لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

دعوة الله

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

دعوة الله

تأملات فى صفات إبراهيم ولوط

(تكوين 12-22)

«بالإيمان إبراهيم لما دُعى أطاع. .. فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي» (عب11:8)

تشارلس ماكنتوش

طبعة ثانية

1998

أصحاح 12

فى زمن كالوقت الحاضر، الذى انتشرت فيه المسيحية الاسمية انتشاراً كبيراً، من المهم بنوع خاص أن يكون المسيحيين مقتنعين اقتناعاً عميقاً بضرورة التحقق شخصياً من دعوة الله، الأمر الذى بدونه لا يكون هناك استمرار أو ثبات فى الطريق المسيحى.

إنه لأمر سهل جداً أن نجاهر بالإيمان فى وقت تنتشر فيه المجاهرة، ولكنه ليس من السهل مطلقاً أن نسير بالإيمان، ليس من السهل مطلقاً أن نطرح الأمور الحاضرة على رجاء «الأمور العتيدة». لا شىء سوى ذلك المبدأ القوى، الذى يشير إليه الرسول بالقول «الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى» (عب1:11)، يقدر أن يمكن الإنسان من الاستمرار فى طريقٍ، إذ هى فى عالم فيه كل شىء مغلوط وكل شىء مشوش، لابد أن تكون شائكة وصعبة. ينبغى أن نشعر أننا مدفوعون بأمر عتيد أن يأتى، شىء يستحق الانتظار، شىء يعوض كل أتعاب طريق السائح الشاقة؛ قبل أن ننهض للتخلص من ظروف الطبيعـة والعالم لكى «نحاضر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا» (عب2:12).

كل هذا ممثل أحسن تمثيل فى أبرام، وهذا التمثيل يزداد إيضاحاً وقوة من المباينة الظاهرة بينه وبين حياة لوط والآخرين الداخلين ضمن نطاق القصة.

فى الأصحاح السابع من سفر الأعمال نجد الكلمات الآتية، التى تتجه مباشرة إلى الموضوع الذى أمامنا: «ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو فى ما بين النهـرين قبلما سكن فى حاران وقال له اخرج من أرضك ومن عشيرتك وهلم إلى الأرض التى أريك» (ع2،3). هنا نواجه أول شعاع من ذلك النور الذى جذب أبرام من ظلمة «أور الكلدانيين»، والذى إذ سطع على طريقه، المتعبة من وقت إلى آخر، أعطى نفسه قوة جديدة بينما هو يسير متجهاً إلى تلك «المدينة التى لها الأساسـات التى صانعها وبارئها الله». «إله المجد» جعل أبرام يرى فى ضوء طبيعته الحالة الحقيقة للأشياء التى فى أور، وأكثر من هذا أن يعتقد، كما لاحظ بعضهم، بشىء خاص بالمجد والميراث العتيدين. لذلك لم يتردد، ولكنه حالاً جهّز نفسه للرحيل.

على أننا، عند المقارنة الدقيقة بين فاتحة الأصحاح السابع من سفر الأعمال وبين تكوين 1:12، نحصل على مبدأ هام؛ فمن الوقت الذى ظهر فيه الله لأبرام إلى أن وصل أخيراً إلى أرض كنعان، حدثت حادثة تتضمن تعليماً عميقاً لنا. أقصد أن أشير إلى موت والد أبرام إذ نقرأ فى أعمال 7 «ومن هناك نقله بعدما مات أبوه إلى هذه الأرض التى أنتم ساكنون فيها» (ع4). هذا يمكّننا من فهم قوة التعبير الوارد فى تكوين1:12 «وكان الرب قد قال لأبرام…». من هذين النصين يظهر جليا أن تحرك تارح وعائلته والوارد ذكره فى تكوين31:11 كانت نتيجة إعلان من «إله المجد» لأبرام. ولكن لا يظهر أن تارح وصله إعلان مثل هذا من الله. إننا نرى فيه بالأحرى عقبة لأبرام أكثر من أى شىء آخر؛ لأنه قبل أن يموت لم يستطع أبرام أن يأتى إلى أرض كنعان؛ موطنه المعين من الله.

والآن فهذا الظرف الذى قد يظهر للقارئ السطحى تافهاً، يثبت بأقوى كيفية الحقيقة السابقة الذكر، وهى أنه ما لم يتحقق الإنسان شخصياً من دعوة الله؛ إعلان «إله المجد»، فلا يمكن أن يكون هناك استمرار أو ثبات فى الطريق المسيحى.

لو أن تارح تحقق تلك الدعوة، ما كان ليصبح عقبة لأبرام فى طريق إيمانه، ولا كان ليسقط، كمجرد ابن للطبيعة، قبل أن يصل أرض الموعد.

سنجد نفس المبدأ موضحاً فى حياة لابان فيما بعد فى تكوين 24. فقد كان لابان - كما لاحظ أحدهم - يقظاً تماماً إلى قيمة الحلى الذهبية والفضية التى أحضرها عبد إبراهيم معه، ولكنه لم يكن ليعى قيمة النبوة الخاصة بالأمور المستقبلة التى خرجت من شفتيه. وبعبارة أخرى لم يصله إعلان من «إله المجد» وبالتبعية بقى - كما لاحظ نفس ذلك الكاتب - "رجلاً عالمياً محضاً".

فى حادثة تغيير شاول الطرسوسى نتعلم نفس هذا الحق. كان هناك أشخاص آخرون معه عندما سقط على الأرض من جراء صدمة لمعان مجد الرب يسوع. هؤلاء الأشخاص نظروا الضوء حقيقة، وشاهدوا كثيراً من الظروف الخارجية التى أحاطت بذلك المتحمس الهائج، لكن كما يقول هو نفسه «لم يسمعوا صوت الذى كلمنى» (أع22: 9).

هنا النقطة المهمة، ينبغى أن الصوت يتكلم «إلىَّ»؛ «إله المجد» لابد أن يظهر"لى"، قبل أن يكون فى إمكانى أن آخذ مركز سائح وغريب فى العالم، وأداوم على أن «أركض فى الجهاد الموضوع أمامى». إنه ليس إيماناً قومياً، ولا هو إيمان عائلى؛ ولكنه إيمان شخصى، ذلك الذى يجعل منّا شهوداً حقيقيين لله فى العالم.

ولكن عندما أُريحَ أبـرام من العقبة التى وجدها فى شخص والده، استطاع الدخول بقوة وحزم فى طريق الإيمان، الطريق التي لا يقدر «اللحم والدم» مطلقاً أن يطآنها، الطريق الشائكة المحفوفة بالمتاعب من بدايتها إلى نهايتها، والتى فيها الله فقط هو الذى يقدر أن يعول النفس.

«واجتاز أبرام فى الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة موره. وكان الكنعانيون حينئذ فى الأرض. وظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطى هذه الأرض فبنى هناك مذبحاً للرب الذى ظهر له» (تك12: 6،7). هنا أبرام يأخذ حالاً موقفه كعابد فى مواجهة الكنعانيين. فالمذبح يميّزه كمن بعد أن تخلَّص من أور الكلدانيين، تعلم أن ينحنى أمام مذبح الإله الحقيقى وحده «الذى صنع السماء والأرض».

وفى العدد التالى نجد المظهر العظيم الثانى من مميزات رجل الإيمان؛ وهو «الخيمة» التى تشير إلى الاغتراب فى العالم. «بالإيمان تغرب فى أرض الموعد كأنها غريبة ساكناً فى خيام مع اسحق ويعقوب الوارثين معه لهذا الموعد عينه» (عب11: 9).

ستكون لنا فرصة أن نلاحظ بأكثر إمعان، بينما نتقدم، هاتين النقطتين الهامتين فى حياة أبرام. ولذلك سنكتفى الآن بإثبات هذه الحقيقة، وهى أن الخيمة والمذبح يريانا إياه بكل وضوح كغريب وكعابد، وأنه لذلك كان رجلاً منفصلاً بالكلية عن طريق هذا العالم الشرير.

ما أن دخل أبرام فى طريقه، حتى كان عليه أن يقابل إحدى تلك الصعوبات التى لها خاصية امتحان الإيمان بالنسبة إلى نوعه وغـرضه، «وحدثت مجاعة فى الأرض». ها هى الصعوبة تقابله فى نفس المكان الذى دعاه الـرب إليه الآن. وهذا ليس بالأمر السهل، عندما نشاهد التجربة والحزن والضيق والصعوبة تنتظرنا، ونحن سائرون في الطريق المستقيم الضيق، ونظل مثابرين، نظل مواصلين السير فى الطريق إلى الأمام، خصوصاً إذا كنا نرى بجوارنا - كما لاحظ أبرام - حالة تختلف تماماً عن حالة التجربة الخاصة التى قد نكون متألمين تحت ثقلها؛ فأناس هذا العالم «ليسوا فى تعب الناس ومع البشر لا يصابون» (مز5:73). هذا الشعور يزداد بحرماننا التام من كل شىء يمكن بحسب المنظور أن يكون أساساً ودعامة لأملنا.

ما أن وطأت قدم أبرام الأرض، حتى عمّت المجاعة حوله من كل جانب إلا فى مصر. لو أنه فقط وجد نفسه هناك، إذاً لاستطاع أن يعيش فى راحة ورخاء.

هنا يجب على رجل الإيمان أن يتتبع طريق الطاعة المجردة. كان الله قد قال «اخرج من أرضك. . . إلى الأرض التى أريك». صحيح أن أبرام قد يكتشف بعد ذلك أن إطاعة ذلك الأمر تتضمن بقاءه فى أرض ليس فيها بحسب الظاهر سوى هلاك من الجوع ينتظره. لكن حتى لو أن الأمر كذلك، فالله لم يربط الأمر بأى شرط على أى حال. كلا، فالكلمة كانت بسيطة وواضحة «إلى الأرض التى أريك»، كان يجب أن يكون هذا صحيحاً وملزماً لأبرام. فالمجاعة إذاً ما كان يجب أن تحمله على ترك الأرض، ولا الرخاء ينبغى أن يحببه فى البقاء فيها. فالكلمات الفعالة كانت هى «التى أريك».

لكن أبـرام يترك هذه الأرض، وينحنى للوقت تحت وطأة التجربة، وينزل بأقدامه إلى مصر تاركاً وراءه خيمته ومذبحه. هناك حصل على الراحة والتنعم، وتخلص بلا شك من التجربة المضنية، التى كان يعانيها فى أرض الموعد، ولكنه فقد فى تلك الأثناء عبادته واغترابه، الأمور التى يجب أن تكون على الدوام أعز ما لقلب السائح.

لم يكن لأبرام فى مصـر شىء يتغذى به كرجل روحى. قد تكون مصر – بل هى بلا شك - استطاعت أن تقدم له ثراء كإنسان طبيعى، ولكن ذلك كان كل ما تستطيع أن تقدمه مصر، وما كانت لتعطى شيئاً لأبرام إلا إذا ضحى بصفته كغريب وكعابد لله.

ولا حاجة بنا إلى القول أن هذا الأمر لا يزال صحيحاً إلى هذه الساعة. يوجد الكثير فى العـالم مما تستطيع طبيعتنا القديمة أن تتطعم به بغاية الترف. توجد الملـذات الكثيرة، ملذات الجسد والعقل، ووسـائل كثيرة للحصول على رغبات القلب، ولكن ما المنفعة من كل هذا إذا كانت تلك التمتعات لابد وأن تقود إلى الخروج عن طريق الإيمان؛ طريق الطاعة المجردة.

هذا هو السؤال الذى يوجه إلى المسيحى: أيهما أفضل، الذهب والفضة، القطعان والمواشى، الراحة الحاضرة والثراء فى مصر، أم الخيمة والمذبح فى «أرض الموعد»؟ أيهما أفضل: الراحة الجسدية والسرور العالمى، أم السير الهادئ المقدس مع الله هنا، والبركة الأبديـة والمجد بعد حين؟ لا نستطيع أن نمتلك الأمرين معا لأن «من يحب العالم فليست فيه محبة الآب».

لكن قد نتساءل: لماذا كان على أبـرام أن يختبر المجاعة والتجربة فى أرض الموعد؟ لماذا لم يجد سكناً وثروة هناك؟

الجواب بكل بساطة هو «الكنعانيون والفرزيون كانوا حينئذ ساكنين في الأرض» (تك13: 7). فالأرض لم تكن إلى ذلك الحين صالحة لأن تكون محل إقامة مفديى الله. كان يجب أن إيمان أبرام يمكّنه من أن يخترق بنظره تلك الفترة الطويلة الهائلة التى يجب أن تمر قبل إتمام الوعد. ونفس مبدأ الإيمان هو الذى جعله ينتظر إلى الوقت المعين من الله، وإلى ذلك الحين يبقى بدون «وطأة قدم» (أع7: 5).

هكذا يجب أن يكون الحال الآن. رجل الإيمان الحقيقى لا يستطيع أن يجد مكانـاً فى العالم لأن "الكنعانيين" هناك. عما قريب لن يكون الأمر كذلك، لأن «كل المعاثر» ستُطرح خارج المملكة، وتصير «ممالك العالم لربنا ولمسيحه» (رؤ11: 15) وحينئذ يسود البر «من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصى الأرض».

أصحاح 13

هذا الأصحاح الجميل يرينا رجل الإيمان يتعافى بواسطة أمانة ورأفة الله الذى لا يسمح مطلقاً لشعبه المسكين أن يتطوحوا بعيداً أو يبقوا فى البعد طويلاً. إنَّ ذهب مصر وفضتها وماشيتها لم تستطع أن تثبت على طول الزمن إمكانية صيرورتها نصيباً مشبعاً لأبرام بينما هو محروم من خيمته ومذبحه. لذلك فهو ينهض مرة أخرى بقوة الإيمان المتجددة، كما من تراب مصر ليعود أدراجه إلى أرض الموعد. عود حميد! بل دليل أكيد على قصد ثابت ومخلص لخدمة الرب. فالسفينة قد تلاطمها الأمواج والرياح، لكن البوصلة تظل متجهة إلى ناحية الشمال.

لكن توجد بعض عبارات مذكورة فى فاتحة هذا الأصحاح تثبت لنا بكل تأكيد فكرة سبق ذكرها، وهى أن أبرام، أمام الله، لم يستفد شيئاً من زياراته لمصر. فمثلاً «سار فى رحلاته. . . إلى المكان الذى كانت خيمته فيه فى البداءة. . . إلى مكان المذبح الذى عمله هناك أولاً» (ع3،4). فالكلمات «فى البداءة» و«أولاً» تثبت أن أبرام لم يجنِ تقدماً وهو فى مصر، بل أنه وهو هناك ذهب كل وقته هباء منثوراً.

لاشك أنه تعلم درساً مفيداً، وحسن أن نتعلم من سقطاتنا ألاّ نثق فى قلوبنا، وأن نرهب تأثير العالم المهلك. تعلّـم أبرام أنه لا يمكن أن يوجد فى مصر خيمة ولا مذبح؛ ليس سوى الإيمان هو الذى يستطيع أن يجعل الإنسان يشيد مذبحاً أو يقيم خيمة، ولكن فى مصر كل شىء عيان وليس إيمان. ولذلك ففى اللحظة التى فيها وطأت قدما أبرام أرض مصر انقطع عن أن يظهر ثمار الإيمان الجيدة. نعم، فنفس المبدأ الذى قاده لأن يترك أرض الموعد قاده أيضاً أن ينفى عن نفسه صفته كغريب وكعابد.

كم يذكرنا هذا الأمر باقتراح قدمه، بعد هذا بزمن طويل، ملك مصر إلى نسل إبراهيم: «فدعا فرعون موسى وهرون وقال اذهبوا اذبحوا لإلهكم فى هذه الأرض» (خر8: 25)؛ من هذا يظهر أن غرض العدو على الدوام هو أن يجعل شعب الله – النسل المقدس – يدنسون أنفسهم بالتعبد أو بتقديم الذبائح لله فى وسط العالم، أى أنه يجعل صفتهم كمتعبدين لله تتوافق مع صفتهم كأهل العالم، كأناس قابضين على مراكز فى الهيئة الاجتماعية حيث المسيح منبوذ، وذلك بالطبع يظهر كما لو أنه لا فرق بين ديانة العالم والعلاقة الحقيقية مع الله. وهذه نتيجة مزعجة حقاً، مآلها أن تقود نفوساً كثيرة بعيداً عن طريق الحق والقداسة.

إنه من المحزن جداً أن نسمع فى بعض الأوقات، أولئك الذين كان يجب عليهم بكل تأكيد أن تكون لهم معرفة أحسن، لكى يظهروا كما يدعون روح التسامح، يتكلمون عن ديانة العالم فى كل أشكالها المتعددة كأنها صحيحة، أو كأنه أمر عديم الأهمية بالكلية سواء بقينا فى شركة مع الخطأ أم لا. آه! دعنا لا ننخدع؛ إن مبدأ الله فى الانفصال قوى وملزم اليوم بقدر ما كان قوياً وملزماً فى أيام أبرام وموسى. «اخرجوا من وسطهم واعتزلوا ولا تمسوا نجساً»، يجب أن تظل صحيحة ونافذة ما دام "النجس" موجوداً.

إذاً لم يكن موسى متسامحاً - بحسب وجهة نظر التسامح السابق ذكره - لأنه رفض رفضاً قاطعاً أن يساير ديانة العالم، فلم يقبل عرض فرعون. «لا يصلح أن نفعل هكذا» يا لها من كلمات خالدة! يا ليت يزداد بيننا الأشخاص الذين عندما يدعون إلى مسايرة ديانة العالم يجيبون «لا يصلح أن نفعل هكذا»؛ فأبرام لم يستطع أن يعبد فى مصر، ولا استطاع ذلك نسله.

لكن كان على أبرام أن يعالج بأكثر من صعوبة واحدة فى طريقه. إن السبيل التى كل مؤمن مدعو لأن يسير فيها، تقع بين طرفين خطرين؛ الأول هو تجربة الرجوع إلى العالم، والثانى التنازع مع الأخوة فى الطريق. كان أبرام قد نهض للوقت وتعافى من تأثير الأول، وعلينا أن نراه الآن مقصراً فى الثانى.

فى اللحظة التى بدأ فيها أبرام يرحل من مصر، ظهر بكيفية خاصة أن عليه أن يسير فى مسؤولية جديدة؛ وهى مسؤولية العيشة مع أخيه بالاتفاق. لما كان فى مصر كانت تلك المسؤولية باقية كلها فى الظل، إن النظم والقوانين والعادات والرخاء والراحة فى مصر تكاد بدرجة كبيرة أن تذهب بكل إحساس بمثل هذه المسؤولية. فكل هذه الأشياء من نتيجتها إقامة حواجز حول كل فرد تكاد تمنعه من إدراك الحقيقة أنه «حارس لأخيه».

ولا يختلف الحال الآن عما كان؛ مادمنا سالكين فى العالـم، العالم الدينى، كما يسمونه، فإننا سنجد أنفسنا معفين تماماً من أداء ذلك العمل الشاق وهو أن نكون حراس لإخوتنا. وأولئك الذين يحاولون البقاء فى العالم قد ينكرون هذه الحقيقة، ولكن عبثاً يفعلون، لأن الوحى والاختبار معاً يوضحانها. فلم يتنازع أبرام ولوط فى مصر، وكل نظام يجعل احتمال حدوث هذا التنازع على الأقل ضئيلاً. إنه يعمل بشدة على منع التصادم الأخوى، وبالطبيعة حيث لا يكون تصادم فهناك لا يمكن أن يكون نزاع ولا تشاحن.

وحيث يوجد التصادم فلابد أن يوجد هناك نعمة تقدرنا على السير فى وحدة الفكر أو نزاع ومشادة، لكن مصر تمتص نفس ينابيع النعمة لأنها تقودنا خارجاً عن مركز مجرد الاعتماد على الرب، لأن الاعتماد ينشئ على الدوام نعمة واحتمالاً، ولأنها (أى مصر) تفعل ذلك فهى فى نفس الوقت تعلمنا، أو تحاول على الأقل أن تعلمنا، أننا لا نحتاج إلى النعمة، وذلك بواسطة قيادتها لنا إلى مجال لا تتحقق فيه المسؤولية نحو الإخوة على الإطلاق؛ ولهذا فالحاجة لا يُشعر بها، والضعف يعتبر خطأً قوةً، وكذا الغباوة حكمة.

عندما يبدأ المسيحى فى السير فى طريقه لا يحلم بشىء سوى الكمال فى المسيحيين رفقائه، لكنه سرعان ما يجد نفسه مخطئاً فى هذا، لأننا كلنا لنا نقائصنا، وكما يقول يعقوب فى رسالته «فى أشياء كثيرة نعثر جميعاً».

لكن قد نتساءل: لماذا ظهر النقص سريعاً بمجرد خروجهما من مصر؟ لأنهما أصبحا الآن مدعوين أن يسيرا فى قوة مبدأ مجرد من أى نوع من السياجات أو الحواجز الموجودة فى مصر. كانا مدعوين أن يسيرا بالإيمان والإيمان يعمل بالمحبة.

والآن «الكنعانيون و... الخ .. كانوا حينئذ فى الأرض»، وهذا كان يجب أن يعمل على منع أى تنازع بين "الأخوين". لأن الكنعانى لا يقدر أن يفهم أى شىء عن نقائص المؤمنين، ولذلك فهو ينسب كل فشلهم إلى نقص فى المبدأ الذى يجاهرون به.

لكن فى كل تنازع بين الأخوة لابد أن يكون هناك خطأ من ناحية ما. ففى النزاع الذى حصل بين بولس وبرنابا كانت هناك غلطة ما، ولا نكون مجازفين إذا كنا نقرر أين كانت؛ فبرنابا أراد أن يأخذ قريبه معه، ولكن هذا القريب كان قد أثبت بنفسه من قبل أنه لا يصلح، أو على الأقل لا يرغب، فى «تحمل المشقات»، ولذلك فلا يمكن أن تكون رغبة برنابا هذه من البساطة فى خدمة الرب. الرب نفسه أيضاً أخذ جانب بولس فى المسألة بأن زوده بابن عزيز ورفيق عامل فى شخص تيموثاوس الذى كان متحد الفكر تماماً معه.

هكذا الحال تماماً فى المسألة التى هى أمامنا. يمكننا ألا نتردد فى التأكيد بأن لوطاً كان هو الشخص المخطئ هنا. ويبدو أن لوط لم يكن قد تخلص تماماً من روح العالم، وحيث يوجد هذا الروح متسلطـاً فى أى إنسان، فأنه يجد على الدوام أن طريق الإيمان ضيق عليه بدرجة لا تمكنه من السير فيه، وهكذا كان أنه «لم يقدرا أن يسكنا معاً».

فإذا سئل وقيل على أى أساس يستطيع الإنسان أن يقول أن لوطاً كان فى جانب الخطأ؟ فالجواب على ذلك هو أولاً: تصرف لوط التالي لهذا. وثانياً: معاملات الرب مع أبرام بعد أن انفصل عنه لوط.

إذاً ماذا فعل لوط؟ «رفع عينيه»، هذه على الدوام كيفية تصرفنا عندما لا نكون تحت قوة الإيمان المباشر. وكلما نرفع أعيننا بدون إرشاد إلهى لابد أن تتجه الاتجاه الخطأ. أقول بدون إرشاد إلهى، لأننا نجد أن الرب بعدئذ يأمر أبرام أن يرفع عينيه، لكن ذلك كان أمراً يختلف كل الاختلاف عن عمل لوط الذي كان مجرد توجيه من الحكمة الإنسانية وبُعد النظر ليس إلا. على أن الحكمة الإنسانية وبُعد النظر لا يستطيعان مطلقاً أن يساعدا على تقدمنا كرجال الإيمان، بل الأمر على العكس تماماً؛ فالحكمة الإنسانية تقترح على الدوام أموراً لو تمّت تقودنا مباشرة بعيداً عن طريق الإيمان. لهذا لوط إذ رفع عينيه، لم يستطع أن يخترق بنظره فيصل إلى ما وراء «الأمور التى تُرى» ليفهم «أنها وقتية».

كان أقصى حد وصل إليه قياس بصره، هو الأمور التى استقرت عليها عيناه، تلك التى ألف رؤيتها بينما كان في مصر كما نقرأ «رأى كل دائرة الأردن أن جميعها سقى. . . كأرض مصر» (ع10). هنا نلاحظ أن لوطاً لم يكن مطلقاً قد انفصل حقيقة بالقلب والإحساس عن مصر، فهو لم يتعلم على الإطلاق بطلان وعدم كفاية جميع مصادرها، ولم يقارنها أبداً مع تلك «المدينة آلتي لها الأساسات التى صانعها وبارئها الله». وبالجملة فهو إذ «وضع يده على المحراث» كان الآن آخذاً في أن «ينظر إلى الوراء»، وهكذا أثبت بنفسه أنه «لا يصلح لملكوت السماوات».

توجد ملاحظة عن كل هذا تستلفت النظر، واردة فى العدد الافتتاحى لهذا الأصحاح «فصعد أبرام من مصر. . . ولوط معه». هنا نجد السر فى عدم ثبات لوط بعدئذ. فواضح أنه صعد بالأحرى مع أبرام، أكثر مما هو مع الله. والنتيجة كانت، أنه عندما انفصل عن أبرام، لم يكن له شىء ليعتمد عليه. كان إلى ذلك الحين يسير تحت حماية أبرام وإرشاده، بدلاً من أن يكون أمام الرب مباشرة، ولذلك فعندما فقد أبرام ضل الطريق.

والآن جاءت اللحظة التى فيها كان لأبرام أن "يرفع عينيه" بأمر الرب. وكم يختلف قياس بصره. فبينما لم يستطع لوط أن ينفذ ببصره إلى ما وراء الحدود الضيقة للمشهد الحاضر، استطاع أبرام أن يقيس ببصره طول وعرض ميراث الله، ويحلق على جناح الإيمان القوى السريع، وكأنه سائح فى دائرة كـرم الله غير المحدود. بينما لوط، الرجل السائر بحسب المنظور، قد قارب أن يهلك فى بؤرة فساد سدوم العميقة.

دعنا الآن، قبل أن ندخل فى الأصحاح التالى، نلقى نظرة على الظروف المختلفة لهذين الرجلين الذين بدأا السير معاً.

«لوط.. رفع عينيه»، والمشتهيات التى استقرت عليها عيناه كانت، كما هو متوقَّع، مما يلائم رغباته الطبيعية؛ «جميعها أرض سقى». الأشيـاء التى وإن كانت جميلة فى نظر الإنسان فإنها كانت بالرغم من ذلك تفيض فى نظر الله بالشرور (قارن عددى10،14).

أما أبرام، فعلى العكس من ذلك، ترك عينيه تجولان فى طول وعرض الميراث الموعود به، غير متأثر بكل ما عدا ذلك، فرأى النصيب الذى كان الله محتفظاً به لهولنسله، وأخذ مركزه تبعاً لذلك.

لهذا نجد لوطاً فى دائرة سدوم الشريرة، وأبرام، السائح والغريب بخيمته ومذبحه «عند بلوطات ممرا التى فى حبرون».

أصحاح 14

لدينا هنا سجل دقيق جداً عن حرب حصلت بواسطة «أربعة ملوك مع خمسة»، وقد نسأل أى علاقة كانت لذلك النزاع الذى بين ولاة الأرض مع تاريخ شعب الله؟ أما بالنسبة لأبرام فلم يكن له في الواقع أى علاقة، لأنه كان خارجاً عن كل هذا.

فخيمته أظهرته كشخص كانت حرب الأربعة ملوك مع الخمسة بالنسبة له مسألة عديمة الأهمية تماماً، وأيضاً مذبحه أظهره كشخص كل مرامه من نوع أخر بالكلية، أى كان سماوياً. خيمته أظهرت أنه غريب على الأرض، ومذبحه أظهر أنه مستوطن في السماء.

يا له من إنسان سعيد! يا له من سائح سعيد! من يستطيع منا أن يتطلع هكذا، من سمو رفعة أبرام، كأنما من قمة الإيمان العالية، بحالة عدم الاكتراث الهادئ على ميادين حروب فى عالم شرير؟ ماذ كان يهم أبرام؟ سواء كان فخار النصر يكلل جبين ملك سدوم، أو جبين كدرلعومر ملك عيلام؛ فنصيبه لم يكن فى خطر بسبب نزاعهم، لأنه قد أتخذه فى ذلك المكان «حيث لا ينقب سارقون ويسرقون».

لكن، مع أنه من حسن حظه أنه كان كيانه ونصيبه حيث لا تستطيع الحروب أن تؤثـر عليها، لكن لم تكن الحالة هكذا مع أخيه العالمى جداً فى الفكر. فمركزه كان يجعله فى قلب النزاع، وبالتبعية فنشوء هذه الحرب كان له أثر فى غاية الأهمية بالنسبة له. إذا كان أحد أولاد الله ينحط لدرجة أنه يمتزج بالعالم، فلابد له أن يعمل حسابه على أنه سيكون مقاسماً له فى ذلك اليوم (الذى هو الآن قريب جداً) عندما تزعزع كل الأشياء بيد الله القوية فى يوم الدينونة.

هنا أود أن أبدى ملاحظة، وهى أن ما جعـل تاريخ الأمم وحركات الملوك والفاتحين الأقوياء من المسائل التى يعنى الروح القدس بتدوينها هو على الدوام علاقة هذه الأمور بتاريخ شعب الله. فيما عدا ذلك، فهى أمور لا أهمية لها بالنسبة إليه، إذ لا يمكنه أن يجد لذة ما فى العناية بتاريخ الإنسان التافه. فالنزاع المقلق والاصطدام بين الأمم، والمشاحنات الوحشية للظالمين الأردياء الساعين وراء القوة، وتحركات الجيوش، كل هذه لا تستلفت نظر روح السلام، ومع ذلك ما تكون هذه الأمور متصلة بتاريخ «نفس بارة»، مهما قلت درجة الاتصال، فالروح القدس يكون دقيقاً فى تدوين حوادث حرب، كما هو مشاهد فى الحالة التى أمامنا.

فماذا كانت نتائج هذه الحرب بالنسبة للوط؟ خراباً له ولعائلته. أصبح أسيراً وأُخذت كل ممتلكاته (ع12). لقد كنز لنفسه على الأرض، واللصوص نقبت إليه، ولذلك فبينما كان أبرام فوق كل هذا في حالة من القوة الفاصلة؛ قوة الشركة مع الله، إذا بلوط قد وجد نفسـه أسيراً وفقيراً. لقد زرع للجسد، فكان عليه أن يحصد من الجسد فساداً.

لكن كانت تلك هى الفرصة المناسبة لكى يُظهِر أبرام نفسه فى تعب المحبة القوية. كان إلى ذلك الحين - كما لاحظنا قبلاً - ينظر بعين عدم الاكتراث الهادئ إلى حركات أولئك الملوك وجيوشهم. لكن نفس الإيمان، الذى جعله عديم الاكتراث بالنسبة لمنازعات الناس، جعله أيضاً نشطاً فى معاونة أخٍ فى بلوى. فالإيمان لا يطهر القلب من الشهوات العالمية الجسدانية فقط، ولكنه أيضاً «يعمل بالمحبة»، كما يُرى ذلك واضحاً فى حالة أبرام، لأنه «لما سمع أبرام أن أخاه سُبى جر غلمانه المتمرنين. . . الخ» (ع14).

والآن لنلاحظ أنه فى ساعة الضيق والشدة تصل علاقة الأخُّوة إلى قياسها الأعلى. ففى أيام السلام يمكن أن يكون لوط معروفاً لأبرام كابن أخيه؛ لكن الآن كان فى ورطة، لذلك فمطاليب الأخُّوة تعمل، وتعمل بقوة وتأثير. صحيح أنه تشاحن لأجل قطعة أرض، وأنه اعتزل عن رفيقه الهمام وأتخذ مسكنه فى سدوم، ولكن ما لكل هذا؟ إنه الآن فى ضيق، ولذلك فكل شىء يُنسى وتبقى حقيقة كونهما أخوة.

نحن الآن مقدمون على مشاهدة منظر مفيد جداً. كان أبرام نفسه على وشك مقابلة تجربة تأتى تواً، وفى الحقيقة نشعر بقوة الله فيها، ولكنها رغم ذلك تجربة. فملك سدوم كان على وشك أن يأتى ليعرض كنوزه أمام عين أبرام، الذى كان له، بحسب الطبيعة، قلب يقدِّر هذه الكنوز.

إن من يقول إن العالم لا يقدم الكثير، والكثير جداً، من الأمور التى تجذب القلب الطبيعى؛ فذلك الإنسان لا يعرف قلبه. يوجد فريق من الجنس البشرى يظهر وكأنه يترفع فوق العالم، ولكنه فى الحقيقة ليس كذلك. ديوجنيس، الفيلسوف السنكى، عندما طلب من الاسكندر أن يتحول لكى لا يمنع الشمس عنه، كان متكبراً وعالمياً كإنسان مثل الاسكندر نفسه. إن الطريقة الوحيدة الحقيقية والصحيحة، التى بها ننفصل عن العالم ونسمو فوقه، هى معرفتنا للأمور السماوية. وأبرام وصل عن طريق نعمة الله إلى تلك المعرفة.

لكن النصرة التى حصل عليها أبرام لم تكن نتيجة لأى قوة فيه هو، فقد كان له - كما قلت - قلب يقدِّر الأمور التى على العدو أن يعطيها له. ولذلك فإذا كان قد انتصر، فذلك بسبب عمل قوة خارجة عنه. فى كل العمل نجـد أن الله، الذى لاحظ عبده العزيز أثناء الوقت المظلم الذى قضاه فى مصر، والذى فوق ذلك علّمه بواسطة تلك الفرصة نفسها درساً عن حقيقة طبيعة العالم؛ كان يلاحظ الآن طرقه عن قرب ويعمل الترتيبات لمعونته. كان الله يعلم حركات ومقاصد العدو من البداية إلى النهاية، ولذلك فهو يرتب وسيلة بها يعطى قوة مقاومة سماوية تذهب بقوة سم العدو.

ومما يستحق الملاحظة بنوع خاص؛ أنه بين الوقت الذى فيه ذهب ملك سدوم لملاقاة أبرام والوقت الذى فيه قدَّم الاقتراح له بخصوص النفوس والأملاك، يظهر شخص عجيب، وهو ملكى صادق. هذا الشخص الغريب المرسل من الله كان فى طريقه كواسطة تقوية لقلب أبرام، فى نفس اللحظة التى فيها كان العدو فى طريقه إلى مهاجمته (قارن عددى 17،18مع21). لماذا لم يأت «كاهن الله العلى» لمقابلة أبرام قبل ذلك؟ لأن هذه كانت ذات اللحظة التى فيها كان أبرام في أشد الحاجة إلى القوة. كان العدو مزمعاً أن يضع أمام عين إنسان الله طُعمَه الذهبى، ولذلك فملكى صادق يظهر بجانبه، لكى يضع أمام نظره حقائق الملكوت الإلهية. كان مستعداً لأن يُطعِـمه ويقوى نفسه بالخبز ويفرحه بخمر الملكوت، حتى «بقوة تلك الأكلة» يمكنه أن يسمو فوق كل جاذبيات العالم. ومن هذا نتعلم أن الاشتراك فى أفراح وأمجاد الملكوت هو وحده الذى يمكِّن القلب من رفض أدران العالم.

أيها القارئ بماذا تُطعَم أنت الآن؟ ما الذى يشتمل عليه طعامك الاعتيادى؟ هل على «الخبز والخمر» الذى يقدمه الرب؟ أم أملاك سدوم؟ هل أذناك مفتوحتان إلى الاقتراحات المهلكة التى لملك سدوم؟ أم إلى الأحاديث السماوية مع ملك ساليم؟ يا ليت الرب يمنحنا أن تختار قلوبنا على الدوام ما يسره.

وإذ نتقدم نرى أن ملكى صادق يقود نفس أبرام إلى الشركة الحاضرة مع «الله العلى مالك السماوات والأرض». وهكذا يوضح تماماً الفرق الشاسع بين «ملك سدوم» و «الله العلى مالك السماوات والأرض» وبين «أملاك سدوم» و «ممتلكات السماوات والأرض». يا له من فارق مبارك يقودنا إليه الإيمان على الدوام! لا حاجة بنا إلى القول إن أبرام ما كان ليرفض تواً تقدمة ملك سدوم لو لم يلاقيه ملكى صادق بالخبز والخمر، وبركة «كاهن الله العلى» التى رفعت أبرام إلى حالة سامية حتى أنه استطاع بنظرة متعقلة واحدة أن يلم بالممتلكات الواسعة للسماوات والأرض. وأكثر من هذا أن يتطلع من ذلك السمو إلى أسفل على الاقتراح الحقير المقدم من ملك سدوم ويرفضه. كان ملكى صادق قد بادر حالاً فقال «الله العلى مالك السموات والأرض»، وأبرام أمسك بهذه الكلمات واستخدمها فى جوابه للعدو إذ قال: «رفعت يدى إلى الرب الإله العلى مالك السماء والأرض؛ لا آخذن لا خيطاً ولا شراك نعل ولا من كل ما هو لك فلا تقول أنا أغنيت أبرام» (22،23).

يظهر هنا أبرام وهو يتنسم فى نفس جو حضور الله «من كال بكفه المياه وقاس السماوات بالشبر وكـال تراب الأرض ووزن الجبال بالقبان والآكام بالميزان. هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب. هوذا الجزائر يرفعها كدقة، ولبنان ليس كافياً للإيقاد، وحيوانه ليس كافياً لمحرقة. كل الأمم كلا شىء قدامه. من العدم والباطل تحسب عنده».

ويقيناً يمكن أن نقول أنه بهذه الكيفية فقط استطاع أبرام أن ينتصر. وليس أحد لا يعيش، على قياس ما، فى هذا المستوى يقدر أن يحتقر العالم. لذلك ينبغى أن يكون هناك إلماماً عملى بالشىء الأفضل؛ الرجاء القلبى المحبوب، رجاء «الخيرات العتيدة»، قبل أن نقدر أن نحصل على نصرة كاملة على الأمور الحاضرة وعلى ميولنا العالمية. «قبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين فى أنفسكم أن لكم مالاً أفضل فى السماوات وباقياً» (عب10: 34) إذا كنا ننتظر حقيقة استعلان المجد سنوجد منفصلين عن كل شىء يقع تحت الدينونة فى ذلك اليوم. ومكتوب «إنى أيضاً أزلزل لا الأرض فقط بل السماء أيضاً. فقوله مرة أيضاً يدل على تغيير الأشياء المتزعزعة كمصنوعة لكى تبقى التى لا تتزعزع».

نجد فى العدد الأخير من أصحاحنا الملذ جداً، مظهراً رائعاً من صفات رجل الإيمان. فأبرام لا يرغم الآخرين على أن يسيروا بحسب مستواه الرفيع. مع أنه هو يستطيع أن يرفض بكيفية حاسمة تقدمات ملك سدوم، غير أن الآخرين قد لا يستطيعون أن يعملوا هكذا. ولذلك فهو يقول بخصوص عانر واشكول وممرا «هم يأخذون نصيبهم». فمسيرنا يجب أن يكون دائماً «كما قسم الله لكل واحد مقداراً من الإيمان» (رو12: 3). لقد رأينا فى أيامنا أشخاصاً أخذوا فى أول طريق الإيمان أن يتركوا أموراً عالمية مختلفة، وبعد ذلك ينغمسون فى تلك الأمور بدرجة أكبر من الأولى. ولماذا؟ لأنهم عملوا ذلك اولاً بدافع مجرد التحمس أو التأثير البشرى، ولم يكونوا قادرين أن يقولوا مع أبرام «رفعت يدى إلى الله العلى».

أصحاح 15

فى العدد الافتتاحى من هذا الأصحاح نجد مبدأً يعمل على راحتنا وتشجيعنا؛ مبدأ الغرض الأساسى منه هو دعوتنا إلى التدريب التام فى روح التكريس الحقيقى للرب.

أننا نلاحظ هنا نعمـة الرب فى تقدير وقبول الذبيحة الموضوعة على مذبحه، ذبيحة الرضا من قلب عبده المكرس. إن إلهنا لا يتباطأ على الإطلاق فى تقدير مثل هذه الأشياء، ولا فى إعطاء المكافأة عليها مائة ضعف. كان أبرام، منذ قليل، قد أظهر روح إنكار الذات فى رفضه للتقدمات الجذابة التى قدمها له ملك سدوم، ورفض أن يغتنى من مصدر كهذا، وأتخذ «الله العلى» نصيبه وجزاءه، ولذلك يأتى الله ليُثبِّت نفس خادمه بهذه الكلمات «لا تخف يا أبرام.أنا ترس لك أجرك كثير جداً»، «الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة» (عب6: 10).

يوجد مبدأ مماثل لهذا مقدم لنا فى الأصحاح الثالث عشر، حيث يُرى أبرام مُخلياً الطريق للوط فى مسألة اختيار الأرض. كل مشغولية أبرام فى تلك المسألة كانت محصورة فى كرامة الرب، المتضمنة فى السير بالاتفاق بين الأخوة أمام "الكنعانيين والفرزيين"؛ فقال أبرام «لا تكن مخاصمة بينى وبينك. . . لأننا نحن أخوان». فما كان أبرام يرغب فى فضّ النزاع بأخذ أشياء من لوط. لا بل كان هو نفسه راغباً فى أن يترك كل شىء، وأن يخضع لكل طلب، أن يضحى بكل منفعة فى سبيل فض النزاع. «أليست كل الأرض أمامك»؛ خذ ما يسرك، أمتلك لنفسك أجمل بقعة فى كل أرض الدائرة المحيطة هنا. وماذا كانت قيمة الأرض فى نظر أبرام بازاء مجد الله؟ لا شىء. كان يستطيع أن يعطى أى شىء أو كل شىء لأجل ذلك.

كيف إذاً يقابل الرب تضحية الذات هذه من جانب عبده؟ بنفس الكيفية التى نراها فى الأصحاح الخامس عشر، بأن يأتى إليه فى ملء صلاحه لكى يضاعف له الجزاء مائة ضعف «ارفع عينيك وأنظر. . . لأن جميع الأرض التى أنت ترى لك أعطيهـا ولنسلك إلى الأبد» (ص13: 14،15). حقاً يا لها من نعمة لله الذى يعِين خادمه على أن يضحى لأجله، وحينئذ يكافئ تلك التضحية بفيض بركاته العميم. هكذا هى طرقه المجيدة على الدوام.

علينا الآن أن نتتبع فى أبرام مظهراً من المظاهر التى تبين بنوع خاص سمو حالته بالشركة مع الله. فبعد كل إعلانات ومواعيد الله له، لا تزال نفسه تتلهف إلى غرض، بدونه يصبح كل ما عداه ناقصاً. صحيح أنه رأى بعين الإيمان أرض الموعد، هدية السخاء الإلهى الفاخرة؛ ومع ذلك فبالرغم من كل هذا كانت عنده أمنية عظمى، إذ كان عنده فراغ كبير؛ كان يتلهف إلى "ابن". ابن وحيد يمكن – فى نظر أبرام – أن يجعل كل امتيازاته السابقة كاملة «وقال أبرام أيها السيد الرب ماذا تعطينى وأنا ماض عقيما ومالك بيتى هو أليعازر الدمشقى. وقال أبرام أيضاً إنك لم تعطنى نسلا وهوذا ابن بيتى وارث لى» (ع2،3). والآن فإننا فى تتبعنا لمسلك هذا الإنسان العظيم، قد رأينا فيه مراراً بعض مظاهر الأخلاق النبيلة جداً؛ كرمه وسمو فكره، عاداته الشبيهة بعادات السائحين، كل هذه الأمور تدل على أنه رجل من أرقى مستوى. ولكنى لا أتردد فى القول بأننا نجده فى العبارة التى سبق ذكرها حالا يُظهر حالة نفسية أكثر توافقاً مع فكر السماء من أى مشهد آخر قابلناه فيه إلى الآن. كانت رغبة أبرام أن ينتعش بيته بصرخة طفل، كان قد صرف وقتاً طويلا كافياً فى الائتلاف بروح العبودية الكامن فى «مالك بيته»، لكن هبات السيد الرب، ولو أنها حسنة جداً فى موضعها، لم تكن لتشبع قلب أبرام؛ لأن أبرام كان قد تعلم من الله، والله دائماً يعلم أولاده تلك الأمـور التى يحبها والتى يظهرها فى معاملاته معهم. وأود أن أبدى ملاحظة بهذه المناسبة وهى أننا نرى فى حالة الابن المسرف المذكور فى لوقا 15 مبدأً له صلة كبرى بما كنا نقوله الآن؛ فهو يقول فى وسط كل شقائه «أقوم وأذهب إلى أبى، وأقول له يا أبى»، هنا نجد ظاهرة حسنة فى أخلاق هذا الشريد المسكين. كان له إحساس بنعمة ذاك الذى أخطأ ضده بدرجة مكنته رغم ذلك من أن يقول «يا أبى»، بغضّ النظر عن عيشته الطويلة فى العصيان والجهل.

لنلاحظ بأى تدقيق يتمسك أبرام بالمبدأ العظيم المذكور بعد ذلك بزمن بإلهام الروح القدس فى رومية 8 «إن كنا أولاداً فإننا ورثة». شعر أبرام أن البنوية والميراث أمران متحدان لا ينفصلان، لدرجة أنه بدون الأول لا يمكن أن يكون للآخـر وجود، هذا هو معنى سؤاله «أيها السيد الرب ماذا تعطينى وأنا ماض عقيماً ومالك بيتى هو أليعازر الدمشقى؟». لقد حكم أبرام بحق أن كونه «بلا نسل» معناه أن لا يكون له ميراث، لأن الكلمة ليست إن كنا "مالكين أو عبيداً فأننا ورثة" بل «إن كنا أولاداً فإننا ورثة» (رو8: 13).

كم هو مهم للغاية أن نذكر على الدوام أن امتيازاتنا الحاضرة وآمالنا المستقبلة مرتبطة بصفتنا "كأولاد". قد يكون أمراً حسناً وقيّماً جداً وفى موضعه الصحيح إن نتحقق مسئوليتنا لنعمل كعبيد أمناء وحكماء فى غيبة سيدنا، ولكن أغنى الامتيازات، وأسمى التمتعات، بل أبهر الأمجاد التى تخصنا عن طريق نعمة ورحمة إلهنا، إنما ترتبط تمام الارتباط بصفتنا ومركزنا «كبنين» (قارن يو1: 12، رو8: 14،19، 1يو3: 1،2، أف1: 5، 5: 1، عب12: 5).

فى المنظر المعروض أمامنا فى نهاية أصحاحنا هذا، والذى أُعطى لأبرام كجواب على سؤاله «أيها السيد الرب بماذا أعلم أنى أرثها»، لنا إيضاح آخر فى رسالة رومية 8. لقد تعلم أبرام من ذلك المنظر أن الميراث إنما يتوصل إليه عن طريق الآلام. إن الوارثين ينبغى أن يمروا فى تنّور قبل دخولهم للتمتع فى تلك الأرض التى كان الله محتفظاً لهم بها. ولست أشك فى أنه لو كنا متعلمين تعليماً عملياً وأكثر عمقاً فى الحياة السماوية، لكنا ندرك بكيفية أتم، الصلاحية الأدبية لمثل هذا التعليم. إذاً فالآلام ليست مرتبطة، كما فى هذا الأصحاح، بالبنوية بل بالميراث. وهكذا نتعلم من رسالة رومية 8 «إن كنا أولاد فأننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح. إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه»، ثم ينبغى أنه «بضيقات كثيرة ندخل ملكوت السماوات» (أع14: 22). الرب يسوع نفسه يعطينا أيضاً صورة عظيمة لهذا المبدأ الذى نتأمله؛ فقد شغل مركزه وتمتع بامتيازه كابن من قبل كون العالمين (أمثال8)، لكن قبل أن يستطيع أن يضع يده على الميراث كان عليه أن يمر فى الآلام. كان له صبغة ليصطبغ بها، وكان محصوراً حتى تكمل. هكذا أيضاً عندما ذكر أن «حبة الحنطة» ينبغى أن تقع أولاً فى الأرض وتموت وإلا فستبقى وحدها، عندئذ اضطربت نفسه. والآن علينا أن نعرفه فى شركة آلامه قبل أن نقدر أن نعرفه فى شركة مجده، وهذا هو السبب فى أن الجمع الكثير، المذكور فى رؤيا 7، كان عليه أن يجتاز فى «الضيقة العظيمة» قبل أن يصلوا إلى بيتهم السماوى المملوء سلاماً. ونستطيع أن نجمع نصوصاً كثيرة من الوحى للتدليل على هذه النقطة، ولكنى سأشير فقط إلى النصوص الآتية: فى1: 29، تس3: 4، 2تس1: 5، 1تى4: 10، 2تى2: 12، 1بط5: 10.

لكن فى هذا المنظر العجيب توجد نقطتان تستحقان الملاحظة بصفة خاصة، لأنهما تظهران بكيفية بارزة فى كل تاريخ إسرائيل بعد ذلك. أقصد «التنور المدخن والمصباح المنير» (ع17)، لقد لاحظ بحق كاتب حديثاً أن تاريخ إسرائيل يمكن أن يجمل فى هاتين الكلمتين "التنور والمصباح". كانت مصر تنوراً مجرباً لنسل إبراهيم؛ هناك اشتعلت النار بشدة، ولكنها اتبعها الرب حالاً "بالمصباح المنير"؛ مصباح خلاص الله. فصراخ النسل المتألم أتى إلى أذنى يهوه، وسمع أنينهم ونظر مذلتهم ونزل لكى يضع على رؤوسهم "مصباح" الخلاص. وقد قال هو لموسى «نزلت لأخلصهم». قد يجد الشيطان لذة فى إشعال التنور وفى مضاعفة شدته، لكن تبارك الله، فإنه من الجهة الأخرى يسرّ على الدوام بأن يجعل أشعة مصباحه تنير الطريق المظلم أمام وارثيه المتألمين. هكذا عندما أتى بهم يهوه، فى أمانة محبته، إلى أرض كنعان أشعلوا مرة ومراراً تنوراً بواسطة خطاياهم وشرورهم، وهو كما هى عادته أقام مخلصين فى أشخاص القضاة الذين كانوا بمثابة مصابيح كثيرة لخلاصهم. أكثر من هذا عندما دُفعوا إلى التنور المتقد فى بابل، بسبب عصيانهم الكريه، نلاحظ حتى فى ذلك السبى أضواء «المصباح المنير». وأخيراً سطعت لأجل خلاصهم التام فى أمر كورش.

لقد كان الرب على الدوام يذكر بنى إسرائيل بالحق الذى سبق ذكره. ويقول لهم «وأنتم قد أخذكم الرب وأخرجكم من كور الحديد» (تث4: 20، 1مل8: 51)، ثم «ملعون الإنسان الذى لا يسمع كلام هذا العهد الذى أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر من كور الحديد» (إر11: 3،4).

أخيراً يمكننا أن نسأل: هل نسل إبراهيم يتألمون الآن فى التنور أم هم يتمتعون بمصباح الله؟ لأنه لابد أنهم يجتازون واحداً من الاثنين. بكل تأكيد أنهم يجتازون الآن في التنور، مشتتون على وجه الأرض كمثل وهزأة، وكسخرية وصفير بين كل أمم الأرض. لهذا فهم في كور الحديد، لكن كما كان دائماً، "فالمصباح المنير" سيتبع بكل يقين "التنور المدخن" لأنه "سيخلص جميع إسرائيل كما هو مكتوب «سيخرج من صهيون المنقذ ويرد الفجور عن يعقوب» (أش59: 20، رو11: 26).

لهذا نرى كيف أن تاريخ إسرائيل الواقعى باقٍ كله متعلقاً بالتنور المدخن والمصباح المنير، اللذين رآهما أبرام فى المنظر المذكور هنا. فهم يظهرون لنا إما فى تنور الآلام بسبب خطيتهم، أو متمتعين بثمار خلاص الله. وحتى إلى هذه الساعة، بينما هم، كما ذكرنا حالاً، ظاهرين فى التنور، نستطيع أن نشاهد إتمام وعد الله يتكرر مراراً كثيرة «وأعطى ابنه سبطاً واحداً ليكون سراجاً (أنظر الحاشية) لداود عبدى كل الأيام أمامى فى أورشليم المدينة التى اخترتها لنفسى لأضع اسمى فيها» (1مل11: 36، ص15: 14، 2مل8: 19، مز132: 17) وإذا سألنا أين يسطع هذا المصباح الآن؟ ليس على الأرض، لأن أورشليم، مكان موضعه الأرضى «مدوسة من الأمم» لكن عين الإيمان تستطيع أن ترى ضياءه بلمعان لا يُحجب في «المسكن الحقيقى»، حيث سيبقى ساطعاً «إلى أن يدخل ملء الأمم»، ثم عندما يحمى التنور، الذى رآه رأس الأسرة فى هذا الفصل، إلى أقصى درجة من الشدة، فعند ذلك سيتقدم المصباح المبارك من المكان الذى يسطع فيه الآن، ويلقى بأشعته المنعشة على الطريق المظلم، طريق البقية الحزينة المضطهدة، معيداً للذهن تلك الكلمات التي تكرر إيضاحها «هلاكك يا إسرائيل أنك علىَّ على عونك» (هو9، 13)

أصحاح 16-17

هذان الأصحاحان يعطيانا فكرة عن مسعى أبرام للحصول على النسل الموعود به بالاستماع لصوت زوجته. كما نرى فيهم أيضاً، طريقة الله فى تعليمه عدم لياقة مثل ذلك الاستسلام لمجرد مطلب الطبيعة الذى تضمّنه مسعاه.

فى بدايةطريق أبرام نجد إيمانه يوضع تحت الاختبار فى مسألة المجاعة، ولكننا هنا نجده يجرَّب بطريقة أخرى تختلف اختلافاً كليا عن الأولى. وفضلاً عن هذا، فإن هذه الطريقة تشتمل على درجة أعلى كثيراً من الأولى فى تدريب الإيمان والقوة الروحية «جسده وقد صار مماتاً... ومماتية مستودع سارة»، مع أنه فى الأصل لم يعتبرهما لكنهما أثرا على فكره إلى حد بعيد.

والآن، فكما فى حالة المجاعة، التى سبق الإشارة إليها حالاً؛ كانت مصر قريبة وتحوى ملجأ بعيداً عن القلق على القوت فى الزمان الحاضر، هكذا هنا «جارية مصرية»، هى إحدى تلك الجوارى التى حصل عليها أبرام، بلا شك، أثناء إقامته فى ذلك المكان الشرير، أُحضِرت إليه كنجدة فى وقت القلق بخصوص النسل الموعود به «أبرام سمع لصوت سارة».

لكن لماذا يدخل عنصر العبودية إلى بيته؟ لماذا لم ينتفض عقل أبرام من فكرة «الجارية وابنها» كما انتفض من فكرة «مالك بيته»؟ ألا يمكن أن السؤال «أيها السيد الرب ماذا تعطينى؟» يُسأل بمناسبة الواحدة كما يُسأل بمناسبة الأخرى؟

يقيناً أنه مما يعارض التدبير السماوى أن يُعطى الميراث لنسل جارية، بقدر ما يعارضه أن يعطى لعبد، وفى كلتا الحالتين يكون ذلك تدخلاً من الطبيعة، الأمر الذى لا يجب أن يكون. والمبادئ التى يحتوى عليها عمل أبرام هذا، موضحة تماماً فى فصل الوحى المعطى لنا فى رسالة غلاطية.

هناك نقرأ «إنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذى من الجارية ولد حسب الجسد وأما الذى من الحرة فبالموعد. وكل ذلك رمز لأن هاتين هما العهدان، أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذى هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناء فى العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها. وأما أورشليم العليا التى هى أمنا جميعاً فهى حرة» (غل4: 22-26).

كانت كنائس غلاطية قد اقتيدت بعيداً عن البساطة والحرية التى فى المسيح ورجعت إلى «الجسد»، فبدأت تضع الطقوس الدينية بدل أعمال روح المسيح، لهذا فالرسول على سبيل التحاجج معهم عن أعمالهم غير الصالحة، يشير إلى الأمور المذكورة فى هذين الأصحاحين. والطريقة التى بها يوضح هذا الأمر لهم تجعل من غير الضرورى أن نطيل التأمل فيها. فخطوة أبرام هذه إنما «ولدت العبودية» وأدخلت عنصراً ضعيفاً أضطره، كما سنرى عندما نتقدم أكثر فى موضوعنا، أن يطرده قبل أن يمكنه الوصول إلى أعلى نقطة فى السمو فى حياته.

فى الأصحاح السابع عشر نجد علاج الله واضحاً أمامنا، ومن المعزى للغاية أن نلاحظ كيف أن الله المبارك يأتى حالاً لكى يعود بعبده إلى مركز الإيمان البسيط به، ولكنه بسيطاً وصعباً، بسيط لأنه لا يكون لنا فيه سوى غرض واحد ننشغل به، وصعب لأننا فيه نضطر أن نجاهد ضد عوامل «قلب شرير فى عدم الإيمان» يقودنا إلى «الابتعاد عن الله الحى».

«ولما كان أبرام تسع وتسعين سنة ظهر الرب لأبرام وقال له أنا الله القدير سر أمامى وكن كاملاً». هنا وجد أبرام حالاً العلاج الكامل لكل مشغولية وقلق؛ «أنا الله القدير» وكأن الرب يقول له أنا أستطيع أن أحيى الميت؛ أنا أستطيع أن أدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة؛ أنا أستطيع، لو دعت الحاجة، أن أقيم من الحجارة أولاداً لك، لا يفتخر جسد أمامى «أنا الله القدير سر أمامى وكن كاملا».

ربما كان من أجمل المبادئ التى يمكن أن ينشغل الفكر بها أن إلهنا يرغب أن يُعرف على الدوام بكمالاته المتنوعة فى حاجة شعبه. قد رأينا حالاً إيضاحاً عجيباً لهذا المبدأ الهام فى مسألة مقاومة أبرام لملك سدوم فى الأصحاح الرابع عشر؛ هناك عندما جُرِّب أبرام بتقدمات العدو وجد نجدة فى معرفة صفة الله «كالله العلى مالك السموات والأرض»، وكانت الشـركة مع ملكى صادق هى التى قادت نفس أبرام إلى حالة تناسب الظروف التى وُجد فيها. هكذا الحال تماماً فى هذا الأصحاح السابع عشر، فالشركة مع الله كالقدير كانت العلاج الوحيد للمشغولية القلقة من جهة إتمام أى وعد.

والآن فعندما يظهر الرب نفسه فى صفته كالقدير، فلا يمكن أن تكون هناك عقبة ما فى سبيل جريان نعمته، لأنه عندما تتحد القوة القديرة والنعمة الغزيرة لمصلحة الخاطئ، فالإيمان يمكنه أن يعوِّل على ينبوع كبير غزير.

إن المواعيد التى أشتملها قول الرب هى ما كنا ننتظر تماماً «وأثمرك كثيراً جداً وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدى بينى وبينك وبين نسلك من بعدك فى أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم» (تك17: 6-8). يقيناً هذه هى المواعيد التى تستطيع النعمة الغزيرة وحدها أن تنطق بها والقوة القديرة وحدها أن تتممها.

كانت المواعيد السابقة ترتبط «بعهد الختان» الذى تظهر أهميته بنوع خاص إذا نظرنا إليه بالارتباط مع مسعى أبرام للحصول على النسل لا من وجهة أعمال يد الله. ويكون من المفيد لو أننا تأملنا قليلاً فى تعليم عهد الختان هذا. لكن غرضى فى تناول هذا التاريخ ليس هو بأى حال أن نتناوله بكيفية تعليمية نظرية، بل أن نستخلص منه بعضاً من تلك المبادئ الثمينة ذات الوجهة العملية، والتى يشتمل على الكثير منها. ولذلك سنمر سريعاً على هذين الأصحاحين، الذين يحتويان على منجم من الحق التعليمى الثمين كاف لأن يشغل رسالة خاصة.

قبل أن أختم ملاحظاتى على هذا القسم من قصتنا، أود أن أزيد على ما قيل أن الإيمان وحده هو الذى يجعل الشخص قادراً على الإصغاء - كما يفعل إبراهيم هنا - إلى مواعيد الله القدير. وعندما يصغى الإيمان، فالله بالتأكيد يستمر فى التكلم. فأبرام هنا يحصل على تغيير اسمه فيما بعد إلى إبراهيم، فيستمع فى صمت الإيمان الذى لا يتساءل؛ لكن عندما يصل الله القدير إلى التكلم عن سارة أما «ساراى امرأتك لا تدعو اسمها ساراى بل اسمها سارة وأباركها وأعطيك أيضاً منها ابناً. أباركها فتكون أمماً وملوك شعوب منها يكونون» (ع15،16)، ينبهر إبراهيم بمظاهر هذه القوة والنعمة العجيبتين المتجهتين إليه، لقد فاقا كل شىء عرفه حتى الآن «فسقط إبراهيم على وجهه»، فى التراب مغموراً بفيضان القوة والنعمة القديرتين! يقيناً يمكننا أن نقول بينما نتأمل فى مثل هذا الفصل من الوحى أن الإيمان وحده هو الذى يقدر أن يعى بحق «الله القدير»، وهو وحده الذى يعطيه مكانه اللائق الصحيح ويكرمه بقدر ما يجب له من الإكرام. عندما يظهر القدير نفسه يجب أن تطرح الذات خارجاً، ولهذا نجد أن أبرام قد طرح جانباً فى كل هذا، وساراى غض النظر عنها، والجارية أبعدت مع ابنها للوقت خارج المشهد، ولم يعد شىء يُرى سوى «الله القدير» فى سلطان وملء نعمته وقوته، ثم الإيمان الذى يقدر أن ينطرح فى التراب فى تكريم صامت لمثل ذلك المظهر الذى للأمجاد الإلهية.

كم يختلف هذا عن الفصل السابق؛ هناك نجد أبرام مصغياً إلى اقتراح سارة زوجته بخصوص الجارية، وهنا نجده مصغياً إلى صوت يهوه كالقدير المزمع أن يحيى موت مستودع سارة، وأن يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة لكى لا يفتخر كل ذى جسد أمامه. هناك أبرام وسارة بدون الله؛ وهنا الله بدون أبرام وسارة. وبالجملة هناك الجسد وهنا الروح، هناك العيان وهنا الإيمان.

فرق عجيب! مشابه تماماً إلى ما أوضحه الرسول بعد ذلك لكنائس غلاطية لكى يرجعهم من وراء التأثير المحزن «للأركان الضعيفة» ومن وراء الجسد والعالم إلى كمال الحرية التى حررهم المسيح بها.

أصحاح 18-19

أجمع هذين الأصحاحين معاً لأنهما، مثل الأصحاحين الذين سبق التأمل فيهما حالاً، يزودانا بفرق ظاهر وعجيب للغاية، بين المركز الذى شغله إبراهيم فى الأصحاح الثامن عشر وذلك الذى شغله لوط فى الأصحاح التاسع عشر.

عندما سأل يهوذا ليس الاسخريوطى الرب يسوع «ماذا حدث حتى أنك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم»، أجاب «إن أحبنى أحد يحفظ كلامى ويحبه أبى وإليه نأتى وعنده نصنع منزلا» (يو14: 23) ثم «هانذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتى وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معى» (رؤ20:3)، والآن فإن إبراهيم يزودنا بإيضاح جيد للحق المذكور فى العبارات السابقة «وظهر له الرب عند بلوطات ممرا وهو جالس فى باب الخيمة وقت حر النهار» (18: 1)، هنا نجد إبراهيم ثانية فى تمام مظهر صفته كغريب. ممرا والخيمة، يعودان إلى أذهاننا بمناسبة يوم انتصاره على ملك سدوم. وإبراهيم لا يزال غريباً وسائحاً «ساكنا فى خيام». والإعلان الذى أُعطى له من الله القدير لم يغير صبغة صفته من هذه الوجهة، ولكنه بالأحرى أسبغ عليها قوة ونشاطاً جديدين. كان الاعتماد البسيط على مواعيد الله القدير هو الواسطة الفعالة لحفظه فى حالته كغريب.

والآن فمما هو مفيد لنا باسمى كيفية أن نرى التكريم الذى يعطى لصفة وحالة الغريب. ففى كل دائرة العالم الواسعة، كانت بقعة واحدة فقط استطاع فيها الرب أن يقبل فروض الكرم ويجعل نفسه كما فى بيته، وتلك البقعة كانت خيمة "السائح الغريب". فالرب لم يكن ليكرم أندية مصر الفخمة ولا قصورها الملوكية بحضوره. لا، بل كل عواطفه وأشواقه اتجهت نحو غريب ممرا، ذلك الشخص الذى، وهو فى وسط عالم شرير، رغب أن يكون لله نصيبه.

يا لها من فرصة تمتع كانت لإبراهيم، بينما كان أولئك الضيوف السماويون جالسين معه يتقاسمون تقدمات قلبه الكريم. أنظر كيف هو يشغِّل كل قوى بيته لإكرام ضيوفه، هو يسرع من الخيمة إلى الحقل ومن الحقل إلى الخيمة ثانية، ويبدو أنه نسى نفسه فى سعيه لجعل الآخرين مسرورين.

والرب يظهر تقديراً للإكـرام السامى الذي صنعه إبراهيم به، ليس فقط بقبول مظاهر كرمه، بل بتجديد الوعد له بالنسبة إلى الابن، وبالإفضاء له بمشوراته فيما يتعلق بسدوم، فيقول «هل أخفى عن إبراهيم ما أنا فاعله وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض. لأنى عرفته لكى يوصى بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعلموا براً وعدلا لكى يأتى الرب لإبراهيم بما تكلم به» (18: 17-19).

هنا يُرى إبراهيم «كخليل الله»، فإن كان «العبد لا يعلم ماذا يفعل سيده» لكن إبراهيم جُعل ملِماً بما كان الرب مزمعاً أن يفعله بسدوم؛ بينما لـوط، الشخص الذى كانت تعنيه جداً تلك الحادثة الخطيرة، تُرك فى جهل عميق بالنسبة لها.

كيف إذاً يستخدم إبراهيم مركزه الممتاز؟ هل يستخدمه فى تقوية مصالح بيته المستقبلة بكيفية أتم فى وضعها على أساس أثبت؟ يقيناً أن القلب الطبيعى كان يدفعه حالاً إلى مثل هذا الانتفاع بامتيازه الحاضر، امتياز القرب من الله. هل يستخدمه هكذا؟ كلا، لقد تعلم إبراهيم من طرق الله ما يمنعه عن العمل بكيفية تنطوى على كثير من أنانية العالم. لكن حتى لو أنه فكر فى شىء كهذا، فما كانت له حاجة إلى أن ينطق بكلمة واحدة فى هذا الموضوع، لأن "الله القدير" كان قد أشبع قلبه غاية الإشباع بالنسبة للخيرات الأبدية لبيته. لقد ثبته الرب على أساس متين، لذلك فهو لم يقبل أى فكر بخصوص نفسه أو بيته، لكن كرجل إيمان أصيل يستخدم مركزه فى حضور الله للتوسط لأجل أخيه، الذى ألقته عالميته وسط تلك الأمكنة التى كانت على أهبة أن تسلم لهلاك أبدى «فتقدم إبراهيم وقال أَفتهلك البار مع الأثيم» (ع23) "البار" إلى من يمكن أن يشير؟ أيمكن أن تكون الإشارة إلى ذلك الإنسان الذى تحول باختياره عن طريق الإيمان ليتخذ مسكنه فى سدوم؟ نعم، هو يتكلم عن لوط، و يدعوه باراً. هو يتكلم عنه بنفس العبارة التى يتكلم بها الروح بواسطة الرسول عنه بعد ذلك إذ يدعوه "نفسا بارة". فإبراهيم إذاً تعلم من الله عندما قدر أن يميز فى الإنسان المحاط بكل فساد سدوم "نفسا بارة".

لا أشك فى أنه مما يسلم به من كل شخص متعلم من الله، أن تصرف إبراهيم فى هذا الأصحاح يزودنا بنتيجة من أهم النتائج لعيشة القداسة والانفصال. ألا نلاحظ فيه رجلاً يتحاجج مع الله بأشد إلحاح لأجل شخص حوَّل وجهه عنه واختار سدوم كمكان لسكنه؟ كم ولابد رُفعت نفس إبراهيم رفعة تامة فوق «الأمور التى تُرى» عندما استطاع أن ينسى "النزاع" والافتراق والعالمية والشر التى للوط، ويحتج من أجله رغم ذلك "كنفس بارة". وإذا كان أبرام يظهر كخليل الله فى ظروف ومشاهد أخرى فبالتأكيد هو يرى هنا كابنٍ لله مظهراً بأجلى مظهر تلك المبادئ التى تعلمها فى الشركة مع أبيه السماوى.

نترك إبراهيم الآن قليلا متمتعاً بمركزه السعيد أمام الله، بينما نتأمل فى مشهد محزن فى حياة شخص يظهر أنه قدَّر أمور هذه الحياة بقيمة أعلى مما يتفق مع صفة كونه "غريباً وسائحاً" أو "نفساً بارة".

من الوقت الذي حدث فيه الانفصال بين إبراهيم ولوط يظهر الأول متقدماً «من قوة إلى قوة»، بينما الآخر، على العكس، يظهر أنه يتقدم فقط إلى أسفل من درجة ضعف إلى أخرى، حتى نجده في النهاية قد فقد كل شيء وفقط "نجا بحياته". سبق أن فقد كل أمتعته في الحرب بين «الأربعة ملوك والخمسة»، ولكن لا يظهر بأن هذا كان له أي تأثير على فكر لوط في سبيل تعليمه شر الاختلاط مع العالم، بل يظهر أنه أصبح متغلغلاً في العالمية بعد تلك الحادثة أكثر من ذي قبل، لأنه أولاً نقل خيامه إلىسدوم (12:13)، ولكننا نجده الآن جالساً في الباب (1:19)، وهو كما نعلم كان إذ ذاك مكان الإكرام. وعندما يضع إنسان يـده على المحراث مرة، فإذا ابتدأ ينظر إلى الوراء، فإننا قد أُخبرنا بواسطة من لا يخطئ أنه «لا يصلح لملكوت الله». وليس بالإمكان أن نحد الأبعاد الهائلة التي قد يصل إليها إنسان قد امتلك العالم قلبه مرة بأى مظهر من مظاهره المختلفة أو عندما يحول ظهره مرة لشعب الله. إن السقوط المريع المذكور في عبرانيين 10 الذي لا يصل إلى أقل من "دوس ابن الله" ابتداؤه هو العمل البسيط في ظاهره وهو "ترك اجتماعنا". كم هو ضروري إذاً أننا ننظر بعين الانتباه إلى طرقنا ونلاحظ منعطفات قلوبنا وأفكارنا لئلا يتسلط علينا أمر شرير، مهما كان تافهاً في ذاته، يمكن أن يقودنا إلى أبشع النتائج.

والآن يدهشنى أننا نجد في الظروف الماثلة أمامنا في فاتحة أصحاح 19 إيضاحاً تاماً لحالة لوط الساقطة. لذلك فالرب لا يظهر بنفسه مطلقاً، على أنه يبقى على بعد من المكان الدنس، ويرسل فقط ملائكته لينفذوا أمره على مدينة سدوم. والملاكان أيضاً يظهران كل تباعد واغتراب، فهم يرفضون أن يذهبوا إلى بيت لوط عندما يدعوهم قائلين: «لا بل في الساحة نبيت»، صحيح أنهم بعدئذ دخلوا إلى بيته، لكنهم إذا كانوا قد فعلوا ذلك فليس لكي يتمتعوا بالراحة بقدر ما يقاسوا من النتائج المحزنة لأوساط لوط السيئة. كم يختلف المشهد في بيت لوط عن ذلك المشهد الذى شاهدوه في خيمة غريب ممرا. لقد تجمهر رجال سدوم، الذين يعطيهم لـوط، رغم كل أعمالهم وأقوالهم النجسة، لقب "أخوة"، وكان ارتباك لوط واضحاً لما وُجد فى تلك الأحوال المؤلمة، حتى أنه أضطر أن يقدم لهم ذلك الاقتراح المرعب لكي يحمى ضيوفه من اقتحام رجال سدوم الأشرار، ثم كانت التشاجر قدام الباب ووجود لوط في الخطر. كل هذه الأمور لابد أنها هزت الضيوف السماويين، وأظهرت فرقاً ظاهراً بينها وبين السلام والراحة المقدسين الذين فى خيمة إبراهيم مع هدوئه وسمو آدابه في كل المشهد. وربما اندهش أولئك الملائكة بحق أن يجدوا "نفساً بارة" في مكان كهذا، فى الوقت الذي فيه كان يمكنه أن يتمتع، بالاشتراك مع أخيه المنفصل، بأفراح السلام المقدسة التى لعيشته عيشة الثبات واللياقة.

لكن كان الوقت قد جاء لصب كأس الغضب الإلهي على سدوم «وقال الرجلان للوط من لك أيضاً ههنا . . . كل من لك المدينة أخرِج من المكان، لأننا مهلكان هذا المكان، إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكه» (ع12،13). اللحظة الرهيبة التى أشار إليها الرب يسوع في الإنجيل (لو28:17،29)، كانت قد اقتربت من أهل سدوم المتهاونين، الذين لم يحلموا بأى شىء يمكن أن يقع عليهم بسبب عملهم، وإذ كانوا «يأكلون ويشربون ويشترون ويبيعون وبغرسون ويبنون» سُمح بلحظة إمهال في أثنائها. فحمل لوط رسالة إلى أصهاره، شهادة للدينونة سريعة الاقتراب، لكن آه! أي قوة يمكن أن توجد فى شهادة شخص قد أتى باختياره إليهم وحل بينهم، لأولئك الذين كانوا قد عاشوا ونشأوا من بداءة طفولتهم في وسط المشهد النجس؟ كيف يمكن للوط أن ينتظر أن تكون لكلماته أية قيمة بينما طرقه قد خالفتها بكيفية محزنة؟ قد يأخذ الآن بشكل مضطرب وتوسلات حارة في الإلحاح عليهم أن يتركوا مكاناً عرف أنه مقضي عليه بالهلاك الأبدي، لكنهم لم يستطيعوا أن ينسوا طريقة الهدوء والعزم التي أظهرها أولاً عندما «نقل خيمته إلى سدوم» وأخيراً عندما أخذ مجلسه «في الباب». لهذا، فكما هو متوقع «كان كمازح في أعين أصهاره» (ع14). وكيف يمكن، بالنظر إلى الحالة التي كان عليها، أن يكون غير هذا؟ بلا شك أصهاره كانوا مسئولين أمام الله من جهة رفضهم الشهادة، لكن لوطاً ما كان يمكنه، بأي وسيلة، أن ينتظر منهم أن يصغوا إليه كثيراً. والحقيقة أننا نجده هو نفسه متباطئاً في الارتحال من المكان، لأنه «لما توانى»؛ لما كان قلبه لا يزال متعلقا بهذا الغرض أو ذاك الذى كان عزيزاً لديه، «أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة» (ع16) من هذا واضح أنه لو لم يكن الرجلان أمسكا وأخرجا لوطاً لكان بلا شك قد "توانى" إلى أن سقطت عليه نار دينونة الله ومنعته حتى من نجاته بحياته، ولكنهما اختطفاه من النار لشفقة الرب عليه.

لكن اختطاف لوط هذا إنما أدى إلى منح كرامة جديدة لإبراهيم، لأننا نقرأ أنه حدث «لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم وأرسل لوطاً من وسط الانقلاب» (ع29)، لهذا فكما خلص سيف إبراهيم لوطاً في وقت غزو سدوم، خلصته شفاعته في وقت انقلابها الأخير، «لأن طلبة البار تقتدر كثيراً».

ليس إلى هنا ينتهى الفرق بين هذين الرجلين. يوجد بعد مشهد آخر يقف كل منهما على مسافة بعيدة من الآخر بالنسبة لحالة نفسيهما الأدبية؛ «بكّـر إبراهيم في الغد إلى المكان الذى وقف فيه أمام الرب» (ع27). هنا رجل الإيمان السائح المقدس يرفع رأسه مرة أخرى وسط مشهد الخراب العظيم. كل شىء يتعلق بسدوم وأهلها المذنبين قد انتهى، «دخان الأرض يصعد كدخان الأتون» منظر محزن! إن غوغاء وضجيج تلك المدينة التي كانت مرة متحركة، قد خمد والسكون خيم عليها. البيع والشراء، الأكل والشرب، التزوج والتزويج، الغرس والبناء؛ كل معاملات الحياة الاجتماعية قد انهدمت بكيفية رهيبة. والكلمة الخطيرة «اليوم» (لو29:17) قد جاءت أخيراً. والشخص الوحيد في كل ذلك المكان الردىء، الذى رغماً عن فشله، أمكن أن يُعتبر "كملح" قد نقل. ومكيال شر سدوم قد امتلأ، يوم الأناة الإلهية قد انتهى، ولا شىء الآن يواجه عين إبراهيم سوى البؤس والخراب في كل تلك الدائرة. كم هو محزن! ومع ذلك فأنه لم يكن سوى صورة لذلك الخراب الأشد هولاً إلى حد بعيد، الذي سيجرف هذا العالم المذنب عند استعلان ابن الإنسان «ستنظره كل عين. . . وينوح عليه جميع قبائل الأرض». فإبراهيم "وقف أمام الرب" بعيداً بالكلية عن كل النتائج المحزنة للزيارة الأخيرة إلى الحد الذي يتعلق به شخصياً. وحالة اغترابه التي مكنته في أيام كدرلعومر أن يعيش خارجاً عن سدوم وكل ظروفها جعلته لا يزال حراً وكانت واسطة نجاته من ويلات سدوم وشقائها التي لا ينطق بها. فلو أن إبراهيم عندما استدرجه ملك سدوم قد قبل لنفسه أمور سدوم، لكان قد تأثر إلى حد ما، كما تأثر أخوه لوط، بانقلابها. كان هو نفسه سيخلص، ولكن عمله كان سيحترق. لكن إبراهيم كان ناظراً إلى «المدينة التي لها الأساسات» وما كان ليمس نجساً. والآن صارت له الفرصة ليرى النتائج المباركة لتصرفه، لأنه بينما كان على لوط أن يتراجع بارتباك وحزن إلى مغارة في الجبال بعد أن فقد زوجته وكل ممتلكاته، يأخذ إبراهيم موقفه بكل ذلك الهدوء والمهابة التى ميزته على الدوام، فى حضور الله. ومن هناك يرى المشهد الذى يكسر القلب.

لكن ماذا عن لوط؟ كيف ختم حياته؟ آه، «لا تخبروا في جت! ولا تبشروا في أسواق اشقلون!». حسناً أننا نرغب أن نلقى حجاباً على المشهـد الختامي من حياة شخص، يظهر أنه لم يتحقق كما ينبغي في وقت من الأوقات، قوة دعوة الله. لقد كان يظهر على الدوام رغبة كامنة نحو ما في مصر وما في سدوم، ويظهر قلبه أنه لم ينخلع تماما من العالم، ولذلك فحياته كانت على الدوام غير ثابتة، من الوقت الذي انفصل فيه عن إبراهيم. كان يذهب من رديء إلى اردأ، من حالة شر إلىأخرى حتى ينتهي المشهد أخيراً بالتصرف المفزع في المغارة، والنتائج المحزنة التي شوهدت في أشخاص موآب وعمون، أعداء شعب الله.

هكذا انتهت حياة لوط الذي يجب أن يكون تاريخه تحذيراً خطيراً لكل المسيحيين الذين يشعرون بميل إلى أن يُحملوا بتيار العالم. إن التاريخ لم يدوَّن بلا غرض. «كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا». يا ليتنا إذاً نتعلم من القصة السابقة أن «لا نكون مشتهين شروراً» لأنه ولو أنه «يعلم الرب أن ينقذ الأتقياء من التجربة» غير أنه من واجبنا أن نبتعد عن طريق التجربة بقدر ما نستطيع، وأن تكون صلاتنا على الدوام «لا تدخلنا في تجربة»؛ مدركين أن «العالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد» (1يو2: 7).

أصحاح 20-21

ابتعد الآن لوط عن المشهد، احتجبت شمسه وراء السحب الكثيفة والجو المظلم، وبقي علينا الآن أن نتتبع إلى للحظات قليلة قصة طرق إبراهيم ومعاملات الله معه.

هناك نقطة وردت في أصحاح 12 ولم أتعرض لها، لأنها ستعرض لنا ثانية في هذا الموضع.

لما نزل إبراهيم إلى مصر، دخل في حلف مع زوجته سارة بأن تخبئ جزءاً من الحق فقال لها «قولي إنك أختي» (13:12). شر واحد يقود على الدوام إلى آخر. كان إبراهيم متجهاً الوجهة الخطأ لما نزل إلى مصر لطلب المعونة، ولذلك لم يظهر حساسية الضمير التي كانت تخبره بعدم لياقة هذا التحفظ العقلي. «تكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه». هذا مبدأ إلهي لابد أن ينشئ دائماً تأثيراً على الشخص السـائر في شركة مع الله، لكن رغبة إبراهيم في الخروج من التجربة الحاضرة كانت دليلاً على فشله في الشركة ولذلك "فإحساسه الأدبي"، كما أسماه كاتب حديث، لم يكن حاداً كما كان يجب أن يكون. على أنه رغم أن الرب ضرب بيت فرعون لأجل أخذه سارة إليه، ومع أن فرعون أنَّب إبراهيم لأجل تصرفه فى المسـألة، مع ذلك فإبراهيم لا يقول شيئاً عن التحالف العقلي الذي دخل فيه مع زوجته لكي يخفيا جزءاً من الحق؛ بل يأخذ التأنيب فى سكوت ويذهب في طريقه، لكن جذور الشر لم تزل باقية في قلبه مستعدة أن تظهر نفسها في أي وقت إذا قامت ظروف تدعوها للظهور.

ومن العجيب أن نرى إبراهيم راجعاً من مصر، يبني مذبحاً وينصب خيمة، ويظهر كرم الإيمان النبيل، يهزم كدر لعومر، ويصد تجربة ملك سدوم، يلحّ في طلب ابن ووارث، فيأخذ أحسن جواب، يضع وجهه في التراب أمام الله وهو شاعر بقوته ونعمته القديرتين، يكرم الضيوف السماويين ويتوسط لأجل أخيه لوط؛ وبالجملة أقول أنه من العجيب أن نرى إبراهيم يمر في مثل هذه المشاهد الباهرة التي استغرقت جملة سنوات، وفي كل هذا الأثناء تبقى هذه النقطة الأدبية التي اخطأ فيها في بداءة طريقه في قلبه بغير أن يبت فيها.

صحيح أنها لم تظهر أثناء المدة السابق ذكرها حالاً، ولكن لماذا لم تظهر؟ لأن إبراهيم لم يكن في ظروف تستدعيها، ولكنها بقيت رغم ذلك، والشر لم يكن قد استُخرج تماماً، لم يكن قد اعترف به أو تخلص منه. والدليل على ذلك أنه في اللحظة التي يجد فيها نفسه مرة ثانية في ظروف تؤثر على نقطة ضعفه هذه فحالاً تظهر تلك النقطة. لم تكن التجربة التي مر فيها في مسألة ملك سدوم بأي حال تمس هذه النقطة الخاصة، ولا كان أى شىء حدث له من وقت خروجه من مصر إلى أن نزل إلى جرار يؤدى إلى المساس بها، لأنها لو مُست فبدون شك كانت أظهرت نفسها.

لا نستطيع مطلقاً أن نعرف ما في قلوبنا حتى تقوم الظروف لإظهاره. ما كان بطرس يتصور أنه يمكن أن ينكر سيده، ولكنه عندما دخل في الظروف التي كان من شأنها أن تؤثر على ضعفه الخاص أظهر أن ذلك الضعف كان موجوداً.

لقد أحتاج الأمر إلى مدة طويلة، أربعين سنة في البرية، ليتعلم بني إسرائيل «ما في قلوبهم» (تث2:8)، وهي نتيجة من أعظم نتائج طريق التهذيب التي يمر فيها كل واحد من أولاد الله، ليقوده إلى معرفة أعمق عن ضعفه وأنه لا شيء. «كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيم الأموات» (2كو1: 9).

وكلما ننمو في الشعور بنقائصنا كلما نرى حاجتنا إلي التعلق بالمسيح بأكثر شدة، مستندين أكثر على نعمته، ومتثبتين بكيفية أتم في قيمة وفضل التطهير بدمه الكفارى. فالمسيحى في بداية طريقه لا يعرف قلبه، والحقيقة أنه لا يستطيع أن يحتمل معرفته تمام المعرفة. لو عرفه لصُعق منه. والرب لا يقودنا "في طريق أرض الفلسطينيين" لئلا إذا راينا حرباً نغمر باليأس، ولكنه بالنعمة يقودنا في طريق ندور فيها، لكي تتمشى معرفتنا بنعمته في توازن مع معرفتنا بأنفسنا.

من ثم في أصحاح 20 نجد إبراهيم ثانية بعد مرور سنوات كثيرة يسقط في الغلطة القديمة، غلطة إخفاء الحقيقة التي احتمل من أجلها تأنيباً من مجرد إنسان من أهل العالم. في هذا المشهد ظهر رجل العالم، إلى لحظة، أن له شعوراً أدبياً أكثر تهذبا مما لرجل الله؛ فيقول: «ألم يقل هو لى أنها أختى وهي أيضاً نفسها قالت هو أخى. بسلامة قلبي نقاوة يدي فعلت هذا».

لكن لاحظ كيف يدخل الله إلى المشهد بقصد تبرير عبده فيقول لأبيمالك «هاأنت ميت». نعم، بكل «سلامة قلبه ونقاوة يديه»، بكل أساسه الأدبي اللطيف، بما هو حق وبما هو غير حق كان فقط إنساناً ميتاً. وما كانت المسألة مسألة مقارنة في وقت من الأوقات بينه وبين ابن مخطئ من أولاد الله.

فالله في نعمته كان ينظر إلى عبده العزيز من وجهة نظر تختلف كل الاختلاف عن تلك التي اتخذها أبيمالك. كل ما استطاع هذا الأخير أن يراه في إبراهيم كان أنه إنسان مذنب بغش ظاهر، لكن الله رأى غير ذلك. ولذلك فهو يقول لابيمالك «الآن رد امرأة الرجل فأنه نبى فيصلى لأجلك فتحيا».

أى كرامة توضع هنا على إبراهيم! الله نفسه يبرره أمام العالم! لا كلمة تأنيب! لا أثر للتوبيخ! كلا، بل «هو نبي فيصلي لأجلك فتحيا». كم هو بالحقيقة معزٍّ للمؤمن المسكين الضعيف المضطرب، أن يذكر أن أباه يراه على الدوام فى شخص الرب يسوع المسيح. هو لا يرى شيئاً ما على ولده سوى كمال وتفوق يسوع؛ لهذا فبينما رجل العالم يمكن أن يكون له أن يؤنب أحد أولاد الله كما في الحالة التي أمامنا، فالله يعلن أنه يقدِّر تلك الصفة التي حصل عليها المؤمن منه أكثر من الطبيعة والسلامة والنقاوة التي يمكن أن تفتخر الطبيعة بها هذا يذكرنا بالطريقة التي بها يبرر الرب يوحنا المعمدان أمام الجمهور، مع أنه كان قد أرسل رسالة إليه، يبدى فيها شكوكاً لابد أنها تركت عنده تأثيراً عميقاً. لكننا نرى الرب يقول عنه «أقول لكم أنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان» (لو28:7).

لهذا فمهما كان المظهر، الذي يتخذه أحد أولاد الله، غير محبوب، في نظر العالم، فالله يظهر نفسه على الدوام بمظهر المبرِّر لمثل هذا الولد «لم يدع أحداً يظلمهم بل وبخ من أجلهم ملوكاً، لا تمسوا مسحائى ولا تؤذوا أنبيائى» (1أخ16: 21،22).

على أنه كما لوحظ في أمر يوحنا المعمدان أن الرسالة التى أرسلها الرب إلى عبده لابد وأنها قد أثّرت على روحه تأثيراً سرياً عميقاً؛ هكذا الحال فى مسألة إبراهيم، فأنه ولابد قد شعر شعوراً عميقاً بصغر نفسه عند التفكر بما كان قد حدث. والشعور بحقيقة أن الله لا يود أن يدخل معه فى المحاكمة من أجلها، لابد أنه ضاعف ذلك الشعور.

عندما سقط إبراهيم في نفس الغلطة في مصر، لا نجد أن تأنيب فرعون أنتج أى تأثير ظاهر. فلم يتضع إلى درجة تمكنه من الاعتراف التام بكل المسألة، بل يرحل من مصر وجذور الشر لم تزل باقية في قلبه، مستعدة أن تمد فروعها الخبيثة مرة ثانية. ليس الحال هكذا في أصحاح 20، بل هنا نصل إلى أصل الداء، وإبراهيم يفتح قلبه ويعترف أنه، من أول لحظة في طريقه، قد أمسك في قلبه هذا الأمر الذي خدعه مرتين وقاده إلى عملٍ أقل ما يقال عنه أنه لا يحتمل النور. وإذ وُجد الاعتراف التام بالشر من جانبه، هكذا وجَد المحو التام له، فتخلص منه تماماً، أصلاً وفرعاً. وهكذا أُخرجت الخميرة خارجاً من كل ركن من أركان قلبه، فيصغى إلى تأنيب أبيمالك ويستفيد منه، فكان أبيمالك هو آلة الله التي بواسطتها أظهر الأمر وخلص نفس عبده من قوة الشر.

لكن علاوة على النقطة التي كنا نتأمل فيها، توجد أيضاً مسألة أخرى يجب أن تُحَل قبل أن يستطيع إبراهيم الوصول إلى أسمى نقطة فى حياته كرجل الإيمان. فالجارية وابنها كانا لا يزالان فى البيت والقلب.

في أصحاح 21 نجد أن الأمور قد تحرجت بالنسبة إلى الجارية وابنها، الأمر الذى لم نسمع عنه شيئاً تقريباً حتى الآن. كان عنصر العبودية إلى الآن ملقىً في سبات في بيت إبراهيم، لأنه لم يحركه للعمل شيءٌ ما من أشياء الطبيعة والميل العكسيين. لكن في ولادة اسحق، ابن الحرة، ابن الموعد؛ نرى عنصراً جديداً يدخل. وهكذا روح الحرية وروح العبودية قد جىء بهما وجهاً لوجه، والنزاع كان لابد أن يُسفر عن طرد أحدهما؛ فما كان ممكناً أن يعيشا في وفاق لأنه «كيف يسير اثنان معاً إن لم يتفقا؟!».

والآن فإننا مدعوون بواسطة الرسول فى رسالته إلى الغلاطيين أن ننظر في هذين الابنين. الواحد منشئ للعبودية، والأخر للحرية. وأكثر من هذا نرى فيهما عينتين لنسل إبراهيم؛ الجسدى والروحى، الأول «مولود حسب الجسد»، والثانى «مولود حسب الروح». وليس هناك شىء يمكن أن يكون أوضح من الحد الفاصل، ليس بين العهدين فقط، ولكن بين النسلين أيضاً. فهما متميزان الواحد عن الأخر كل التميز، ولا يمكن بأى وسيلة أن يوحَّدا. كان على إبراهيم أن يشعر بهذه الحقيقة وذلك بكيفية مؤلمة؛ «اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابنى اسحق» (21: 10). هنا النتيجة الطبيعية تظهر نفسها؛ فهذان العنصران لا يمكن أن يمتزجا، كما أن ريح الشمال وريح الجنوب لا يمكن أن يهبا في آن واحد بكل قوتهما بدون حصول اصطدام في عنصريهما.

لكنه كان عملاً مؤلماً لإبراهيم غاية الألم، أن يضطر هكذا لأن يطرد ابنه «قبح الكلام جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه». لكن ذلك لا يهم، ينبغي أن يُطرَد إسماعيل؛ لأن ابن العبودية لا يمكن أن يرث المواعيد، التى جُعِلَت فقط للنسل الروحى.

لو أن إسماعيل كان له أن يبقى، لكان ذلك يكون باباً للتسامح مع مطاليب الجسد. إذاً لكان إبراهيم سيجد شيئاً «حسب الجسد»، أى يجد «ما يفتخر به». لكن لا، فكل مواعيد الله هى لأولئك الذين هم مثل اسحق؛ أولاد الموعد، المولودين «حسب الروح»، لا من مشيئة رجل بل من الله (يو1: 13). كان إسماعيل، كما هو ظاهر، مولوداً من مشيئة جسد ومن مشيئة رجل، ولكن «اللحم والدم لا يقدران أن يرثا ملكوت الله». فالجسد يجب أن يُسحق ويُقمع، مهما كان الأمر قبيحاً لدى قلوبنا.

والمؤمنون يجدون، فى أغلب الأحيان، الأمر مؤلماً جداً أن يتنازلوا عن المبادئ القديمة التى تشتهى على الدوام ضد الجديدة. لكن الرب يعطي قوة روحية فى الجهاد حتى أنه «يعظم انتصارنا بالذي أحبنا».

لكن يجب علىَّ أن أذكر القارئ ثانية أنه ليس غرضى الآن أن أتتبع الوجهة التعليمية الكائنة في هذا التاريخ المفيد. ولو أننى أفعل هذا لحملنى الأمر إلى حد بعيد جداً عن الحدود التى وضعتها لنفسي في هذه الصفحات القليلة، التى غرضى منها، كما لوحظ قبلاً، هو أن الفت النظر إلى بعض المبادئ الرئيسية المقدمة لنا فى هذه القصة. لذلك سأنتقل إلى الفصل التالي الذي هو آخر جزء في دائرة تأملاتنا.

أصحاح 22

كانت الظروف التي مرَّ فيها إبراهيم فى الأصحاحين 20،21 هامة للغاية. شر كان قد استقر في قلبه زمناً، انتُزع بعيداً، الجارية وابنها، اللذان بقيا طويلاً مطمئنين على ملكية بيته، قد طُرحا خارجاً. وها هو يقف الآن مثل «إناء مقدس نافع لخدمة السيد مستعد لكل عمل صالح».

«وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم». ويتقدم هنا إبراهيم حالاً إلى مركز الشرف والكرامة الحقيقيين. عندما يمتحن الله فرداً، فهذا دليل أكيد على ثقته فيه. نحن لا نقرأ قط أن "الله امتحن لوطاً". كلا، فإن أمتعة سدوم زودت لوطاً بتجربة قوية بدرجة كافية. وضع العدو له شركاً في أرض سقى سدوم، وظهر ميله الشديد للوقوع فيه. ولكن ليس الحال هكذا مع إبراهيم، الذى عاش بالأكثر فى حضرة الله، وبسبب ذلك كان أقل تعرضاً لتأثير ذلك الذى كان شركا لأخيه المخطئ.

والآن يجري الله الامتحان على إبراهيم، ويمرره فى الأتون الذى يفحصه فيه، فيُظهر حالاً نقاوة وأصالة معدنه. لو لم يكن إيمان إبراهيم من أنقى وأكثر أنواعه أصالة لكان بالتأكيد قد تراجع أمام التجربة المُحرِقة التي نراه يجتاز فيها في هذا الأصحاح الجميل.

عندما وعد الله إبراهيم بابن صدَّق الوعد «فحسبه له براً» «ولا بعدم إيمان ارتاب في وعد الله، بل تقوى بالإيمان معطياً مجداً لله». لكن إذ أخذ هذا الابن وتحقق من صدق الوعد، أَلم يكن هناك خطر عليه من أن تلهيه العطية عن العاطى؟ أَلم يكن هناك خطر من أنه يعتمد على اسحق في تفكيره من جهة النسل المقبل والميراث العتيد، بدلاً من أن يعتمد على الله نفسه الذي وعده بالنسل؟

يقيناً أنه كان هناك خطر، والله عرف ذلك، ولذلك جرّب خادمه بكيفية كفيلة، أكثر من أى شىء آخر، أن تختبره فى الموضوع الذى كانت نفسه مستريحة عليه. كان السؤال العظيم الذى وُضع لقلب إبراهيم في هذه العملية العجيبة هو: "هل أنت لا تزال سائراً أمام الله القدير، القادر على الإقامة من الأموات؟". أراد الله أن يعرف إذا ما كان إبراهيم يعرف فيه من يستطيع أن يقيم أولاداً من رماد ابنه المضحى به، كما استطاع ذلك من مماتية مستودع سارة. وبعبارة أخرى أراد الله أن يثبت أن إيمان إبراهيم وصل إلى القيامة؛ لأنه لو وقف دون ذلك ما كان يستطيع مطلقاً أن يجيب على ذلك الطلب الصعب «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب إلى أرض المريا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» (2:22). لكن إبراهيم لم يتردد، بل لبى الدعوة على التو. لقد طلب الله اسحق، واسحق يجب أن يُعطى، ويُعطى بدون أدنى تذمر. لقد كان يستطيع أن يعطي أى شىء، وكل شىء ما دامت عينه مستقرة على «الله القدير». ولاحظ وجهة النظر التي يتخذها إبراهيم في رحلته هذه إلى جبل المريا «أنا والغلام نذهب هناك ونسجد». نعم، لقد كان نوعاً من السجود؛ لأنه كان على أهبة أن يضع على مذبح المقيم من الأموات، الشخص الذي تركزت فيه كل مواعيد الله. فكانت المسألة سجوداً في غاية السمو؛ لأنه كان على وشك أن يثبت، أمام نظر السماء وجهنم؛ أنه لا غرض يملأ نفسه سوى الله القدير. فيالها من طمأنينة! ويالها من عزيمة! ياله من تكريس نقي! ياله من سمو فكرى! ياله من إنكار للذات! وهو لا يتعثر في كل المشهد. يشد على الحمار، يجهز الحطب، ويقوم ذاهباً إلى جبل المريا؛ كل هذا دون أن يتساءل، مع أنه - على قدر ما ترى العين البشرية - كان على وشك أن يفقد أمنية أرق عواطف قلبه، بل الشخص الذي تتوقف عليه مصالح بيته من كل وجهة.

غير أن إبراهيم أظهر تماماً أن قلبه وجد غرضاً أقرب وأعز من اسحق، مع أنه عزيز. وأظهر أيضاً أن إيمانه كان مستنداً على أساس يختلف كلّية، فيما يختص بمصالح نسله المستقبلة، وأنه كان معتمداً على وعد الله القدير بعد ولادة اسحق، بقدر ما كان كذلك قبل ولادته.

لننظر رجل الإيمان هذا وهو يصعد الجبل، آخذاً معه ابنه المحبوب. ياله من منظر مفيد بدرجة لا يعبر عنها! كيف رأت الأجناد السماوية، هذا الأب العظيم يتقدم من درجة إلى درجة في رحلته العجيبة، حتى رأوه أخيراً ويده تمتد إلى السكين ليذبح ابنه، ذلك الابن الذي تاقت إليه نفسه كثيراً وطويلاً، والذي لأجله وثق بالله بثبات. من ثم فيالها من فرصة يوجه فيها الشيطان سهامه الملتهبة! وياله من مجال متسع لكى يقدم فيه اقتراحاته؛ مثلاً: ماذا سيتم فى مواعيد الله بخصوص النسل والميراث إذا كنت تضحى بابنك الوحيد هكذا؟ أحذر لئلا تكون مُضلّلاً بواسطة إعلان كاذب. أو إذا صح أن الله قال كذا وكذا، ألا يعرف الله أنه في اليوم الذي تضحي فيه بابنك تنمحي كل آمالك؟ ثم فكِّر في سارة، ماذا تفعل إذا فقدت اسحق بعد أن حملتك على أن تطرد إسماعيل من بيتك؟... كل هذه الاقتراحات، وغيرها كثير، كان يمكن أن يأتى بها العدو إلى قلب إبراهيم، وما كان إبراهيم نفسه بعيداً عن دائرة هذه الأفكار، التى فى وقت كهذا لا يصعب أن تجد طريقها إلى ذهنه. ماذا إذاً كان جوابه عن كل تلك الاقتراحات المظلمة؟ القيامة!

«بالإيمان قدم إبراهيم اسحق وهو مجرب. قدم الذي قبل المواعيد وحيده. الذي قيل له باسحق يدعى لك نسل. إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً الذين منهم أخذه أيضاً في مثال» (عب11: 17-19).

إن القيامة هي علاج الله القدير لكل ضرر وخراب يتسبب بواسطة الشيطان. وعندما نصل إلى هذه النقطة نكون قد هزمنا قوة الشيطان التي نهاية حدها الموت. فالشيطان لا يستطيع أن يمس الحياة التي أُخذت بالقيامة لأن آخر حد لقوته يُرى في قبر المسيح، وفيما وراء ذلك لا يستطيع شيئاً. ومن هنا جاءت ضمانة مركز الكنيسة «حياتنا مستترة مع المسيح في الله». ياله من مكان استتار مبارك! يا ليتنا نفرح به كل يوم أكثر فأكثر.

آتي الآن بهذه الصفحات إلى نهاية تتبعنا لإبراهيم في طريقه من أور الكلدانيين إلى جبل المريا. رأيناه يترك، عند دعوة الله، العائلة والأقارب، العقارات والممتلكات، الراحة والنجاح العالميين. وأخيراً رأيناه بقوة الإيمان، ولنفس الدعوة، يصعد الجبل الموحش، بقصد تقديم ابنه «الوحيد» على مذبح الله. وهكذا يعلن أنه يستطيع أن يتخلى عن كل شىء، وكل شخص؛ عدا الله. ولأنه مدرك لمعنى الكلمتين "قدرة" و"قيامة"؛ لم يرتبك، مع أنه كان مدعواً لأن ينظر إلى الأحجار لإقامة نسل له منها.

ومن الجهة الأخرى، قد تتبعنا لوطاً من أور الكلدانيين أيضاً. ولكن، وا أسفاه؛ لقد كان طريقه مختلف تماماً عن طريق أخيه. يظهر أنه لم يتحقق قوة دعوة الله في نفسه، فكان يتحرك تحت تأثير إبراهيم أكثر من أنه تحت تأثير يهوه. ولهذا نجد أنه بينما كان إبراهيم في كل خطوة من رحلته يفرّط فى العالم، كان لوط يعمل العكس تماماً. كان قابضاً على العالم بكل شكل وصورة. وقد تحصل على ما كان قابضاً عليه، ولكن ماذا بعد هذا؟ ماذا كانت النهاية؟ آه، هذه هي النقطة؛ ماذا كانت نهاية لوط؟ بدل أن يكون منظراً نبيلاً أمام الملائكة ونموذجاً لكل أجيال المؤمنين المقبلة عما يمكن للإيمان أن يجعل الإنسان قادراً على عمله واحتماله لأجل الله، كان العكس تماماً. لقد أضله عدو نفسه ضلالاً بعيداً، وأوقعه فى الشرك بواسطة ما فى العالم. فصرف أيامه بين نجاسات سدوم، وانتهى المشهد بالحوادث المحزنة فى المغارة؛ كل ما عمله لله أو لشعبه كان إنشاء العمونيين والموابين أعداء الله وشعبه.

كم هي عجيبة إذن تلك النعمة التي إذ تتكلم عن تاريخ مثل ذلك الشخص تستطيع أن تقول «أنقذ لوطاً البار مغلوباً من سيرة الأردياء في الدعارة إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوما فيوما نفسه البارة بالأفعال الأثيمة» (2بط2: 7،8).

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.