لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

يهوذا الإسخريوطي .. التلميذ الذي رفض محبة الرب يسوع المسيح!!

لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

خادم الرب د. فايز فؤاد

 

 

 

يهوذا الإسخريوطي ..

التلميذ الذي رفض محبة الرب يسوع المسيح!!

 

«يهوذا الإسخريوطي» ... اسم من الأسماء التي تحمل إلى ذهني، ليس فقط دلالة ومعنى محبة المال والرياء والخيانة والغدر، بل دلالة أكثر رعبًا؛ رفض محبة الرب يسوع المسيح الحانية المتأنية المترفقة.

لقد سار يهوذا الإسخريوطي مع النور الحقيقيّ الذي جاء إلى العالم، لكنه لم يُقبل إلى النور، وأحب الظلمة أكثر من النور، لأن أعماله كانت شريرة، ولم يُرد أن يأتي إلى النور لئلا تُوبَّخ أعماله (يو3: 19-21). ولقد حاول الرب يسوع المسيح، بكل وسيلة، أن يُنقذ هذه النفس المريضة، وكانت محبة الرب الغنية المتفاضلة ترفرف فوق حياته، تُحيط به، ترثي له وتشفق عليه، وكان الرب يُظهر له أعمق مظاهر رحمته وشفقته، وكان يجذبه بحبال البشَر برُبط المحبة، لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه. لقد سلَّط الرب عليه إشعاعات قوية من رحمته وصلاحه لكي ينتشله من وهدته، ولكي ينقذ من الحفرة حياته وينجي من السيف نفسه. ولكن يهوذا الإسخريوطي رفض - حتى الموت - محبة المسيح؛ رفض الانطراح في أحضان محبته، وهرب من محضر نعمته الغنية المُخلِّصة، فلم يبقَ له إلا الهلاك والظلمة الخارجية حيث البكاء وصرير الأسنان إلى أبد الآبدين.

وهاكم ـ أيها الأحباء ـ بعض من أدلتي على مقدار عظمة وتفاضل محبة الرب يسوع ليهوذا:

أولاً: لقد رتَّب له الرب يسوع المسيح «الإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ ... وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ» (أع17: 24-26)، رتّب له أن يخرج من نفس السبط، سبط يهوذا، الذي طلع منه ربنا ـ تبارك اسمه ـ حسب الجسد ... في للحظوة!! ..  ويا للشرف!!

فاللقب «الإسخريوطي» ـ في اللغة العبرية ـ مركب من كلمتين هما: "إيش" و"قريوت". وكلمة "إيش" في العبرية معناها "رجل"، وكلمة "قريوت" هي اسم قرية. فيكون معنى لقب «الإسخريوطي» هو "رجل من قريوت".

أما عن "قريوت"، فقد ذُكر في العهد القديم قريتان تسمتا بهذا الاسم: كانت قريوت الأولى في موآب (عا2: 2)، أما قريوت الثانية فكانت في اليهودية ومن ضمن نصيب سبط يهوذا (يش15: 25). ولا مجال للظن أن يهوذا الإسخريوطي كان أمميًا موآبيًا انحدر من "قريوت" التي في موآب، ولذلك يمكننا أن نقرِّر أن يهوذا الإسخريوطي كان يهوديًا من قريوت، من مقاطعة اليهودية. إذًا فهو التلميذ الوحيد الذي انحدر من اليهودية، بينما جاء كل التلاميذ الآخرين من الجليل. لقد خرج «الإسخريوطيّ» من نفس السبط الذي طلع منه ربنا يسوع المسيح حسب الجسد.  ويا له من امتياز كان يجب أن يُشعره بالألفة والقُرب للرب يسوع المسيح أكثر من جميع التلاميذ، وهو الأمر الذي لم يحدث على الإطلاق من جانب يهوذا، فنحن لا نقرأ أبدًا، طوال رفقته للرب، عن حديث متبادل بينه وبين الرب يسوع!

ثانيًا: لقد اختار الرب يسوع «يهوذا الإسخريوطيّ» تلميذًا وهو يعلم تمامًا ماذا سيفعل (يو6: 70)، وأعطاه الفرصة الكاملة، كما يُعطي لأي إنسان شرير على الأرض، لأنه لا يعاقب على إثم قبل حدوثه، ولا يمنع إنسانًا من فرصة طيبة يمكن أن يقتنصها، حتى يستد كل فم، ولا يحتج أحد أمام الله بأنه لم يُعطَ فرصته الكاملة في أرض الأحياء .. وهنا يمكن أن نقف مشدوهين، إذ كيف يحب المسيح ذاك الخائن، ويُطعمه ويأويه، وهو يعلم أنه يقترب من الخيانة يومًا بعد يوم .. ولكن «يهوذا» يُعطينا نموذجًا عجيبًا على صبر المسيح وحنانه وإشفاقه على أشر الخطاة وأحط الأثمة.

ونحن نعلم أن المسيح اختار تلاميذه بعد ليلة قضاها في الصلاة، وهو لم يختره اعتباطًا، ولا اختاره ليكون خائنًا. فمن المؤكد أنه كان يملك وزنات طبيعية حباه بها الله، وأحاطها الرب يسوع المسيح بكل ما يمكن أن تُحاط به الوزنات، لعلها تنمو وتُستخدم على أفضل صورة، ولكنه ـ للأسف الشديد ـ دفنها ونظر إلى سيده كما نظر صاحب الوزنة الواحدة، واتهمه بالشدة والقسوة والصرامة، من غير حق (مت25: 24-28).

واختيار الرب ليهوذا تلميذًا، لم يكن مجرد اختيار شكلي يُمكِّن يهوذا من الاحتجاج بأنه وضع "صورة" فحسب، دون أن يمارس المسئولية فعلاً، لأن المسيح اختاره أمينًا للصندوق، وبهذا فقد جعله الرب موضع ثقة وتقدير. ومن الجائز أنه كان أقدر التلاميذ من الوجهة المالية، وأقدر من متى العشار نفسه. في للمكانة الممتازة التي تمتع بها يهوذا بين الاثني عشر!!

ومع أنه كان أمينًا للصندوق، إلا أنه تجاهل تحذيرات الرب يسوع عن الطمع والرياء (مت6: 19-21؛ لو12: 1-3) واستغل الأموال لحسابه. ولتغطية جشعه، فقد تظاهر بالغيرة على الصندوق (يو12: 4-6). ولعل التعليم الذي قدَّمه الرب يسوع عن محبة المال، كان مُهدى بصورة مباشرة إلى التلميذ «يهوذا الإسخريوطي». ولكن بدلاً من أن تساعده تحذيرات الرب على التغلب على محبة المال والطمع والأنانية، فقد أشعل المنصب الذي وُضع فيه أنانيته وطمعه، فصار سارقًا، يبتز ما بقي في الصندوق الذي عُهد به إليه (يو12: 6، 13: 29). واستطاع يهوذا أن يخفي حقيقة شخصه عن بقية التلاميذ. وعدم فهم التلاميذ لحقيقة يهوذا، يُرينا أن معاملة الرب لذلك الرجل لم تتغير رغم أنه كان يعرف كل شيء عنه، وآخر عمل عمله معه أنه أعطاه اللقمة رمزًا للود والمحبة «وَالْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ» (أم10: 12؛ 1بط4: 8).

وبالإضافة إلى أن يهوذا تمتع بتقدير الرب يسوع، إذ اختاره أمينًا للصندوق، فإنه أيضًا تمتع ـ مثل باقي التلاميذ ـ بسلطان عظيم، وانتعش برسالة الملكوت التي أوصاه الرب أن يكرز بها. واختبر خضوع الشياطين فاستطاع أن يُخرجها بسلطان عظيم، وشفى كثيرين بموهبة الشفاء التي أُعطيت له، طهّر بُرصًا وأقام موتى (مت10: 1-8؛ مر3: 13،14؛ 6: 7-13؛ لو9: 1-6). وبالرغم من كل هذه الأمور العظيمة، لم يقتنع الإسخريوطي بالتراجع عن العمل الذي كان مزمعاً أن يأتيه.

ثالثًا: وفي عشاء الفصح الأخير في العُلية، كان الصراع عنيفًا بين الراعي المُحب: الرب يسوع المسيح، وبين الذئب المفترس: الشيطان؛ من أجل يهوذا. ورضي الرب يسوع أن يسعى إلى قلب يهوذا بالمحبة. فقد ركع «السَيِّد والمُعلِّم» على ركبتيه وغسل أرجل التلاميذ، وغسل أيضًا رجلي يهوذا!! ..  ويا له من منظر يُثير الدهشة!!

جلس التلاميذ مأخوذين، وقد ظهر عليهم الخجل، إذ كانوا يتنازعون فيما بينهم: مَنْ يكون الأعظم (لو22: 24-27). عندئذ شعروا بالاتضاع، وأحسّوا بالمحبة واللطف يعمّ كيانهم، وبشعور الدهشة والسرور تركوا سيدهم يفعل ما يسّره أن يفعله بهم.

واستمر الرب يغسل أرجل تلاميذه في تنازل واتضاع، في صمت وهدوء، حتى جاء دور سمعان بطرس الذي أظهر اعتراضه فتوقف العمل حينًا. وحدّثنا الرسول يوحنا في إنجيله عن احتجاج بطرس الشديد على عمل الاتضاع العجيب هذا، ولكنه لا يذكر شيئًا من هذا القبيل عن يهوذا. ولو أنه كان يليق بأحد التلاميذ أن يعترض على ذلك التصرف من السيد والمعلم، لوَجب أن يكون هو يهوذا بل منازع. فقد كان ينبغي أن يذكر خطيته المطمورة في قلبه، فيرفض أن يقترب منه السيد والمعلم متضعًا بهذه الدرجة!

اقترب الرب يسوع حيث جلس يهوذا في مقعده، وانحنى أمامه على الأرض بكل تواضع ومحبة، وغسل رجليه كما غسل أرجل كل التلاميذ. وتصوّروا معي: «ربي وإلهي» يغسل أوساخ القدمين، ويتطلع في وجه يهوذا. هل انسكبت دموع غالية من عينيه الطاهرتين، لتأخذ مكانها عند القدمين الملوثتين؟ لقد كان "حلو اليدين" يُخاطب قلبه، وكان يقرع على باب قلبه. كانت القرعات قوية تجسَّمت فيها كل معاني المحبة وإنكار الذات، فقد ركع السَيِّد والمُعلِّم على ركبتيه، وغسل رجلي يهوذا!!

ألم تلتقِ نظراتك يا يهوذا وقتئذ بعيني سيدك؟! ألم تحس بقشعريرة تسري في بدنك لتحرِّك مشاعرك عندما لامست اليدين الطاهرتين قدميك المتسخة؟! كيف جاهدت حتى تضبط مشاعرك؟! وكيف جرحت أحاسيس المُحب الذي ألقى إليك بحبه الغامر لإرجاعك عن طريق الهلاك؟! كيف احتفظت بصمتك فلم تتكلم؟! كيف أفلتَّ من نظرات الرب حتى لا تخونك أعصابك كما خنت أنت سيدك؟! كيف بعد كل هذا استطعت أن تخون المجيد الفريد الذي «إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى» (يو13: 1)؟

وبعد أن أكمل السيد غسل الأرجل، أخذ المنشفة التي اتزر بها، وكان يجفِّف الأرجل التي أزال أوساخها في صمت مُطبق ورهيب. وأمام صمت المُعلِّم، ربما أخذ يهوذا يُمنّي نفسه بأمنية كاذبة: "ربما لا يعرف المُعلِّم شيئاً عن عزمي". ولربما أخذ يعزي نفسه بهذه الهواجس المحمومة .. ولكن الرب يسوع قطع حبل التفكير والظنون بكلماته الرائعة: «ﭐلَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ. وَأَنْتُمْ طَاهِرُونَ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّكُمْ». وعلم يهوذا ـ تمام العلم ـ لماذا اضطر الرب يسوع أن يضع هذا التحفظ في تصريحه «لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ لِذَلِكَ قَالَ: لَسْتُمْ كُلُّكُمْ طَاهِرِينَ» (يو13: 10،11). ورغم هذا التصريح المباشر، لم تحرِّك هذه الكلمات قلب يهوذا ولا ضميره، وتسلّلت الكلمات من أذنيه ومن قلبه، ومرّت كغيرها دون أن يحرِّك ساكناً ... في للقساوة!!

رابعًا: وفي هذا المقام، جاء تحذير آخر، وجهه الرب إلى التلميذ الذي كان مُزمعًا أن يخونه. وفي هذا التحذير أشار الرب إلى جريمة مُشابهة أخذت مكانها على مسرح أحداث العهد القديم؛ جريمة الخائن القديم أخيتوفل الذي خان سيده الملك داود، مسيح الرب، الأمر الذي أدىّ به في النهاية إلى الانتحار. لقد قال الرب مُحذراً: «اَلَّذِي يَأْكُلُ مَعِي الْخُبْزَ رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (يو13: 18؛ مز41: 9). أما كان يجب أن يسترجع يهوذا من كلمات التحذير الجديد صورة العقاب الذي يصيب الإنسان بسبب رفضه محبة ابن الله، المسيح الرب؟

لقد كان موقف يهوذا من الرب هو تمامًا موقف أخيتوفل من داود ..

خان أخيتوفل سيده داود، وه يهوذا يحيك المؤامرة كي يخون سيده الرب يسوع ..

أكل أخيتوفل من خبز داود، وها يهوذا يأكل مع الرب يسوع من صحفة واحدة ...

وخيانة أخيتوفل أدّت به في النهاية إلى الانتحار .. فحذار ي يهوذا .. حذار .. إن الطريق الذي تسير فيه خطر.

أولم يعلن الرب أيضًا، في محبته ورحمته، القضاء الرهيب: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلَكِنْ وَيْلٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مت26: 24؛ مر14: 21)؟ وكان قصد الرب يسوع من كلمات ذلك القضاء أن يتذكر يهوذا الخطر الذي كان يُسرع إليه فيتراجع عن الجريمة التي أوشك أن يرتكبها. وبكل أسف، لم يرَ يهوذا ذلك التشابه بينه وبين أخيتوفل، ولم يصدِّق شيئًا مما قيل أمامه. في للإصرار!! ...  ويا للعناد!!

خامسًا: ثم جلس الرب يسوع إلى المائدة مع تلاميذه، وأخذ كل واحد من التلاميذ مكانه المخصَّص له. وفي تلك الأيام كان الضيوف يجلسون على وسائد على الأرض ويتكئون في جلستهم إلى الأمام، فيضطجع الواحد بجسمه مُحملاً على ساعده الأيسر، بينما يتناول الطعام والشراب من المائدة التي أمامه بيده اليُمنى. وبالتأكيد، كان الرب يسوع – السَيِّد والمُعلِّم -  يجلس في الوسط، وعلى يمينه يوحنا الحبيب لأنه كان «مُتَّكِئاً فِي حِضْنِ يَسُوعَ» (يو13: 23). ولكن ماذا عن الجانب الأيسر من المُضيف ورئيس المُتكأ، والذي جرى العُرف القديم أن يجلس فيه ضيف الشرف في الوليمة، وعُرف عن ذلك المكان أنه مكان الصدارة والشرف لأهم ضيف في العشاء كله، وجرت العادة الشرقية القديمة أن يتكئ المُضيف برأسه على صدر ضيف الشرف الجالس على يساره، ويُطعمه بيده. مَنْ ي تُرى الذي جلس على الجانب الأيسر من الرب يسوع المسيح؟!

لا يمكن أن نفترض للإجابة على ذلك اسم سمعان بطرس، فقد احتاج الأمر أن يومئ بطرس إلى يوحنا لكي يسأل الرب نيابة عنه عمن هو الذي يسلمه (يو13: 24). فإن لم يكن بطرس هو الذي جلس على الجانب الآخر من الرب يسوع، فمَنْ يكون إذاً؟!

أرجو - عزيزي القارئ - ألاّ تتعجب عندما تعلم اسم التلميذ الذي شرّفه الرب بالجلوس عن يساره، مُميزًا إياه عن غيره، فلم يكن ذلك التلميذ سوى «يهوذا الإسخريوطي» .. في للشرف!!

وقد يتطرق الشك إلى قلوب الكثيرين من هذا الاستنتاج. فكيف يرضى الرب أن يجلس يهوذا بجانبه؟! وكيف يضعه في نفس الدرجة التي يضع فيها يوحنا «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ»؟! ويدحض البشير متى كل شك بما تضمنه إنجيله، فقد شعر كل التلاميذ بالأسف عندما أنبأهم سيدهم أن واحدًا منهم سيسلمه، ومن أجل ذلك سألوه جميعًا: «هَلْ أَنَا هُوَ يَا رَبُّ؟». وردد يهوذا السؤال للرب، يشفعه بلقب بارد، كتلك الألقاب الرسمية المتداولة بين الناس، ««هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟» (اي مُعلِّم؟ Is it I, Rabbi ). فأجابه الرب بهذه العبارة الصريحة: ««أَنْتَ قُلْتَ» (مت26: 20-25). وليس من المعقول أن التلاميذ سمعوا هذه الإجابة ولم يحركوا ساكنًا. إذًا لم تطرق أسماعهم كلمات الرب الخطيرة التي أجاب بها سؤال يهوذا. ولو سمع أحد شيئًا من ذلك، لمَا كان بطرس يومئ برأسه إلى يوحنا، يوعز إليه أن يسأل الرب عن اسم الشخص الذي يقصده بالذات. ولو أن التلاميذ سمعوا الإجابة، ما تركوه يمضي لكي يوقع المُعلِّم والسَيِّد المحبوب في أذى أو شر. ولا يوجد شرح أو تعليل لصمت التلاميذ أمام هذه الكارثة التي أوشكت على الوقوع، غير أنهم لم يسمعوا ذلك التصريح الذي أجاب به الرب يسوع تلميذه الخائن، ولم يكن ممكنًا أن يمر الأمر بهذه السهولة ما لم يكن الرب قد نطق بتلك الإجابة بصوت منخفض يكفي لتوصيلها إلى أذني يهوذا وحده.

ونتصور الرب يجلس، يميل على يهوذا ويهمس في أذنه بالرد على سؤاله. ثم تظهر ملامح الصورة كاملة، فنرى الرب يجلس بين يوحنا الحبيب من ناحية، ويهوذا الإسخريوطي من الناحية الأخرى.

وكانت الصورة مظهرًا رائعًا للمحبة الإلهية، الفائقة المعرفة، التي تتسم أحيانًا بالغموض وعدم الفهم من جانبنا، فقد ظل الخائن في عناده وإصراره، رغم احتلاله المكان المقرَّب من قلب سيده، ورغم لفتات الحب العجيب، ولم تُذِب هذه المنزلة الخاصة قلبه فيتوب ويرجع عن غيه، بل تقسى قلبه أكثر وتحجَّر. ولربما ظن أن خطته في مأمن من الرب يسوع نفسه، فلو أن سيده كشف ما اعتزم أن يفعله، ما رضي أن يُجلسه في ذلك المكان القريب من قلبه.

سادسًا: ومرة أخرى حاول الرب أن يبرهن ليهوذا أنه مع معرفته بكل شيء، فإنه لا يزال يحبه. ولقد كانت العادة لدى اليهود أن يغمس الشخص لقمة في الصحفة المشتركة، ويعطيها لضيف الشرف في الوليمة، علامة على المحبة الخاصة والتقدير. ولهذا فإن الرب عندما غمس اللقمة وأعطاها ليهوذا، كان الرب قد أجاب على سؤال يوحنا: ««يَا سَيِّدُ (يا رب) مَنْ هُوَ؟» (lord, who is it? )، بالقول: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ» (يو13: 25،26). إلا أن الرب لم يُعطِ اللقمة، رمز المحبة، كعلامة ليوحنا ولبطرس فقط، ولكنه رغب في أن يؤكد ليهوذا أنه بالرغم من معرفته الكاملة، إلا أن قلبه لا يزال مملوءًا بالحب له.

وقصد الرب بهذه الوخزة أن يستيقظ ضمير يهوذا النائم. وكان يكفي أن ترسم هذه المحاولة الأخيرة أمام يهوذا الخائن صورة الراعي الصالح الذي يُفتِّش عن خروفه الضال. ولم يكن أمام يهوذا سوى فرصة واحدة باقية؛ هذه الفرصة هي أن يتجاوب مع محبة المخلِّص، ويواجه نفسه بصراحة، ويدرك الخطية التي سقط فيها، ثم يطلب غفران الرب ورضاه. ولكن طالت مقاومة الإسخريوطي حتى انتهى به الأمر إلى حالة من العصيان والقساوة، جعلته يسلم نفسه بكبرياء وغرور للشيطان «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ» (يو13: 27).

عندما تسطع الشمس على بِِركة ماء راكدة، فإن أشعتها التي تُبهج الخليقة، تُخرج من البِركة رائحتها المنفّرة التي لولا هذه الأشعة لظلت كامنة حبيسة. وهكذا محبة الله، فهي دائمًا رائحة حياةٍ لحياةٍ أو رائحة موتٍ لموتٍ. ويبدو هنا أن نفس قوة محبة المسيح قد دفعت يهوذا إلى ما يكاد يكون الجنون بعينه. وإذ أغلق قلبه بإصرار دون المخلِّص ومحبته، فتحه للشيطان، «فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ». وعلى التو رأى الرب التغيير، وعلم أنه لن يمكنه أن يعمل شيئاً أكثر من هذا لينقذ هذا التلميذ من الحفرة التي حفرها لنفسه، ولذلك قال له الرب: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَاعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ» (يو13: 27).

فعند ذلك الحد انتهى الصراع العجيب الذي أخذ مكانه في العُلية، وصدر الحكم على يهوذا بتركه يعمل. كان الرب يسوع يعمل كل جهده حتى لا ينجرف يهوذا في ذلك التيار، لكنه إذ أصرَّ على أن يعمل، ودخل الشيطان قلبه ليعمل، فليعمل. وهكذا أسلمه الرب إلى شهوة نفسه وإلى عناد قلبه ليفعل ما لا يليق (رو1: 24،28). لقد أحبَّ أجرة الظلم والإثم، فأسلمه الله للهلاك. كان قلبه كالصوَّان، فقد طال عهده بالقساوة، فأسلمه الله إلى قساوة قلبه ليتمِّم به مقاصده. وإذ قد باعد بين الرب يسوع وبين نفسه، لم يكن أمامه سوى التدهور إلى حضيض الهاوية. وانقض النسر على الجثة التي فارقتها الحياة، وكانت نفس كلمات المسيح مقسية لقلبه وختمت على هلاكه.

وخرج يهوذا من العُلية، ولم يعرف التلاميذ الآخرين إلى أين كان ذاهبًا، ولو أنهم عرفوا ما كان يدور في قلبه، ما تركوه يمضي من العُلية بسلام. لعلهم ظنوا أن يهوذا مضى بعد العشاء ليعّد التقدمات التي كانوا سيقدموها للفقراء في العيد (يو13: 29).

لقد خرج يهوذا إلى ليلٍ حالك السواد، لم تخفف من حدة سواده سوى ومضة واحدة، وذلك عندما حاول الرب مرة أخرى في البستان أن يمس قلب يهوذا بهذه الكلمات: «يَا صَاحِبُ لِمَاذَا جِئْتَ؟» ... «يَا يَهُوذَا أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟» (مت26: 50؛ لو22: 48). ومَنْ كان يتصوّر مثل هذه الرقة في ظرفٍ كهذا؟! في نظر الكثيرين كان من الأنسب أن يقول له الرب: "اذهب عني يا شيطان"، لكننا نسمع صوتًا كنبرات صوت أبٍٍ مُحب أراد أن يرُّد نفس الابن السائر في طريق الغواية. وهكذا نجد أن الرب لم يترك وسيلة، بل سمح، وفي البستان، بقَرعة أخيرة على باب قلبه.

ولقد وصف الرب يسوع يهوذا الإسخريوطي بالوصف البالغ الأسى «ابْنُ الْهلاَكِ» (يو17: 12). وقال عنه أيضًا: «كَانَ خَيْراً لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ» (مت26: 24؛ مر14: 21). وكيف لا، وقد خرج من حضرة الرب يسوع المسيح ليواجه ليله الأبدي «فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكَانَ لَيْلاً» (يو13: 30). لم يكن ليله مجرد ليل الطبيعة الذي أرخى سدوله في كل مكان، بل كان الليل الأعمق في داخله الذي حلََّ فيه الشيطان وملأه ظلامًا. ليلٍ في الخارج، وليلٍ في الداخل. وكما لو كان رداء الظلام الأسود رمزًا متجاوبًا مع سواد الظلام الذي كان يلف نفسه. وهذا المخلوق التَعِس، الذي رفض وبإصرار محبة الرب يسوع، والمبيع بجملته تحت سلطان قوات الظلمة، أصبح الآن مهيَّئًا ليرتكب أبشع جريمة في التاريخ.

ولقد ندم يهوذا على فعلته أخيراً، وقال: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئًا» (مت27: 4). ولكن هذا الاعتراف بالخطية كان أشبه باعتراف فرعون الذي قال لموسى: « أَخْطَأْتُ» وكان أشبه باعتراف شاول عندما قال لصموئيل: «أَخْطَأْتُ لأَنِّي تَعَدَّيْتُ قَوْلَ الرَّبِّ» أو عندما قال لداود: ««قَدْ أَخْطَأْتُ. ارْجِعْ يَا ابْنِي دَاوُدُ» (1صم15: 24، 26: 21). وكانت النقطة المهمة في مثل هذا الاعتراف أنه إحساس بالجُرم دون الالتجاء إلى رحمة الله ومحبته!! فذهب يهوذا إلى الليل الأبدي بدون رجاء!! وهكذا كل مَنْ باع الرب يسوع المسيح، ورفض محبته، واستبدلها بمتاعٍ أو شهوةٍ أرضيةٍ، لن يجد أمامه إلا الموت والمقبرة المُخيفة، والظلام والليل الأبدي.

عزيزي، إن الجرثومة التي عملت في يهوذا، توجد في كل واحد منا، وقد تنمو وتتكاثر قبل أن ننتبه لها، وإن كنا لا نضع أنفسنا في وقت مبكر تحت حماية النعمة الإلهية والمحبة الفدائية، فإن الشيطان لا يكف عن أن «يَجُولُ، كَأَسَدٍ زَائِر،ٍ مُلْتَمِساً مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8)، فليتك تُسرع لأجل خلاص نفسك، ولا تهدأ إلا بعد أن تلقي بنفسك في أحضان محبة الرب يسوع المسيح الرقيقة العطوفة الحانية، التي تسمو على الخطية، والتي تتعظم في خلاص أشرّ الخطاة إذا لجأوا إليها ... وإياك أن تفعل كما فعل «يهوذا الإسخريوطي» وترفض محبة الرب يسوع.

فايز فؤاد

 

أما وقد كان يهوذا أميناً للصندوق، فلا شك أن ذلك يؤكد أنه مصدر ثقة ولعل الرب يسوع أراد أن يؤكد له أنه على استعداد أن يمنحه كل ثقة وأن يشجع التلاميذ أيضاً على الثقة فيه. «المحبة تستر كل الذنوب» (أم10: 12؛ 1بط 4: 8)

لكي يجتذبه إلى أحضانه ويستره تحت ظل جناحيه

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة ©  لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.