قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

4

روح الإنسان

تنطبق كلمة «روح» (Spirite)، على الكائنات الملائكية سواء أكانت «طاهرة» أو «نجسة». ولكن الماديين ينكرون ذلك أيضاً. على أن وجود هذه الأرواح (وهو ما لا يمكن إنكاره) كشخصيات قائمة بذاتها متميزة عن غيرها يكفي لإثبات ما نرمي إليه وهو وجود روح الإنسان لأنه ما دام لهذه الأرواح وجودها الشخصي فليس ما يمنع، مبدئياً على الأقل، من أن تكون روح الإنسان كأي روح من هذه الأرواح شخصية فعلية أو ذاتية حقيقية حية ولو أنها فيه متحدة بجسد من تراب.

وهذا هو التطبيق الثالث لكلمة «روح» وهو الذي نوجه إليه انتباهنا الآن بصفة خاصة.

إن الماديين يذرُّون كثيراً من الرماد بما يحاولون إثارته لهذه الكلمة من معانٍ غريبة ومختلفة، ولكن مهما كان لأصلها العبراني في العهد القديم أو اليوناني في العهد الجديد من معانٍ فالأصل واحد والمعنى في كل موضع تعينه القرينة بما لا يدع مجالاً للشك فيه أو الإفلات منه. إني لا أنكر أن للكلمة «روح» تطبيقات ثانوية عديدة ليس في لغتنا فقط بل في كل لغة من اللغات ولكن هذا لا يعنينا كثيراً لأنه لا يوجد أدنى شك فيما يتعلق بمعناها الأولي، بل أن هذا التنوع ذاته يجعلنا أكثر حاجة للبحث عن المفتاح الذي وإن وجدناه (وهو موجود فعلاً) يساعدنا كثيراً على إدراك التناسق والتوافق بين هذه التطبيقات المنوعة بدلاً من التنافر والاختلاف.

والحقيقة أن المفتاح الوحيد لهذا التوافق موجود في تطبيق الكلمة على شخصية حقيقية عاقلة في طبيعة الإنسان التي يتركب منها كما هو واضح من قول الرسول «روح الإنسان الذي فيه». وروح الإنسان هذه توضع على رأس أجزائه الأخرى التي تكونه وبالعلاقة معها في قول الرسول «لتحفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة» ولنتناول الأدلة على روح الإنسان كشخصية فاحصين إياها فواحداً بالدقة التي تتطلبها أهمية الموضوع، وليكن محك الفحص كلمة الله التي يحيلنا إليها الماديون أنفسهم أصحاب مبدأ فناء الإنسان كالحيوان.

ونحن إنما نقتبس من الكتاب عند كلامنا عن «روح الإنسان الذي فيه» (1كو 22:2) وعن «أرواح» الناس (عب 23:12). ولنلاحظ هذه الحقيقة وهي أن الكتاب يقول «روح الإنسان» ولكنه لا يقول "روح" الناس بالمفرد بل «أرواح» مما يدل على أن لكل إنسان في داخله روحاً خاصة به لا يشترك معه فيها آخرون. ولكن الكثيرين من الفنائيين يقولون إن «الروح» مبدأ عام للحياة يشترك فيه الإنسان مع الحيوان لأنه مُعطَى لكل منهما على السواء، ولكنها كالهواء الذي يتنفسه لا تكون جزءاً حقيقياً من تكوينه الشخصي. أما الكتاب فبخلاف ذلك يتكلم عن روح الإنسان ليس باعتبارها ذاتية شخصية مستقلة في كل فرد فحسب بل باعتبارها أيضاً شيئاً مكوناً داخله الأمر الذي لم يقله الكتاب عن نسمة الحياة التي يشترك فيها الحيوان والإنسان «وحي كلام الرب على إسرائيل. يقول الرب باسط السماوات ومؤسس الأرض وجابل (أو مكوِّن) روح الإنسان في داخله» (زك 1:12).

فإلى جانب تكوين السماوات والأرض يضع الكاتب المُلهم أمر تكوين روح الإنسان في داخله كشيء معادل لذلك في الأهمية بينما يغفل أمر تكوين الجسد. وهذا يقلب نظرية الماديين رأساً على عقب. إن روح الإنسان مجبولة في داخله. فهي إذن ذات أو شخصية مستقلة في كل فرد على حدة وليست كنسمة الحياة مبدأً عاماً يشترك فيه الجميع.

أضف إلى هذا أن ملكية الحيوان لروح لم ترد عنه أية إشارة في الكتاب سوى في فصل واحد بقلم كاتب سفر الجامعة (19:3 - 21) حيث يقول: «لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، ونسمة (رواخ) (ruach) واحدة للكل. فليس للإنسان مزية على البهيمة، لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب، وإلى التراب يعود كلاهما. مَن يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ روح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟». هذا هو الفصل الذي يتشبث به الماديون بطبيعة الحال والذي يعتبرونه الحصن المنيع لتعليمهم. وبزهو الانتصار يقتبسون العدد 21 «من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟» مدللين به على أن الإنسان في أسمى صفاته لا يملك ما يميزه عن الحيوان. فالعقل والضمير والمسئولية والصفات الأدبية إما أنها ليست للإنسان وإما أنها للحيوان أيضاً ولو من رتبة أدنى. هذا ما يقول الماديون في حين يقول صاحب المزمور «إنسان في كرامة ولا يفهم يشبه البهائم التي تباد» (مز 20:49) فهم يخالفون أقوال الله إذ يعلنون أن الإنسان لا يمتاز عن البهائم بأي حال بحجة أنه يُباد كما تُباد هي، فعندمـا تفارقـه النسمة يُلقى في التـراب لأنه بجملتـه ليس سوى تـراب.

هذا هو منطقهم ونوع تفكيرهم. وهذه هي حجتهم التي يظنون أنها تبرهن على كل شيء في حين أنها لا تبرهن على شيء. فلو وضعنا النص في ميزان القرينة لوجدنا أنه ما من عاقل يسلِّم لهم بما وصلوا إليه من نتيجة. فالفصل كله، كما يخبرنا سليمان نفسه، يعبر بالقول «قلت في قلبي .. لكل عمل وقتاً هناك» (جا 17:3). فهو ليس إعلاناً إلهياً. بل هو شك بشري. هو تساءل عقل الإنسان عندما يتأمل باحثاً في سر الوجود. فهو يتساءل قائلاً: من يعلم روح الإنسان؟ .. «من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ ... الخ» (ع 21). إنها لغة إنسان يقول: «وجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت السماوات .. قلت أنا في قلبي: هلمَّ أمتحنك بالفرح .. افتكرت في قلبي أن أعلل جسدي بالخمر .. وأن آخذ بالحماقة، حتى أرى ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السماوات مدة أيام حياتهم» (جا 13:1، 1:2 - 3). فهل يمكن أن يكون وهو في حالة كهذه إنساناً متعلماً من الروح؟ وهل يمكن لروح الله أن يقود في مثل هذا الطريق؟ إن التفسير الصحيح لموقف سليمان هنا هو أن القبر الذي إليه يذهب الجميع يبقى أمام البحث بالحكمة البشرية لغزاً محيراً لا يمكن اختراق غوامضه. فالناس بحسب الظاهر يموتون كما يموت الحيوان ولهم جميعاً نسمة واحدة وروح (ruach) واحدة وإلى التراب يذهب الكل على السواء. أما ما وراء ذلك فلا يمكن لمجرد العلم البشري إدراك كنهه على الإطلاق. لذلك يقول البحث بعقله فيما وراء القبر «من يعلم روح بني البشر هل هي تصعد إلى فوق؟ وروح البهيمة هل هي تنزل إلى أسفل، إلى الأرض؟». والكلمة «روح» (ruach) المستعملة هنا هي بما لها من معان مختلفة توافق تماماً طبيعة التساؤل الشكوكي في هذا الفصل. ولكن هذا لا يخرج عن دائرة عدم يقينية مجرد العِلم البشري. أما روح الله فلا يمكن أن يتشكك أو يتساءل. لا شك إن روح الله هو الذي يعطينا في سفر الجامعة قصة هذا البحث البشري وراء الحكمة والخير أو الحقيقة والسعادة. ولكن الدرس الذي يقصد الروح القدس أن يعلمنا إياه من تدوين قصة هذا البحث الفاشل هو أن الإنسان عن طريق أبحاثه البشرية لا يمكنه أن يصل إلى تحقيق السعادة في حياته أو معرفة ما يتعلق به بعد مماته. وهنا أدعوك أن تنصت معي إلى ما يقوله سليمان نفسه شرحاً لهذا العجز بمجرد أن أقبل إلى النور «كما أنك لست تعلم ما هي طريق الريح (أو الروح بحسب ما تعنيه هنا كلمة ruach) ولا كيف العظام (أي كيف تنشأ وتنمو وتوجد) في بطن الحبلى، كذلك لا تعلم أعمال الله الذي يصنع الجميع» (جا 5:11). ليس ذلك فقط بل أن له الآن ما يقوله بشأن أفكاره السابقة لأنه أخيراً وبلهجة حاسمة ونهائية يقرر كملهَم أو مُعلَن له أن روح الإنسان «لا تنزل إلى أسفل، إلى الأرض». بل أن جسده يرجع إلى الأرض «فيرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» (جا 7:12).

يعترضون على ذلك بأن اتهام سليمان بالجهل بما بعد القبر أو الموت فيه تجاهل لحقيقة نواله الحكمة من الله. ولكن هذه بالذات هي النقطة المقصودة. فالغرض من سفر الجامعة هو أن يرينا أن حكمة أعظم الحكماء تعجز عن معرفة حقيقة غير المنظور ما لم يعلنه الله، كما أن الغرض من سفر أيوب أن يرينا أن بِرّ أعظم الأبرار يعجز عن تبريره ما لم يبرره الله. وكان على كل منهما أن يعترف في سفره بما يخصه. فالرجل الكامل كان عليه أن يعترف بنقصه وحقارته أمام الله، وأحكم الحكماء كان عليه أن يعترف بقصور الحكمـة البشرية وعجزها عن إدراك سرائر الله.

لا شك أن حكمة سليمان كانت من ذلك النوع الذي جعله أهلاً للمركز الملكي الذي كان يشغله والذي من أجله طلبها (2أخ 9:10، 10) لذلك عندما قُورنت بحكمة غيره من الملوك، وبحكمة حكماء الأرض في الشرق وفي مصر، ففاقت عليها جميعاً. لقد كان هو عالم زمانه في الطبيعيات. وكانت أمثاله ذخيرة الحكمة العملية لسبيل الإنسان على الأرض (1مل 25:4 -34) ولكنه لم يكن مرنم إسرائيل الحلو، وقد نُسيت أغلب أناشيده مع كثرتها، ولم يدوَّن له في الكتاب سوى سفر «نشيد الأنشاد» الذي هو سفر مجازي كان يتغنى فيه مسوقاً بالروح القدس عن أمور روحية لم يكن يعرف عنها إلا القليل. ومَن ذا الذي يستطيع أن يقارنه بداود من حيث البصيرة الروحية؟ ومَن ذا الذي لا يحزن لانحرافه الواضح عن الطريق الذي سار فيه أبوه؟ ذلك الانحراف الذي كان منه، رغم حكمته، والذي يبين لهذا السبب البسيط، لماذا لا يمكن أن يكون الذي كان سائراً في هذا الطريق يُسجِّل على نفسه انحراف الفكر والقلب، ويجعل منه كارزاً للخليقة كلها بالنتيجة التي وصل إليها: ألا وهي بطلان العقل فيما لا يُرَى بغير إعلان من الله، وعدم كفاية ما يُرَى لشبع القلب عِوضاً عن الله.

وبخلاف هذا الفصل الاستثنائي في سفر الجامعة لا يوجد نص على الإطلاق يبين أو يتضمن امتلاك الحيوان لروح، وكل ما اقتبسه الماديون من غير سفر الجامعة لا يفي بالغرض الذي يرمون إليه. من أمثلة ذلك ما قيل عن البشر والبهائم والطيور في الطوفان في تكوين 17:6 «لأهلك كل جسد فيه روح حياة .. كل ما في الأرض يموت» ولكن هذا النص لا يدل على أن للحيوان روحاً كما للإنسان أو أن روح الإنسان هي من نوع روح الحيوان لأن كلمة روح (رواخ ruach) في النص هنا لا يمكن أن تعني أكثر من نسمة الحياة المشتركة بين الإنسان والحيوان ويتبين ذلك لأول وهلة من مقارنة هذه العبارة بما جاء في أصحاح 22:7 «كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات». ومما يقتبسونه أيضاً ما قيل عن الحيوانات في مزمور 29:104 «تنزع أرواحها فتموت» ولكن هذه الأرواح لا يمكن أن تكون أكثر من أنفاسها لأن كلمة روح التي استعملت هنا للحيوان المخلوق البائد استعملت هي نفسها في العدد التالي مباشرة (ع 30) للتعبير عن روح الله الخالق الدائم «ترسل روحك فتخلق، وتجدد وجه الأرض». إذن فمعنى هذه الكلمة تحدده القرينة لا محالة. فهي في الحيوان تدل على نفس يُخمَد، أما لله فتدل على روح يخلق ويُجدِّد. فهل يجرؤ هؤلاء المغالطون أن يجعلوا الروحين من نوع واحد لمجرد أن الكلمة المستعملة في الأصل واحدة؟! (تعالى الله وجلّ شأنه!) أما بالنسبة للإنسان فيقول إن الله «جابل (أو مكوِّن) روح الإنسان في داخله» فالله يكوِّن روح الإنسان في داخله لكنه لا يكوِّن نسمة الحياة فيه.

والآن أعود إلى الحقيقة التي سبق أن قررتها وكلي يقين بصحتها، ألا وهي أن روح الإنسان ليست مبدأ عاماً للحياة يشترك فيه الإنسان والحيوان، وأن روح الله لم يقرر قط في أي مكان في الكتاب المقدس أن للحيوان نفس روح الإنسـان وأن في هذا كل الكفايـة لدحض مزاعم الماديين.

ليس ذلك فقط، بل إن هذه الحقائق الكتابية القليلة تنقض أيضاً النظرية القائلة بأن الروح في الإنسان هي الطبيعة الجديدة في المؤمن أو أنها "حركات وانفعالات النفس" في الناس عموماً، ذلك لأن زكريا 1:12 «جابل روح الإنسان في داخله» لا تعضد هذه النظرية أو تلك. فهي تتكلم على وجه التحديد عن روح الإنسان وليس عن روح المؤمن وتقول إن الله جابلها ومن ثم لا يمكن أن تكون هي حركات وانفعالات النفس! ثم أن الرسول في 1كورنثوس 11:2 ينسب كل المعرفة البشرية إلى هذه الروح حينما يقول «مَن من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟».

كان غرضي إلى الآن أن أثبت فقط صحة التعليم الخاص بالوجود الواضح المتميز الذي للروح كذاتية أو شخصية حقيقية قائمة بذاتها في الإنسان. أما الاستعمالات الأخرى المختلفة لكلمة «روح» وعلاقة النفس بالروح فستأتي أمامنا بطبيعة الحال بعد أن نكون قد فحصنا بنفس الكيفية تعليم الكتاب عن النفس ذاتها.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.