لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

المسيح المتألم

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

4

صرخة الذبيح المتألم

يفتتح هذا المزمور بصرخة المسيح المتألم في الجلجثة، والتي هي العبارة الرابعة من العبارات السبع التي نطق بها الرب من فوق الصليب. تلك العبارة التي قيلت بعد ساعات الظلمة الثلاث بحسب ما نقرأ في بشارتي متى ومرقس. ففي الساعة التاسعة (وقت التقدمة المسائية) صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً «إيلي إيلي لما شبقتني» الذي تفسيره «إلهي إلهي لماذا تركتني».

صرخة الألم

يلفت النظر أن العبارة الرابعة من فوق الصليب، بخلاف باقي عبارات المسيح من هناك، سجلت بذات النطق الذي خرج من فم المسيح؛ أي باللغة الأرامية، ثم بعد ذلك ذكر لنا البشيران، متى ومرقس، معناها باليوناني، ومنها ترجمت إلي لغات العالم. وكأن الروح القدس أراد أن تخلد الأجيال والأبدية تلك الصرخة بذات الألفاظ التي خرجت من فم البار المتألم، والتي نطق بها من عمق أعماق الألم.

في هذه الساعات كان المسيح منفرداً تماماً ومتروكاً، لا من تلاميذه ومعارفه فقط، بل من الله أيضاً. وهي لحظات لا نظير لها في كل الزمان بل والسرمدية. وفي تلك الكلمات التي نطق بها المسيح نجد أحزان العالم كله مركزة في صرخة واحدة، هي عن يقين أرهب الكلمات المسجلة في كل الكتاب، بل وأكثر صرخة محملة بالرعب والأسى في عالم الخطية والأحزان الذي طالما تصاعدت منه صرخات الهلع والفزع.

تفتتح تلك الصرخة الرهيبة بعبارة «إيلي»، وهي اسم من أسماء الجلالة بالعبري، ويعني القوي. ونحن نعلم من أماكن أخرى في الكتاب أن الله في الدينونة قوي (رؤ18: 8). وهنا أيضاً، لما وضع الآثام على ابنه الحبيب، ولما جعله خطية، كان أيضاً قوياً يوم حمو غضبه (مرا1: 12، نا1: 6).

ما الذي حدث في تلك الساعات الرهيبة؟ لا أحد يستطيع أن يعرف، ولا حتى في الأبدية سنعرف. لا يوجد سوى الله والرب يسوع المسيح هما اللذان يعرفان حدود الكلفة الرهيبة العظيمة التي تكلفها المسيح على الصليب والذي يعبر عنها الرب يسوع بهذه الكلمات. ونحن في تلك الساعات التي ترك فيها المسيح من الله لا نسمع سوى الصمت، ولا نرى سوى الظلام! فماذا بوسعنا أن ندرك؟ على أنه بعد مرور ساعات الظلام نسمع صرخة تخرج من تلك الغرفة المغلفة بالأسرار، إنها صرخة ربنا المعبود يسوع قائلاً «إلهي إلهي لماذا تركتني؟».

لاحظ أن المسيح لم يقل لماذا خانني يهوذا ؟ أو لماذا خذلني بطرس ؟ أو لماذا خاف الجميع وهربوا ؟ إن ما جعل المسيح يصرخ ليس ترك التلاميذ له، بل ترك الله له.

اختبار فريد

سبق لنا أن أشرنا إلى أن هذه الكلمات لا يمكن أن تكون اختبار داود أو غير داود، لأن داود نفسه ذكر في مزمور 37 «كنت فتى وقد شخت ولم أر صديقاً تخلى عنه». فالله لا يتخلى عن البار، ولا يحول عنه عينيه (أي36: 7)، كما أنه لم يترك شخصاً طلبه، ولهذا تغنى له المرنم بالقول «يتكل عليك العارفون اسمك، لأنك لم تترك طالبيك يا رب» (مز9: 10).

وليس فقط الرب لا يترك البار بل حتى الأشرار هو الآن ليس بعيداً عنهم. فحتى هذه اللحظة ورغم أنهم بالفعل دائماً، وبالفم أحياناً «يقولون لله ابعد عنا وبمعرفة طرقك لا نسر» (أي21: 14)، إلا أنه لازال «عن كل واحد .. ليس بعيداً» (أع17: 27). وآه عندما يمسكهم الرب من كلامهم ويقول لهم «تباعدوا عني يا جميع فاعلي الظلم» (لو13: 27). لعلنا نتذكر كيف أن الملك شاول عندما علم أن الرب قد فارقه ورفضه انتحر. إن الناس في غباوتهم يقولون لله «ابعد عنا»، وهم لا يدركون أية حالة مرعبة سيكونون عليها إذا حدث ذلك.

لكننا حتى هذه اللحظة، ونحن نعيش في زمن النعمة، الرب ليس بعيداً حتى عن الأشرار، وهذا ما قاله الرسول بولس أمام حكماء أثينا الجهلاء! (قارن أع17: 30). يقول الرسول بولس لهم «فالذي تتقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أنادي لكم به». ثم يستطرد قائلاً «مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد» (أع17: 23-28).

لكن مع ذلك يوجد شخص واحد فريد، ومع أنه لم يكن خاطئاً، بل أقول إنه ليس مجرد بار كأولئك الذين وصفهم الكتاب المقدس هكذا، بل هو مطلق البر، ومع ذلك نسمعه يصرخ من فوق الصليب «إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي، عن كلام زفيري».

لكنه ليس فقط البار، بل إنه «الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب» (يو1: 18). ليس الذي كان في حضن الآب، وليس الذي صار في حضن الآب، بل الذي هو من الأزل وإلى الأبد في حضن الآب. ذاك الذي نسمعه في الأزل يقول «لما ثبت السماوات كنت هناك أنا ... كنت عنده صانعاً، وكنت كل يوم لذته، فرحةً دائماً قدامه، فرحةً في مسكونة أرضه» (أم8: 22-31). ثم عندما تجسد كان هو موضوع مزمور 91 «الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت». وهو القائل «جعلت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع» (مز16: 8). فالذي صرخ بهذه الصرخة الرهيبة هو إذاً صاحب الشركة غير المنقطعة مع أبيه من الأزل وإلى الأبد، وخلال كل الزمان أيضاً. ألم تكن هذه تعزيته عندما دنت ساعة الصليب التي كان فيها سيترك من كل أحبائه. لقد قال لتلاميذه «تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الآب معي» (يو16: 32).

يقول العارفون إن الكلمة الأرامية التي قالها الرب في صرخته لإلهه «لما شبقتني» تعني حرفيا لماذا سبقتني؟ لقد كانا معاً في رحلة رائعة بهيجة (انظرع9-11)، وبلغة الرمز كما قيل عن إبراهيم وإسحق «ذهبا كلاهما معاً» (تك22: 6،8)، يمكن أن يقال أيضاً وبصورة أعظم عن الآب والابن. لكنه الآن تركه خلفه وسبقه، فانقطعت الشركة السعيدة، وحل الظلام الرهيب! لهذا صرخ صرخة الفزع هذه.

ونلاحظ أيضاً أن المسيح طوال حياته على الأرض كان يخاطب الله بالقول أيها الآب (مت11: 25،26، يو11: 41، 12: 27،28، 17: 1،11،24،25)، ولما كان في البستان قال أيضاً «يا أبتاه» (مت26: 39،42) أو «يا أبا الآب» (مر14: 36)، بل حتى من فوق الصليب وجه عبارته الأولى والأخيرة للآب، إلا أنه هنا يوجه صرخة الترك هذه إلى الله قائلا له «إلهي إلهي». وليس عسيراً أن نُدرك السبب لذلك، فلقد كان في تلك اللحظات الرهيبة كالإنسان يمثل الإنسان أمام الله العادل الديان.

الأسد الجريح!

يقول المسيح «إلهي إلهي لماذا تركتني بعيداً عن خلاصي بعيداً عن كلام زفيري؟». ويتكرر تعبير البعد ثلاث مرات:

ع1 بعيداً عن خلاصي

ع 11 لا تتباعد عني

ع19 أما أنت يا رب فلا تبعد

ثلاث مرات يشكو من البعد .. إنه غير قادر على بُعد إلهه عنه ثلاث ساعات. فلقد كانت بالنسبة له كأنها دهر ممتد. ترى ماذا سيفعل الخطاة في أبدية لا تنتهي .. إلى أبد الآبدين سيكونون بعيدين عن مركز البركة والنور والسلام والمحبة ؟!

«بعيداً عن خلاصي عن كلام زفيري». وعبارة زفيري كما وردت في العديد من الترجمات تعني "زئيري". Roaring ها أسد سبط يهوذا جريح، يزأر متألماً من شيء فوق طاقة احتماله. وإن كان المخلوق الأعجمي لا يملك أن يعبر عن آلامه سوى بتلك الزفرات الرهيبة، فإن مفردات لغة البشر عجزت عن أن تعبر عما كان يحس به القدوس المتـألم!

وهنا نسأل : هل مجد لاهوته جعل المسيح لا يشعر بالألم؟ كلا، فهذا يتعارض مع حقيقة ناسوته. العكس هو الصحيح، فإن لاهوته جعله يحتمل، وناسوته جعله يحس تلك الآلام التي نعجز عن وصفها. وتمت في الجلجثة الصورة التي كان قد رأى موسى قديماً ملامحها عندما قال «أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم، لماذا لا تحترق العليقة؟» وكانت الإجابة أن الله كان في وسط تلك الشجيرة التي نبتت في الأرض اليابسة، والتي لم يكن لها اعتبار في عين الإنسان. (خر3: 3،4). لهذا لم تقضِ النار عليها في الحال، بل استمرت مشتعلة وقتاً طويلاً.

ثم يواصل المسيح فيقول «إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب، في الليل أدعو فلا هدوَّ لي». ونستطيع أن نفهم هذه العبارة بمعنيين. ففي كل أيام حياته علي الأرض كان الصليب ماثلاً أمام عينيه. لقد أشار إلى الصليب مراراً في حديثه مع تلاميذه (مت 16: 21، 17: 12، 22،23، 20: 17-19، يو2: 19، 3: 14،...). وطالما صلى لأجل هذا الأمر، في النهار والليل، كما نفهم من عبرانيين 5: 7

لكن في يوم الصلب كان يوجد أيضاً نهار وليل؛ ساعات النور وساعات الظلام. ولقد صلى الرب في النور كما صلى أيضاً في الظلام ولم تكن له استجابة! وهو لا يكف عن الصراخ، والله لا يجيب مطلقاً. ومع أن الله لا يستجيب، فإن المسيح يظل يدعو، لأنه لا خيار آخر أمامه. لكن أخيراً لما أتم المسيح العمل حدثت الاستجابة كما سنرى ونحن نتأمل في عددي 21، 24.

هذه هي بداية هذا المزمور؛ إنه يبدأ بسؤال بلا إجابة .. «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» ورغم أننا لا نجد إجابة صريحة على هذا السؤال، فالله لم يجاوب المسيح لأنه كان حقاً بعيداً عنه، لكن حيث لم يجب الله على المسيح فإن المسيح بروح النبوة يجيب قائلاً «وأنت القدوس الجالس بين تسبيحات إسرائيل»، وفي إجابته هذه برر الله.

المسيح برر الله لما لم يبرره الله

يعطي المسيح الإجابة عن سؤاله لماذا تركه الله وهي أن الرب هو القدوس، وأيضاً لأنه جالس بين تسبيحات إسرائيل؛ الشعب الخاطئ. كيف للقدوس أن يسكن وسط شعب نجس مذنب؟ الإجابة نجدها في يوم الكفارة المذكور في لاويين 16، والذي يحدثنا روحياً عنه هذا المزمور.

في يوم الكفارة كانت تقدم مجموعة من الذبائح، وكان في هذا اليوم فقط من كل أيام السنة يدخل رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس، وذلك ليكفر عن ذنوب ونجاسات بني إسرائيل وسيآتهم مع كل خطاياهم (لا16: 16،21). ولقد كانت الذبائح التي يدخل بدمها إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة تحرق أجسامها خارج المحلة. وغني عن البيان أن هذه الحيوانات بعد ذبحها ما كانت تحس بشيء. لكنها مجرد رمز باهت لذلك الذي كان في كمال الإحساس والوعي يحترق احتراقاً، في ساعات الظلام؛ تلك "الظلمة الخارجية"، التي كانت الظلمة على وجه كل الأرض مجرد مظهرها الخارجي.

ونلاحظ أنه في كل حياة المسيح كان الله يبرره. ولعل أوضح مثال لذلك نجده في معمودية المسيح من المعمدان . فعندما ذهب المسيح ليعتمد من يوحنا، ولئلا يظن أحد أن المسيح هو نظير البشر الخطاة الذين ينزلون في مياه الأردن بعد أن يعترفوا بخطاياهم، فإن السماء انفتحت له، والروح القدس نزل بهيئة حمامة واستقر عليه، وصوت الآب سُمع وهو يقول «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت». لقد برره الله هنا، كما في كل حياته أيضاً، إلا عند الصليب فإن الله لم يبرر المسيح!

ونحن نعرف لماذا صمت الله وهو يرى الناس تتهكم على المسيح وتتطاول عليه؟ ولماذا لم يبرر المسيح ؟ فلقد كان الله هناك لا ليبرره، بل ليجعله خطية، ولا ليعين بل ليدين، كما يقول الرسول بطرس «المسيح تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله» (1بط3: 18). لكن العجيب أنه عندما صمت الله ولم يبرر المسيح فإن المسيح هو الذي برر الله. فيقول في ع3 «وأنت القدوس»، وكأن المسيح هنا يقول لله إنك لم تستجب لي، ليس لشيء إلا لكونك القدوس، ولأني جعلت ذبيحة خطية. لهذا أيضاً أظلمت الدنيا، وانسحب النور من المشهد.

إلا أن هذه الفترة - فترة عدم تبرير الله للمسيح - كانت فترة صغيرة؛ فترة الصليب، وبعد ذلك فقد برر الله ابنه إذ أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات. فماذا لو أن المسيح ظل حتى الآن في القبر؟ لكان ما تهكم به الناس عليه حقاً (وحاشا أن يكون كذلك). فهم قالوا «قد اتكل على الله فلينقذه الآن إن أراده». ومع أن الله تركه يموت، ونحن نعلم لماذا تركه، لكن عندما مات لم يترك جسده في القبر، ولا ترك نفسه في الهاوية، بل عرفه سبيل الحياة بالقيامة من الأموات (مز16: 11).

إذاً ففي طول حياة المسيح على الأرض الله برره، وعند القيامة الله برره لكن في فترة الصليب عندما لم يبرره الله بل بالعكس جعله خطية (2كو5: 21)، ووضع عليه إثم جميعنا (إش53: 6)، فإن المسيح في ذلك الوقت هو الذي بـرر الله.

هذا يرتبط برمز جميل ورد في سفر القضاة 6، أعني به العلامة التي طلبها جدعون من الله، ليتأكد أن الله سوف يخلص إسرائيل بيده. فلقد طلب أن يكون طل على الجزة وحدها وجفاف على الأرض، وكان كذلك، حتى أن جدعون عندما عصر الجزة، خرج منها ماء ملء قصعة. ثم طلب جدعون علامة ثانية، وهي أن يكون العكس؛ جفاف على الجزة وحدها وعلى كل الأرض ليكن طل. ففعل الله كذلك‍‍‍!

ونحن في ضوء العهد الجديد يمكننا أن نفهم المعاني الروحية لتلك العلامة. فالمسيح الذي كان «كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها» (إش53: 7)، نرى صورة له في الجزة. فهو الذي في كل حياته كان عليه الطل الذي هو تعبير عن رضى الله وعن سروره به (تك2: 6، تث 33: 13، مز133: 3). في تلك الأثناء كان على الأرض كلها جفاف. فلقد نظر الله من السماء، ولم يجد أحداً يمكن أن يدخل السرور إلى قلبه إذ الجميع زاغوا وفسدوا، وليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد، لكن السماء عند معمودية المسيح انفتحت، ونظر الآب إلى المسيح وقال «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، وفي ذلك نجد أن الجزة وحدها كان عليها طل، وعلى الأرض كلهـا جفـاف.

لكن عند الصليب انعكست الآية. لقد صار عليه هو الجفاف. يقول «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي» (ع15). لقد صار جفاف شديد على الجزة، لكي يصبح على الأرض كلها طلّ!

والمسيح طالما كان الطل عليه كان الله يستجيب له، أما عندما كان عليه جفاف فإنه لم يستجب. وهو في كل حياته كان عليه طل؛ كان يصلي والله يستجيب له. وفي مشهد المعمودية عندما فتحت السماء له تأتي عبارة جميلة في لوقا 21:3 «وإذ كان يصلي انفتحت السماء». وعندما صلى عند قبر لعازر «رفع يسوع عينيه إلى فوق وقال أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي» (يو11: 41،42). فطالما عليه الطل، كان الله يستجيب له على الفور. وكأن الله يقول له لقد وجدت فيك سروري وفرحي، فكل ما تطلبه أستجيبه لك.

لكن أليس عجيباً أنه عند الصليب يقول المسيح «إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب»؟ لماذا يسمع الرب لي أنا الآن رغم أنني في ذاتي مليء بالخطايا ؟ الإجابة لأنه غضب على بديلي الكامل المبارك فوق الصليب، والآن هو لا يراني في الخطية إنما يراني في البار؛ يرانا في المسيح كالمسيح.

نعم كان لابد أن يكون عليه جفاف لكي يكون علينا نحن طـلّ!

النزول المزدوج

هل ندرك إلى أي درجة اتضع حبيبنا؟! اسمعه في هذا المزمور يقول تلك الكلمات العجيبة «أما أنا فدودة لا إنسان».

إنها مسافة لا تقاس؛ تلك المسافة التي بين قول الرب قديماً لموسى في خروج 3: 14 «أهية» أو أنا هو، وقوله بعد ساعات معدودة في الجلجثة «أنا دودة»!

وليمكننا فهم تلك المسافة بصورة أفضل دعنا نقسمها إلى نزولين لا نزول واحد. وما أعظمهما من نزولين نزلهما المسيح من أجلي ومن أجلك!

النزول الأول من السماء إلى الأرض؛ من حضن الآب إلى مزود بيت لحم. وذاك الذي مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل .. الأزلي الأبدي .. الذي لا بداية أيام له ولا نهاية حياة، يقول عنه الملاك للرعاة «تجدون طفلاً». واللابس النور كثوب، يصفه الملاك للرعاة بهذا الوصف «طفلاً مقمطاً» والذي يقول عنه سليمان إن السماء وسماء السماوات لا تسعه فكم بالأقل البيت الذهبي الذي بناه له، يقول عنه الملاك «تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود».

تفكري يا نفسي في أعجوبة الأعاجيب هذه. إنه أمر فوق المدارك أن الله العظيم يقال عنه تجدون طفلاً، واللابس النور يلبس أقمطة كأي طفل صغير، بل ويضجع في المذود، كما لم يحدث مع باقي الأطفال. والذي لا تسعه السماء وسماء السماوات لم يولد في بيت ذهبي أو حتى ترابي، بل ولد في مذود إذ لم يكن له موضع في المنزل!!.. فما أعظم هذا الاتضاع «بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16)، «والكلمة صار جسداً وحل بيننا» (يو1: 14)، لاق بالنبي أن يقول «من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب» (إش53: 1).

لكن هذا كله كان فقط المرحلة الأولى في اتضاعه، وليس كل الاتضاع. حقاً لقد صار إنساناً، وهو يقول عن نفسه أكثر من مرة إنه إنسان .. في نبوة زكريا 13: 5 يقول «أنا إنسان فالح الأرض»، وفي إنجيل يوحنا 8: 40 يقول «أنا إنسان كلمكم بالحق». الله العظيم رضي أن يقول عن نفسه إنه «إنسان». لكن هناك مرحلة ثانية يعبر عنها هنا بالقول «أما أنا فدودة لا إنسان».

في خطوة الاتضاع الأولى؛ نزل من السماء إلى الأرض «وضع قليلاً عن الملائكة» لكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة وضع أيضاً قليلاً عن البشر . «أما أنا فدودة لا إنسان»، وذلك عندما مضى إلى الجلجثة، وعُلق فوق الصليب.

وعن هذا النزول المزدوج والتواضع المثنى يقول الرسول بولس «نزل أيضاً أولاً إلى أقسام الأرض السفلى» (أف4: 9) وهذا معناه الموت. فالمسيح لم يتجسد فقط بل إنه مات. ليس فقط ضمه مذود بل ضمه أيضاً قبر، ليس فقط لفوه بالأقمطة بل أيضاً لفوه بالأكفان. محيى الرميم الذي له وحده عدم الموت سيق للصلب واللحد!!

دعونا نتخيل يوسف الرامي ونيقوديموس وهما ينزلانه من على الصليب بلا حياة، بلا حراك. إنه ليس فقط ضعيفاً كطفل تحمله الأيدي؛ أيدي رجل عجوز أو امرأة ضعيفة؛ يدا سمعان أو يدا المطوبة مريم، بل لقد أسلم الروح ومات!

«إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما». هذا هو النزول الأول، «لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت» (عب2: 14)، وهذا هو النزول الثانـي.

«أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس (النزول الأول) وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (النزول الثاني) (في2: 7،8).

في تواضع يفوق المدارك فإن سيدنا العجيب أخذ جسداً وحل بيننا، لكنه بهذا الجسد مضى لأجلنا إلى الصليب. أولاً لبس بشريتنا بالتجسد، ثم عند الصليب لبس خطايانا!!

هل وعيت أيها القارئ العزيز الآن لماذا كانت صرخة البار المتألم؟ ولماذا خاطب الله في الجلجثة قائلاً له «لماذا تركتني؟» إن تسبيحات إسرائيل (بلغة كاتب هذا المزمور)، بل وتسبيحات كل المفديين في السماء الجديدة والأرض الجديدة، مؤسسة على صرخة البديل هنا.

لقد ترك الله ابنه الحبيب لأنه في ذلك الوقت أخذ مكاننا ووقف موقفنا. تحمل المسيح وزر حالتنا الخاطئة وحياتنا الخاطئة. وترك هو مؤقتاً لكي لا نترك نحن إلى الأبد!!

منفرداً فوق الصليب قد تُركت
والآن عن يمين الله قد رُفعت

 

ولم تجد حولك عيناً أشفقت
تردد السماءُ مدحَ ما فعلت

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.