لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

محاضرات في

الرسالة إلى العبرانيين

صموئيل ريداوت

1999

المحاضرة الثانية

الابن في تواضعه

« قليلاً عن الملائكة »

2: 5 - 18

الجزء الذي استعرضناه سابقاً من الرسالة قدّم لنا المسيح، له المجد، كابن الله المتجسد، كما ظهر للناس. ونحن ما كنا لنعرفه كابن الله الأزلي لولا أن الله أعلن لنا هذه الحقيقة. ولكنه عندما يأخذ مكانه في خليقته يجئ الإعلان فوراً بأنه ابن الله. وفي هذه الرسالة يحرص الله غاية الحرص أن يؤكد لنا صفته الإلهية في كل كمالها، على غرار ما رأينا في تفاصيل الأصحاح الأول كما تكشفت لنا. ومع ذلك فالجزء الذي أمامنا الآن يبدو متناقضاً تمام التناقض مع رأينا في ذلك الأصحاح. فإذا كنا رأينا هناك غيرة روح الله على صيانة مجد الابن الإلهي، فإننا نراه هنا يؤكد بنفس الحرص الحقيقة الهامة وهي أنه إنسان. هذا هو « سر التقوى العظيم »، أنه « الله الظاهر في الجسد » يقيناً؛ ومع ذلك فهو بالجسد إنسان كامل، حتى إننا نستطيع ونحن نتفرس فيه أن نقول ليس فقط إننا نرى « مجده كما لوحيد من الآب »، بل نستطيع أيضاً أن نقول إننا هنا أمام « الوسيط بين الله والناس الإنسان يسوع المسيح ».

والملاحظ المدقق يرى أن روح الله، وهو يتحدث عن لاهوت الرب يسوع المسيح أو ناسوته، لا يستخدم في الحالتين كلمة واحدة تمنع أو تحول دون الفكر الكامل الذي قصد إليه في الحالتين، وهو أنه الله وإنسان في وقت واحد. فعندما يتكلم عنه كالله يتكلم هكذا بلا قيد أو حد؛ فأنت في ذلك الجزء من الكلام أمام خالقك وفي حضرة إله ورب العناية، ويتحتم عليك الانحناء والسجود أمامه. وعندما يتكلم عنه كإنسان فأنت بنفس الكيفية أمام شخص له كل مميزات الإنسان الكامل الحقيقي ما عدا الخطية.

فلم يكن الأمر قاصراً على ظهوره في الجسد، في صورة بشرية، أو أنه كان له ذهن بشري أيضاً - ذهن كامل جليل إنساني - بل كانت له أيضاً عواطف إنسانية. وبعبارة أخرى، في الجسد والنفس والروح، كان إنساناً مطلقاً؛ كاملاً كما كان الله بصفة كاملة أيضاً. إن على الإيمان أن يكون حريصاً دائماً: أولاً، أن يتمسك بالحق كاملاً، وأن يقبل كل ما يعلنه الله، ثم يترك للروح القدس مهمة تنسيق ما قد يبدو متناقضاً لأول وهلة. إن الغلطة العظمى التي يقع فيها الناس هي محاولة استبعاد جزء من حق الله، أما السبيل للحصول على النور فهو أن ترحب به كله. دع روح الله يفسر ما قد يستعصي على أذهاننا الضعيفة المحدودة؛ ولنتأكد أن الحق كله متناسق مع المجد الإلهي، وواجبنا قبوله جميعاً.

وهكذا، في الجزء الذي يشغل انتباهنا الآن، نرى ناسوت الابن مُعلَناً لنا بكل وضوح. فإذا قلنا إن موضوع الجزء الأول « ابن الله »، فإننا نقول بنفس اليقين إن موضوع الجزء الحإلى هو « ابن الإنسان ».

« فإنه لملائكة لم يخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه. لكن شهد واحد في موضع قائلاً: ما هو الإنسان حتى تذكره؟ أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟ وضعته قليلاً عن الملائكة. بمجد وكرامة كلّلته، وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيء تحت قدميه. لأنه إذ أخضع الكل له لم يترك شيئاً غير خاضع له. على أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له. ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة، من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد » (2: 5-9).

هنا نجد الملائكة مرة ثانية، فلم ينتهِ منهم الرسول بعد. في الجزء الأول كانت مشغوليته إظهار تفوقالمسيح عن جميع الملائكة، هناك في مجده الفريد الذي لا يستطيع أي كائن من مخلوقات الله أن ينازعه إياه لحظة واحدة؛ فهو هناك فوقهم جميعاً، وعند إدخاله إلى هذا العالم تؤمر جميع الملائكة أن تسجد له. وهنا نجدهم مرة ثانية، ولكن الفكرة مختلفة عن ذلك كل الاختلاف.

إن الملائكة، أول كل شيء، لن يكونوا سادة المستقبل، عندما تدخل الأرض في عهد البركة الذي تنتظره، لأن ذلك ما تعنيه العبارة التالية: « فإنه لملائكة لم يُخضع العالم العتيد الذي نتكلم عنه ». فالعالم العتيد معناه الأرض في الملك الألفي، حينما يُكبح جماح الشر ويُعلن مجد ملكوت الله إعلاناً كاملاً. إنه العصر الذهبي الذي يتطلع إليه البشر بشوق شديد، وهو العصر الذي ينتظره شعب الله القديم استناداً على ما تعلمهم إياه النبوات.

ويقال لنا هنا إنه العصر الذي لن تكون فيه الملائكة سادة أو حكاماً. فالله لم يخضع ذلك لهم بل على العكس « شهد واحد في موضع قائلاً »؛ ونحن نعلم أن تلك الشهادة واردة في مزمور8، ولكن مما له دلالة عظيمة أنه لا يقال إن الذي شهد هو « داود » أو حتى « المرنم »، بل « شهد واحد » وذلك لأن الحقيقة المعلنة هي بيت القصيد، وليس أين أو لمن أعلنت. « شهد واحد في موضع قائلاً: ما هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده ».

إن المزمور الثامن مزمور عجيب من حيث مكانه ومن حيث مضمونه، ففي الجزء الأول من السفر تأمل المرنم في المبادئ الكبرى والموضوعات التي ستشغل تفكيره خلال السفر كله. نرى ذلك في المزمور الأول حيث يطالعنا بصفات البقية الأمينة في طاعتهم لله وانفصالهم عن الشر ولهجهم في كلمة الله، وما يستتبع ذلك من ثمر، بخلاف النهاية التي تنتظر الأشرار الذين كالعصافة تبيدهم الدينونة. ثم في المزمور الثاني يصف ولاءهم للملك الممسوح من الله، والذي سيأخذ مكانه على العرش في الجبل المقدس، كما رأينا في تأملاتنا في الأصحاح الأول. بعد ذلك يصف كل مقاومة العدو كما نجدها في المزامير 3-7. وفي المزمور الثامن، بعد أن ألقى نظرة على كل الميدان، يتطلع ثانية إلى الله وينادي بجلال اسمه: « أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السماوات. من أفواه الأطفال والرضع أسست حمداً بسبب أضدادك لتسكيت عدو ومنتقم ». إنها لَمباينة رائعة مباركة وجميلة هذه، مجد الله ينادي به بأفواه آلات ضعيفة كالأطفال، في حين يستد ويبكم فم العدو المنتقم بفعل وقوة الحمد المتصاعد من فم الطفولة، كما حدث حينما وصل سيدنا أورشليم بين هتاف الأولاد الصغار. ثم يسترسل المرنم في تأمله، وبعد أن يستعرض السماوات بنظرة من نظراته، يتملكه العجب وهو يتأمل قوة الله الهائلة في الخليقة فيصبح قائلاً « إذا أرى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده ». إن الله قد وضع السماوات بأصابعه، وقد بيَّن قوته وحكمته ومجده في هذه الأعمال التي لا يستطيع العقل البشري الضعيف أن يحدها « السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه ».

نعم لقد لاق بذلك المتطلع المتأمل، وهو واحد من أولئك الأطفال والرضع، إذ أخذ هنا مكانه المتواضع، وتطلع إلى ذلك المجد غير المحدود، أن يقول: إني عندما أتفكر في كل تلك القوة والحكمة البادية في الخليقة فمن أكون أنا؟ « ما هو الإنسان (أي إنسان، عظيماً كان أم حقيراً) حتى تذكره؟ أو ابن الإنسان (الإنسان في معناه المطلق أو الإنسان المثالي) حتى تفتقده ». إننا نستطيع أن نقول عن الإنسان باعتباره خليقة الله إنه من أضعف مخلوقات الله إذا قيس باعتبارات معينة. فإذا تطلعنا إلى السماوات، وكان لنا بعض العلم عن الفضاء اللامحدود الذي يمتد إلى ما وراء آخر حدود البصر، والذي تفوق مقاييسه عن كل مقاييس البشر، بحيث أن الزمن الذي يستغرقه الضوء وهو يمرق بسرعة البرق من نجم إلى نجم يقاس بالسنين، وعندما نتصور عدد وضخامة هذه الأجرام السماوية وترابطها واعتمادها على بعضها وتكتلها في مجموعات منتظمة، لكل منها مدارها ونظامها الخاص المتناسق مع المجموعات الأخرى، عندما نلاحظ ذلك كله نبدأ نكوّن فكرة ضئيلة جداً عن عظمة وجلال ومجد ذلك الكائن الذي أصابعه عملت هذا كله، وهو الذي يحملها ويحفظها جميعاً.

ومع ذلك كله فالخليقة نفسها هي الشهادة والدليل على اتضاع ذاك الذي هو فوق كل أعماله بغير حدود، فهي من هذا الوجه ظل سابق لذلك الاتضاع العجيب الذي سيكون موضوع تأملنا الآن، والذي تجلي في ذاك الذي إذ كان في صورة الله أخلى نفسه آخذاً صورة إنسان.

وهكذا يتجلى صغر الإنسان بالمقارنة مع عظمة خليقة الله اللانهائية فوقه. وإذ نعبر إلى الكائنات السماوية نرى الوحي يقارنه بالملائكة « وضعته قليلاً عن الملائكة »؛ فالملائكة أرواح خالصة مسكنها السماوات، وفائقة القوة لا يثقلها جسد الطين الذي يربطنا بالأرض. أما الإنسان فيحمل في ذاته شهادة ضعفه، حلقة اتصاله بالحياة الحيوانية (النفس) ثم بالأرض التي تحته (الجسد)، بجانب حلقة اتصاله بالله (الروح). ولكن ليس إزاء الخليقة وحدها يبدو الإنسان ضعيفاً. فعندما نتذكر أنه كائن ساقط، وأن الحلقة التي كان يمكن أن ترفعه من كبوته وخرابه قد قطعها بيده (أي حلقة الاتصال بالله)؛ عندما نتذكر ذلك لا يسعنا إلا أن نشهد قائلين: ما أتعس الإنسان وما أبأسه.

ثم يمضي المرنم قائلاً: « وضعته قليلاً عن الملائكة بمجد وكرامة كللته وأقمته على أعمال يديك. أخضعت كل شيء تحت قدميه ». وهنا يذكرنا الوحي مرة ثانية بالخليقة عندما قال الله « نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض ». وبالاختصار وضع الله كل شيء تحت يد الإنسان، فكان الإنسان رأساً لخليقة الله بحسب مشيئته. ولكن إذا كان ذلك صحيحاً فيما يتعلق بالخليقة، فإن الوحي يذكّرنا مرة أخرى أن الخطية دخلت والسقوط تم، وبذلك سقط من يد الإنسان الصولجان الذي كان من حقه أن يتسيد به فوق الخليقة. فالإنسان الساقط ليس سيداً على كل هذه الخليقة إطلاقاً. إنه يستطيع أن يرى وضاعته، وأن يعترف بانحطاطه، وبأنه أقل من الملائكة. وعندما يكون الأمر متعلقاً بتتويجه بالمجدد والكرامة وإقامته على أعمال يدي الله، فإنه إذا كان أميناً لابد وأن يعترف أن هذه السيادة هي بالاسم فقط، وإنها سيادة جزئية، وأن الحالات التي تبدو فيها أعظم ما تكون، إنما هي شهادة ودليل على عدم كمالها إطلاقاً.

فلنتأمل فيما هو جارٍ حولنا اليوم، إننا نعيش في أيام سيادة الإنسان. لقد أظهر ماذا يستطيع عقله أن ينجز، وماذا يستطيع التنظيم أن يصنع في مجالات السياسة والتجارة والثقافة والفن. وعندما نتلفت حولنا اليوم نرى أن سلطان الإنسان على الأرض قد وصل إلى حد جعل الكثيرين يعتقدون أن هذا إتمام سيادته فوق الخليقة. ولكن ماذا نجد؟ الإنسان كحاكم على هذا العالم، ماذا عمل بحكومته؟ هل تجد أن حكومة الإنسان متجاوبة مع فكر الله؟ ثم أنظر إلى عقل الإنسان؛ هل أرشده عقله إلى وجوب الخضوع لله وطاعته؟

أليس الواقع اليوم، أكثر من أي يوم مضى، إن العالم لم يعرف الله بالحكمة، وأن ذات الحكمة التي كان يجب أن تكون نوراً ما هي إلا ظلام. وأنها تستبعد الله أكثر فأكثر من أذهان الناس؟ وهكذا في كل مجال من مجالات الحياة تبدو عظمة الإنسان وقوته - كما وصفها أحد الشعراء - كعظمة ملك صوري على رأسه تاج مزيف، أو « شبه » تاج. فالمسألة لا تتعدى شبه سيادة، والإنسان في الواقع ما هو إلا مخلوق مسكين مغرور، وسيادته على الخليقة ما هي إلا صورة أو ظل.

ولكن ماذا يقول الإيمان وسط كل هذا الخراب؟ هل يقول إن كلمة الله لا أساس لها؟ حاشا وكلا. ففي وسط هذا الخراب والانحطاط اللاصق بالخليقة القديمة، يرى الإيمان تدبير الله، ويقول بملء اليقين « لأنه إذ أخضع الكل له لم يترك شيئاً غير خاضع له. على أننا الآن لسنا نرى الكل بعد مخضعاً له ». لاحظ كلمة « بعد »، إن العالم يتطلع إلى عهد عظيم من السلام والمجد للإنسان، ولكن الإيمان يقول « ليس الآن ». فمهما تم وجرى تحت حكم الإنسان، فإن للإيمان كلمته الأكيدة الواحدة: « ليس الآن ». ولكن ماذا يقول الإيمان عندما تستوضحه الخبر اليقين عن الإنسان ومجده وسيادته التي يتحدث عنها الكتاب؟ جوابه « يسوع ». نعم « يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة ». فالرب يسوع هو الإنسان بحسب قلب الله، هو إنسان مشورات الله. هو ابن الإنسان، ذلك اللقب الذي اتخذه لنفسه - له المجد - لما كان هنا على الأرض، الذي فيه تتمركز كل المشورات، والذي بواسطته سيتمم الله أمجاد تلك السيادة التي تعم العالم كله والخليقة كلها كما نقرأ عنها في مزمور8. نعم « يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة ».

وهل له الآن السيادة على كل شيء؟ هل كل شيء موضوع بعد تحت قدميه؟ الواقع أن يسوع محتقَر اليوم في العالم كما كان يوم صلبه، مرفوض من الجميع ما عدا الذين يقبلونه كمخلصهم وربهم. ولكن الإيمان يستطيع أن يقول بحق « ولكن الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع نراه مكللاً بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت ».

نعم. إننا نرى السيد الذي أخذ مكانه بين خليقته صنعة يديه، وسط الناس الذين هم أقل من الملائكة، ليس فقط لكي يساعد الناس لإخراجهم من تعاستهم بإعطائهم مثلاً حياً يستطيعون اتباعه في طريق الحياة، ولكنه اتخذ مكانة أقل من الملائكة لغرض واحد معين، هو الموت. فالواقع أن الصليب كان يلقي ظله على مذود بيت لحم، تماماً كما كان يلقيه على جثسيماني وعلى الجلجثة نفسها. إنه، له المجد، صار إنساناً لغرض واضح صريح؛ هو ألم الموت. ولكن الإيمان يراه أكثر من مخلّص متجسد، أكثر من مخلّص متألم على الصليب. الإيمان يتطلع الآن إلى حيث هو جالس على عرش الله، ويعلن قائلاً « الذي وضع قليلاً عن الملائكة يسوع، نراه مكللاً بالمجد والكرامة ».

دعنا نلاحظ هنا شيئاً جميلاً للغاية؟ إن الإيمان يثَّبت عينه على المسيح، ولا يرضى بتحويلها عن ذلك الغرض المبارك، حتى يراه جالساً على عرش العظمة في الأعالي. ربما كان يخطر بالبال أن الإيمان، بعدما رآه له المجد في تجسده، يقف هنيهة ويتكلم عن فوائد مثاله الذيضربه لنا في الحياة والسلوك، أو بعد موته على الصليب يقف الإيمان متحدثاً عن فوائد خلاصه. كلا، ليس هذا وحده هو تفكير الإيمان. إن الإيمان يحتم أن يراه أولاً، وقبل كل شيء، عائداً إلى حيث كان جالساً على عرش الله، ليتخذ مكانه له المجد في الأعالي، المكان الذي أعطاه الله إياه كمن تمم عمله الفدائي، عندئذ يعود الإيمان ليذكر أنه جاء إلى هذا العالم « لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد ». ونحن نعرف نتائج موته، حيث شرب الكأس المريرة حتى آخر قطرة فيها. إنه حمل كل ما كان يعنيه الموت لنا، القطع من أرض الأحياء وفقدان جميع انتظاراته كملك إسرائيل، والحرمان من السيادة المطلقة على العالم؛ كان موته يعني ذلك كله، ولكن فوق كل ذلك وأكثر من كل ذلك، تحوَّل الله نفسه عنه وصبَّ كل غضبه ودينونته عليه! نعم إنه ذاق كأس الدينونة حتى الثمالة من أجل كل الخليقة.

لست أظن أن الروح القدس يضَّيق الدائرة أو يصنع لها حدوداً، فليس الكلام عمن يقبلون العمل الكفاري أو لا يقبلونه. فنحن نعلم أنه إن لم يقبله الإنسان فلا فائدة منه إطلاقاً. إن الشمس تشرق بنورها على الجميع، ولكن العميان يظلون مع ذلك في ظلمتهم. فالذين يرفضون المسيح لا ينتفعون البتة بالفداء الذي صنعه. ومع ذلك فإن قيمته كاملة، كاملة لكل واحد، للجنس البشري بأجمعه، فإن أذرع النعمة مفتوحة لترحب بكل من يقبل ذلك العمل الإلهي العجيب الذي فيه الكفاية لكل أولاد آدم. كل من يرد فليأت. ويا لها من تعزية، إننا عندما ننادي بالإنجيل، وعندما نعلن محبة الله، فإننا نفعل ذلك بلا تحفظات نخفيها، وبغير أن يخامرنا أدنى شك في كفايتها لكل واحد. بل نستطيع أن نقول بملء الفم واليقين: « إنه بنعمة الله قد ذاق الموت لأجل كل إنسان ». وألا يمكن أن تكون الدائرة أوسع من ذلك؟ نعم بكل يقين، ذلك لأن كلمة « كل واحد » هنا يمكن أن تشمل ليس فقط الجنس البشري بل كل الخليقة أيضاً، فإن كل شيء في السماء والأرض وُضع أساس مصالحته بموت المسيح، حتى أن السماوات نفسها كمشهد عصيان الشيطان، سيتم تطهيرها بتلك الذبيحة عينها، فإن موته هو الأساس الراسخ، الذي عليه تقوم الخليقة الجديدة كلها والذي عليه تستقر وتستريح الأرض الألفية، والسماوات الجديدة والأرض الجديدة، ولا شيء من هذه كلها يمكن أن يتزعزع لأنه ذاق الموت لأجل كل شيء. يا له من فرح، ويا لها من لذة، أن نعلم أن سعادتنا الأبدية والجو الذي فيه سنستمتع بهذه السعادة، يستقران كلاهما على أساس عمل كامل قد وضع الله ختمه عليه، إذ أجلس على عرشه ذاك الذي قام بإتمامه!

هناك إذاً نجد الجواب الإلهي على السؤال « من هو الإنسان »؟ فعندما تخرج في الليل متطلعاً إلى النجوم الساطعة فوقك، وتبدأ تشعر بتفاهتك وسط كل هذه الخليقة العظيمة التي خلقها الله، وعندما تهاجمك ذكرى خطاياك وخطية الجنس البشرى، وتضغط عليك بقوة مضاعفة، وتبدو كأنها تحطمك تحطيماً، وتشعر بمذلة نفسك حتى التراب، وعندما يكاد يبتلعك اليأس؛ تذكر أن هناك إنساناً على عرش الله فوق النجوم، وأن هذا الإنسان هو مقياس أفكار الله من جهتك. وحينما نسأل أنفسنا « ما هو الإنسان حتى تذكره » نستطيع أن نقول أن نقول: ها هو هناك جالس عن يمين الله، وملائكة وسلاطين وقوات وكل أعمال يديه مخضعة له.

آه أيها الأخوة الأحباء، إنه لموضوع يحلو للقلب التأمل فيه، ويدعو للسجود والتعبد واللذة، إذ نتفكر في ذلك الإنسان المبارك الذي اتضع مرة حتى الموت، والآن نراه جالساً عن يمين الله في الأعالي، وإنه جواب الله على التساؤل المحيِّر « ما هو الإنسان؟ ».

« لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام. لأن المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة، قائلاً: أخبر باسمك أخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك. وأيضاً: أنا أكون متوكلاً عليه. وأيضاً: ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله. فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين، خوفاً من الموت، كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية. لأنه حقاً ليس يمسك الملائكة، بل يمسك نسل إبراهيم. من ثَمَّ كان ينبغي أن يشبه اخوته في كل شيء، لكي يكون رحيماً، ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين » (2: 10-18).

نأتي الآن إلى شيء من التوسع في هذا الموضوع المبارك والدخول فيه بشيء من التفصيل. فإذا كنا نتطلع في الجزء الأول إلى مجد ابن الإنسان الفائق، فإننا هنا نراه يمسك بالنعمة والمحبة أولئك الذين سيتقدمون به.

ثم أنظر إلى الجمال الرائع والنعمة الفائقة في هذا العدد العاشر « لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام ». وكلمة « لاق » معناها ما يتفق مع كل ما هو الله أو يوافق ويناسب طبيعة الله. وماذا كان الله مزمعاً أن يصنع؟ كان مزمعاً أن يأتي بأناس إلى المجد، ذلك كان غرض الله العظيم. ومن هم الذين كان مزمعاً أن يأتي بهم إلى المجد؟ أبناء كثيرين. فلم يقنع بالإتيان بأناس قليلين إلى المجد، ولا حتى بكثيرين، بل يأتي بهم إلى المجد في علاقة أبدية معه كبنين. إنه لمن السهل علينا أن نتصور فداء الله لنا بدون أن يأتي بنا إلى علاقة البنين، كان يكفيه أن يعطينا مكاناً بعيداً في مجده. ولكن أفكار الله أسمي من ذلك بكثير؛ إنه يريد أن يكون له أولاد حوله. يجب أن يكونوا أولاداً مفديين ولاشك، ولكنهم أولاد في كل قرابة وفرح الوجود في حضرة آب.

وكيف كان سيأتي بأبناء كثيرين إلى المجد؟ كان يجب أن يكون ذلك عملاً عظيماً مباركاً كاملاً يوجدنا أمامه في كامل قرابة وثقة البنين. وكان يجب أن يعمله بكيفية لائقة بطبيعته وصفاته التي لم يكن يستطيع مخالفتها أو التجاوز عنها بحال من الأحوال. فلم يكن يستطيع مخالفة قداسته في تعامله مع أناس نجسين، ولم يكن يستطيع مخالفة بره في تعامله مع أناس كسروا كل ناموس سبق أن أعطاه لهم، ولم يكن يستطيع مخالفة كلمته أو أية صفة من صفاته. نعم، لم يكن يستطيع مخالفة مقتضيات عرش مجده الذي يجلس عليه من الأزل إلى الأبد؛ بل كل شيء كان يجب أن يكون متفقاً اتفاقاً كاملاً مع مشوراته ومجده وأغراضه. والواقع أننا نرى في الفداء كل صفة من صفات الله وقد تمجدت تماماً. وفي الإتيان بأبناء كثيرين إلى المجد قد مجد الله ذاته، أعلن طبيعته وأظهر كل صفة من صفاته. وقد فعل ذلك بأن جعل رئيس الخلاص وصانعه كاملا بالآلام.

وهنا أود أن أقف هنيهة لأقول كلمة فيما يتعلق بأي سوء فهم قد يتبادر إلى الذهن حول هذه النقطة، وإن كنت متأكداً أن شيئاً من سوء الفهم هذا لا يمكن أن يخالج فكر أي مسيحي يقظ. إن المسيح لم يكن بحاجة لأن يكمل سوى باعتباره رئيس خلاص. وما معنى هذا؟ إننا نعلم علم اليقين أنه الكامل دائماً؛ كان "القدوس" قبل ولادته، كان الكامل طوال حياته الخاصة، الكامل في كل خدمته، الكامل في جثسيماني، بل لم يكن في وقت من الأوقات أكمل كمالاً مطلقاً مما كان حينما تعلق دامياً على الصليب كحمل بلا عيب ولا دنس. كان له المجد كاملاً في كل ناحية من نواحي حياته. وإنه لَتجديف رهيب أن يخطر على الفكر أي ظن بعدم الكمال فيما يتعلق بشخصه. ومع ذلك، ورغم كماله الشخصي المطلق، كان - له المجد - بحاجة لأن يكمَّل كرئيس الخلاص. كما يقول هو عن نفسه في مكان آخر:« أشفي اليوم وغداً وفي اليوم الثالث أُكمَّل » (لو13: 32).

كان لابد أن يأخذ مكانه كرئيس خلاص كامل، والطريقة الوحيدة لتكميله لأن يصير كذلك، كانت بالآلام. إني أقول بكل إجلال واحترام إن كمال سيدنا الشخصي المطلق والمبارك ما كان ليفيدنا بدون الصليب، وما كان ليتدخل إطلاقاً في أمر خلاصنا بدون الصليب. بل بالعكس إن كماله ما كان إلا ليديننا أكثر، وما كان إلا ليكشف لنا بطريقة رهيبة مرعبة خرابنا وفسادنا وعدم استحقاقنا الكلي. كان يمكنه أن يصعد إلى حيث كان قبلاً، ولكنه لو فعل ذلك بغير طريق الصليب لكان في ذلك هلاكنا، ولبقينا إلى الأبد في خطايانا. ولكن رئيس الخلاص الكامل قد تمم الفداء بكيفية هكذا كاملة، حتى أنه يستطيع أن يضع يده الواحدة على ذات عرش الله، والأخرى على الخاطئ النجس، وينطق بتطهيره تطهيراً كاملاً.

والآن قد استطاع، باعتباره رئيس الخلاص الكامل، أن يقرن نفسه بنعمة كاملة وجميلة مع شعبه « لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة ». فالمسيح بفضل عمله الكامل، قد قدّس أو أفرز وخصص شعباً لله، هذا هو تقديس الروح. ثم هناك ما يمكن أن نسميه تقديس الآب، وذلك باختياره إيانا في المسيح قبل تأسيس العالم، هذا هو التقديس بحسب مشورات الله. ولكن التقديس المتكلم عنه هنا هو عمل المسيح الذي حررنا إلى الأبد من سلطان الشيطان والخطية، وأوجدنا أمام الله كشعبه المفدي. وحاشا لي أن أقول إن عمل المسيح بالنسبة للمؤمن الحقيقي يمكن أن يكون منفصلاً عن عمل الروح في الداخل. إنه قائم بذاته، ولكنه غير منفصل عن عمل الروح.

« لان المقدِّس والمقدَّسين جميعهم من واحد ». هنا أعجوبة أخرى من عجائب النعمة. إن المقدس لنا ونحن المقدسين جميعنا من واحد، تابعين لشركة واحدة أو أسرة واحدة، أو كما قال لنا مفسرو كلمة الله المكرمون « جميعهم من آب واحد ». إني شخصياً لا أستطيع أن أجزم جزماً مطلقاً أن « الواحد » المشار إليه هنا هو الآب، لأن ذلك ليس موضوع الرسالة العام، ومع ذلك فليس هناك من شك في الاعتقاد القوي بأن هذا قد يكون المعنى الحقيقي، وذلك لأنه يتحدث عنهم كأخوته، ولكن مهما كان المعنى الكامل لهذه العبارة « جميعهم من واحد »، فإنها تتحدث عن اقتراننا بالمسيح الذي تنازل إلى حالتنا كرئيس الخلاص متخذاً مكانه بيننا، وبالموت جاء بنا إلى المكان الذي اكتسبه لنا. من أجل هذا لا يستحي أن يدعونا إخوة، وأن ينطق بشفتيه المباركتين هذا اللقب الذي يعبّر عن أقرب وأعز العلاقات. فنحن نذكر أنه عندما قام ربنا المبارك من الأموات أشار إلى تلاميذه باعتبارهم اخوته حين قال لمريم، بعد قيامته « اذهبي إلى اخوتي وقولي لهم إني أصعد إلى وأبيكم وإلهي وإلهكم ».

نلاحظ هنا أنه يقول « لا يستحي »، إنه لَتنازل غير محدود. حاشا لنا أن نتجه إليه ونقول إنه أخونا، كما يقول أحياناً بعض المسيحيين في غير تقدير كامل لعظمته، حينما يتحدثون عن الرب يسوع باعتباره « أخاهم الأكبر ». حاشا، فإذا كان هو في كامل تنازله بالنعمة يستطيع أن يخاطبنا كأخوته، فإننا نترك له حقه المطلق في استعمال هذه اللغة. أما الإيمان فإنه يقف دائماً مخلوع النعلين ومنحنياً بقلبه أمام النعمة الكاملة والمحبة الكاملة. فلنترك الأمر حيث يتركه الكتاب. إن القلب يرقص طرباً متهللا بالفرح عندما يستمع إلى هذه الكلمة خارجة من شفتيه الكريمتين، ونحن نسجد له ونباركه من أجل النعمة التي تنازلت لتدعونا إخوة له، بل التي أتت بنا إلى مكان القرب لإلهه وإلهنا وأبيه وأبينا.

ثم يطالعنا الوحي بثلاثة اقتباسات تعطي شهادة كاملة لهذا الذي كنا نتأمل فيه، أي أن له الحق في أن يتحدث عنا الآن كأخوته.

الاقتباس الأول مأخوذ من المزمور الثاني والعشرين « أخبر باسمك أخوتي وفي وسط الجماعة أسبحك ». إنه لَمزمور عجيب، يدور الجزء الأول منه حول الصليب، حيث جُعل ربنا المبارك خطية لأجلنا، وهناك وهو في أعمق أعماق آلامه نجده متروكاً من الله، مضطهَداً من الناس، والكلاب تحدد لسان بغضها وحقدها ضده، ويداه مثقوبتان ومسمرتان بالصليب. ومع ذلك، وفي وسط هذا كله، بعد مرور سحابة الغضب الإلهي، نسمع القول إن الله قد استمع إليه من قرون بقر الوحش، وهكذا بعد أن كمل عمل الفداء وأسلم روحه للآب نجد تبايناً مباركاً. فليس هو المتروك فيما بعد، ولا حتى الصارخ إلى الله والمسموع له، ولكننا نسمع صوتاً قوياً حلواً قديراً متحدثاً بتسابيح الله وسط أولئك الذين يسميهم اخوته « أخبر باسمك اخوتي وفي وسط الكنيسة أسبحك ».

إنه من امتيازنا السعيد إننا ككهنة نغني بتسابيح الحمد لله ونرفع عبادتنا وشكرنا له، ولكن أليس أعجب من هذا أننا نصغي أولاً إلى ذاك الذي هو الكاهن والمرنم الذي موضوعه دائماً، ما كان طوال حياته على الأرض، اسم الآب ومجد الآب « عرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم »؟

استمع إلى الرب المُقام، وسط أولئك الذين يستطيع الآن أن يدعوهم اخوته، معلناً مجد اسم الله، ثم رافعاً صوته القوي الكهنوتي (باعتباره رئيس الكهنة) قائداً لتسابيح وأغاني شعبه في كل فرح وابتهاج العبادة، ساكباً قلبه بكل ما فيه من طيب ورائحة زكية منعشة لمفدييه. يا لها من رابطة، ويا له من فصل كتابي عجيب يرينا ارتباطنا المبارك معه! ويالها من نعمة فائقة، إننا نقترن به كالمسيح لله وكالقائد لتسبيحاتنا!

وهناك فصلان آخران مقتبسان من النبي إشعياء. فالاقتباس الثاني في الفصل موضوع تأملنا هو هذا « وأيضاً أنا أكون متوكلاً عليه ». الاقتباس الأول أكد علاقتنا بالمسيح داعياً إيانا اخوته، أما الثاني فيرينا أن الإنسان الكامل، أو ذاك الذي كان إنسان الإيمان الكامل، هو الذي يتكلم هكذا. في إشعياء8 نجد النبي رمزاً للمسيح، وسط الخراب، حينما أثار عدم إيمان الملك آحاز هجوم الأشوريين على أرض إسرائيل. كانت أرض إسرائيل في ذلك الوقت في حالة ارتداد، وكان لابد أن يكتسح العدو أرض عمانوئيل فيغمرها كالفيضان. وهنا يقول النبي « أكون متوكلاً عليه* »، فالإيمان مستنداً على مشورات الله كما هي معلنة للملك غير المؤمن آحاز (في الأصحاح السابع) « ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل » يستطيع (في الإصحاح الثامن) أن يواجه الخراب بأعصاب هادئة. مع أن العدو يأتي كفيضان غامر فأنه يقول: « وأيضاً أنا أكون متوكلاً عليه »، وينتظر أن يرفع روح الرب راية ضده. وهكذا كان ربنا يسوع الذي كان دائماً رجل الإيمان الكامل على الأرض.

ويقدمه مزمور16 في هذه الصورة الجميلة كرئيس الإيمان. فهناك تراه يعلن قائلاُ « القديسون الذين في الأرض والأفاضل كل مسرتي بهم ». نعم كانت كل مسرته بأفاضل الأرض، بالأتقياء في إسرائيل، الذين باعترافهم بخطاياهم فتحوا قلوبهم لنعمة الله. ثم يمضي في ذلك المزمور عازلاً نفسه عن كل صورة من صور الشر، وعلى أساس ثقته في الله الذي هو نصيبه وكأسه يستطيع أن يرنو ببصره إلى الموت الذي يتوقعه، وفي هدوء واطمئنان يقول « لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيك يرى فساداً »، إنه الإيمان على طول الخط. والإيمان الذي كان للمسيح من امتيازنا أن يكون لنا نحن أيضاً، باعتبارنا تابعين له في هذا العالم، فقد كان له المجد رجل الإيمان كرئيس لنا. ثم النص الثالث الذي يؤكد علاقته بشعبه « وأيضاً ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله ». هذه العبارة المقتبسة أيضاً من إشعياء8 تؤكد الحقيقة الغالية، وهي أنه لا يستحي أن يدعوهم اخوة. يالها من كرامة سامية يخلعها علينا الرب؛ نحن واحد معه، سيدنا المبارك يدعو إيانا إخوته، ولنا هذه النصوص الثلاثة التي ترينا أنه كان له الحق أن يفعل ذلك.

والأولاد كانوا لحماً ودماً، أعني كانوا أناساً بالحقيقة. وإني أو د أن ألفت أنظاركم إلى فارق في التعبير هنا يدل على المعنى المقصود من الأصل. فالأولاد شركاء في اللحم والدم، وهو كذلك صار إنساناً كاملاً، ولكن الكلمة تدل في الأصل على أنه جاء إلى هذا الناسوت بالنعمة. اسمع ماذا يقول الوحي: « إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما » أي جاء بمحض اختياره إلى دائرة الإنسان. كان القدوس الذي بلا خطية طبعاً، ولكنه اشترك أو قرن نفسه بالإنسان، فلم يمسك الملائكة بل نسل إبراهيم، أي جميع الذين هم بالإيمان النسل الروحي لإبراهيم، ولو أن الرسول باعتباره مخاطباً العبرانيين قد يقصد أن سيدنا بحسب الجسد من نسل إبراهيم، فهو قد جاء إلى هذه الحالة حيث يمكنه أن يمسك بالإنسان.

ولماذا جاء؟ هنا نرى مجيئه مرتبطاً بعلاقة أخرى: « لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس ويعتق أولئك الذين خوفاً من الموت كانوا جميعاً كل حياتهم تحت العبودية ».

هنا نرى عتق شعب المسيح بالموت من كل سلطان الشيطان. وأن الشيطان كان له سلطان الموت القضائي، وقد حصل على ذلك السلطان بسبب تصديق الإنسان، عامداً، وهو في جنة عدن، لكلمته بدلاً من كلمة الله، كما هو مكتوب أن « المرأة أغويت فحصلت في التعدي »، أما الرجل فعامداً وبعينين مفتوحتين قَبِل جميع النتائج المترتبة على وقوعه تحت سلطان الحية « من أجل ذلك كما بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت » وبهذه الطريقة أصبح الشيطان رئيس وإله هذا العالم، وأصبح له سلطان الموت. وهكذا كان الموت قصاص الله القضائي على الإنسان، وكان الشيطان مرتبطاً به بكيفية جعلت الكتاب يقول عنه أن له قوة أو سلطان الموت، وكيف استخدم الشيطان سلطانه هذا؟ كيف سلط خوف الموت على رؤوس الناس؟ كيف ساقهم إلى الارتعاد وجعلهم يتألمون، وحول ديانتهم إلى خرافات، وجعلهم يرتكبون أعمالاً لا تصدق من الفظاعة والقسوة بسبب خوفهم من الموت؟ إن الشيطان هو سيد ديانة الإنسان، وإنك لواجد أن معظمها من إملاء الخوف من الموت.

ولكن الآن قد جاء المسيح وأعتق المؤمنين به من خوف الموت. كيف؟ بموته، أي نزع شوكة الموت وخوفه، وهكذا أنقذ جميع الذين كانوا خوفاً من الموت تحت العبودية. فمن جهة المؤمن لا يوجد الآن خوف البتة من الموت. إنه مجرد نوم، أتستطيع أن تضطجع بهدوء موقناً أنك ستمضي في سلام إلى الأبدية إذا لم تبق إلى مجيئه؟ هل استبعد عمل المسيح منك فعلاً كل خوف من الموت حتى تستطيع أن تكون في سلام واطمئنان؟ ذلك ما جاء لأجله. إن ربنا المبارك قد جاء وكسر قوة ذلك القوي. إن الأقوى من الشيطان قد جاء ونزع منه سلاحه الذي كان يعتمد عليه وأطلق سراح الإنسان.

إن الإنسان الطبيعي يخشى الموت لأنه « وضع للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة ». إن الرجل الشجاع قد لا يخاف من الموت الجسدي، ولكن ليس هناك رجل بلغ من الشجاعة بحيث يستطيع أن يفكر في دينونة القادر على كل شيء بدون ارتعاد. إن الدينونة بعد الموت هي التي تصنع منا جميعاً جبناء. وهذه الدينونة حملها ربنا يسوع في موته على الصليب وبذلك أبطل لعنتها علينا. وبدلاً من أن يكون الموت عدونا « ملك الأهوال »، قد أصبح خادمنا ليفتح الباب إلى حضرة سيدنا، لنتمتع بحلاوة الشركة معه، وننتظر قيامة الأجساد. وقد كان مؤمنو العهد القديم تحت العبودية أيضاً؛ استمع إلى صلاة حزقيا عندما وصلته الرسالة « هكذا قال الرب أوصِ بيتك لأنك تموت ولا تعيش »، استمع إليه وهو يستعطف الله « آه يا رب اذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلب. سليم وفعلت الحسن في عينيك. وبكى حزقيا بكاء عظيماً »، وهكذا يجاهد ويصرخ إلى الله طالباً أن ينقذه من الموت، كل حياتهم كانت تحت العبودية! ليتنا نباركه من القلب من أجل هذا الإحسان العظيم.

في العددين الأخيرين نجد الحقيقة الثالثة التي يطالعنا بها الوحي، وهي اجتياز سيدنا في الموت « لكي يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين ». إني أحيلك هنا إلى لاويين16، حيث تجد رئيس الكهنة يدخل قدس الأقداس، ويرش الدم مرة على غطاء التابوت وسبع مرات أمامه، ثم إذ يخرج يستطيع أن يبارك الشعب. ومع أنهم ناقصون وخطاة، استطاع المسيح باعتباره رئيس كهنة رحيماً وأميناً، قد دخل إلى حضرة الله « ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه.. فوجد فداء أبدياً ». هذا هو عمله كرئيس الكهنة الأمين. ثم هو أيضاً رئيس خلاصنا القادر أن يعين شعبه المجرب، لأنه يعرف بالاختبار التجربة من الخارج. إن الشيطان هاجم سيدنا بكل أنواع التجارب، فقد جربه في أن يظهر قوته الإلهية بتحويل الحجارة خبزا،ً وبذلك يكون قد شك في عناية الله وصلاحه. وقد جربه في امتحان هذا الصلاح بإلقاء نفسه من الهيكل. وقد جربه بالوعد بإعطائه كل ممالك هذا العالم وسلطانه إن هو فقط أخضع هامته للشيطان. ولكن في هذه كلها، في كل نقطة، صد الشيطان بكلمة الله. كيف خرج سيدنا المبارك من كل هذه التجارب! خرج متألماً. لقد فضّل له المجد أنيمضي في سبيل التواضع والرفض من الناس، وما أحاطوه به من شكوك، ومقاومة وإهانة، وأخيراً الصليب نفسه عن أن يقبل من يد الشيطان كل ممالك العالم ومجده.

هل قابلتك تجربة هذا النهار؟ هل حاول شيء صغير حقير من أمور هذا العالم أن يغري عينيك، وهل شعرت بميل للتجربة وبخطر التسليم؟ إن كان الأمر كذلك، فإني أدعوك لأن تنظر إلى ذاك الذي، طوال حياته هنا، كان يرفض كل شيء ليس من أبيه، وفيه نرى المثال الكامل والمستعد على الدوام أن يعيننا نحن المجربين، وهكذا كرئيس الكهنة الرحيم يعين شعبه الضعيف، رحيم من نحونا، وأمين من نحو الله.

إن سيدنا المبارك- بلغة الرمز- لم يرش الدم فقط في قدس الأقداس بل خرج أيضاً ليلف ذراعيه حول شعبه المجرب الضعيف العاثر ليعيننا في رحلة سياحتنا إلى بيتنا الأبدي.

إننا هنا أمام ابن الإنسان المبارك، كمن قدّس ذاته لأجلنا. ألسنا نجد فيه ما يملأنا بالفرح والابتهاج كرئيس الكهنة العظيم - رئيس كهنة الله في الأعإلى - فنحني قلوبنا ساجدين له؟!

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.