قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

25

ظلال العهد القديم

ذكرنا في الفصل السابق ما يبدو كأنه شيء متناقض مع وجهة نظرنا فيما يتعلق بمحدودية أفق العهد القديم، وهو أن إيمان رجال الله في ذلك التدبير كان يرنو بوضوح إلى ما وراء ذلك الأفق. فليس فقط ما تخبرنا إياه رسالة العبرانيين من أن إبراهيم واسحق ويعقوب أقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض وأنهم كانوا ينتظرون «وطناً سماوياً»، ولكن الكلمة ذاتها التي استخدمها سيدنا له المجد للتعبير عن جهنم كانت معروفة ومتداولة لدى الشعب قبل أيام سيدنا بنفس هذا المعنى كما يدل على ذلك كتاب التقاليد اليهودية "المشنا" وسائر مخلفات العلماء اليهود منذ ذلك الحين. وتبدو هذه المعرفة كما قلنا كأنها متناقضة حسب الظاهر مع الفصول الكتابية التي اقتبسناها في العدد الأخير من بحثنا. والحق أنه لا يعوز أي إنسان إلا أن يقرأ بعناية النصف الأول من سفر التكوين ليتأكد فيما يتعلق على الأقل بإبراهيم أنه لا يوجد أي وعد على الإطلاق خاص بالسماء مسجل له هناك. فكيف إذن حصل إبراهيم على اليقين بأن هناك «وطناً سماوياً» ينتظره؟

واحد من أمرين فقط افتراضهما: إما أنه كان هناك وعد غير مسجَّل، وإما أنه أُعطيَ أن يرى بوضوح ذلك الطابع الرمزي الذي كان للأشياء التي نعرف نحن أنها كانت رموزاً وظلالاً لذات الحقائق التي يخبرنا العهد الجديد أنه تلقاها. فدعوة إبراهيم إلى كنعان كانت رمزاً ملحوظاً لحقيقة «الدعوة السماوية» التي تلقيناها نحن. وكيف استطاع إبراهيم أن يفهم دعوته على هذا الوجه؟ الجواب: قد يجل عن أفهامنا، ولكن كانت هناك ولا شك بعض أشياء ساعدته كثيراً على هذا الفهم.

فالإنسان كان قد طُرد من الفردوس منذ ألفي سنة. وسفر الرؤيا يُختَم بصورة فردوس آخر، سماوي لا أرضي، فيه يدخل الذين «غسلوا ثيابهم» في دم الخروف. وهنا لا يمكن لأي واحد، إلا الكافر، أن يشك في أن الفردوس الأول كان رمزاً للفردوس الثاني. فهل يا ترى بقي هذا السر مكتوماً طوال تلك الألفي سنة لدرجة لم يكن ممكناً للإيمان أن يستشف من ورائه ذلك المعنى؟

هذا مجرد سؤال. ونحن نعلم أن افتراضنا في موضوع كهذا ليست لها قيمة كبيرة ولكننا نحاول مع القارئ التعرّف على ما قد يكون هنالك من ضوء يُعلِّل معرفة إبراهيم لشيء غير ظاهر للعيان على صفحات السجل المقدس. وإذ نحن بهذا السبيل لا يسعنا إلا أن نلاحظ كيف أن الله كان في تلك الأيام الباكرة يُعلِّم رجاله بطريقة الرموز والظلال. ذلك كان ولا شك أسلوب التعليم الإلهي في تلك الأيام. ألم يكن هابيل يعلم شيئاً عن معنى «الذبيحة» التي قدمها بالإيمان؟ ثم ماذا كان معنى الحديث الخطير عن «نسل المرأة»؟ ألم يتحدث ذلك، بلغة الرمز، بكل جلاء عن مُنقذ ومُخلِّص يسحق رأس الحية؟ وفي رؤيا إبراهيم (تك 15) نرى رمزاً هناك يتحدث عن أمر خطير ولو مع شيء من التفسير. وألسنا نرى في تقديم اسحق والكبش «المُمسَك في الغابة بقرنيه» (تك 7:22 - 14) أن إبراهيم، في ذلك اليوم المشهود رأى يوم المسيح؟ (يو 56:8). وهكذا في سلَّم يعقوب. ثم ما هو أكثر من ذلك ليلة المصارعة العجيبة بنتائجها المقترنة بالفخذ المخلوع. كذلك أحلام يوسف مَثل آخر لذلك الأسلوب الإلهي في التعليم. وكذلك الأحلام التي قام بتفسيرها للآخرين. في هذه الحالات كلها وأمثالها نجد ليس استخدام الرمز والظل فحسب، بل أشياء كانت معانيها معروفة للناس وقت حدوثها. وهي ترينا أن تلك كانت لغة ذلك العصر ومن المؤكد أن هذه اللغة لم تكن مجهولة كل الجهل عند النُطق بها لأول مرة إن كنا نعلم أنه كان على مؤمني ذلك العهد أن ينتظروا الإعلان الكامل عندما يجيء الوقت المعين.

وكان هذا العلم يزداد وضوحاً بطبيعة الحال كلما نمت كلمة الله وتقدمت تدريجياً صوب الاكتمال، وكلما وضحت معاني الناموس بفضل ما كان يأتي به الأنبياء من إعلانات مهما كانت جزئية ومع أن الشعب كان حقاً جسدياً وأعمى إلا أن هذا نفسه ما كان ليمنع من وجود مجموعة من الحقائق الروحية وإن أنكروا قوتها وتأثيرها العملي على نفوسهم. وتلك بالضبط كانت حالة الفريسية الأخيرة التي حملت معها جمهرة الشعب.

بهذه الكيفية يمكننا أن نعلل وجود معرفة لدى مؤمني العهد القديم تفوق القدر الظاهر من الإعلان الذي أُعطي لهم، ولنا في الواقع أن نفترض (وهو ما تؤيده الدلائل أيضاً) أن الغرض من نظام الرموز الهائل الذي كان ناموسهم يقوم عليه لم يكن مجهولاً منهم كل الجهل، وبينما كان مسموحاً لخدمة الموت والدينونة من الجهة الواحدة أن تأخذ مجراها الكامل وأن يكون لها تأثيرها الكلي على النفوس، فإنه كان مسموحاً أيضاً للنور أن يشرق من ناحية أخرى، ولو بقدر ضئيل، خلال الظلال العجيبة التي كانوا فيها يتحركون.

تلك كانت ولا شك حكمة إلهية. ولكن دعنا نحاول أن نتحقق قليلاً إلى أي مدى كان هذا الطابع الرمزي لأسفار العهد القديم يمتد في أعماق المستقبل.

إن كل إنسان يجب أن يعترف بداهة (إلا إذا كان كافراً) بما لخيمة الاجتماع وخدمة الهيكل من طابع رمزي. لا بد لنا أن نعترف أن الكاهن والمذبح والذبيحة والقدس لها جميعاً معانيها الروحية، لأنه هكذا يقرأها العهد الجديد جميعها. ولكن العهد الجديد يطالعنا بهذا الطابع الرمزي أيضاً في أشياء أخرى كثيرة: في تفصيلات تاريخ شعب الله الأرضي، في الفصح ونجاتهم بفضله من ضربة الملاك المُهلِك، في اجتيازهم البحر الأحمر وإنقاذهم من فرعون وجيوشه، في المَن، وفي الماء من الصخرة .. الخ. كما يقول الرسول «هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً (أو رموزاً بحسب الترجمة الحرفية للكلمة)، وكتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور» (1كو 11:10). ولكن هذا المعنى الرمزي ليس قاصراً على تاريخ إسرائيل بل لنا تفسيرات مماثلة بشأن: آدم وامرأته (رو 5؛ أف 5)، والطوفان والفلك (1بط 3)، وملكي صادق (عب 7)، وامرأتي إبراهيم وابنيه (غل 4)، مع أكثر من إشارة بشأن تقدمة اسحق على المذبح (غل 16:3، 17) وهكذا نجد أن التاريخ نفسه (بينما هو طبعاً تاريخ حقيقي) هو أيضاً تاريخ رمزي ونبوي.

وإذ تشرق علينا كلمة الله بهذا القدر من النور فهل لنا أن نقف عند حد التفسير الحرفي للتاريخ المقدس ونعتبره مجرد تاريخ وأحداث. أم هل من امتيازنا العجيب أن نتخذ من هذا التفسير أساساً وتقريراً لمبدأ ينطبق على الأسفار التاريخية جميعها؟ فمن الجهة الواحدة يجب أن نتذكر أن كثيراً من أمثلة سيدنا له المجد مُعطاة لنا بدون تفسير وأنه متروك لنا أن نجد هذا التفسير في ضوء المعنى الرمزي للكلمات في أماكن أخرى، وعلى هدى تعليم الكتاب بصفة عامة. ومن الجهة الثانية مَن ذا الذي يمكنه أن يتجاهل ما هنالك من معنى أعمق في قصة يوسف؟ ومع ذلك فليس هناك أي سند كتابي صريح يمكن إبرازه لتبيان هذا المعنى الرمزي المقصود.

واضح إذن أنه من واجبنا تطبيق هذا المبدأ على التاريخ المقدس بصفة عامة. وهنا أي ميدان فسيح من الدرس والبحث يتكشف أمامنا، وأي نور عجيب يشرق علينا من أماكن جديدة لم تخطر على بالنا في العهد القديم!

فمن الفردوس الأول، من حوالي ستة آلاف سنة خلت، نستطيع أن نتطلع إلى فردوس آخر، أشد إشراقاً وأكثر بركة، هو فردوس الله نفسه حيث تتدلى من شجرة الحياة، في جمال جديد وبهاء رائع مجيد، أثمارها وأوراقها الشافية فوق النهر الدائم الجريان النابع من عرش الله نفسه. ثم مَن ذا الذي تفوته المقارنة - ولو أنه توجد أيضاً مباينة بين المشهدين؟ مَن ذا الذي تفوته الملاحظة أن الأول كان رمزاً للثاني وأن المباينة بين الاثنين ليست إلا لتذكرنا أن الأول لم يكن إلا ظلاً فقط ولا يمكن أن يكون نفس صورة ذاك الذي أمام جماله الفائق تتبدد كل الصور والظلال؟ فالأول هو المشهد الأرضي الزائل بينما الثاني هو المشهد السماوي الأبدي. وهكذا قد صُنعت الأرض لتكون مرآة للسماء لكي تنقل إلينا نحن البشر «ما لم تر عين أو تسمع أذن» ومع ذلك «أعلنه لنا الله بروحه».

وعندما نتطلع أكثر إلى صورة أورشليم الجديدة كما يرسمها لنا العهد الجديد نجد حلقة جديدة وشائقة للغاية تربطها بالعهد القديم. فليقارن أي واحد صورة تلك البركة المستقبلة التي يُختم بها حزقيال سفره، مع ذلك المشهد الذي يُختم به سفر الرؤيا، ثم ليقل بعد ذلك إذا كانت المقارنة بين الاثنين يمكن أن تكون غير مقصودة. فالمياه الخارجة من بيت الرب في حزقيال تأتي بالحياة حتى لبحر الملح إذ يقول: «وعلى النهر ينبت على شاطئه من هنا ومن هناك كل شجر للأكل، لا يذبل ورقه ولا ينقطع ثمره. كل شهر يبكر لأن مياهه خارجة من المقدس، ويكون ثمره للأكل وورقه للدواء» (حز 12:47) مَن ذا الذي يرفض علاقة هذا بالصورة في سفر الرؤيا: «وأراني نهراً صافياً من ماء حياة لامعاً كبلور، خارجاً من عرش الله والخروف. وفي وسط سوقها وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتى عشرة ثمرة، وتعطي كل شهر ثمرها، وورق الشجرة لشفاء الأمم» (رؤ 1:22، 2)؟

ومع ذلك فهناك مباينات أيضاً بين الصورتين. ففي الواحدة حدود للبركة لا نجدها في الثانية، فمثلاً الغَمقات والبِرك في حزقيال تجعل للملح (حز 11:47) وهناك نرى مدينة أرضية وهيكلاً بينما في «أورشليم السماوية» لا يوجد هيكل (رؤ 22:21).

هنا أيضاً نرى الطابع الحقيقي لرموز العهد القديم، وهو أن الأرضي أنموذج للسماوي، أو ما يعبِّر عنه الكتاب بالقول إن الناموس ظل الخيرات العتيدة ولكن ليس نفس الصورة (عب 1:10).

ولكن هذا يرينا كذلك أنه ليس التاريخ الماضي فقط بل المشاهد النبوية أيضاً تحتوي على رموز، وأن العصر الألفي الذي تُحدثنا عنه نبوة حزقيال هو في جزء منه على الأقل صورة لساكني الأرض عن أشياء خارجة عن دائرة الأرض. فالآيات أو العلامات المرئية الدالة على القوة الإلهية (أي المعجزات التي يسميها عبرانيين 5:6 «قوات الدهر الآتي») ستأتي بهم وجهاً لوجه مع الحقائق الأبدية. وبالاختصار سيكون ذلك العصر بكيفية هامة جداً تدبيراً نهائياً للعيان كما كانت التدابير السابقة له تدابير إيمان. وكما يبدأ ذلك العصر بظهور المسيح واستعلان أبناء الله المُكمَلِّين، كذلك سيستمر ملكوت البر سائداً ومُصاناً باستعلان مماثل للسلطان الإلهي. وكما رأينا من الجهة الواحدة في حزقيال صورة البركات الأرضية التي تعكس البركات السماوية الأبدية كذلك من الجهة الأخرى يرينا إشعياء ظل نقيضها الرهيب، ذلك الظل الذي سيأتي بالناس وجهاً لوجه إلى «الدينونة الأبدية»:

«ويكون من هلال إلى هلال ومن سبت إلى سبت، أن كل ذي جسد يأتي ليسجد أمامي، قال الرب. ويخرجون ويرون جثث الناس الذين عصوا علىَّ، لأن دودهم لا يموت ونارهم لا تُطفأ، ويكونون رذالة لكل ذي جسد» (إش 23:66، 24).

وقد اقتبس سيدنا له المجد بعضاً من هذه الكلمات بالإشارة إلى دينون أخرى، ليس المشهد في إشعياء إلا رمزاً أرضياً لها. وستكون لنا بعد قليل فرصة التأمل في الفارق بين أقواله له المجد وأقوال نبي العهد القديم، لأنه هنا أيضاً (كما في البركة قبل ذلك) مباينة بين العهدين القديم والجديد. ولكن الجلي الواضح في إشعياء أن المشهد هناك مشهد أرضي حرفي ومع كونه مشهداً حقيقياً واقعياً فهو أيضاً مشهد رمزي، إنه المشهد الذي يعلن بصورة واضحة جلية لجميع العيون في ذلك اليوم المباينة المقصودة بينه وبين المياه الحية الخارجة من أورشليم. فهناك رمز الحياة الأبدية وهنا ظل الموت الثاني وكل منهما له قصته التي يذيعها في مسامع شعوب التدبير الألفي: هذا للإنذار والإرهاب، وذاك للدعوة والترغيب. وكلاهما يمثلان نداء الله الأخير للإنسان، تبارك اسمه إلى الأبد!

ذلك إذن هو طابع العهد القديم يتجلى أمامنا بصورة كاملة وفي انسجام كلي مع نفسه ومع الإعلان الأخير الذي يقدمه العهد الجديد والذي فيه قد أنيرت لنا الحياة والخلود إنارة كاملة، وفيه أيضاً الموت الأول يرمز للموت الثاني وأنه أخيراً سيُبطل ليخلي المكان للموت الثاني. وحتى هنا أيضاً يجب ألا نتوقع أننا انتهينا من الظلال والرموز لأننا لا زلنا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، والأمور التي نتعامل معها لا زلنا نراها كما «في مرآة في لغز».

ولكن هناك الحقيقة الخالدة وهي أن كل ما هو مُعطى لنا من الله بالوحي يُعطى لتعليمنا وعلينا بالصبر والتواضع أن نأخذ كلمة الله كما هي مكتوبة لنرى هل هي صحيح تحدثنا "باستعارات غامضة" أم تطالعنا بالحق الذي ننشده.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.