنا نلاحظ شيئاً هاماً وهو أن الدم كان يقدَّم عن جهالات الشعب أي عن الخطايا التي يصنعونها بجهل وليس عن عمد.

نقول إننا نلاحظ هنا مبدأً هاماً للغاية وهو مبدأ لا يفطن إليه الكثيرون مع الأسف الشديد. ذلك أن الخطايا التي كان يعالجها الناموس وينظم لها وسائل الغفران، كانت خطايا الجهل ليس إلا. أما إذا ارتكب إنسان خطية عمداً، فكان يُقتل قتلاً وبغير أدنى رحمة، فلا ذبيحة عند الناموس لخطية مثل هذه. ولذلك نرى داود في مزمور19 يقول: « من الخطايا المستترة أبرئني »، أي الخطايا التي أجهلها ولا أعرف عنها شيئاً، ولكنها رغم ذلك موجودة؛ وهو يشتاق أن يتبرأ منها. أما من « المتكبرين » أو الكبائر (والمقصود خطايا العمد) فاحفظ عبدك.

ولكنك عندما تجئ إلى مزمور51 تجد خطية العمد. فلم يكن هناك أدنى شك في أن داود كان يعرف تماماً شناعة الخطية التي كان يرتكبها. ولقد تقسى ضميره وقلبه إلى حين، وعندما وجد نفسه تحت ثقل تلك الخطية والشعور بوطأتها، سيما بعد أن مسّ الرب ضميره بواسطة ناثان النبي، لم يستطع أن يحتج بالجهل، ولهذا لم يحاول أن يعالج الأمر بتقديم ذبيحة. لقد كانت هناك ذبائح خطية وذبائح إثم متوافرة تحت الناموس. كانت هناك تقدمات خطية أيضاً للرئيس أو الملك، ولكن داود لم يفكِّر في تقديم واحدة من هذه أيضاً. بل يقول: « إنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها »، فكيف كان يمكنه أن يقدِّم ذبيحة من أجل ذات الخطية التي أعلن الله أنه لا يوجد لها ذبيحة؟

ومع ذلك، ومع أن الناموس قد عجز عجزاً تاماً عن تقديم أية تعزية أو أي سلام لنفس داود تحت ثقل خطيته وشعوره العميق بها، فإنه يستجير بالله ويرفع إليه تأوهات الثقة، ثقة النفس التائبة الراجعة، ولكن ليس على أساس ذبيحة ناموسية، فهو يقول إن الذبيحة الوحيدة التي أستطيع أن أقدمها هي روح منكسرة وقلب منسحق، « ذبائح الله هي روح منكسرة »، إن الله لا يحتقر هذه الذبائح، فإن حالة القلب التي تعبِّر عنها الروح المنكسرة هي التي تمسك بحق المسيح وعمله الثمين.

ولذلك، فعندما كان يدخل رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس مرة في السنة، حاملاً الدم الذي يكفِّر به عن خطايا نفسه وجهالات الشعب، حتى يتسنى لله أن يسكن وسطهم، كان ذلك دليلاً على قصور الذبائح الناموسية التي يقدّمونها كل يوم. كان ذلك هو منطق يوم الكفارة العظيم. والواقع أن هذا الجزء من رسالة العبرانيين كله هو إيضاح وشرح للحق الكبير الذي كان يشير إليه سفر اللاويين ص16.

والآن دعنا نتأمل قليلاً في هذه المعاني الجميلة، ونقارنها بعمل المسيح المبارك كما يطالعنا بها الفصل الذي نحن بصدده. « رئيس الكهنة فقط.. معلناً الروح القدس بهذا أن طريق الأقداس لم يظهر بعد مادام المسكن الأول له إقامة ». فالواقع أنه لم يكن هناك دخول حقيقي إلى حضرة الله. شخص واحد فقط من كل الأمة كان يدخل مرة في السنة، إلى ذلك المكان الذي كان يرمز إلى المنزل الدائم لكل واحد من أولاد الله المفديين في الوقت الحاضر. فياله من تباين عظيم بين المسافة التي كان يقيمها الناموس بين النفس والله، والمكان الذي أدخل إليه المسيح شعبه!

إن ذبائح الناموس لم يكن ممكناً قط أن تكمِّل الساجد من جهة ضميره. فقد كان الإسرائيلي المسكين يأتي بذبيحته ويضع عليها يديه ويذبحها، ثم يتطلع بعد ذلك إلى الكاهن ليأخذ دمها ويرشه على المذبح ويحرق الذبيحة؛ يرى الدخان يتصاعد ويسمع الكاهن يقول: قد غُفِرت خطيتك. ومع ذلك ففي يوم الكفارة يرى تلك الخطية وكثيراً غيرها يعاد ذكرها، فلابد له أن يستنتج أنها لم تُغفر في الماضي غفراناً تاماً. وبعبارة أخرى، إن ضميره لم يكن مكمَّلاً على الإطلاق، بمعنى أنه لم يكن لديه اليقين الكامل بقبوله أو بغفران خطاياه وتعدياته. وهكذا كان الحال في كل ما يتعلق بالفرائض الناموسية.

والسبب واضح، وهو أنها كانت كلها أشياء خارجية تتعلق بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة. فقد كان على الإسرائيلي أن يدقّق جداً في نوع الطعام الذي يأكله، فالناموس قد حدَّد له كل ما يأكله ويشربه، كان يجب أن يكون كل شيء طاهراً، وإلا أصبح الآكِل نجساً. ولكن هذه الأشياء جميعها كانت أشياء خارجية كما سبقت الإشارة؛ أطعمة وأشربة وغسلات مختلفة، أو كما هو المعنى الحقيقي للكلمة (كما رأيناها في الأصحاح السادس) معموديات مختلفة. فقد كان هناك غسل عند المرحضة، وكان هناك رشّ دم لتقديس النجس، على مذبح النحاس، وأحياناً على قرون مذبح البخور، ومرة في السنة على غطاء التابوت. وهذه كلها لم تكن تقدر أن تكمِّل الضمير أو تعطي للنفس سلاماً حقيقياً. كانت أشياء جسدية، مادية، فرائض، تتعامل مع الإنسان الخارجي، وتتناول علاقة بالله لم تكن سوى علاقة خارجية. فإن الإنسان في ظِل هذا النظام كان يمكن أن يكون رجلاً طيباً، رجلاً طاهراً طقسياً، ومع ذلك بعيداً كل البعد عن السلام مع الله أو الإحساس العميق الداخلي بمحبته أو الوجود في حضرته المقدسة. ويقال لنا هنا أن هذه الأشياء كانت موضوعة عليهم كنير، نير يقول عنه بطرس « لم نستطع نحن ولا آباؤنا أن نحمله »، موضوع عليهم إلى وقت الإصلاح، أعني إلى الوقت الذي فيه يمكن أن يوضع كل شيء على أساس صحيح صالح. نعم، لقد كانت جميعها مؤقتة بحكم طبيعتها، ولكنها مليئة بالمعاني لنا، كرموز وظلال.

إن العشرة الأعداد الأولى من هذا الأصحاح التاسع من رسالتنا تعطينا في الواقع ظل « الخيرات العتيدة » في الناموس والقدس والخدمة. فمن جهة القدس، كان قدساً أرضياً، والخدمة كانت نظاماً روتينياً لفرائض جسدية. والنتيجة أن بقى الضمير مثقّلاً بإثمه، والنفس على مسافة بعيدة من حضرة الله. وعند هذه النقطة نأتي - تبارك اسم إلهنا - إلى ما هو عكس ذلك كله على خط مستقيم. وما أحلى أن تقع أنغام الأقوال التالية على الأذن المشتاقة.

« وأما المسيح، وهو قد جاء رئيسكهنة للخيرات العتيدة، فبالمسكن الأعظم والأكمل، غير المصنوع بيد، أي الذي ليس من هذه الخليقة، وليس بدم تيوس وعجول، بل بدم نفسه، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداء أبدياً » (9: 11-12).

في هذين العددين المباركين نجد الفارق المبارك بين ما كنا نتأمل فيه، وبين المسيح وعمله. فهو رئيس كهنة على نقيض كل النسل الهاروني؛ رئيس كهنة ليس لليهودية أو الفرائض الجسدية، بل للخيرات العتيدة. ولا ننسى هنا أننا نتطلع إلى الأشياء من وجهة نظر اليهودية. فبالنسبة لليهودي، في وقت الناموس، كانت الخيرات، أو الأشياء الطيبة، غير موجودة بعد؛ كانت عتيدة، أي آتية. ولم تُعلن حتى تم عمل المسيح، وفتح الطريق إلى محضر الله، إلى ذلك الكنز الذي منه تدفق كل غنى نعمته وكل بركات محبته إلينا. فالخيرات العتيدة الآتية التي كان ينتظرها اليهودي أو التي كان يجب أن ينتظرها هي خيرات المسيحية، أو هو « الكمال » الذي يطالعنا به الأصحاح السادس، والذي خادمه المسيح؛ الأشياء التي نتمتع بها الآن بالإيمان.

ولكن هذا لا يستنفد كل المعنى الذي تتضمنه هذه العبارة الجميلة. فإن هذه الأشياء، أو الخيرات، هي أيضاً مستقبلة. فنحن نتكلم عن كوننا في الأقداس بالنسبة لاقترابنا إلى الله. واقعياً، وبالنسبة للجسد، نحن لا زلنا في البرية معرّضين لتغيرات وتجارب الطريق المتعبة. ونحن أنفسنا نشارك في أنين الخليقة القديمة، فالخيرات العتيدة في كامل إعلانها وظهورها لا زالت مستقبلة. لقد أتى بها المسيح إلينا، ولقد حققها الروح القدس لإيماننا. ولكن نصيبنا، خيراتنا، لا زالت عتيدة. لقد عرفنا بركة غفران الخطايا والسلام مع الله، ولكن هناك خيرات آتية. لقد عرفنا نعمة المسيح، لقد ذقناها في تجارب محرقة كثيرة، لقد كان المسيح معنا في ساعات أحزاننا، وواسانا في أوقات بكائنا وتجاربنا وخيبة آمالنا. في كل ما يجرب النفس ويسحقها كان المسيح معنا وكان كافياً لنفوسنا، وعطفه وعونه كرئيس كهنتنا كانا كل ما نحتاجه في مختلف ضعفاتنا وتجاربنا. ولكن هناك خيرات أكثر لا زالت آتية.

ما أعظم ما يأتينا به المستقبل! إننا كبشر لا نعرف ما يخبئه الغد لنا، بل لا نعرف ماذا تخبئه لنا الساعة التي نعيش فيها. ولكننا نعلم هذا، أن لنا خيرات عظيمة في طي المستقبل، وأن خيرات المسيح ستكون كافية لنا في ما بقى من حياتنا. تطلع إلى كل حياتك، وإلى اللحظة الأخيرة التي تؤخذ فيها لتكون مع الرب، فماذا ترى؟ لا شيء غير خيرات تغمر الحياة كل الطريق.

وبعد ذلك، أيها الأحباء، لنا أن نتطلع بالإيمان إلى أعلي، وأن نتفكر في المجد الذي أمامنا حيث هو، فنرى مما لم ترَ عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر؛ هذه كلها من الخيرات العتيدة التي سيخدمنا بها المسيح. وعندما تدور دورات الأبدية اللانهائية، فإننا لن نستنفذ ملء البركة التي أعدها قلب الله ومحبة المسيح لنا. ويمكنك بكل ثقة ويقين أن ترى مكتوباً بالخط العريض على أبواب السماء نفسها « الخيرات العتيدة »، خيرات متجددة دائماً، تستمتع بها النفس بلا ملل ولا تعب ولا خمول، فرح دائم وشعور متجدد بالغبطة كلما قاسمنا سيدنا المبارك ثمار ما ربحه لنا.

قارن هذا ولو للحظة (لأن البعض قد يحتاجون لمثل هذه المقارنة)، قارن هذه « الخيرات العتيدة »، ثمار الفداء، مع تلك الكلمة الرهيبة، كلمة الدينونة « الغضب الآتي ». إنك تذكر ما قاله يوحنا المعمدان لأولئك الذين أتوا إليه في غير إخلاص ليعتمدوا منه « يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي »؛ فهناك غضب آت. قد تتراكم الثروات، وقد تتزايد المباهج والمسرات، ولكن يبقى هناك « غضب آت ». إن سني صبر الله، سني الرحمة المرفوضة والإنذارات المهملة، تكوِّم غضباً على غضب إلى يوم الغضب، وعندما تأتي نهاية الزمن وتتطلع النفس إلى الوراء، إلى حياة بلا مسيح، وإلى الأمام إلى أبدية بلا مسيح، فيا للهول؛ إنه لغضبٍ آت! آه، أيها الأصدقاء، إن مكان ذلك الغضب، في الظلمة الخارجية، حيث البكاء وصرير الأسنان، لن تكون دينونة مؤقتة أو ناراً مطهِّرة، إنه ليس مكاناً يخرج منه الإنسان يوماً من الأيام أحكم من ذي قبل مستعداً لقبول عمل المسيح الكامل. فعندئذ سيكون الوقت قد انتهى، والباب قد أُغلق، ويوم النعمة قد مرّ إلى الأبد، وطوال الأبدية لن يكون هناك سوى صوت واحد، ويا له من صوت رهيب: « الغضب الآتي ».

ونحن إذ نتفكر في هذا، أليس من شأنه أن يملأ قلوبنا بالحنين والشوق لخلاص النفوس؟ ألا يجعلنا مستعدين كل حين للكرازة بالكلمة في وقت مناسب وغير مناسب؟ إننا نتقابل يومياً مع أناس ذاهبين في طريقهم إلى الغضب الآتي، ونحن ذاهبون في طريقنا إلى الخيرات الآتية. أليس من واجبنا، ونحن عالمون خوف الرب، أن نقنع الناس؟ أليس من واجبنا أن نستعطفهم، بل نلزمهم بالدخول صائحين فيهم: أرجعوا. أرجعوا. لماذا تموتون؟!

والآن إذ نعود لرسالتنا، نرى الأقداس التي دخلها المسيح، والتي أدخلنا إليها معه، ليست مكاناً أرضياً أو مكاناً مرتبطاً بالخليقة القديمة. فلئن كان هذا العالم رائعاً وجميلاً، باعتباره عمل الله الذي نرى فيه قدرته المبدعة الفائقة، وباعتباره الشاهد لجوده وصلاحه، والذي نرى فيه آيات الجمال من جبال رائعة وبحار وأنهار عظيمة إلى ما نراه حولنا في كل مكان من طبيعة مبتسمة في الربيع، أو موفورة المحاصيل الناضجة في الخريف، كل ذلك لا يغيّر من علمِنا أنها الخليقة القديمة، وكل ما فيها معرض للاضمحلال، وأجمل مشاهدها معرض للزوال؛ لا شيء فيها ثابت. إنه بسبب الخطية التي شوّهت خليقة الله القديمة، والتي حتّمت لذلك ضرورة تطهيرها بالنار، حتى أن المصنوعات التي فيها مآلها للحريق وكل ما نراه الآن سينتهي ويزول.

إن خدمة المسيح غير مرتبطة بهذه الخليقة القديمة. لقد جاء إليها وتمم عمل الفداء فيها. ولقد أخذ منها جماعة مسكينة خاطئة ليقودها معه إلى المجد. لقد خرج هو من الخليقة القديمة ودخل إلى المجال الجديد إلى دوائر المجد، إلى مسكن أعظم وأكمل.

أنظر إلى ذلك المسكن عندما كان في البرية، فمع أنه كان صغيراً، كان محظوراً على أي إنسان، مهما كان، الدخول إلى دوائره المقدسة. تأمل في هذا وقارنه بسماء السماوات، الأمجاد الأبدية، حيث يقوم المسيح بخدمة مفدييه. من ذا يستطيع أن يصف، ومن ذا يستطيع أن يعطي حدود ذلك المجد؟ حتى حدود ميراث شعب الله الأرضي لم تكمل عن آخرها في يوم من الأيام، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف حدود ذلك الميراث الذي يقع هناك في المجد الأبدي، والذي به ترتبط السماوات الجديدة بالأرض الجديدة؟ ذلك هو المسكن الأعظم والأكمل.

ثم فيما يتعلق بالطريقة التي دخل بها؛ تلك الطريقة كانت « بدم نفسه ». إن دم تيوس وعجول، التي كانت تُقدَّم تحت الناموس، لم يكن ممكناً أن يرفع الخطية. ولذلك فإن المسيح لم يدخل بدم ذبائح مثل هذه إلى محضر الله، لأنها كانت ذبائح موضوعة فقط كعلاج أو وسائل مؤقتة، ولم يكن في استطاعتها تمجيد الله، ولكنه دخل « بدم نفسه ».

دعنا نتأمل في هذا قليلاً، ولو أنه حق معروف لنا جيداً، إنك تجد الإشارة تتكرر في هذه الرسالة عن دم المسيح. إن الحياة هي في الدم. والسبب الذي من أجله يتكرر الكلام عن الدم بهذه الصورة، هو لأن الدم المسفوك معناه بذل الحياة تحت دينونة الله. إن البر كان يطالب بدينونة الخطية، فالخطية كانت شيئاً لا يستطيع الله أن يتجاوز عنه، إلا بالنظر لذبيحة المسيح الكاملة. فمع أنه غفر خطية داود مثلاً، إلا أن ذلك كان على أساس شيء رآه مقدماً، أنه سيمجده تمجيداً كاملاً. فقد يستعطف داود رحمة الله ويستجير بها، وكذلك إبراهيم وآخرون قد يستندون بالإيمان على تلك الرحمة؛ ولكن عينه كانت مستقرة، من أجل كل خطية غفرها الله، وتجاوز عنها في التدبير السابق، على دم المسيح الثمين؛ الذبيحة الكفارية الكاملة التي ستمجد بره تمجيداً كاملاً. ولذلك فإننا عندما نتكلم عن دم المسيح، فمن المفهوم أننا نعني ذبيحة المسيح تحت غضب الله حاملاً دينونة الخطية.

وإذا ألقيت نظرة ثانية على لاويين16، تجد رئيس الكهنة هناك متسربلاً الملابس البيضاء، رمزاً لطهارة المسيح المطلقة « قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة »، وكان رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس محاطاً بسحابة البخور وبيده دم الذبيحة في الوعاء، وإذ يصل إلى عرش الله، كرسي الرحمة، أو الغطاء، يرش من الدم عليه، كما يرش منه سبع مرات أمامه. ذلك كان الرمز، الظل. فإن المسيح بدم نفسه دخل، ونحن لا نعني طبعاً، ولا الكتاب يقول، أنه دخل مع دمه. إن الرمز لم يكن إلا ظلاً ليوضِّح لأفهامنا ماذا صنع سيدنا المبارك بعمله الكهنوتي، أنه دخل بفضل دمه وفي قيمة دمه. لقد سفك الدم وتم العمل في الجلجثة وقبلت الذبيحة، وقد أعطى الله الدليل على ذلك بشق الحجاب وبإقامة المسيح من الأموات. لقد دخل المسيح السماء، دخل إلى حضرة الله، ونحن نعلم أنه بدم نفسه - أي بفضل هذا الدم - دخل هناك. لقد كان من حقه أن يدخل السماء في أية لحظة خلال حياته الكاملة هنا على الأرض، ولكنه لو فعل ذلك لكان دخل وحده، كما خرج منها وحده؛ وما من فرد واحد كان يشاركه مجده. ولكنه لم يدخل السماء بتلك الكيفية. إنه دخل بواسطة، أو بفضل دمه، ليس بفضل حياته العملية الكاملة، ولا بفضل حفظه لناموس الله حفظاً كاملاُ، ولا حتى باستحقاقه الشخصي. ولكنه دخل بدمه بعد تتميم الفداء؛ وبسبب ذلك العمل هو هناك أمام الله.

ذلك يقودنا إلى العبارة: « فوجد فداء أبدياً »، أو حصل على فداء أبدي. ولكنه إلى أين كان عليه أن يذهب لكي يجد هذا الفداء؟ كان عليه أن يذهب إلى الصليب. كان عليه أن يبذل دمه، يبذل حياته، لكي يحصل على الفداء لأجلنا. وتأمل في هذا التعبير « فداء أبدي »، بالمقارنة مع أي شيء كانوا يملكونه قبلاً. لقد كان في إمكان رئيس الكهنة، وهو يتناول المبخرة بيده يوم الكفارة العظيم، أن يقول "ها أنا أجد فداء سيدوم سنة كاملة. أيها الإسرائيليون، إنكم إن بقيتم أمناء فإني أعلن لكم بكل يقين أن الله سيبقى وسطنا في مسكنه سنة كاملة، لقد صنعت كفارة لخطاياكم من يوم خروجكم من مصر إلى الوقت الحاضر". ولكن قد يقول واحد من الجمع "ولكنك قد قلت في العام الماضي أنك قد كفرت عن خطايا تلك السنة، والسنين التي قبلها. ألم تذكر تلك الخطايا؟". ولكن بالمقابلة مع ذلك، لنا دخول رئيس كهنتنا المجيد إلى محضر الله. إنه دخل مرة واحدة إلى السماء فوجد فداءً يختم على علاقتنا بالله إلى الأبد! ليس لمدة سنة، ولا على أساس مشروط بأي صلاح فينا؛ ومن ذا الذي يجرؤ على أن يجعل علاقته بالله معتمدة على مسلكه الطيب؟ في مثل هذه الحالة، ماذا كنا نفعل طوال العام القادم إلا أن نعيش في ملء الخوف، طالما جعلنا ثقتنا في ذواتنا أساساً لوجودنا في حضرة سيدنا المبارك؟ ولكن الحقيقة أيها الأحباء هي أننا نتطلع إلى الأمام، ليس إلى السنة القادمة فقط، ولكن طوال حياتنا الأرضية، ومهما اعترض سبيلنا، ومهما كانت قوة الشيطان ضدنا، ومهما كانت حاجات الطريق وأعوازها، فهناك فداء أبدي قد وجده لنا سيدنا، أبدي في كفايته، أبدي في قوته نستريح عليه الآن، ونستريح عليه إذ نعبر من الأرض إلى المجد، وفي الأبدية نفسها.

« لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عِجلة مرشوش على المنجَّسين، يُقدِّس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدّم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي! » (9: 13-14).

لنا هنا ليس فقط إشارة عامة إلى جميع الذبائح اللاوية، بل إشارة خاصة إلى يوم الكفارة، حينما كان يقدم ثور من أجل خطايا رئيس الكهنة وبيته، وتيس من أجل خطايا الشعب ويرش دم كليهما على غطاء التابوت أو كرسي الرحمة.

أما رماد العجلة المرشوش على المنجَّسين، فإنه يذكّرنا بالخدمة التي يحدثنا عنها سفر العدد19، وهي الخاصة بالعلاج من نجاسات الطريق. فالعِجلة، أو البقرة الحمراء، كانت تقدَّم صحيحة لا عيب فيها، ويضع الكاهن يديه عليها، ثم تُذبح قدّامه، وتُحرق بكاملها، ثم يُجمع رمادها في مكان طاهر خارج المحلة، وإذا ما تنجس إسرائيلي بأية نجاسة، كأن يكون قد مسّ ميتاً أو أي شيء من مثل ذلك، كان الكاهن يأخذ من رماد العِجلة ويمزجه بماء ويرش الإنسان النجس بهذا المزيج في اليومين الثالث والسابع، وبذلك يتطهر خارجياً، ويصبح له حق الاختلاط والشركة مع شعب الله. معنى ذلك، أن الأمر كله كان متعلقاً بطهارة الجسد. والهدف ليس الاقتراب إلى الله، بل الشركة مع شعب الله، فهو علاج خاص بالبركة كما كان هناك علاج خاص بالأقداس.

وهكذا نرى في هذا الفصل طرفي التدبير اللاوي كله، أو غاية ما كان يستطيع ذلك التدبير تقديمه للإنسان النجس. الطرف الأول يمثل أحسن ما كان تقديمه لتحقيق الاقتراب إلى الله. والطرف الثاني يمثل أحسن ما كان يمكن تقديمه لصيانة الشركة مع شعب الله. والطرفان يرمزان لجانبي الفداء العظيمين؛ الجانب الأول عمل المسيح لأجلنا أمام الله، والجانب الثاني عمل المسيح فينا ولأجلنا كالشفيع، حافظاً إيانا في مركز الشركة مع الله بقوة كلمته وروحه ونحن هنا في البرية.

ولكن ما أقلّ فاعلية الرمزين؟ ففيما يتعلق بحضور الله وسط الشعب، كان هناك رش الدم على الغطاء أو كرسي الرحمة، الذي رأينا أنه مجرد شهادة على أن الله كان بناء على ذلك يستطيع أن يحتمل شعبه أو يتسامح معهم سنة أخرى. وفيما يتعلق برماد العِجلة أو البقرة الحمراء ورشّ دمها على المنجسين ماذا كان تأثيره؟ وماذا كان نوع النجاسة؟ كانت نجاسة خارجية. لقد مسّ الإنسان ميتاً، أ كان في جثة الميت ما يستطيع أن ينجس، سوى بكيفية طقسية رمزية؟ ولكن عندما يكون هناك شيء ينجِس النفس نجاسة حقيقية، نجاسة تقطع الشركة مع الله - كما هو شأن كل عصيان - أيستطيع رماد العِجلة المرشوش على المنجَّسين أن يطهر حقاً، وأن يؤهل حقاً الإنسان من جديد للاستمتاع بالشركة؟ افترض أنك تنجست بملامسة أي شيء في خيمة هذا الموت (هذا العالم الذي نعيش فيه) ورُشّ عليك من رماد البقرة الحمراء، أ يستطيع ذلك أن يطهرك من نجاسة النفس التي لصقت بك؟ كلا بكل يقين. وهكذا الناموس بكل فرائضه وطقوسه - التي تبدو غاية في الجمال حينما نترجمها إلى لغة النعمة - عاجز كل العجز عن تحقيق أي غرض سوى طهارة الجسد.

ولكن الرسول يسترسل قائلاً: إذا كان هذا التطهير المزدوج له هذا التأثير الخارجي، فكم بالحري يكون دم المسيح؟ وهنا نجد الروح القدس يضع أمام هذه الذبائح كلها، ذلك العمل الواحد الفريد التام الكامل. أ يسأل أحد، ما هو أساس علاقتنا مع الله؟ الجواب دم المسيح. قد تكون سقطت في النجاسة، وقد تكون بالأسف أهنت سيدنا المبارك في الحياة اليومية، وقد تكون أحزنت روحه القدوس، وقد تكون أحزنت شعبه. قد تكون لامست النجاسة التي تقتضي إخراجك من المحلة، وعزلك من جماعة شعب الله. وقد يكون حدث لك هذا وأُخذت في هذه الزلة أو تلك. ولكن هاهو علاج الله العظيم، علاج النعمة العجيب؛ دم المسيح الذي أوجد السلام ومجد الله في فدائك. وهو أيضاً العربون على أن الله سيردّك إلى الشركة معه. فتلك الذبيحة المباركة الثمينة هي الأساس الذي عليه تُصان كل شركة، والعربون لرد الضال. وذلك ما كان يرمز إليه رماد العِجلة.

ولاحظ أنه بالروح الأزلي قدم المسيح نفسه لله بلا عيب. لقد وُلد بالروح، وحياته هنا على الأرض كانت كلها بقوة الروح. نزل الروح عليه عند معموديته، وقاده طوال مدة خدمته هنا على الأرض حتى الصليب. وهكذا بروح أزلي قدّم نفسه بلا عيب لله. ونستطيع أن نتخيله - له المجد -في حياته هنا منقاداً بالروح المبارك خلال مراحلها المختلفة حتى إلى الجلجثة؛ وهناك نراه على الصليب مقدِّماً حياته كحمل الله الذي بلا عيب، ذلك كله بقوة وإرشاد الروح الأزلي الكامل.

وكم تذكرنا هذه الكلمة مرة أخرى بكفاية ذلك العمل المجيد المبارك. فقد وجد فداء أبدياً لأنه قدم نفسه بروح أزلي. وفي العبارتين الكلمة الأصلية معناها واحد، فلا فرق بين أزلي وأبدي، في الكلام عن الله. فالعمل لم يكن عملا زائلاً، بل عملا أبدياً. إنه عمل يحمل طابع الثالوث الأقدس كله. فالآب بذل الابن، والابن قدم نفسه، والروح القدس قاده في هذه التقدمة بالذات. وهكذا نرى الآب والابن والروح القدس واحداً في عمل الفداء، ضع بجانب هذا كل جهود الإنسان وبرّه الذاتي تحت الناموس وفرائضه، فلا ترى إلا كومة من الزبالة. نعم، فإنه بهذا العمل الثمين وحده يتبرر الضمير من الأعمال الميتة. والأعمال الميتة هي جميع الأعمال التي يعملها الإنسان الذي لا حياة إلهية فيه، لا علاقة حقيقية له بالله. إنها أعمال معمولة تحت الناموس. ولاحظ أن الرسول لا يقول أعمالاً شريرة فقط، بل أعمالاً ميتة، مهما كان نوعها. ربما كانت مجرد ممارسات طقسية أو أعمالاً خيرية لا عيب فيها خارجياً، بل أعمالاً محبوبة ومقبولة في حد ذاتها. قد تكون من الأعمال التي تحظى بالمديح الوفير من الناس، ولكن الله يكتب عليها جميعاً « أعمالاً ميتة »، فقد يعطي الإنسان كل ثروته لإطعام الفقراء، بل أكثر من ذلك، كما يقول الرسول، قد يعطي جسده لحريق النار، ولكن إذا لم تكن هناك محبة في أعماق نفسه، أعني إذا لم تكن هناك حياة، فكل ما يعمله ذلك الإنسان ميت، أعمال ميتة، فماذا يمكن أن يطهر الضمير من هذه؟

إنني متأكد أنك تتفق معي حينما أقول إن الضمير المستيقظ بعمل إلهي لا تزعجه فقط الخطايا التي ارتكبها، والتي يدعوها العالم خطايا، بل يزعجه ما في أعمال بره من إثم أيضاً، ذلك لأن الضمير الذي قد أيقظه روح الله يدرك تماماً أن أحسن ما عملناه مُلطّخ جميعه بالإرادة الذاتية والكبرياء الذاتية، ونحن نشعر بأننا في شديد الحاجة لأن نتطهر من هذه الأمور، كحاجتنا تماماً للتطهير من الخطايا الخارجية التي كانت تلطخ حياتنا، والتي تتعارض مع نواميس الله الخارجية. وشكراً لله لأن دم المسيح يطهر الضمير من كل خطية، ويا لها من حقيقة رائعة أن يكون لنا ضمير مطهَّر! ضمير يستطيع أن يشهد لقبولنا في حضرة نور الله المقدس، حضرة الله التي ينيرها حقه المبارك! ضمير يُمكنه أن يصرح قائلاً: إن دم المسيح الثمين قد طهرني من كل خطية، ضمير يعطينا الحق أن نقول « من سيشتكي على مختاري الله ».

هل الشيطان يعرف شيئاً ضدنا؟ نعم، إن ذلك العدو الخبيث يعرف كل شيء في حياتنا، ولكن أ يستطيع أن يتقدم بأي شيء ضدنا؟ وهل نحن نستطيع أن نتقدم بأي شيء ضد أنفسنا؟ لتفعل الذاكرة كل ما تستطيع فعله، ولتستعرض الحياة بكاملها وكل تفاصيلها أمام عيوننا. فحينما نتطلع إليها طولاً وعرضاً لا نستطيع إلا القول بفرح القلب "إن دم المسيح الثمين قد طهر ضميري من كل خطية".

كم هو ثمين حقاً دم المسيح الذي طهر الضمير هكذا تطهيراً كاملاً، والذي على أساسه لا يجد الله نفسه شيئاً ضد شعبه! « الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟ ».

ولكن إذا كان ضميرنا قد تطهر من أعمال ميتة، فهل معنى ذلك أننا الآن نعيش مهملين غير مبالين ولا مهتمين؟ هل معنى ذلك أن الإنسان الذي له ضمير مطهر يستخف بالخطية؟ حاشا. إن الإنسان الذي يستخف بالخطية يستخف بدم المسيح، والإنسان الذي يتلاعب بالخطية هو في الحقيقة يتلاعب بالشيء الذي أبطل الخطية. لقد تطهرنا من كل أعمالنا الميتة لكي نخدم الله الحي الحقيقي. إن المسيح قد أدخلنا إلى محضر ذلك الإله الحي، وخدمتنا هي الآن له. إنه لا يحدّثنا هنا بطريقة مباشرة عن أعمال البر أو أثمار الحياة الإلهية، ولكنه يشير إلى الحقيقة المباركة؛ أننا الآن تحت عيني الله. فباعتباره الإله الحي نؤمن ونختبر عملياً أنه يجب أن يسود في القلب والضمير والحياة.

وهذه الخدمة لها وجهان: أو هي من نوعين، كما يخبرنا الأصحاح الأخير من هذه الرسالة، حيث يقال لنا إننا نقدم به في كل حين ذبيحة التسبيح، أي ثمر شفاه معترفة باسمه. وبجانب ذلك نقوم بفعل الخير والتوزيع « لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله ». وكلمة الخدمة في الأصل تتضمن هذين المعنيين. فهي خدمة كهنوتية مجالها داخل الحجاب، ثم خارجية أي في العالم. ونحن باعتبارنا كهنوتاً مقدساً أمام الله، وكهنوتاً ملوكياً أمام العالم، نخدم الله الحي في الحالتين. والمسيح سيدنا هو وسيط هذا العهد الجديد. العهد الأول، الناموس لم يستطع إلا أن يدين، ولكنه هو - له المجد - استطاع بواسطة دمه أن يفدينا من لعنة الناموس. والمدعوون الآن قد نالواالوعد بميراث أبدي.

وهكذا كنا نتكلم حتى الآن عن فداء أبدي، وعن روح أزلي أو أبدي، به قدم سيدنا نفسه بلا عيب الله، ونتيجة لهذا كله، ميراث أبدي. ونحن على أساس إنجيل نعمته نستمتع بكل هذه البركات الأبدية. شكراً لله!

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.