لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

الظُهور، المُلك.، الأبدية

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

ص19-22

يوم المسيح في السماء، ثم ما سيحدث على الأرض من ظهور المسيح بالمجد والقوة لإبادة كل الأعداء، ثم تأسيس ملكوت الألف السنة. ووصف العروس في أثناء ذلك الملك السعيد حتى نصل إلى عتبات الأبدية؛ البركة عديمة النظير للمؤمنين، والعذاب الأبدي لغير المؤمنين.

ص19 :7-21 العرس وعشاؤه، ثم الظهور وعشاء الإله العظيم.

ص20 : الألف السنة، والتمرد الأخير، ثم دينونة العرش العظيم.

ص21-22 :5 عتبات الأبدية، ووصف الجانب السماوي للمُلك.

ص22 :6-21 الكلمات الختامية؛ التحريضية والتحذيرية.

في المحاضرة السابقة وصلنا إلى هللويا السماء وفرحتها عندما سمع الرائي الصوت «هللويا.. قد ملك الرب الإله.. لنفرح ونتهلل ونعطه المجد لأن عرس الخروف قد جاء». ياللعجب فبينما الرب يهيئ الأرض بالدينونات لكي يملك عليها، فإنه يهيئ العروس بالمكافآت لكي تملك معه. لهذا كان ينبغي قبل العرس أن يكون هناك وقوف أمام كرسي المسيح لأخذ الأجرة، ففي نفس الوقت الذي فيه ستأخذ بابل (الديانة المزيفة) دينونتها، سيكون المؤمنون واقفين أمام كرسي المسيح لينالوا مكافآتهم. والإشارة في سفر الرؤيا هي عن الكنيسة بصفة خاصة (بالمقابلة مع المسيحية الاسمية - أو بابل في صورتها الأخيرة) حيث يقول «امرأته هيأت نفسها وأعطيت أن تلبس بزاً نقياً بهياً لأن البز هو تبررات القديسين … إن بر القديسين (بالمفرد) هو شخص المسيح نفسه الذي لبسه كل المؤمنين عند إيمانهم به. وقريباً في المجد سيكون القديسون فيه بكل معنى الكلمة (1كو1 : 30، في 3 : 8،9). أما كلمة تبررات فهي تشير إلى البر العملي الذي عنه سيأخذ المؤمنون مكافآت من الرب (2تي 4 : 8). القديسين».

إن كلمة "أُعطيت" تأخذ فكرنا مباشرة إلى كرسي المسيح عندما جميعنا نُظهر لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع (2كو 5 :10). وفي هذه الوقفة ستُعرض حياتنا بكل تفصيلاتها الدقيقة في نور محضر الرب أمام كل واحد منا على انفراد، وننال المكافآت على كل خدمة مهما كانت صغيرة؛ بداية من أكواب الماء الباردة التي قدمناها لأحباء المسيح إلى ما هو أكبر من ذلك. «ستمتحن النار عمل كل واحد ما هو. إن بقي عمل أحد قد بناه (علي المسيح) فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل أحد فسيخسر، وأما هو فسيخلص ولكن كما بنار» (1 كو3 :13-15).

والنار تأكل الخشب والعشب والقش. لنتصور أكوام الخشب وتلال العشب وجبال القش الخشب (والأشجار عموماً) صورة للكبرياء البشري (إش2 : 12، 13)، والعشب صورة للمجد العالمي (1 بط 1 : 24)، والقش صورة للشر بأنواعه (مز1 : 4). على خدمات هذا دافعها ينطبق قول الرب «إنهم قد استوفوا أجرهم» (مت6 : 2). ما أتفه ما كسبوا من مدح الناس، وما أعظم ما خسروا من مديح السيد! (قارن 1كو4 : 3، 5). ! إنها رخيصة ويمكن الإكثار منها فهي لا تكلف شيئاً، وصاحبها يكون ظاهراً أمام الناس، لكنها أمام النار لا يبقي منها شئ! على العكس من ذلك الذهب والفضة والحجارة الكريمة؛ إنها غالية، وبالتالي فهي لا تشغل حيزاً كبيراً، لكنها تحتمل النار وصاحبها سينال المدح من الرب عليها. وعندما نقرأ في 1كورنثوس 3 :15 أن البعض سيخسر، وعندما نقرأ في 1يوحنا2 :28 أن البعض سيخجل، فهل نعتقد أنها خسارة يُستهان بها، أو أنه خجل يسهل تداركه؟ ألا ليتنا نعيش من الآن في ضوء وقفتنا أمام هذا الكرسي ، فنجنب أنفسنا الخسارة والندم.

بعد الوقفة أمام كرسي المسيح يجئ العرس «طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف». ثم بعد أفراح العرس الذي فيه يُحضِر المسيح لنفسه الكنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شئ من مثل ذلك، يأتي الظهور «ولم يُظهر بعد ماذا سنكون (عند ذاك)، لكن نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله» (1يو3 :2). لكن الرائي قبل أن يحدثنا عن الظهور يخبرنا أن هذه هي أقوال الله الصادقة، مما يدل على أنها شئ لا يُصدَّق. كما يخبرنا أنه خرَّ ليسجد أمام رجلي الملاك؛ فمشاهد المجد جعلت يوحنا لا يتمالك نفسه، ويفعل ما لا يجب أن يفعله. وفي الحال نال تصحيحاً من الملاك لما فعل، محولاً فكره إلى شهادة يسوع التي هي روح النبوة.

ثم يأتي دور الظهور، وفيه ستُفتح السماء ولا نقرأ أنها أُغلقت بعد ذلك. مما يجعلنا نستنتج أنه طوال الألف السنة ستكون مفتوحة. والرب في ظهوره سيكون راكباً على فرس أبيض ويدعي اسمه أميناً وصادقاً. ولعلنا نتذكر أنه في أول سبع سني الضيقة سيبرز زعيم روما راكباً أيضاً على فرس أبيض، لكن الأيام ستثبت أنه خائن وكذاب، أما بعد السبع السنين فسيظهر الأمين الصادق حقاً!

ووصف الرب هنا كوصف الخارج للقتال. لذا فعيناه كلهيب نار؛ إشارة للدينونة (1 :14)، وعلي رأسه تيجان كثيرة؛ لأنه دُفع إليه كل سلطان (مت 28 :18)، وثوبه مغموس بدم؛ ليس دمه هو، فلقد كان الصليب هو آخر منظر رأي العالم فيه المسيح، وهو مجروح والدماء تنزف منه، لكنه سيُري في هذه المرة وثوبه ملطخ بدم أعدائه. ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الأمم «وأما أعدائي .. فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي » (لو19 :27).

ونلاحظ أن المؤمنين في ظهورهم مع المسيح سيكونون راكبين أيضاً على خيل بيض، لابسين بزاً أبيض ونقياً. فالقائد وحده هو الذي ستتلطخ ثيابه بدم أعدائه (إش63 :1-4)، فمع أننا سنكون معه في إجراء الدينونة لكن عمل الدينونة أُعطي له وحده (يو5 :22).

ويذكر للرب بهذا الصدد ثلاثة أسماء :

1 - اسم ليس أحد يعرفه إلا هو (ع12) :لأن للمسيح أعماقاً لا يعرفها أحد، ولا حتى نحن في الأبدية «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب» (مت11 :27). ما أحمق أفكار الناس الذين يجادلون ويحاورون في شخص المسيح، وكذلك الذين يرفضون الإيمان به لأنهم لا يفهمونه!

2 - يدعي اسمه كلمة الله (ع13) :أي المعبر عن الله «ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يُعلن له» (مت11 :27). إن المسيح أعلن الله ، وهذا مدلول اسمه "الكلمة" المذكور عنه في الكتاب المقدس سبع مرات مرة في إنجيل لوقا 1 : 2، و مرات في إنجيل يوحنا 1 : 1 ،14 ومرة في رسالته الأولى 1 : 1 والمرة السابعة في رؤيا 19 : 13 . لقد أعلن الله في أول الزمان عندما خلق الأرض والسماء (يو1 :3)، كما أعلنه في ملء الزمان في التجسد والفداء (يو1 :14)، كما سيعلنه في آخر الزمان في البر والقضاء.

3 - له على ثوبه وعلي فخذه (أي مظهره وحقيقته) اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب (ع16).

ففــي شخصــه :اسم ليس أحد يعرفه إلا هو.

وفي علاقته بنا :يدعي اسمه كلمة الله.

وفي علاقته بالعالم :هو ملك الملوك ورب الأرباب.

في الاسم الأول نري أزليته ولاهوته، وفي الاسم الثاني نري نعمته ومحبته، وفي الاسم الثالث نري مجده وملكه. وهي أمجاد تشمل الماضي والحاضر والمستقبل.

وبمجرد الظهور تأتي الدعوة إلى عشاء آخر، خلاف عشاء عرس الخروف في السماء، إنه عشــاء الإلـــه العظيم. العشاء الأول بعد حفل زفاف؛ صورة مجسمة للأفراح والمسرات، والعشاء الثاني بعد حرب إبادة؛ صورة مجسمة للمآسي والويلات! وستكون الوجبة في هذا العشاء الأخير تشكيلة من أفخر اللحوم «لحوم ملوك ولحوم قواد ولحوم أقوياء ولحوم خيل والجالسين عليها ولحوم الكل حراً وعبداً صغيراً وكبيراً». على أن المدعوين لهذه الوليمة لا يميزون بين لحم وآخر. ترى هل ميزت الكلاب التي أكلت لحــم إيزابل أنها تأكــل لحم ملكة كانت منذ ساعـــات قليلة تأمر وتنهي (2مل9 :30-37)؟! ولا هنا سيميز الآكلون بين لحوم الملوك ولحوم العبيد، ولا بين لحوم الخيل والجالسين عليها. وهذا المصير التعس هو مصير الذين سيذبحهم الرب عند ظهوره (قارن مز45 :3-5، 110 :6، لو 19 :27) وتُدعي جميع الطيور لتأكل لحمهم.

ويشرح الرائي تلك الحادثة فيقول إن الوحش وملوك الأرض وأجنادهم (أصحاح 16 :14-16) سيجتمعون ليصنعوا حرباً مع الجالس على الفرس ومع جنده. وفي الواقع إن مجرد تجمعهم على المدينة التي فيها أحباء الرب يعتبره المسيح حرباً موجهة ضده شخصياً، كما قال مرة لشاول الذي كان يضطهد المؤمنين «لماذا تضطهدني ؟». لذا سيقبض على الوحش والنبي الكذاب ويكونان هما أول من يلقيان حيين في بحيرة النار المتقدة بالكبريت في العهد القديم هناك شخصان صعدا حيين إلى السماء هما أخنوخ وإيليا. الأول عندما فسدت الأرض، والثاني عندما فسدت الأمة. وهكذا هنا في سفر الرؤيا نجد اثنين يطرحان حيين إلى بحيرة النار الأول يمثل فساد الأمم، والثاني يمثل فساد الأمة.، ولو أننا نعلم من العهد القديم أن ملك الشمال (الأشوري ) سوف يلحق بهما مباشرة ويلقي ذات المصير (إش30 :31-33).

وهكذا فإن أول أصحاح 19 يقدم لنا نهاية الزانية بابل، وآخره يقدم نهاية الوحش. أوله يقدم لنا ضد الكنيسة، وآخره ضد المسيح. في الزانية نري صورة للنجاسة، وفي الوحش صورة للقسوة. الخنزيرة والكلب مرة أخري معاً (قارن مت7 :6، 2بط2 :22). وياله من ختام مأساوي ليوم البشر! ويالها من نهاية أليمة لأزمنة الأمم! وياللعاقبة المرة لهذا العالم الحاضر الشرير! كم هو مؤسف أن ينتهي هذا الدهر بحرب ضد المسيح نتيجة البغضة التي في قلب الإنسان نحو الله مع أن الله أحب الإنسان ولأجله بذل ابنه الوحيد!

* * * *

والآن وقد ضرب الرب تمثال أزمنة الأمم الذي رآه دانيال في أصحاح 2 من نبوته على قدميه (أي في نهايته) وذراه تراباً، فإن أيام «هذا العالم» الحزينة تنتهي نهاية أكثر حزناً، إنما لتعقبها أسعد الأيام على الأرض، حيث يجئ المسيح ليؤسس مملكته. ولكن قبل أن يملك لابد أن يُقيد الشيطان ويُطرح في الهاوية. نتذكر أن الرب في مجيئه الأول كان قد ربط الشيطان (أدبياً) في البرية (لو4)، ثم بدأ ينهب أمتعته (لو11 :20-22)، لكن في المجيء الثاني لابد أن يقيد الشيطان فعلاً ويطرحه في الهاوية الهاوية هنا ليست هادس التي سبق أن أشرنا إلى أنها تعني حالة انفصال الروح عن الجسد، بل إنها باليوناني "أبيسوس"، مكان سجن الأرواح الشريرة. وهي بعينها التي ذكرتها الأرواح النجسة في لوقا 8 : 11. ويرد هذا الاسم في سفر الرؤيا 7 مرات (9 : 1،2،11 و11 : 7 و17 : 8 و20 : 1،3). ألف سنة.

والذين جاءوا مع الرب من السماء راكبين على خيل بيض، رآهم يوحنا وقد جلسوا على عروش وأعطوا حكماً. لأنهم سيملكون مع المسيح (2تي 2 :12). يالروعة المباينة؛ فإبليس قُيد وطُرح في الهاوية، والمؤمنون بالمسيح جلسوا على عروشهم وملكوا (قارن رو16 :20)! وهناك فئتان أخريان ستملكان أيضاً مع المسيح :الفئة الأولى هي «نفوس الذين قُتِلوا من أجل شهادة يسوع» أي شهداء الثلاث سنين ونصف الأولى للضيقة؛ الذين رأيناهم في الختم الخامس (رؤ 6). والفئة الثانية هي «الذين لم يسجدوا للوحش» وهم العبيد رفقاؤهم، شهداء الضيقة العظيمة (رؤ11 و14 :13). «وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة». إذاً فليست هناك قيامة واحدة تليها دينونة واحدة كما يظن الكثيرون. بل هناك قيامة أولى تفصلها عن قيامة الأشرار نحو ألف سنة «مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى » وهي قيامة أولي في رتبتها، ومن لم يقم من الأموات حتى هذه اللحظة هو محروم من البركة، على عكس كل من سيقوم فيها فإنه سيملك مع المسيح ألف سنة.

والآن أدعوك يا أخي المؤمن أن تفكر في هذه الثلاثية المباركة :

«ملكوا.. مع المسيح.. ألف سنة» (ع 4)

ياله من تعويض عظيم على سني الصبر والغربة في عالم الهول، وعلي الجهاد والعناء ووحشة الليل! إن إيماننا بهذه الحقيقة كافٍ بأن يجعل كل أمجاد هذا العالم الحاضر تتضاءل وتخبو.

وهذه القيامة هي التي يسميها الرب «القيامة من الأموات ورد تعبير «القيامة من الأموات» في العهد الجديد 49 مرة (7×7)؛ 34 مرة عن قيامة المسيح، 15 مرة عن قيامة المؤمنين.» (لو20 :35)، التعبير الذي يعني أكثر من مجرد القيامة من الموت، بل من وسط الأموات يخرج البعض في قيامة أسبق.

أما الملك الألفي فليس هو ملكاً روحياً نعيشه الآن كما يقول الكثيرون، بل إنه ملك حرفي حقيقي لربنا يسوع بعد اختطاف الكنيسة ومدته محددة في هذا الأصحاح 6 مرات، منها 3 مرات مقرونة بأل التعريف «الألف السنة» بينما لفترة النعمة الحاضرة ما يقرب من الألفين من السنين.

هكذا كان رأي الكنيسة في الثلاثة قرون الأولى . بل حتى في القرن الثالث عشر كان هذا رأي أحد علماء الكنيسة القبطية المعتبرين وهو ابن كاتب قيصر*

ولقد حدث نتيجة للتفسير الخاطئ الذي يقول إننا الآن في ملك المسيح الألفي أنه في الأيام المظلمة للكنيسة توقع المسيحيون عودة المسيح سنة 1000م وابتداء من سنة 960م ذاع الخبر فأُهملت الزراعة وأُهملت البيوت. بل أن الكثيرين من أوربا سافروا إلى القدس ليستقبلوا المسيح هناك فيملكون معه، ومن لم يسافر منهم أسرع إلى الأديرة ليبيت فيها أو على الأقل في ظلها. لقد فرغ الطعام وماتت الماشية وتحمل الناس الفاقة والجوع بدرجة مروعة على أمل تلك الليلة الأخيرة من السنة الألف، ومرت الليلة المرتقبة ولم يأت المسيح. ولك أن تتخيل خيبة الأمل التي لحقتهم. لكن الأهم من ذلك الإهانة التي لحقت المسيح وكلمته من وراء خرافات الفكر البشري السقيم وعدم فهم الحق. ومما يؤيد أن الملك الألفي لم يأت بعد ما يلي :

1- أنه يسبق الملك الألفي قيامة للأبرار «الذين قُتلوا.. عاشوا وملكوا مع المسيح ألف سنة» وهي ليست قيامة روحية كما يفتكر البعض، بل حرفية بدليل قوله «وأما بقية الأموات فلم تعش حتى تتم الألف السنة». وهذا يجعل معنى الآية واضحاً وضوح الشمس أن المقصود هنا هو قيامة الأجساد، فالآية تعني بوضوح أن كل الأموات ستعيش؛ بعضهم قبل الألف السنة (وهم المؤمنون في القيامة الأولى )، ثم الأشرار بعد الألف السنة ليدانوا أمام العرش العظيم الأبيض (ع11،12).

2- إن فترة الملك الألفي ستكون تالية لفترة الاضطهاد من الوحش «الذين قتلوا.. فعاشوا وملكوا...» فهي ليست متزامنة مع فترة اضطهاد الوحش، ولا تسبقه، بل تالية له.

3- إن في الملك الألفي سيكون الشيطان مقيداً كما رأينا في ع 1 بينما هو الآن طليق «إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو» (1 بط 5 :8،9).

4- أننا في الملك الألفي سنملك مع المسيح كقول الرائي «ورأيت عروشاً فجلسوا عليها وأعطوا حكماً.. وسيملكون (مع المسيح) ألف سنة» (ع4، 6) والآن ليس وقت ملكنا بل صبرنا، وبعد سني الصبر هناك الملك (2 تي 2 :12). لقد وبخ الرسول بولس المؤمنين في كورنثوس قائلاً «ملكتم بدوننا. وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضاً معكم» (1كو4 :8)؟!

5- الذين روحنوا البركات المذكورة في العهد القديم عن الملك الألفي مثل القول «يسكن الذئب مع الخروف...» (إش11 :6) وقالوا إن هذا يعني أن المؤمن يسكن مع غير المؤمن! فاتهم أن تاريخ الكنيسة ملئ بعصور الاستشهاد التي فيها افترس الذئب الخروف، بل ولا زال يفعل ذلك إلى الآن!

6- أخيراً نقول إنه لا يمكن لربنا يسوع أن يُهزَم في أية موقعة؟! فلا يمكن أن الرب يعطي العالم للشيطان ويكتفي هو بالسماء والدائرة السماوية. وكيف يمكن إذ ذاك أن «يكون هو متقدماً في كل شئ»؟ (كو1 :18). إذاً فلابد أن يتمجد الرب في نفس الأرض حيث أهين وتألم (1كو15 :25، في 2 :10،11).

لا يشير سفر الرؤيا إلى الجانب الأرضي لبركات الملك الألفي بل يكتفي بأن يقدم لنا وصفاً للعروس امرأة الخروف أثناء هذا الملك (21 :9 إلى 22 :5)، وسنتحدث عن هذا بعد قليل. ثم بعد أن تنتهي هذه الفترة المباركة والسعيدة سيقوم الشيطان بآخر عمل له. أبَعد هذا المشهد المجيد يكون هناك مجال للشيطان؟! نعم فلابد للقلب البشري أن يعلن عن رداءته حتى بعد هذه الأيام الهنية السعيدة. كثيرون ينتقدون آدم لأنه سقط في الجنة وكأنهم هم أفضل منه. لذا ستعود للبشرية ظروف أحلي مما كانت في الجنة، وستستمر ألف سنة. لكن سقوط الإنسان بعدها سيكون هو أردأ كل سقطاته، وذلك لما يلي :

1- لأنه تمرد جاهل :بعد ألف سنة من البركة.

2- لأنه سقوط أرعن :فالشيطان لن يحل سوي زمان يسير.

3- لأنه فتنة عمومية :«من أربع زوايا الأرض».

4- لأنه ثورة جماهيرية :عددهم مثل رمل البحر.

5- لأنه تحد وقح :ضد المسيح الذي عرفوه عن يقين، ورأوه رؤى العين.

وإذ يؤدي الشيطان عمله الشرير الأخير فإنه سيُطرح هذه المرة وإلى أبد الآبدين في بحيرة النار المتقدة بالكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب. مما يبرهن على خلود الأشرار في العذاب لأنهما كانا قد طُرحا قبل ذلك بنحو ألف سنة.

تأتي بعد ذلك دينونة الأشرار أمام العرش العظيم الأبيض. والذين احتقروا الدعوة للعشاء العظيم (لو14 :16)، أو حتى أهملوا الخلاص العظيم (عب2 :3)، لابد أن يقفوا أمام هذا العرش العظيم الأبيض!

عرش :هنا نجد محكمة الكون العليا، ولا استئناف لأحكامها.

عظيم :يتناسب مع القاضي العظيم، ومع القضية الكبرى ، ومع عدد المدانين الضخم، ومع هول الأحكام وأبديتها.

أبيض :بمعنى لامع وبهي بهاء النور، نظراً للبر والعدل اللذين سيميزان الأحكام.

وفي هذه الدينونة نجد أولاً :«أسفاراً»، ثانياً :«سفر الحياة». فبحسب ما جاء بالأسفار سيُدان الأموات لأنه «وُضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة» (عب9 :27). ينكر البعض في هذه الأيام الدينونة الأبدية لكن هذه بشرى مزيفة كتلك التي قالها إبليس للمرأة «لن تموتا» (تك3 :4)، وماتا. والآن يقول للناس :لن تدانوا، لكنهم سيدانون بحسب أعمالهم. الله سيدين أيضاً الأقوال (مت12 :36، 37)، كما سيدين السرائر (رو2 :16). إن المؤمنين ستدان أعمالهم «ستمتحن النار عمل كل واحد»، أما هنا فدينونة للناس بحسب أعمالهم. والأمران مختلفان.

أما بالنسبة لسفر الحياة، فإن المكتوبين فيه هم الذين وُلدوا من الله ولهم حياة الله. فمع أن الخاطئ سيدان بحسب أعماله إلا أن حالته نفسها لا تؤهله للوجود في محضر الله. فمُساكنة الله ليست على أساس الأعمال؛ صالحة كانت أم شريرة، بل الولادة من الله.

ويختم الفصل بالقول «وكل من لم يُوجد مكتوباً في سفر الحياة طُرح في بحيرة النار». هذه نهاية كل الخطاة. ويالها من نهاية تعسة بلا شعاعة أمل واحدة تضئ في ليل الأبدية الرهيب لمن مات في خطاياه بدون المسيح.

فإن كنا حقاً عالمين رعب الرب، ألا نقنع الناس (2كو5 :11)؟ ألا ننذر الشرير من يوم عصيب؟!

«ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة». وبهذا نصل إلى عتبات الأبدية. فإن الخليقة ستتحلل ذراتها إلى جزئياتها -أي الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. وهذا يفسر القول الذي جاء بصدد دينونة الأموات «هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع»، وبطرس الرسول يتكلم عن هذا الأمر فيقول «تنحل السموات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب» وسيصاحب هذا التحلل الذري للكون، كما هو متوقع، ضجيج وحرارة هائلة وخطيرة جداً.

وهذا عين ما قاله بطرس صياد السمك منذ نحو ألفي عام «تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التي فيها. فبما أن هذه كلها تنحل أي أناس يجب أن تكونوا أنتم» (2 بط 3 :10-12).

وبعد أن تنتهي الدينونة وينتهي ذكر الخطية، ويُطرح الشيطان ومعه كل نتائج الخطية إلى بحيرة النار، فإن الله سيُجمِّع هذه الذرات من جديد حسب عمل استطاعته، بصورة مختلفة تماماً عن شكل الحياة الحاضرة «رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد في ما بعد هذه العبارة تدل على أن صورة الحياة وشكلها في الأبدية سيختلف كل الاختلاف عن صورتها الحاضرة، لأن البحار والمحيطات الآن يتكون منها السحب، ومن السحب تنزل الأمطار، وهذه تكون الأنهار التي هي أساس حياة النبات والحيوان والانسان. إذاً فكيف لا يكون بحر فيما بعد؟ الإجابة أن «الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضاً لأنهم مثل الملائكة» (لو20 : 34-36)، فستكون الأجساد روحانية وكل شئ جديداً.».

ثم ترى الكنيسة باعتبارها المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء بمعنى أنها سماوية في مصدرها. فكما كان المسيح يقول دائما عبارة «نزلت من السماء * ** في أصحاح واحد هو يوحنا 6 ترد هذه العبارة 7 مرات (ع33، 38، 41، 42، 50، 51، 58).* » وذلك لأنه «الرب من السماء» (1كو 15 :47) وهو سماوي ، هكذا نحن أيضاً أصبحنا سماويين (1كو15 :48).

وتُرى الكنيسة أيضاً باعتبارها عروساً. وبهذا فإننا نكون قد رأينا في هذا السفر ثلاث صور مختلفة للكنيسة :منارة، وعروساً، ومدينة

ففي يوم البشــر :هي منارة، بالارتباط بالعالم الذي تشهد له.

وفي يوم المسيح :هي عروس، في علاقتها بالمسيح العريس الذي تسعد معه.

وفي يــوم اللــه :هي المدينة المقدسة التي لها ذات مجد الله، والتي تعلن لكل الخليقة مجده.

وستظل الكنيسة عروساً طوال الأبدية كقول الرسول «يُحضِرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن (أي تجاعيد من آثار الزمن) ولا شئ من مثل ذلك» (أف 5 :27). وليست العروس فقط هي التي ستحتفظ بشبابها طوال الأبدية بل أيضاً ربنا يسوع المسيح عريسنا إذ تصفه العروس في سفر النشيد بأن «قصصه مسترسلة حالكة كالغراب» (نش5 :11) كناية عن شباب وحيوية دافقين.

«وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً هوذا مسكن الله مع الناس». هاقد وصل الله إلى غرضه الذي كان يريده من البدء - أن يسكن مع الناس، فالشيطان والخطية لم يُبطلا أفكار الله، بل له المجد استخدم الكل كأدوات لتنفيذ مقاصده التي نراها قد تحققت في الكنيسة نفسها، ففي الأبدية سيكون هناك الله والناس، وأيضاً هناك مسكن الله مع الناس، وهذا المسكن هو الكنيسة نفسها (أف2 :22).

ثم يكتب الرائي وصفاً مقتضباً للأبدية، فالنبوة بصفة عامة لا تتحدث عن الأبدية، فهي ليست ضمن مجالها. وفي وصف الرائي المقتضب للأبدية يحدثنا عن الجانب السلبي ، أي لما لن يكون في الأبدية فيقول «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد».. ما أبعد الفارق بين كلمة «في ما بعد» التي تذكر عن بابل في أصحاح 18 سبع مرات، وبين نفس الكلمة بالنسبة للمؤمنين في أصحاح 21، 22 والتي تشير أيضاً إلى سبعة أشياء لن تكون في ما بعد!

ونحن ما كنا نتوقع أن يكتب لنا الرائي وصفاً لما ستكون الأبدية عليه، وهي تختلف تماماً عما هو الآن وأسمى بكثير مما يظن أحد. وإن كان مجد سليمان الملكي بهر ملكة سبا ولم يُبقِ فيها روح بعد بل قالت إنها لم تصدق الأخبار التي سمعتها حتى جاءت وأبصرت فإذ النصف لم تخبر به، فهل نظن أن أمجاد الابن وأمجاد الأبد تدخل ضمن ما يخطر على البال؟! وإن كان بولس لما صعد إلى الفردوس، رجع وقال إن ما رآه وسمعه ليس ضمن تعبيرات اللغة البشرية، فهل نتوقع أن بيت الآب ممكن التعبير عنه؟! إن كل ما كتبه يوحنا من وصف سلبي للأبدية يعتبر تلخيصاً لما في الحياة الحاضرة؛وهي كلها من أعمال إبليس الذي أُظهر ابن الله لينقض أعماله (1يو3 :8)، وهذه الأمور هي :الدموع، والموت، والحزن، والصراخ، والوجع. وهي لا تتوافق مع فكر الجالس على العرش. لذلك «قال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شي جديداً». ولقد قاربت اللحظات التي ترى عيوننا هذه الأمور كلها.

ثم بعد أن يؤكد صدق هذا كله، ويقينية تحقيقه، فإنه يذكر ما سيتمتع به المؤمنون إلى أبد الآبدين من ارتواء أبدي ، بالمقابلة مع العطش الأبدي لغير المؤمنين. ويشار إلى المؤمنين هنا أنهم غالبون. في 1يوحنا 5 :4،5 يذكر لنا يوحنا وسيلة غلبتهم، وهنا يذكر لنا مكافآت تلك الغلبة.

* * * *

وكعادة سفر الرؤيا بعد أن وصل الكلام إلى النهاية، إلى الأبدية، يعود الرائي إلى الوراء ليلقي مزيداً من الضوء على موضوع سبق ذكره موجزاً. ولهذا فإن الرائي يعود ثانية بداية من أصحاح21 :9 لموضوع الملك الألفي ليعطي تفصيلات وصف المدينة السماوية الأقوال من أصحاح 21 : 9 إلى 22 : 5 تكلمنا عن أورشليم السماوية أو بالحري الجانب السماوي للملكوت بالمقابلة مع ما تفيض به نبوات العهد القديم أعني أورشليم الأرضية أو بالحري الجانب الأرضي للملكوت. بالمقابلة مع مدينة بابل.

فواحد من الملائكة السبعة الذين معهم السبعة الجامات أخذ يوحنا إلى برية وأراه دينونة بابل، وهنا أيضاً واحد من الملائكة الذين كان معهم السبعة الجامات أخذه إلى جبل عال * المكان هنا له دلالته؛ فبالنسبة لبابل كانت الرؤيا من برية، صورة لمنتهى الجدوبة الروحية، أما بالنسبة للمدينة السماوية فمن جبل عال، فلكي تميز الشر لا تحتاج إلى مستوى عالٍ من الحالة الروحية، فحتى رجل العالم بوسعه أن يدين شرور المسيحية الاسمية. أما معرفة فكر الرب من جهة كنيسته فإنها تستلزم مستوي روحياً عالياً؛ بعداً عن ضباب العالم وفساده، وقرباً من السماء ومن قلب الله وأراه وصف وأمجاد امرأة الخروف.

الأولى في علاقتها بالمسيح توصف بأنها الزانية العظيمة، والثانية في علاقتها بالمسيح توصف بأنها العروس.

الأولى في علاقتها بالعالم توصف بأنها بابل؛ مدينة الفوضى والتشويش، أما الثانية فأورشليم أي مدينة السلام.

بابل التي أرادت ببرجها أن تصل إلى السماء، بينما أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله.

الأولى مجدت نفسها، والثانية اشتركت مع المسيح في آلامه، لكنها ترى هنا ولها مجد الله.

الأولى أفسدت الأرض بزناها، والثانية ستسير شعوب المخلصين بنورها.

الأولى مدينة بلا أساسات؛ فلم يعثر المنقبون عن آثار بابل سوى على بضعة أطلال متفرقة وقليلة، حتى أن ابراهيم لما دُعي من أورالكلدانيين، وكانت بابل وقتها في عظمتها، اكتشف بإيمانه أنها مدينة بلا أساسات وبالتالى فهي إلى زوال. ونفس الإيمان الذي جعله يرفض مدينة الإنسان جعله ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله.

هذه هي المدينة التي يعطينا الروح القدس وصفاً لها هنا، والتي عن قريب جداً ستكون ملء العين.

وأول ما توصف به هذه المدينة هو أن «لها مجد الله ولمعانها شبه أكرم حجر كحجر يشب بلوري ». وحجر اليشب هو حجر كريم وصلب ولامع يرمز لعدم فساد الحالة الممجدة. ويشار إليه هنا 3 مرات. فلمعانها (ع11)، وأمنها (ع18)، وثباتها (ع19) كلها يشب. البلوري هو الماس، وهو ذرية الفحم. وهكذا نحن في المجد سنلمع مع أن أصلنا السواد والخطية. في أصحاح4 :3 يعبر اليشب عن مجد الله، وهنا يقول صراحة إن المدينة «لها مجد الله». فكم عجيبة هي تلك النعمة الإلهية الني رفعت أناساً من المزابل إلى ذُري المجد (يو17 :22، رو5 :2، 8 :18، أف1 :14)!

وكان للمدينة سور عظيم به اثنا عشر باباً. والسور يعبر عن الأمان والحماية، كما أنه يعبر عن الانفصال. بينما الأبواب تعبر عن الاتصال. فمن الناحية الواحدة انفصال لأنها مدينة مقدسة، ومن الناحية الأخرى اتصال لأنها ستحكم العالم. والاتصال هو عن طريق الأبواب التي تشير في الكتاب المقدس إلى القضاء. ونلاحظ أن الأبواب عددها 12 وهو رقم * يشار إلى هذا الرقم في هذا الجزء (21 :9 إلى 22 : 5) 7 مرات كالآتي : 12باباً، 12 ملاكاً، 12سبطاً، 12 أساساً، 12 رسولاً، 12لؤلؤة، 12 ثمراً. كما أنه يرد في هذا السفر 21 مرة * السلطة والحكم.

وللسور اثنا عشر أساساً أيضاً، تحدثنا على اختلافها عن أمجاد الرب المتنوعة، فعلي أساس صفات الله وطبيعته فإن خلاصنا وأمننا مضمونان.

والمدينة مكعبة، الطول والعرض والارتفاع نظراً لأنها مدينة سماوية فإن لها ارتفاعاً بالإضافة إلى الطول والعرض، بخلاف المدن التي على الأرض. متساوية مثل قدس الأقداس في كل من خيمة الاجتماع وهيكل سليمان.

وأبعاد المدينة 12 ألف غلوة وهذه إذا أخذت حرفياً تكون نحو 2400 كيلو متر (ضعف طول جمهورية مصر تقريبا)؛ مما يدل على أنها مدينة هائلة الضخامة حسب أحد المفسرين حجم المدينة -على اعتبار أنها مكعبة- فاتضح أنها حوالي ثلاثة آلاف مليون ميلا مكعبا. بينما كل مباني العالم ومنشآته اليوم 300 ميلا مكعبا. فكأن حجم المدينة السماوية يعادل 10 مليون ضعف منشآت هذا العالم! (The Triumph of the Crucified, by Erich Sauer, P :193) لتتناسب مع الأبناء الكثيرين الذين سيأتي بهم الله إلى المجد (عب2 :10)، والإخوة الكثيرين الذين سيكون المسيح بكراً بينهم (رو8 :29).

وضخامة المدينة تبدو أيضاً من قول الرائي «وقاس سورها مئة وأربعا وأربعين ذراعاً، ذراع إنسان أي الملاك» وهذا معناه أن ذراع القياس المستخدم هنا ليس ذراعاً عادياً، إذ أن أبناء القيامة سيكونون كملائكة الله . فأبعاد المدينة مع ضخامتها ليست إلا أبعاداً رمزية، أما الحقيقة فهي أسمى بمقدار ما سنسمو نحن أنفسنا عندما يغيّر المسيح شكل جسدنا الوضيع ليكون على صورة جسد مجده.

وأما الأبواب الاثنا عشر فكان كل واحد منها من لؤلؤة واحدة! صورة للكنيسة في نظر المسيح (مت13 :45،46)، فالمسيح أينما تطلع يري الكنيسة في جمالها ومجدها. كما أن الكنيسة بدورها أينما نظرت لن ترى إلا المسيح!

وسوق المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف. وعندما يقول الرسول «سوق المدينة» بالمفرد، فهذا يدل على أن هذه المدينة السماوية لن يكون فيها سوي طريق واحد (22 :2). ستنتهي الروح الطائفية، وتتم صلاة المسيح «ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد» (يو17 :22). ثم أن السوق هو الشارع التجاري ؛ أكثر المناطق اتساخاً وأكثرها مجالاً للكذب والغش. على أن هذا لن يكون في المدينة السماوية؛ فالزجاج الشفاف يشير إلى النقاوة، والشوارع الذهبية لن تعوزنا إلى غسل الأرجل.

بالإجمال نقول :حقاً ما أعجب هذه المدينة؛

سورها :يشب!

أساساتها :حجارة كريمة!

أبوابها :لؤلؤ!

شارعها :ذهب نقي كزجاج شفاف!

فهي لنا خير وطن هيا بنا نشدو إذاً وكل ما فيها حسن

نقول فليحيا الوطن

ولم يكن في المدينة هيكل. لأنه ليس هناك قرب خاص لجماعة دون جماعة. ولن نحتاج هناك لمن يعلن لنا الله، لأن الله سيكون ظاهراً لنا في المسيح. والمدينة كلها تُعتبر ليس فقط هيكلاً بل أيضاً قدس أقداس (لأنها مكعبة). «لم أر فيها هيكلاً، لأن الرب الله القادر على كل شئ هو والخروف هيكلها».

«والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها» سيغيب فيها النور المخلوق وينير الخالق نفسه «وتمشي (الشعوب) بنورها» أي على هديها، ومنها تستمد دساتيرها «وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها.. ويجيئون بمجد الأمم وكرامتهم إليها»؛ لكم تاقت بابل إلى السيطرة على الأمم والملوك، لكن القديسين الذين عاشوا في الأرض غرباء مستترين سيأتي الوقت الذي فيه يملكون مع المسيح!

«وأبوابها لن تغلق نهاراً لأن ليلاً لا يكون هناك». أنظر تذييل (4) من البدء فصل الله بين النور والظلمة، وهكذا قريباً ستكون الظلمة الأبدية من نصيب من أحبوا الظلمة لأن أعمالهم كانت شريرة، وتبعوا سلطان الظلمة. أما النور؛ أما النهار الكامل فسيكون من نصيب من أحبوا المسيح.

«ولن يدخلها شئ دنس ولا ما يصنع رجساً وكذباً».

نعم لن يدخل هناك الدنس النابع من فساد الجسد؛ لأن الروح القدس هناك.

ولن يدخلها رجس أي صنم يتعلق به القلب من هذا العالم؛ لأن الآب هناك.

ولن يدخلها ما يصنع كذباً، متعلماً من الشيطان الذي هو الكذاب وأبو الكذاب؛ لأن الابن هناك.

وطالما الآب والابن والروح القدس هناك فلا مجال إذاً للعالم ولا للشيطان ولا للجسد.

وحقاً إن عظمة هذه المدينة لا تبدو فقط مما هو فيها، بل أيضاً مما لن يوجد فيها. يخبرنا الرائي عن سباعية لن توجد في هذه المدينة :

لا هيكل -لا شمس ولا قمر (أنوار طبيعية)- لا سراج (أنوار صناعية) - لا ليل -لا أبواب تُغلق- ولا نجاسة تدنو!

وما لزوم الهيكل طالما أن الرب الله القادر على كل شئ هو والخروف هيكلها؟! وما لزوم الشمس أو القمر طالما أن مجد الله قد أنارها والخروف سراجها؟! وما لزوم السراج طالما أن ليلاً لا يكون هناك؟! وما لزوم إغلاق الأبواب طالما أنه لا احتمال لدخول الغريب أو الشرير؟ !

لكن لا زال هناك المزيد عن أوصاف هذه المدينة «الحسنة الجمال» حقاً. فيذكر أن هذه المدينة موجودة في وسط فردوس الله. ونحن نعلم أن الفردوس والمدينة لم يجتمعا معاً أبدا. فأول مدينة بنيت بعد فقدان الجنة. لكن هنا نجد ليس مجرد مدينة وجنة، بل مدينة سماوية وفردوس الله! وفي وسط هذا الفردوس «أراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور.. وشجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة (أي 12 نوعاً من الثمر) وتعطي كل شهر ثمرها». في آخر الأصحاح السابق قرأنا عن سفر الحياة، وهنا نقرأ عن ماء الحياة وعن شجرة الحياة. فالمسيح يعطي الحياة ثم يمدها بالإنعاش. ولعلنا نرى في نهر الحياة صورة للروح القدس، وشجرة الحياة صورة للمسيح.

ويشار إلى المسيح بالارتباط بالمدينة السماوية 7 مرات باعتباره الخروف :

فمن بنيت لأجلها المدينة :«العروس امرأة الخروف» (21 :9)

وأساسات المدينة :«رسل الخروف» (21 :14)

وهيكل المدينة :«الله القادر على كل شئ هو والخروف» (21 :22)

ونور المدينة :«الخروف سراجها» (21 :23)

ومن لهم حق دخولها :المكتوبون «في سفر حياة الخروف» (21 :27)

وأفراح المدينة ومتعتها :نهر الحياة الصافي الخارج من عرش الله والخروف (22 :1)

وَملك المدينة :«الله والخروف» (22 :3)

يستطرد الرائي قائلاً «وورق الشجرة لشفاء الأمم بالنسبة للشعب الأرضي لن يوجد المرض إطلاقاً (إش33 : 24) لكن يبدو أن الأمم سيكونون عرضة للمرض في حالات معينة. لأنه إذا كان الموت هو عقوبة التمرد العلني (إش65 : 20) فلا يستبعد أن يكون التقصير عقوبته المرض (قارن زك14 : 17-19). . ولا تكون لعنة ما في ما بعد» ستزول الأمراض، بل كل صور اللعنة. فبسبب آدم الأول أتت اللعنة للأرض، لكن في المدينة السماوية لا وجود للعنة على الإطلاق بفضل ربنا يسوع الذي صار لعنة (غل3 :13).

«وعبيده يخدمونه» هذا سيكون عملنا هناك. فنحن سوف نخدمه بتسبيحنا وسجودنا وشكرنا له. ألا يستحق ذلك؟ إذاً ليتنا من الآن «ونحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع، ليكن عندنا شكر به نخدم الله» (عب 12 :28).

«وهم سينظرون وجهه واسمه على جباههم» كان هذا مستحيلاً تماماً في الناموس (خر33 :20)، لكن في النعمة أمكن تحقيق المستحيل (يو1 :14)، أما في المجد فسيكون التمتع الكامل به (يو17 :24، 1كو13 :12، 1يو 3 :2) شكرا لله على هذا النصيب المستطاب.

فيا لحبٍ أزلي فكل ذا قد صار لي ويالأنعام ثمين من نعمة الفادي الأمين فنحن لنا بحسب هذه الأعداد القليلة نهر لا يجف، وشجرة لا تشيخ، وورق لا يذبل، وعرش لا يتزعزع، ونور لا يخبو، واسم لا يفقد بريقه المتجدد أبدا!

بهذا تنتهي النبوة. وما بقي من السفر هو تذييل له. إذ يقول الملاك للرائي إن هذه الأقوال أمينة وصادقة. فهي «أمينة» أي لابد أن تتم، و«صادقة» أي ليس فيها مبالغة.

ومرة ثانية حاول يوحنا أن يسجد للملاك مع أنه سبق وعرف أن هذا غير جائز (19 :10). وذلك لأن مناظر المجد أكبر من طاقة احتمال هذا الجسد وتجعلنا لا نعرف كيف نتصرف. ولولا أننا قبل وصولنا إلى المجد سنتغير إلى صورة جسد مجد المسيح لما استطعنا أن نحتمل المجد «نعلم أنه إذا أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1 يو3 :2).

والملاك يطلب من يوحنا أن لا يختم على أقوال النبوة. وهذا هو امتيازنا في العهد الجديد، لأن الروح القدس الذي فينا أتي من السماء ليخبرنا بأمور آتية. البعض بالأسف يعتبر أن هذه النبوة غامضة وينصح بعدم قراءتها، لكن الروح القدس نفسه يؤكد لنا أن سفر الرؤيا سفر مفتوح ويطوِّب من يحفظ أقوال نبوة هذا الكتاب (ع7، 10).

ثم يأتي (ع11، 12) بين عبارتين في منتهى الخطورة؛ فتسبقهما عبارة «الرب قريب»، وتتبعها عبارة «ها أنا آتي سريعاً». وكأن الرب يقول :علي من يريد أن يغير من حالته هنا، ومكانه هناك، فليسرع. لأن مجيء المسيح سيجعل تغيير الأوضاع مستحيلاً.

ويأتي الوعد للمرة الثانية بأن المسيح سيأتي سريعاً. ويضيف هنا أنه سيأتي ليجازي كل واحد كما يكون عمله. فيجازي البعض بالدخول إلى المدينة الذهبية، والبعض بالطرح في البحيرة الجهنمية (قارن ع14،15 مع 21 :7، 8).

وينتهي السفر كما بدأ بالاسم الحلو نسمعه من فمه هو له المجد «أنا يسوع » - لقد وُلد بهذا الاسم (مت1 :21)، وبهذا الاسم صُلب (مت27 :37)، وبه رُفع في المجد (أع1 :11)، وهو الذي نراه هناك إذ نرفع عيوننا إلى عرش العظمة (عب2 :9)، وها هو هنا بهذا الاسم عينه يحدثنا وهو في المجد. إنه لم يتغير بل «يسوع المسيح هو هو أمسا واليوم وإلى الأبد» (عب13 :8).

«أنا أصل وذرية داود» أي خالق داود وابن داود؛مصدر المواعيد ومتمم المواعيد. هذا بالنسبة للشعب القديم. لكن بالنسبة للكنيسة هو «كوكب الصبح المنير»، الذي يبزع وسط أشد ساعات الليل قتاماً، ليحمل معه النور، ولتبدأ إشراقة يوم جديد. لقد ختم العهد القديم بالوعد بشروق شمس البر (ملا4 :2)، لكن العهد الجديد يختم بما يسبق بزوغ الشمس، ذلك لأن مجيء المسيح لأجل قديسيه (رجاء الكنيسة) سيسبق مجيئه مع قديسيه ليملك على العالم.

وبمجرد ذكر هذا الاسم الحلو «يسوع»، والإشارة إلى هذا اللقب الغالى «كوكب الصبح المنير» انتعشت عواطف العروس، وعلّمها الروح القدس أن تنادي عريسها «تعال»، «الروح والعروس يقولان تعال»

فيا ربنا الغالي نفوسنا وأكثر ممن يرقب الصباح تتوق لك بالفعل ِنعدُ ساعات الليلِ«ومن يسمع» أي إن وجد مؤمن غافل وغير مستعد وصلت إليه هذه الأخبار وسمع هذا النداء «فليقل تعال»... «ومن يعطش»؛ إن وجد شخص ملّ ما يقدمه العالم من ماء لا يُروي «فليأت»... «ومن يُرد» وهنا تتسع الدعوة لتشمل جميع البشر «فليأخذ ماء حياة مجاناً». فكأن العروس بعد أن نظرت إلى أعلا وقالت للمسيح تعال، نظرت حولها وقالت للغافل تعال، ثم إلى كل العالم موجهة الدعوة إليهم؛ تعالوا.

ثم يأتي الإنذار النهائي بعدم الإضافة أو الحذف من هذه النبوة. يا للعجب فهناك من يريد أن يحذف مضمون السفر كله ولا يُبقي لنا شيئاً منه؛ فينكرون مجيء المسيح كالعريس لكنيسته، ومجيئه للعالم سواء ليدين أو ليملك!

وأخيراً نسمع صوت الرب نفسه قائلاً «أنا آتي سريعاً»؛ ليس أنا سوف آتي ، ولا حتى أنا سآتي ، بل أنا آتي سريعاً . إن العروس في ندائها لم تقل تعال سريعاً، لأن ما يميز رجاءها الآن هو الصبر؛ صبر الرجاء. لكن الرب يسوع يرد على عواطف العروس بالقول «أنا آتي سريعاً».

فإن كان ذا شوق قلوبنا وإن سهرت ها هنا الأعين فأشواقك أكثرُ فأنت كذا ساهرُ ولحين مجيء المسيح سريعاً للاختطاف فإن مياه النعمة الغنية ستظل تجري للنفوس البعيدة لتخليصهم (ع17) وللقديسين جميعا لتحفظهم وتشجعهم (ع21).

إن يوحنا يقيناً لم ينعم بمجيء الرب المبارك قبل رحيله من هذا العالم، لكنه بلا شك تمتع لآخر لحظة له هنا بالنعمة. وهو ما أرجوه لكل شركاء الرجاء المبارك.

« نعمة الرب يسوع مع جميع القديسين»

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.