من ينادون بتعليم الفرضية الوثائقية يؤكدون أن الخمسة أسفار الأولى من العهد القديم قد كُتبت بعد حوالي ألف سنة من موت موسى وأنها كانت نتاج عملية كتابة وإعادة كتابة وتنقيح وجمع بواسطة محررين ومنقحين مجهولين.

هنا سوف نفحص فرعاً من دراسة النقد الأدبي التي تم تطبيقها على أسفار موسى الخمسة مع تقديم البرهان على أن موسى هو كاتب هذه الأسفار.

ولقد أضاف يوليوس فيلهوزن في عام 1895 اللمسات النهائية لرأي كان سائداً في الدوائر الكتابية الحديثة. ويُعرف هذا الرأي بأنه الفرضية الوثائقية (أو فرضية تعدد الكُتَّاب) وعندما نستخدم النقد الأدبي كأساس للمناقشة فإن هذا الافتراض يقدم النظرية القائلة إن أسفار موسى الخمسة (التكوين إلى سفر التثنية) لم تُكتب بواسطة موسى، كما يقول الكتاب المقدس، ولكنها اكتملت في سنوات عديدة بعد موت موسى.

إن الاستشهاد بالاختلافات داخل النص (مثل أسماء الله، الكلمات المتماثلة، تكرار الروايات)، وبالأسلوب والسرد، تجعل الذين يهتمون بالوثائق يؤكدون أنه هناك أربع وثائق مختلفة D, E, J, P - التي تشكِّل أسفار التوراة الخمسة. إن حرف J، يرمز إلى الاسم الإلهي «يهوه»، اسم الله الذي اسُتخدم على نحو مميز بواسطة الكاتب اليهوي والمرموز له بحرف «J»، وهو كاتب مجهول الاسم. ولقد استخدم هذا الكاتب أسلوباً متميزاً وكلمات مميزة. ويشير E إلى الوثيقة الإلوهيمية (وهي تنسب للكاتب الإلوهيمي) المعروفة باستخدامها اسم ألوهيم Elohim في إشارتها لله. إن J وE من الصعب فصلهما داخل النصّ، لذلك فإنهما يشيران دائماً إلى JE كمصدر واحد. والحرف D يصف مجموعة الأحكام والمباديء الموجودة في سفر التثنية Deuteronomy التي وُجدت عام 621 ق.م. ويعرف كاتبها باسم الكاتب التثنوي. أخيراً، فإن P يمثل الكاتب الكهنوتي. وكان هذا الكاتب هو آخر من جمع العهد القديم. ووضع اللمسات الأخيرة عليه. وتميز P باستخدام اسم ألوهيم الله وبأسلوبه اللاذع. «إن لغته هي لغة القانوني الضليع في القانون وليست لغة المؤرخ» (Driver, ILOT,12) ومن الضروري ألا يتم الخلط بين الوثيقة (P) والوثيقة (E) التي لها أسلوب مجدد ومتدفق.

وعندما تحَّددَ التاريخ الدقيق لها، نجدها قد كُتبت بنفس الترتيب مثل الحروف التي أُعطيت: J ، E، D، P. والفقرة التالية هي وصف شامل لخلفية وغرض كل كاتب:

J. أو الكاتب الذي استخدم كلمة يهوه كان أول كاتب جمع الأساطير، والخرافات، والأشعار معاً، وحتى القصص المعروفة من شعوب أخرى، مثل البابليين، وجعلها تاريخاً واحداً لشعب الله. إن بعض المصادر التي استخدمها J كانت التقاليد الشفوية، وبعضها كان مكتوباً من قبل. ولقد عاش هذا الكاتب المجهول في وقت داود وسليمان. ولقد اهتم بالحفاظ على التقاليد القديمة عندما أصبحت إسرائيل أمة وقوة عالمية، كانت تتصل بالأمم والأفكار الأخرى. وعندما كان J يخطط لعمله، فإنه يبدو أنه استخدم الإقرارات القديمة للإيمان أو العقائد التاريخية عن ما عمله الله لشعبه. وكمثال لهذا انظر (تثنية 26:5-10)، وحول هذه العقائد الأساسية، جمع قصصه. ودُعي هذا الكاتب أنه أول من استخدم يهوه كاسم لله ولقد عرفه الدارسون الألمان بأنه الكاتب الذي اكتشف كلمة يهوه بـ«J» أو الكاتب اليهوي.

E أو الذي استخدم كلمة «ألوهيم» أو الكاتب الإلوهيمي، كان ثاني كاتب جمع كل التقليد في تاريخ واحد. لقد كتب هذا التاريخ حوالي 700 ق.م، ربما عندما كان الأعداء يهددون المملكة الشمالية إسرائيل. ولقد استخدم E التقاليد التي تداولتها القبائل الشمالية، وبعض هذه التقاليد كانت هي نفس التقاليد التي استخدمها J، والتقاليد الأخرى كانت مختلفة. ولقد استخدم E اسم إلوهيم للإشارة إلى الله، في القصص التي كانت قبل موسى، وكانت يُعتقد أن اسم يهوه قد كُشِفَ لموسى. ولقد اهتم E اهتماماً خاصاً بموسى، انظر (تثنية34 :10-12)، كان E كاتباً جيداً للقصص، وخير مثال على ذلك قصة يوسف.

JE وهي كتابات هذين الكاتبين جُمعت معاً في تاريخ واحد بواسطة محرر غير معروف بعد خراب أورشليم، وفي بعض الأحيان فإن هذا الناشر احتفظ بما قاله E,J عن أي قصة، حتى لو اختلفت في التفاصيل. وفي أحيان أخرى فإنه كان يستخدم قصة تحتوي على الأفكار الرئيسية ثم يضيف لها تفاصيل من الكاتب الآخر. في خروج أصحاح 14، استُخدمت الأفكار الرئيسية من J، وأفكار قليلة من E. ومن آن لآخر كان المحرر يضيف جملاً من عنده.

P ربما كان كاهناً Priest أو مجموعة من الكهنة الذين عاشوا أثناء السبي البابلي، قد أوجدوا مجموعة مباديء عن القداسة للشعب، أي طرق العبادة والناموس الذي يجب أن يُطيعوه. إن مجموعة المباديء التي وضعها الكهنة كانت في البداية في كتاب منفصل. وفي وقت ما في القرن الرابع ق.م. تم إدماجها في أجزاء من كتاب JE. لقد كان هذا «كأنما أخذ شخص ما قصة دارجة من التاريخ الأمريكي وأدخل الدستور الأمريكي أو تشريعات الكونجرس في هذه القصة»، وعادة ما تكون المادة التي يكتبها ليست مجددة ومفعمة بالحياة كالأجزاء الموجودة في JE. إن الذين يكتبون التقليد الكهنوتي يهتمون بتفاصيل العبادة والذبيحة، في الناموس، وبتفاصيل سلسلة الأنساب في أماكن معينة وفي تواريخ معينة. وسبب اهتمامهم بإضافة هذه التفاصيل لقصص E,J هو حرصهم الشديد على إظهار تدخُّل الله. (Pederson, ILC, 11-14)

D أو Deuteronomy (الكاتب التثنوي) كان غرضه إصلاح ممارسات العبادة. ولم يكن P,J,E قد جُمعوا بعد في كتاب واحد عندما جُمع D. كتب دريفر، إنه كان بياناً رسمياً عظيماً، في مواجهة النزعات والميول التي كانت سائدة في ذلك الوقت. لقد أرسى خطوط إصلاح ديني عظيم. سواء كُتب في أيام الملك منسَّي التي كانت مظلمة، أو في السنوات التي كانت أكثر إشراقاً، أو في زمن الملك يوشيا الذي أعاد التأكيد علي المباديء الأساسية التي أصرَّ عليها موسى منذ مدة طويلة، وهي الإخلاص ليهوه ورفض الاعتراف بكل الآلهة المزيفة: لقد كانت هذه محاولة لكي تدرك بالممارسة أهداف الأنبياء خاصة هوشع وإشعياء، لتحويل شعب يهوذا الذي فسدت أخلاقه بواسطة الملك منسَّي إلى «أمة مقدسة» صوَّرتها رؤية إشعياء، لإحداث صحوة فيهم لكي يكرسوا أنفسهم لله، ولكي يحبوا الإنسان، وهذا هو ما اعتبره هوشع أول الوصايا الموجهة للإنسان. (Driver, ILOT,89)

ومن خلال أحاديثه كان هدف الكاتب التثنوي أن يمدهم بالدوافع التي يضمن بها الإخلاص لله.. يمكن أن يوصف سفر التثنية على أنه إعادة تشكيل نبوي، وتكيُّف للاحتياجات الجديدة مع التشريعات القديمة. إنه من المحتمل جداً أن حجم متطلبات الناموس في سفر التثنية هي بلاشك أكثر قِدماً من وقت المؤلف نفسه: ولكنه اهتم بالتعامل معها ودمجها في كتاب لإرشاد الناس، وتزويدهم بمقدمات وتعليقات تحذيرية (Driver, ILOT,91)

يعطي هربرت لينجستون ملخصاً رائعاً عن تواريخ الوثائق الأربعة لنظرية فلهوزن.

إذن كيف حددت نظرية فلهوزن تواريخ الوثائق الأربعة؟ بما أن الوثيقة D أُعلن أنها قد كُتبت في القرن السابع وأصبحت علنية في الإصلاح الذي عمله الملك يوشيا عام 621 ق.م، وأصبحت تلك الوثيقة ركيزة تلك الإجراءات ومن المقرر أن كاتب D عرف محتويات E,J، ولكنه لم يعرف محتويات P، من ثم، فإن E,J قد كُتبا قبل عام 621 ق.م، وP كتب في تاريخ لاحق.

فلنفترض، أن الوثيقة J، بأفكارها البسيطة يمكن أن يرجع تاريخها قبل E، والأطوار المبكرة للمملكة التي قُسِّمت يبدو أنها تعطينا خلفية تاريخية جيدة. ويمكن أن نناقش أنه في أيام J كانت مملكة يهوذا، كرد فعل لتأسيس مملكة شمال إسرائيل. إذن، فإن غرض J هو إعطاء يهوذا سند تاريخي يمكن أن يبرر مطالبة يهوذا وأورشليم بأن تكون مركز الحكومة في كل إسرائيل. وبالمثل، فإنه بفضل E تكوَّن النتاج التضادي لمملكة شمال إسرائيل التي أسسها سبط إفرايم، ليُبين أن لها تاريخاً سابقاً بالنسبة للآباء. وفي سفر يشوع جُعل مركز الحكومة في الشمال.

واستمرت النظرية في استنتاج أنه بعد تدمير المملكة الشمالية لإسرائيل في عام 721 ق.م. وشعر الرجال المتفتحي الذهن أثناء حكم الملك منسَّى (النصف الأول من القرن السابع ق.م) أن وثيقة E كانت ذات قيمة كبيرة، لذلك لا يجب فقدها، وعليه فإنهم أدمجوها في وثيقة J، وأصبحت وثيقة JE الجديدة هي الفرضية الجديدة ووثيقة D نقيضها. إن وثيقة D يُقال إنها انتصرت، واقعياً أثناء فترة السبي في بابل. على أي حال فإن «دستور القداسة» الذي له صلة بحزقيال أنشأ نقيضاً آخر DJ، وببطء، ربما لمدة قرن، فإن الكهنة في السبي وبعد ذلك في أورشليم، جمعوا معاً وثيقة P وجعلوها إطاراً لأسفار موسى الخمسة.

والخلاصة فإن وثيقة J يرجع تاريخها إلى ما بعد 900 ق.م بقليل، ووثيقة E بعد القرن التاسع قبل الميلاد بفترة طويلة. وقد وُضع الاثنان معاً حوالي 650 ق.م، وكُتبوا في حوالي نفس الوقت ونشروا عام 621 ق.م. وظهرت وثيقة P في القرن الخامس، وتكوَّنت أسفار موسى الخمسة في شكلها الحالي حوالي 400ق.م تقريباً. (Livingston, PCE, 228-29)

نتيجة التوكيدات السالفة، فإن الذين يدعمون الفرضية الوثائقية يرفضون أن موسى كتب الأسفار الخمسة.

فموسى الذي ربما يرجع تاريخه إلى حوالي 1400 ق.م يعتقد ظاهرياً أنه قد كتب أسفاره الخمسة.ولكن النقاد الوثائقيين يرفضون هذا التاريخ ويقولون إن هذه الأسفار الخمسة لم تكمل حتى وقت ما بين القرنيين الثامن والخامس ق.م.

إن الفرضية الوثائقية تبدي ارتيابها في إمكانية تصديق العهد القديم كله، وعلى الإنسان أن يقرر إذا كان ما يؤكدونه صحيحاً فإن العهد القديم هو خداع أدبي ضخم. فإما أن الله قد تكلَّم فعلاً لموسى ومن خلاله، وإما أن علينا أن نعترف أننا نمتلك خدعة أدبية يمكن وصفها بأنها فناً جميلاً.

إن الموضوع الأساسي ليس هو «وحدة أسفار التوراة الخمسة» ولكن «كيف حدثت هذه الوحدة؟»، بكلمات أخرى، إن القسم الأدبي الذي يحتوي على التكوين وحتى سفر التثنية هو رواية واحدة مستمرة. إن المسألة المحيرة جداً هنا هي، كيف أتت هذه الرواية المستمرة إلي حيز الوجود؟ هل هي كما تؤكد المسيحية التقليدية، وكما يعلم الكتاب المقدس، أنها كُتبت بواسطة موسى، أم أنها قد تمَّ تأليفها بعد سنوات فيما بعد؟. إن هذه المسألة تُبدي ارتيابها في موضوع جدارة يسوع بالثقة وكذا دقة الذين كتبوا العهد القديم والجديد وأمانة موسى نفسه.

لقد قدم ليفنجستون هذه الملاحظة الخطيرة:

غالباً نجد أن أي كتاب يؤيد هذه النظرية به جدول للأصحاحات والآيات تخصّ في الأصل كل وثيقة بالاستقلال عن الآخرين كذلك فإن كل الأجزاء المتبقية التي تُركت تُنسب بكثير من السهولة إلى المحررين أو الذين جمعوا المادة في النهاية. على أي حال فإننا يجب أن نفهم أنه ليس هنك مراجع أدبية، وليس هناك مخطوطات من أي نوع موجوده حالياً، التي تذكر وثائقJ,E,D, أو P إما بشكل منفرد أو كمجموعة. لقد تأسست هذه الفرضية بواسطة فصلهم عن بعضهم البعض، بمساعدة المعيار الذي ذُكر سابقاً، من النص الموجود فعلاً من أسفار التوراة الخمسة. (Livingston, PCE, 227)

واستمر ليفنجستون في ذكر نتائج تأييد نظرية الفرضية الوثائقية:

(أ) رفض نسب هذه الأسفار إلى موسى، وهناك أجزاء صغيرة من الأسفار الخمسة تعَزي للفترة الموسوية. 
(ب) بالنسبة لكثير من الدارسين الذين يقبلون وجهة نظر فلهوزن ، فإن الرجال والنساء في أسفار التوراة الخمسة لم يكونوا بشراً حقيقيين - في أفضل الأحوال فإنهم كانوا أبطالاً مثاليين.
(جـ) لا تعطينا أسفار التوراة الخمسة تاريخاً حقيقياً للأزمنة القديمة، ولكنها بدلاً من ذلك تُظهر تاريخ المملكة المنقسمة في الجزء الأول من فترة ما بعد السبي.
(د) ولا واحد من الناس الموجودين في أسفار التوراة الخمسة كانوا يؤمنون بإله واحد، وأن كهنة ما بعد السبي هم الذي جعلوهم يبدون وكأنهم مؤمنون بإله واحد.
(هـ) لم يتكلم الله مطلقاً لأي أفراد في الأزمنة القديمة. ولكن ذلك كان عمل الكهنة الذين أهتموا بإعطاء ذلك الإنطباع.
(و) عدد قليل جداً من القوانين (النواميس) في أسفار التوراة الخمسة كانت قبل إنشاء الملكية في الأصل.
(ز) عدد قليل من ممارسات الطوائف الدينية التي سُجلت في أسفار التوراة الخمسة كانت قبل إنشاء الملكية، والكثير منها كان في فترة ما بعد السبي.
(ح) لم يكن عند الإسرائيليين الأول خيمة اجتماع كالتي وُضعت في سفر الخروج.
(ط) إن كل الإدعاءات في أسفار التوراة أن الله خلَّص إسرائيل وصنع معهم معجزات لم تكن صحيحة.
(ي) أن مفهوم الوحدة الحالية للأسفار الخمسة ليس صحيحاً.
(ك) إن الشك الموروث في هذه النظرية يخلق فجوة من الشك عند الرجل العادي إلى الحد أن أسفار التوراة الخمسة أصبحت عملياً لا فائدة منها له. (Livingston, PCE,229)

إن الفصول التالية سوف:

1- تقدم الدليل على أن موسى هو الكاتب الحقيقي للأسفار الخمسة.
2- توضِّح وتُفسّر تأكيدات الذين يؤيدون ويدافعون عن وينشرون الفرضية الوثائقية.
3- تعطي بعض الإجابات الأساسية لإدعاءات الفرضية الوثائقية.

 

 

 

 

التالي

السابق