قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

20

الهلاك ومرادفاته

(ب)

في العهد الجديد

تأملنا في إطلاق «الموت» على عقاب الأشرار في العهد الجديد نجد أن معنى جديداً قد خُلع على هذه الكلمة. ومع ذلك لم يكن الأمر هكذا، وإذا كان الموت بمعناه العادي لا يعني ولا يتضمن إبادة الكيان الإنساني، فإن جميع النصوص التي يستخدمها الماديون تصبح على الفور ضد فكرة إبادة الأشرار وليس معها. فكما أن البذرة لا تتلاشى عندما تزرع في الأرض لتعد الحصاد، وكما أن القياس المنطقي ذاته، لا يتلاشى الأشرار عندما يصبح الموت الأبدي نصيبهم الرهيب، ولا يوجد هناك مفر أو مهرب لهم من الله في فراغ الملاشاة أو العدم. ويا لحسرة كل من يخامره ظن بوجود مثل هذا المفر!

الحقيقة أنه لا يوجد مفر، ذلك لأنه يوجد نص صريح بأن الموت كعقاب الأشرار النهائي ليس هو مجرد الموت العادي. ففي سِفر الرؤيا 14:20 نجد أن «الموت الثاني» تفسيره «بحيرة النار». هذا هو تفسير الموت الثاني وهذا هو معناه. وقد جاء هذا العدد في جميع نسخ العهد الجديد اليونانية هكذا: "الموت الثاني بحيرة النار" - وإلى هذا الموت الثاني يسلِّم الموت الأول أسراه أو مسجونيه. وهذا يتم في نهاية كل شيء، عندما تهرب السماوات والأرض من وجه الجالس على العرش العظيم الأبيض، عرش القضاء والدينونة (ع 11). فعند نهاية كل شيء، عندما توضع جميع الأعداء تحت قدميه، يسلِّم الابن الملكوت للآب. عندئذ يتم القول إن «الموت» آخر عدو «يُبطَل». ليس الموت الثاني الذي لم يبدأ ملكه بعد، بل الموت الأول. والواقع أن الموت الثاني لا يُبطل عندئذ بل بالعكس يبدأ ملكه إلى أبد الآبدين.

إذن فالموت الأول يُفسِح مكاناً للموت الثاني. إنهما ليسا شيئاً واحداً. إن الموت الثاني هو «بحيرة النار». ولا يمكن أن يقال عنه إنه إبادة ثانية وذلك لسبب بسيط وهو أنه لم تكن هناك إبادة أولى قبلاً، فضلاً عن أن الإبادة يكون معناها الإفلات منه. والإبادة به تكون بطبيعة الحال بالسرعة التي تتفق وقوته تمشياً مع منطق الجماعة وأسلوبهم في المناقشة. فكم يا ترى يلزم من الوقت لإبادة الحياة أو اللحم والدم بنار الكبريت الحرفي؟ وهل يتفق هذا مع «العذاب إلى أبد الآبدين»؟ ومع ذلك فهذا على الأقل هو الطابع المميز لبحيرة النار. فماذا إذن يضمن «الموت الثاني»؟ يتحتم أن يكون معناه العذاب. يتحتم على الأقل أن يكون العذاب جزءاً من معناه، لأن بحيرة النار تعني ولا شك العذاب. إنها لا يمكن أن تعني قوة إبادة لا تقاوَم لأن أية نار عادية يمكن أن تعمل عملها أسرع. إنها تعني عذاباً مطولاً، خارقاً للعادة. عذاباً مطولاً فوق الطبيعة. إذا كان ممكناً أنها تعني هذا، وتعني إبادة أيضاً فعندئذ تكون الإبادة نفسها معناها الوجود المطول ونهايته على حد سواء!

وهكذا يتضح جلياً أن «الموت» باعتباره عقاب الأشرار الآتي لا يمكن أن يكون مقصوداً به الموت بمعناه العادي. ولست أنوي متابعة الموضوع هنا إلى أبعد من ذلك لأن أصلح مكان لتحري معناه الدقيق سيجيء عندما يأتي دور التأمل في الفصول الهامة الخطيرة التي أشرنا إليها. وهذا ما نرجو أن نفعله في أتم وأكمل صورة فيما بعد، ولا نريد أن نستبقه هنا.

ولنمض الآن في التأمل في تعبيرات أخرى عن العقاب الأبدي. وأول هذه التعبيرات هي "أبوليا" (apoleia) «الهلاك». وقوة هذه الكلمة ليست بحال من الأحوال ما ينسبه إليها الماديون. فعندما تشق الخمر الجديدة الزقاق وتتلف الزقاق (مر 22:2) يستخدم الوحي هذه الكلمة للتعبير عن ذلك التلف. وتلف الزقاق لا يمكن أن يكون معناه ملاشاة الزقاق وإبادته كما يزعم أولئك القوم. بل أنه لا يعني الخطوة الأولى صوب الملاشاة والإبادة حسب تعبيرهم لأن ذلك كان يمكن أن يتم والزقاق غير منشق. وحجتي هي أن الزقاق تتلف من وجهة نظر الغرض الذي من أجله خصصت أصلاً، وهكذا الإنسان سواء كموضوع الموت الأول أو الموت الثاني. ففي كلتا الحالتين نراه معزولاً من المركز الذي من أجله خُلق أصلاً، وقتياً في حالة الموت الأول، وأبدياً في حالة الموت الثاني. ولكن الزقاق تستمر في الوجود ولو أنها «تلفت» وأنها لم تتلاش. وهكذا الإنسان. هذه هي القوة الكتابية لكلمة التلف أو الهلاك من هذه الناحية.

وهكذا تنقلب حجة الماديين ضدهم ويذهب ريحهم كلية إذا استعرضنا الأمكنة الكثيرة التي يستخدم فيها الوحي صيغة الفعل من الكلمة التي نحن بصددها: "أبولومي" (appollumi)، وجميعها تترجم "هلك" : (مت 13:2، 25:8، 14:12، 41:21، 7:22، 52:26، 20:7؛ مر 6:3، 22:9، 18:11؛ لو 51:11، 33:13، 17:15، 27:17، 29، 47:19؛ يو 10:10، 14:18؛ 1كو 9:10) بل إن في واحدة منها وهي يوحنا 10:10 تترجم "يموت"، وفي جميع هذه الحالات لا يقصد الملاشاة إطلاقاً.

بل الأكثر من ذلك أن الفعل "أبولومي" مستعمل بمعنى: «مفقود» أو «ضال» كما في متى 24:15 خراف بيت إسرائيل «الضالة» (مت 24:15)، وكما في لوقا 15 الخروف «الضال» والدرهم «المفقود» والابن «الضال»، كلها أمثلة على استخدام هذه الكلمة بهذا المعنى. وكذلك في متى 6:10، 11:18؛ لوقا 10:19؛ 2كورنثوس 3:4. هذه جميعها أمثلة على عدم نفع الشيء للغرض من وجوده. وعلى هذا القياس نفسه، مع ملاحظة الفرق الهائل بين الشيء الجماد والكائن الأدبي المسئول كما هو الإنسان، نفهم معنى الأشرار.

إني لا أدعي لنفسي أكثر من ثقافة عادية ولكني أتحدى الجميع، إذ أقرر أنه ولا واحدة من هذه الكلمات تعني في ذاتها الملاشاة على الإطلاق. ليكن البرهان فقط من الكتاب، وليحتكم إليه من يشاء. والآن ننتقل إلى كلمات أخرى.

الكلمة التالية هي : "أفانيزو" (aphanizo)، وهي تسخدم مرة للتعبير عن «هلاك» غير المؤمنين «انظروا أيها المتهاونون، وتعجبوا واهلكوا!» (أع 41:13)، ومرة للتعبير عن «اضمحلال» الحياة كالبخار الذي يظهر قليلاً (يع 14:4) والمعنى الثاني هو المقصود في الحالتين، ولو أن لها معاني أخرى. أما القول إن الرسول يخبرنا أن غير المؤمنين "سيقومون من قبورهم ويتطلعون إلى ما رفضوه وأنهم سيتعجبون من غباوتهم ثم يتلاشون من الوجود" إنما هو محض اختراع - فلا يوجد شيء في النص عن الموت الثاني ولا عن القيام من القبور أو حتى عن الخروج من دائرة الوجود بالمعنى المادي. هذا شيء لا جدال فيه لأن النص ما هو إلا اقتباس بسيط لحبقوق 5:1 كما ورد في "الترجمة السبعينية"، ولا مجال هناك لمثل هذه الأفكار لا في النص ولا القرينة. فهو هناك «تحيروا حيرة واهلكوا» وقد اقتبسه الرسول بولس «تعجبوا واهلكوا».

نأتي بعد ذلك إلى أربع كلمات مرتبطة بعضها ببعض وهي : "فثيروا، فثورا، ديافثيرو، كاثافثيرو". وفي العهد الجديد تترجم الأولى والثانية «فاسد» و «فساد». وترد الثالثة ست مرات: «ولا يُبلى سوس» (لو 33:12)، «منازعات أناس فاسدي الذهن» (1تي 5:6)، «إن كان إنساننا الخارج يفنى» (2كو 16:4)، «وأهلك ثلث السفن» (رؤ 9:8)، «وليهلك الذين كانوا يهلكون الأرض» (رؤ 18:11). أما الرابعة ففي مكانين نجدها: «أناس فاسدة أذهانهم» (2تي 8:3)، «فسيهلكون في فسادهم» (2بط 12:2). والمعاني واضحة وضوحاً كافياً في هذه الفصول، ولكن الأخير منها هو ما يتمسك به أصحاب نظرية الفناء بأكثر شدة لأن بطرس يقول: «أما هؤلاء فكحيوانات غير ناطقة، طبيعية، مولودة للصيد والهلاك .. فسيهلكون في فسادهم» ونفس الكلمة اليونانية المستعملة للتعبير عن نهاية الحيوانات هي نفسها المستعملة للتعبير عن نهاية الأشرار. هذا صحيح.

ولكن النقطة في الواقع هي التي سبق وأشرنا إليها وهي كون الإنسان يفقد المكان الذي لأجله خُلق أصلاً والذي يؤهله له تركيبه الطبيعي. من هذا المكان يهلك، ويهلك هلاكاً كاملاً؛ "يفقد نفسه ويطرح بعيداً". هذا هو المصير الطبيعي "للحيوان غير الناطق المولود للصيد والهلاك" - أي ليملأ مكاناً وقتياً وليس أبدياً. وهكذا الإنسان المخلوق ليحتل احتلالاً أبدياً المكان المُعيَّن له يهلك مثل الحيوان أي يخسر ذلك المكان المُعيّن له ويفقده إلى الأبد. والمقارنة بالحيوان واضحة هنا وضوحاً كافياً دون أن يتضمن الملاشاة الفيزيقية كما يود الماديون أن يقترحوا.

والكلمتان الأخريان : "اكزولوثريو" (exolothreue) ، و "أولثروس" (olethros) . الأولى منهما ترد مرة واحدة في أعمال 23:3، والثانية أربع مرات - ثلاث منها للتعبير عن هلاك الأشرار. ومعناها جمعياً الدمار أو الهلاك أو الموت.

والكلمة الأخيرة "كاتارجيو" (katargeo) ومعناها إبطال أو إلغاء أو جعل الشيء بلا أثر. وهي المترجمة «يبيد»، ترد في 1كورنثوس 13:6، 2تسالونيكي 8:2، عبرانيين 14:2، و «يبطل»، ترد في 1كورنثوس 6:2، 26:15، 2تيموثاوس 10:1.

وليذكر القارئ أن كلها مرادفات كلمة «هلاك» (destruction) التي يعتمد عليها الفنائيون في نظريتهم الفاسدة، وفاتهم أن الكتاب يسد عليهم جميع الأبواب كما سنرى بأكثر وضوح.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.