قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

12

الوعـي أو الشعور بعد الموت

(ب)

في المقال السابق أن الرب يؤيد تعليم الفريسيين فيما يتعلق بالوجود الواعي في حالة السعادة أو التعاسة بعد الموت. والآن ننتقل إلى فصل في الكتاب يبين إلى أي مدى كان تلاميذ الرب متشبعين بالتعليم الكتابي فيما يتعلق بهذه النقطة، ذلك لأننا نقرأ أنه بعد قيامته عندما كان التلاميذ مجتمعين معاً «وقف يسوع نفسه في وسطهم، وقال لهم: سلامٌ لكم! فجزعوا وخافوا، وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم: ما بالكم مضطربين، ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجليّ: إني أنا هو! جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي» (لو 36:24 - 39).

واضح هنا أن التلاميذ عرفوا صورة الرب. والواقع أنه ما من مرة من مرات ظهوره لهم نجد شيئاً خيالياً أو شبحياً يجعلهم يظنون أنهم كانوا يرون روحاً. فمريم المجدلية ظنته البستاني. وتلميذا عمواس، قبل اجتماعهما بالتلاميذ بساعات قليلة، ظناه شخصاً عادياً، وعندما اجتمعا بالتلاميذ والذين معهم وجداهم «يقولون إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان». وبينما كانا يخبران بما حدث في الطريق «وقف يسوع نفسه في الوسط». إن هذا الظهور المفاجئ والأبواب مُغلّقة هو الذي أذهلهم. إنهم لم يشكوا في مَن هو، ولم يكن جسهم إياه ليعطيهم هذه المعرفة. إنهم كانوا يدركون ويعرفون أنه الرب، والرب لم يكن بحاجة لأن يخبرهم عن اسمه فهو لا يقول "إني أنا يسوع" بل «إني أنا هو» مستخدماً اللغة العادية التي أشرت إليها، لغة الحس، التي تقرن الإنسان بجسده وليس بروحه «جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي». ومن هذا يتضح أن المشكلة لم تكن هل هو يسوع أم شخص آخر؟ بل هل هو يسوع في الجسد أم روح فقط؟ وقد أجاب الرب على هذا السؤال.

فلم تكن المسألة عندهم إذن مسألة خيال أو حقيقة بل مسألة وجود جسدي أو روحي. هذا هو كل ما كان يشغل بالهم. فالتلاميذ الذين رأوه إنساناً حياً بينهم لم يكن ليكفيهم أن يروا روحه الراحلة، لأن المسألة عندهم لم تكن مسألة حقيقة فلسفية تتعلق بما وراء القبر وترتبط بالعقل الباحث، بل كانت مسألة حب قلبي ربطهم بشخصه العزيز المبارك. وما كان من شيء يطمئن قلوبهم ويعزي خواطرهم سوى تحققهم من أنه هو نفسه. وهذا ما يؤكده الرب لهم. وعندما رأوه وقد ظهر لهم هذا الظهور المعجزي لم يصدقوا أنه كان يمكن أن يكون إنساناً حياً جاء وسطهم بهذه الكيفية العجيبة فظنوا أنهم رأوا روحاً - الأمر الذي يصححه، له المجد - بأمره إياهم أن يتحققوا أن له لحماً وعظاماً. وهذا وحده ما كانت تستطيع قلوبهم أن تسميه «أنه هو» نفسه.

ولكنه واضح هنا أيضاً أن تلاميذ الرب كانوا من حيث هذه النقطة فريسيين، والرب بدلاً من مراجعة أفكارهم باعتبارها خيالات خرافية، يوجه أنظارهم إلى عدم جسمانية «الروح» وإلى لحمه وعظامه.

ونحن نستطيع أن نعرف مدى شيوع استخدام كلمة «روح» من العبارة الموحى بها عن معتقدات اليهود في أعمال 8:23 «لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح، وأما الفريسيين فيقرون بكل ذلك» فهنا أيضاً نرى كلمة روح مستخدمة استخداماً عادياً للتعبير عن أرواح البشر بالانفصال عن الجسد. أما الملائكة فطبقة أخرى من الأرواح. وهذا ما تؤيده القرينة. لأن بولس وهو يُحَاكَم بشأن أقواله عن قيامة يسوع أعلن أنه فريسي مؤمن بالقيامة. وهنا انقسم المجمع «فحدث صياح عظيم، ونهض كتبة قسم الفريسيين وطفقوا يخاصمون قائلين: لسنا نجد شيئاً ردياً في هذا الإنسان! وإن كان روح أو ملاك قد كلمه فلا نحاربنَّ الله» (ع 9). يتضح من هذين الفصلين أن الملائكة تعتبر طبقة من الكائنات منفصلة عن الأرواح المُتكلَم عنها - «إن كان روح أو مـلاك». وبولس يربط نفسـه مع الفريسيين في هـذه العقيدة - قيامة الأموات - ويعود فيذكرها مرة ثانية مبيناً النقاط التي تتفق فيها مع عقيدة المسيحيين. «لأن الصدوقيين يقولون إنه ليس قيامة ولا ملاك ولا روح، وأما الفريسيين فيقرون بكل ذلك». وتدل لغة الكاتب الملهم هنا على موافقته على هذا التعليم حيث يقول «وأما الفريسيون فيقرون بكل ذلك» والمعنى المفهوم من كلمة «يقرون» هو أنهم يعترفون بحقيقته، أي أن الإيمان الفريسي والإيمان المسيحي يتفقان في هذه الأمور.

وفي ضوء هذه الحقائق الإيمانية تصبح بعض الفصول الكتابية واضحة جلية مثل كلمات الرب للص المائت «اليوم تكون معي في الفردوس» أو طلبة استفانوس وسط الحجارة المنهالة عليه من أعدائه «أيها الرب يسوع اقبل روحي» أو «ترجع الروح إلى الله الذي أعطاها» أو الفصل الذي يتكلم عن «أرواح أبرار مكملين» بالقيامة في عبرانيين 40:11. وستأتي أمامنا كلمات الرب للص في مناسبة أخرى أما الآن فلنتحول إلى بعض فصول أخرى.

في فيلبي 21:1- 24 نجد عبارة تحتل بطبيعة الحال مكاناً هاماً في المجادلة حول هذا الموضوع وهي قول الرسول «لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح. ولكن إن كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عملي، فماذا أختار؟ لست أدري! فإني محصور بين الاثنين: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً. ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم». هذا الفصل واضح وبسيط يكاد لا يحتاج إلى إيضاح أو تفسير ولكن نظراً لأهميته في وضع الأمور في نصابها ورغبة في إجلاء معناه إلى أقصى حد بحيث لا نترك مجالاً لأي نقص أو اعتراض فإننا نقسمه إلى أقسامه ونتأمل في كل قسم على حدة:

(1) الشيء الأول هو أن غرض الحياة عند الرسول كان المسيح. والموت كان ربحاً. هذا هو المعنى الوحيد الواضح. فلا شك أن عبارة «لأن لي» الواردة في بداية الجملة تسري على كل من العبارتين التاليتين. فيمكننا أن نقرأها هكذا: "لأن لي الحياة هي المسيح (لأن لي) الموت هو ربح". فهو لا يقول كما يود البعض أن يقرأوا الجملة "لأن لي الحياة هي ربح لقضية المسيح" بل: «لأن لي الحياة هي المسيح» أي أن المسيح هو غرض حياتي. وعندما يأتي للكلام عن الربح لا يقول "لقضية المسيح" بل: «لأن لي الموت هو ربح». ثم يستمر قائلاً:

(2) «فماذا أختار؟ لست أدري!». أليس واضحاً أنه رغماً عن كون الموت ربحاً له فإنه كان محصوراً بين اختيار الموت أو الحياة، وذلك لأن الأمر كان يتعلق باختيار ما فيه صالحه الشخصي أو ما فيه صالح القديسين كما يخبرنا بعد ذلك. ففي كلامه التالي لا يمكن لأي ذهن مخلص إلا أن يرى أن الرسول إنما كان يعلن سبب حيرته بين هذين الشيئين (الموت أو الحياة) عندما يقول «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جداً. ولكن - هنا الحيرة - أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم». فمع أن الموت كان ربحاً له، وهو كان يعرف ذلك يقيناً، إلا أن الانحصار كان بين ربحه الخاص وربح الآخرين. فالانطلاق ليكون مع المسيح لم يكن شيئاً ثالثاً على الإطلاق. لقد كان محصوراً بين اثنين لا ثالث لهما: الموت والحياة - الأول: ربح له، والثاني: ربح للقديسين. وهو يحدد هنا بدقيق العبارة أن الانطلاق والوجود مع المسيح معناه الموت كما أن البقاء في الجسد معناه الحياة أو العيشة على الأرض.

(3) ولكن هنا بالذات يثير المعترضون كل ما يستطيعون من ضوضاء ويستخدمون كل ما عندهم من علم واسع باللغة اليونانية محاولين إقناعنا بأن كلمة analusan ليس معناها «ينطلـق» to depart بل يرجع to return وإن العبارة في عرفهم يجب أن تُقرأ: "لي اشتهاء لرجوع المسيح والكينونة معه" ولكن لسوء الحظ هذه النظرية أن الرسول بولس يستعمل نفس الكلمة اليونانية في مكان آخر (2تي 6:4) مشيراً بما لا يترك مجالاً لأي شك إلى موته حيث يقول «فإني أنا الآن أُسكَب سكيباً، ووقت انحلالي my departure قد حضر. قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي ..» فإذا كانت الكلمة هنا معناها بصريح العبارة الانحلال أو الموت فلماذا لا يكون معناها هكذا هناك حيث القرينة تحدد معناها بالموت. إن البعض من أصحاب نظرية الفناء على استعداد للتسليم بأن قول الرسول «أن أنطلق» معناه الموت ولكنهم يصرون على أن النصف الثاني من الجملة «وأكون مع المسيح» لا بد أن يكون معناه الحالة المجيدة عند القيامة، واضعين بين الحادثتين (الموت والقيامة)، حالة يسمونها اللاشيئية أو حالة اللاوجود أو نوم النفس. وهذا يجعل الانطلاق إلى دائرة النسيان أو عدم الوعي «أفضل جداً» من الشركة الحاضرة مع المسيح والفرح في الله وتمجيد المسيح بخدمة كخدمة الرسول! ويا له من لغز عجيب!

وهنا نشير مرة أخرى مجرد إشارة إلى 2كورنثوس 5 ، فإن العبارات الواردة بهذا الفصل «مستوطنون في الجسد» - «متغربون عن الرب» - «نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب» تتحدث بنفس اللغة الواضحة التي كنا نتأمل فيها الآن. ثم ننتقل إلى نص واحد كتابي آخر في هذا الموضوع وهو نص يصور لنا في واقعية كاملة ذات الشيء الذي هو موضوع بحثنا - ليس في مَثَل بل في حقيقة تاريخية - رجل متغرب عن الجسد - روح واعية بأمور لا يُنطق بها - شعاع عابر يضيء من دائرة غير المنظور - موسى على جبل التجلي مع الرب.

لم يكن الأمر حلماً فإن العيون المغلقة بالنوم لم تره بل بالعكس إذ استيقظت رأته: «وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم. فلما استيقظوا رأوا مجده، والرجلين الواقفين معه» (لو 32:9). ذلك يدل أيضاً على أن الأمر لم يكن مجرد رؤية تجلّت لهم عند اليقظة بل إن المشهد كان هناك قبل أن يروه - «موسى وإيليا يتكلمان معه (مع يسوع)» إنه كان شيئاً حقيقياً واقعياً بغض النظر عن جميع المشاهدين وما أبسط وصفه «رجلان يتكلمان معه، وهما موسى وإيليا» - واحد منهما رُفع بمجد إلى السماء منذ قرون مضت، والآخر «انطلق» منذ عهد أطول ودفن جسده ومع ذلك لا زال «رجلاً» يرى ويشاهد ويتكلم، فلا هو تلاشى ولا هو نائم، بل في ملء نشاط التفكير والتمتع. ولا هو مُقام من الأموات أيضاً كما يحلو للبعض أن يتصوروا لأن يسوع نفسه هو «الباكورة» كما هو «البكر من الأموات». والمسألة هنا لم تكن مجرد إعادة البعض إلى الحياة الأرضية التي تركوها منذ ساعات أو أيام، مثل لعازر وغيره الذين أقامهم الرب، بل مسألة رجل يتمتع ببركة جو آخر - جو ما كان ممكناً أن يتمتع به ما لم يكن قد أُقيم (حسب رأي أصحاب نظرية نوم النفس أو عدم وعيها) قيامة روحية وفي عدم فساد. ولكن هذه القيامة بدايتها وباكورتها وبكرها هو الرب نفسه كما يؤكد الكتاب. فموسى إذن لم يكن ممكناً أن يكون هذه الباكورة أو هذا البكر. ويتضح من هذا أنه كان في حالة الانفصال عن الجسد وقتذاك، ومع ذلك كان شريكاً لواحد لم يمر بالموت إطلاقاً ومع أنهما لم يكونا على صورة جسد مجد المسيح إلا أنهما ظهرا «بمجد»، وللناس أن يفسروا ذلك ما شاء لهم التفسير، وليس ذلك فقط بل دخلا في السحابة أو «المجد الأسنى» (كما يسميها بطرس بعد ذلك) - سحابة الحضور الإلهي.

فهل يمكن أن يكون هناك ما هو أوضح من ذلك لتبيان حالة الإنسان بعد الموت أو الانطلاق؟ إني شخصياً أعترف بأني لا أفهم كيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك وها هو مسموح لنا هنا أن نتفرس في شخص قد رحل أو انطلق بالموت، أو كيف نتحقق بغير ذلك أن راحلين كإبراهيم أو اسحق أو يعقوب يكونون لا زالوا "أحياء عنده" - عند ذاك الذي كما يخبرنا الرب «ليس إله أموات بل إله أحياء». من هذا نرى كيف أنهم عند الله أحياء أولئك الذين هم عند الناس أموات. وهكذا نتعلم كيف نميز لغة الحس ولغة الإيمان، نتعلم كيف يوجد حقاً انطلاق ووجود مع المسيح، وأن هذا الانطلاق بالمقارنة مع الحياة الأرضية هو أفضل جداً. إن أية حجة يسوقها أصحاب نظرية الفناء ضد هذا الفصل الكتابي لا يمكن أن تقف على قدميها لحظة واحدة بل تنهار من أساسها على الفور. والواقع أن جميع حججهم قد استُعرضت ونُقضت لأن كل ما في جعبتهم هو أحد شيئين: إما أن موسى قد أُقيمَ من الأموات وهذا ينقضه الوحي في أماكن أخرى (كو 18:1؛ 1كو 23:15؛ رؤ 5:1)، أو أن الأمر فقط كان مجرد "رؤية" أو ظهور، الأمر الذي ينقضه الفصل نفسه. وعلى ذلك فإني أستطيع هنا أن أترك مسألة الوعي أو الشعور بعد الموت (ولو أنه توجد نصوص أخرى تؤيدها كل التأييد) - أقول أتركها هنا وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن الروح القدس قد أعطانا في الكتاب المقدس الجواب الشافي الكامل بشأنها.

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.