قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

30

الدينونة. متى؟ وما هي؟

الآن إلى ما يحدث بعد الموت. سبق ورأينا الدرس الذي يستخلصه لنا السيد من المَثل الأول في لوقا 16 وهو أنه عندما «يفنى» الأبرار - أي عندما يموتون (fail) وليس بطبيعة الحال عندما يقومون - يجدون من يقبلونهم في المظال الأبدية، وهذا يؤيده الجزء الأخير من هذا الأصحاح - مهما كانت لغته الاستعارية - فيما يتعلق بالرجل الغني ولعازر. فالفارق واضح كل الوضوح بين الاثنين، إذ نقرأ أن الرجل الغني في الهاوية «يتعذب»، ولعازر في حضن إبراهيم «يتعزى». فليس هناك أي مجال للتشكك في معنى هذه الكلمات الخطيرة. إن الكتاب يصوِّر لنا الرجل الغني يتلقى جزاءه في الهاوية، قبل القيامة والدينونة الأخيرة، ولو لم يكن الرب يقصد ذلك لمَا استخدم كلمات في هذا الوضوح بلا أدنى إنذار أو تحذير. إن الرب كان يتكلم إلى الفريسيين الذين يؤمنون بالقيامة. يقول المعترض: "إنه إنما جاراهم - وليسامحنا الرب إذ نذكر هذا - فيما كانوا يعتقدون من أفكار باطلة وثنية". ولكننا نحن نفزع من قولٍ كهذا؛ لأن سيدنا الذي لم يكن إلا الحق متجسداً ما كان ليلهو بمثل هذه الصورة مع أي اعتقاد باطل أو خرافي أو يؤيد في الضلال نفوساً جاء لينقذها منه.

كلا. إن الرب كان يتكلم عن الحقائق التي يعرفها. إن البار يموت وكذلك الشرير. فإذا كان الموت فناء فكيف يمكن للبار أن «يتعزى» أو للشرير أن «يتعذب» فيه. قلنا إن الكتاب لا يحدثنا كثيراً عن قيامة الأشرار ولكنه أعطانا ما يكفي لإثباتها كحقيقة. فهناك فصول أخرى تدل على أن الأمر ليس قاصراً على الهاوية بعد الموت بل هناك ما سيعقب ذلك وهو أنكى وأمرّ. فكما أن الموت سيُبطَل كذلك الهاوية ستبُطَل ويطرح الإثنان في الموت الثاني الذي هو بحيرة النار والكبريت. وهناك من الفصول ما يؤكد ذلك مثل: إشعياء 21:24، 22؛ 1بطرس 19:3، 20 حيث يحدثنا إشعياء عن «ملوك الأرض» الذين يرينا إياهم سفر الرؤيا في أصحاح 19:19، 21 «مقتولين بسيف الجالس على الفرس» عند ظهور الرب بالمجد، في حين يتكلم عنهم إشعياء «كأسارى في سجنٍ» يعاقبون «بعد أيام كثيرة» أي عند دينونة الأموات بعد المُلك الألفي. في حين يحدثنا بطرس بما يطابق ذلك تماماً متكلماً عن الذين عصوا في أيام نوح وهم الآن «أرواح في السجن» وهكذا يؤكد لنا الفصلان الكتابيان من العهد القديم والجديد حقيقة المجازاة في الحالة المتوسطة بين الموت والقيامة.

يحتج البعض بأن "المجازاة قبل الدينونة أو المحاكمة مخالفة لكل مبادئ القانون الإلهي أو البشري". وأنا أوافقهم على ذلك كل الموافقة. ولكن هناك نقطة قد فاتت هؤلاء المحتجين وهي أنه فيما يتعلق بإثبات الإدانة أو الجرم الشخصي لا حاجة من الآن للمحاكمة لأن الإنسان أو العالم بصفة عامة قد دِين أي أنه محكوم عليه فعلاً. هذا شيء واضح كل الوضوح في الكتاب.

سبق ورأينا أن الله ظل قروناً بخدمة الموت والدينونة يُقنع الإنسان بحالته الهالكة وأن الرسول يتكلم بحق بلسان المسيحيين إذ يقول «ونحن نعلم أن كل ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس، لكي يستد كل فم، ويصير كل العالم تحت قصاص من الله» (رو 19:3). أهذا حكم من الله أم لا؟ أهو حكم سيصدر أم صدر فعلاً؟ إنه صدر منذ أمد طويل، وإن حكم الناموس هذا، كما رأينا، لم يكن إلا مؤيداً ومثبتاً لحكم سابق كانت تدل عليه كل شعرة بيضاء في رأس الإنسان.

صحيح أن الإنسان يستطيع أن يتنبأ بأشياء ناعمة لنفسه ويحلم بأنه في مقدوره أن يواجه الله بشأن خطاياه، وصحيح أيضاً ومبارك من الجهة الأخرى أنه حيثما وُجد خضوع وانحناء حقيقي للحكم تجلّت رحمة الله بالصفح والغفران، وأن كل «توبة» حقيقية هي «للحياة». ولكن الأمر لم يتطلب عرش الدينونة في كل مرة يُظهِر فيها الرب الرحمة للنفس التي تنحني معترفة بذنبها، ولا هو أيضاً بمحتاج أن ينطق بالحكم على الآخرين لأنه مكتوب، كما رأينا، أن الذي لا يؤمن «قد دِين». ومن هنا تتجلى خطورة وبركة ذلك الحق العظيم في سفر الجامعة وهو المُعبِّر عن مغزى السفر كله: «وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» - ليس لكي تقف مباشرة أمام عرش الدينونة بل لكي تتأكد، إن لم تكن قد تأكدت من قبل، قبولها أو رفضها الشخصي.

إن كثيرين لا يميزون الفرق بين هذين الأمرين: القبول الشخصي والرفض الشخصي. فعلينا إذن أن نتأمل فيهما بشيء من التفصيل في ضوء الفصول الكتابية التي تتناولهما بالشرح والتوكيد.

إن قبولنا الشخصي عند الله ليس على أساس أعمالنا مطلقاً. يقول الرسول «لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه» - وهذا يتضمن كل الأعمال الصالحة. هكذا تقول كلمة الله بمنتهى الصراحة. فمن الجهة الواحدة لا يتسنى لأعظم وأكمل قديس على الأرض (كما كان أيوب في زمانه) إلا ويضع يده مع أيوب على فمه في حضرة الله أو يفتح ذلك الفم ويعترف قائلاً: إني خاطئ ونجس لذلك «أرفض (أي أرذل نفسي) وأندم في التراب والرماد». ومن الجهة الأخرى سرعان ما تأخذ كل نفس ذلك الموقف الاعترافي إلا ويتحقق لها القول المبارك: «إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم».

يتبين من ذلك أن يوم الدينونة العتيد (سواه في حالة القديس أو الخاطئ) لا يُذكر في الكتاب إطلاقاً لتقرير القبول الشخصي عند الله من عدمه. فقد رأينا أن الدينونة الشخصية أو المحاكمة لأي مخلوق خاطئ أمام إله قدوس لا يمكن أن تكون نتيجتها إلا الإدانة المؤكدة. والمخَلَّصون هم مخَلَّصون هنا والآن «ولا يأتون إلى دينونة». كذلك هلاك غير المخلَّصين هو أيضاً مقرر في الحياة الحاضرة. وإذا كان الناس يتجاهلون هذه الحقيقة في الوقت الحاضر فإن الروح التي ترجع إلى الله لا يمكن أن تبقى جاهلة. إنها «روح في السجن» مثقلة بشعور الغضب الإلهي إذا لم تكن مقبولة في «المظال الأبدية». ذلك هو نصيب الرجل الغني حيث غضب الله هو اللهيب الذي يعذبه ولو أنه من الواضح أن القيامة لم تتم بعد.

هل هذا ينفي حقيقة الدينونة القادمة؟ كلا. إنها ليست إلا لتأييد الحكم الصادر. إن الدينونة العتيدة هي دينونة الأعمال. وهناك ما يقابل ذلك حتى في حالة المؤمن مع الفارق أن المؤمن يأتي إلى كرسي المسيح في مجد القيامة وفي صورة سيده. فهل يمكن أن يحاكم لتقرير مستقبله بينما هو ممجد فعلاً؟ طبعاً لا. ولكنه مع ذلك يقف أمام كرسي المسيح لينال ما صنع بالجسد، على سبيل المكافأة، ربحاً أو خسارة. إن الحياة الأبدية ليست مكافأة بل هي هبة الله المجانية في المسيح. والتبرير بدم المسيح دون سواه. كذلك البنوة، وعضوية جسد المسيح، والإقامة في بيت الآب جميعها ثمار هذا العمل المبارك، عمل المسيح وليس عملنا نحن. وهذه كلها هبات لا يمكن في يوم من الأيام أن توضع موضع الشك أو التساؤل.

كذلك الأمر فيما يتعلق بالهالكين. فالدينونة القادمة ليست لتقرير هلاكهم من عدمه. فإذا هم خرجوا في قيامة الدينونة فذلك ليس للنظر فيما إذا كان يمكنهم الوقوف أمام الله أم لا، ولكنهم «يدانون» (بعكس المؤمن) إدانة شخصية «حسب أعمالهم» (رؤ 13:20) وبذلك ينال كل منهم قدراً معيناً من دينونة المجازاة «ضربات كثيرة» أو «قليلة» كما يكون الحال - أو بعبارة أخرى عدالة مطلقة في توقيع المجازاة عن الخطايا التي ارتكبتها كل نفس في الجسد. هذه هي دينونة الأعمال وهي شيء مختلف كل الاختلاف عن مسألة تقرير المصير، إذا كان الإنسان هالكاً أم مُخلَّصاً، ويقابلها مكافأة أعمال الأبرار.

ومن أسف أن تضطرب هذه الأمور في أذهان الكثيرين، مع أن الكتاب سبق أن أوضحها نبوياً بشكل واضح لكل راغب في التعلم. فعدم الإدراك لحقيقة مجيء الرب قبل المُلك الألفي وتطهير الأرض بالدينونة توطئة للبركة قد جعل البعض يتصورون أن عملية تمييز الخراف عن الجداء هي ذاتها دينونة الأموات التي سيأتي دورها بعد ذلك بأكثر من ألف سنة. وكان لا بد أن هذا التصور الخاطئ يرتبط بالاعتقاد (رغم مخالفته الصريحة لفصول كثيرة غاية في الوضوح) أن الأبرار والأشرار يقفون معاً ويميز الأولون عن الآخرين بأعمالهم.

ولكنه واضح أننا في متى 31:25 - 46 نجد صورة لدينونة الشعوب الأحياء عندما يجيء الرب إلى الأرض ليقيم عرشه عليها، وليس لدينونة الأموات عندما تكون الأرض والسماوات قد هربت. كذلك اختطاف المؤمنين لملاقاة الرب في الهواء (1تس 4) قبل ظهوره للعالم (كو 4:3) يتنافى تماماً مع تفسير كهذا. زد على ذلك أنه لا توجد إشارة واحدة إلى القيامة في نبوة سيدنا في متى 25. كذلك طبيعة المحاكمة أو التحقيق تختلف كثيراً عما هي في سفر الرؤيا. فالحقيقة هي أن «الشعوب» في المشهد الأول هم الذين وصلتهم دعوة نهائية ببشارة الملكوت الآتي (وذلك بعد اختطاف مؤمني التدبير الحاضر وخلال فترة تقع بين هذا الاختطاف وظهور الرب مع القديسين). وهذا موضوع يطول بنا الشرح إن عالجناه هنا. ولكن الفوارق الواضحة المميزة بين الصورتين في إنجيل متى وسفر الرؤيا يجب على الأقل أن تكون كافية لعدم الخلط بين الاثنين.

ومن الحقائق المسيحية المقررة أن كل مؤمن الآن في المسيح لن يأتي إلى دينونة. هذا ما يعلنه الرب بنفسه له المجد. «وكما وُضِعَ للناس أن يموتوا مرة ثم بعد ذلك الدينونة، هكذا المسيح أيضاً، بعدما قُدِّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين، سيظهر ثانية بلا خطية للخلاص» (عب 27:9 - 28). وإذا كان «الله قد أقام يوماً هو فيه مزمعاً أن يدين المسكونة بالعدل، برجلٍ قد عينه» (أع 31:17) فإن القديسين الذين يعلن من الآن أنهم «ليسوا من العالم كما أنه (هو) ليس من العالم» سوف لا يدانون بل «سيدينون العالم» معه (1كو 2:6) وهكذا هم يُرون على عروش في رؤيا 4:20 - 6 كمن لهم نصيب في القيامة الأولى. ولا تتم دينونة الأموات إلا بعد ذلك بألف سنة. هذا ما يعلنه ذلك الأصحاح في عبارة محددة صريحة وفي أكثر من مرة. وهكذا حرص الله على أن يجعل فاصلاً شاسعاً بين نصيب شعبه ونصيب أعدائه.

والحق هو الذي يضع كل شيء في مكانه ويطبع الكل بطابع التوافق والانسجام. إن الدينونة الحاضرة قد صدرت على العالم. فالصليب ذاته،نصيب الرب الذي ناله على أيدي الناس، هو الذي أيّد هذا الحكم نهائياً، على أن يتم التنفيذ عند مجيئه. والله في نعمته يدعو أناساً من العالم ويخلصهم. وهو يوقف المخلَّصين على أساس عمل المسيح وليس على أساس عملهم هم. أما غير المخلَّصين فيبقون تحت الحكم العام - مُدانين فعلاً. أما دينونة الأعمال، أي المجازاة الكاملة لاستحقاق كل إنسان، فسيأتي دورها. هذا شيء بخلاف القبول الشخصي أو الرفض الشخصي الذي أساسه شيء آخر. فالعامل والأعمال، وإن ارتبطا، شيئان متميزان.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.