لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

المعمودية المسيحية في منظور العهد الجديد

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الفصل الخامس

 

المعمودية المسيحية في منظور العهد الجديد

 

الآن بنعمة الرب في ذكر بعض الشواهد الكتابية التي وردت في العهد الجديد، فيما يخص المعمودية:-

أولاً : في الأناجيل الأربعة:

ورد ذكر المعمودية في البشائر الأربعة متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مرتين فقط:

المرة الأولى:

في إنجيل متى: "فتقدم يسوع وكلمهم (كلم تلاميذه بعد القيامة) قائلاً: دُفع إلىَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض، فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (مت18:28-20). هذه هي المرة الأولى التي يرد فيها الكلام عن المعمودية المسيحية، وقد تكلم به الرب على الجبل الذي في الجليل، حيث أمرهم أن يذهبوا ليروه (مت7:28-16)، وكصاحب السلطان المطلق في السماء والأرض أمر تلاميذه أن يذهبوا، لا لإسرائيل فقط، كما أرسلهم قبل صلبه وقيامته (مت5:10-10)، بل: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم". وفي هذه الأقوال نرى أمر الرب - لا للناس ليعتمدوا بل - للرسل لكي يتلمذوا ويعمدوا.

كما أننا في أقوال الرب هذه نلمس الإعلان عن الله في جوهر لاهوته في القول: "وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"، يقول: "عمدوهم باسم..."، وليس بأسماء، للدلالة على الوحدانية، أي أن الله واحد. ثم بعد كلمة "باسم"، يقول: "الآب والابن والروح القدس"، للدلالة على أن وحدانية الله جامعة، وهذا هو الأساس الذي يُبنى عليه الإيمان المسيحي القويم.

كما أنني أود أن ألفت انتباه القارئ للترتيب الكتابي في أقوال الرب السابقة: "فاذهبوا" ثم "تلمذوا" ثم "عمدوا" ثم "علموا"، وهذا ما سنراه واضحاً في (أع37:2-42)، في يوم الخمسين: سمعوا، ثم نُخسوا، ثم تابوا وقبلوا الكلمة بفرح واعتمدوا وانضموا، ثم كانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات.

مما سبق نستنتج أن الغرض من إرسالية الرب للتلاميذ هو التلمذة {أي جعل الآخرين تلاميذ}، وكلمة تلميذ تعنى: "من يتبع باختياره معلماً ويشاركه أفكاره"، وهذا التعبير يندر وجوده جداً في العهد القديم، وقد استُخدم للإشارة أولاً للاثني عشر، ثم إلى من يتبع الرب يسوع (مت1:10،1:12،. . .). وهؤلاء التلاميذ يؤمنون أولاً ثم يعتمدون بالماء ثم يتعلموا.

 

المرة الثانية:

في إنجيل مرقس قال الرب يسوع للتلاميذ، بعد القيامة: "اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن" (مر15:16-16). وهنا، في هذه المرة، يصدر الأمر من الرب للتلاميذ بأن "يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها"، وفى ذات الوقت يقرر لهم هذا الحق: "من آمن واعتمد خلص"، الإيمان أولاً ثم المعمودية ثانياً، مع أنه في القول الخاص بالدينونة لم يذكر المعمودية، بل قال: "ومن لم يؤمن يدن"، فالإيمان ضروري للخلاص ثم تتبعه المعمودية. هذا لا يعنى أن المعمودية أيضاً لازمة للخلاص الأبدي، لأن الجزء الأخير في الآية يوضِّح: "من لم يؤمن يدن". فالدينونة تأتى نتيجة لعدم الإيمان، وليس بسبب عدم المعمودية.

في (متى 18:28-20) نرى الأمر صادر من الرب للتلاميذ، بالقول: "اذهبوا"، "تلمذوا"، "عمدوا"، "علموا"؛ أما في (مرقس 15:16،16)، فنرى الأمر صادر من الرب للتلاميذ، بالقول: "اذهبوا إلى العالم أجمع، اكرزوا"، وبقية الكلام لا يحوي أي أمر، بل "من آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن". في إنجيل متى تُذكر المعمودية بصورة أساسية وبارزة في صيغة أمر من الرب لرسله، أما في إنجيل مرقس فتُذكر المعمودية تابعة للإيمان كشيء أساسي. وبهذه الكيفية تصبح المعمودية الشهادة العلنية للإيمان. إن كان يتحتم على التلاميذ إطاعة أمر الرب: "اذهبوا، وتلمذوا ، وعمدوهم، وعلموهم"، يتحتم أيضاً على كل من يؤمن أن يطيع قول الرب "من آمن واعتمد خلص"، فلا جدوى من إظهار الطاعة لجزء وترك الجزء الآخر.

وفي المرتين نلاحظ تقدماً تدريجياً منطقياً فيما يجب أن يحدث: "اذهبوا... ،اكرزوا"، ثم "من آمن واعتمد..."، وهل يوجد أوضح من ذلك؟!!

يعتقد البعض أن التلمذة تكون بالتعميد ثم بالتعليم. إن كانت التلمذة بالتعميد ثم بالتعليم، فنحن نسأل: هل هذا هو الترتيب الصحيح بحسب كلمة الله في المواضع التي جاء فيها الحديث عن المعمودية؟ بالرجوع إلى كلمة الله نجد أن هذا الترتيب ليس مطابقاً لأقوال الرب، ففي (متى 18:28-20)، نجد أن الترتيب هو: اذهبوا - تلمذوا - عمدوا - علموا.

وفى (مرقس 15:16-16)، نجد أن الترتيب هو: اذهبوا - اكرزوا بالإنجيل - يؤمنون - يعتمدون.

وفى (أع 41:2)، نجد أن الترتيب هو: قبلوا كلام البشارة على فم الرسول بطرس - اعتمدوا - انضموا إلى الكنيسة - واظبوا على التعليم والشركة وكسر الخبز والصلوات.

وفى (أع 12:8)، نجد أن الترتيب هو: صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم يسوع المسيح - اعتمدوا رجالاً ونساء.

وفى (أع 35:8-39)، نجد أن الترتيب هو: بشر فيلبس الوزير الحبشي بيسوع - قال الوزير أنا أؤمن أن يسوع المسيح هو ابن الله - فنزلا كلاهما ( فيلبس والوزير) إلى الماء - فعمده.

وهكذا في بقية المواضع التي يتكلم فيها الروح القدس عن المعمودية، نجدها تأتى بنفس الترتيب وهو: أولاً الكرازة التي تقود بعمل الروح القدس إلى الإقناع الداخلي والقبول الشخصي للمسيح بالإيمان، فتنشأ علاقة لهذا الشخص بالمسيح، ويصبح تلميذا ليسوع المسيـح، فيعلن ذلك إذ يعتمد بالماء، ثم يبدأ دور التعليم.

لا يمكننا أن نعلّم شخصا ما، أمور الله السامية والعظيمة، إلا بعد أن يحصل على الخلاص، وليس من الصواب القول بأن خدمة التعليم تسبق خدمة التبشير، فالتبشير والكرازة تأتي أولاً، ثم التعليم ثانياً، وهذا هو الوضع الصحيح في كلمه الله: أن لا نعلّم إلا من حصل على الإيمان واختبر الميلاد الثاني. لذلك فالمسيح أعطى لكنيسته المبشرين أولاً، ثم الرعاة والمعلمين بعد ذلك (اف 11:4). فدائرة خدمة المبشر هي: "العالم أجمع"، والذين يخلصون ينضمون إلى كنيسة الله، ثم بعد ذلك يأتى دور المعلم والتعليم، بمعنى أن نبشر الخاطئ بأخبار الإنجيل المفرحة، ثم بعد قبوله للإيمان يمكننا أن نعلّمه.

يقول الرسول بولس في رسالته إلى تيطس: "لأنه قد ظهرت نعمه الله المخلصة لجميع الناس، معلمة إيانا أن ننكر الفجور والشهوات العالمية، ونعيش بالتعقل والبر والتقوى في العالم الحاضر..." ( تى11:2-13 )، فالنعمة تخلص أولاً، ثم تعلّم، وليس العكس، لأن النعمة لا تبدأ عملها التعليمي فيّ، إلا بعد أن تكون قد خلصتني. فمدرسه النعمة تُتَـلمِذ المُخَلَّص خلاصاً أبدياً. فالنعمة كمخلِّص لا تطلب إلا الهالكين، وكمعلِّم لا تعلم إلا المخلّصين، لأن غير المخلصين لا طاقه لهم على تعلم دروسها المقدسة. فنحن مدينون للنعمة بكل شيء: بالدروس التي نتعلمها، وبالقوة التي تعلمنا تلك الدروس، النعمة لا تعلِّم الأموات بل تحييهم، ولا تعلم الدنسين بل تطهرهم، ثم تُدخل في مدرستها أولئك الأحياء والمُبرَّرين والمُطهَّرين، وتعلمهم أن ينكروا الفجور والشهوات العالمية ويعيشوا بالتعقل والبر والتقوى في الزمان الحاضر، أي كل مده البرية.

قال الرب يسوع: "تعالوا إلىّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم...، تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحه لنفوسكم" (مت28:11-29)، فالحصول إذن على الراحة يتأتَّى أولاً بالرجوع للمسيح، ثم بعد ذلك التعليم.

هذا، جنبا إلى جنب، مع الكلام السابق من جهة الترتيب الواضح في كل الأعداد السابقة، وهو: قبول الكلمة، ثم المعمودية، ثم المواظبة على تعليم الرسل. مع ملاحظة نفس الترتيب في (مت19:28): التلمذة "تلمذوهم"، ثم المعمودية "وعمدوهم"، ثم التعليم "وعلموهم".

ومن هنا يأتي السؤال: هل من المعقول أننا بعد أن نعمد طفلاً، أن نعلمه مباشرة؟ وهل هذا الطفل يفهم ما فعلناه معه عندما اعتمد، حتى أنه يفهم ما نعلمه إياه بعد ذلك من وصايا الرب ليحفظها؟ أم يا ترى نحتاج أن ننتظر أعواماً هذا عددها، حتى يكبر ويدرك، ثم نبدأ معه التعليم؟!!

أذكر هذا من واقع الاختبار ككارز للمسيح، ما أصعب أن نصل ولو بحقائق الإنجيل البسيطة الخاصة بالمسيح وعمله وخلاصه المقدم للإنسان، لهؤلاء المعمَّدين في طفولتهم، وخاصة في هذا العصر، إذ نرى رفضاً لتعاليم المسيح، وقبولا لفساد وشر ومبادئ هذا العالم الحاضر الشرير!!

إذاً من نُعلٌم؟ أليس بالأَوْلَى الذين بُشِّروا أولا، ثم آمنوا واعتمدوا؟ وإن كان الأمر كذلك، فإننا نرجع إلى الترتيب الصحيح، وهو: الكرازة التي تقود إلى الإيمان، ثم قبول المسيح، ثم المعمودية، ثم التعليم.

إذاً فالتلمذة الحقيقية تأتى عن طريق الإيمان والاعتماد، وليس بالمعمودية وحدها ثم بعد ذلك التعليم.

ويتضمن الاعتقاد السابق أن المعمودية والتعليم هي المكني عنها بمفاتيح ملكوت السماوات، وهذه المفاتيح أُعطيت ليد الإنسان في (مت 16 : 19).

وفي الواقع أقول أن هذا الكلام بالتأمل فيه نجده ليس مطابقاً للمكتوب، فبالعودة إلى العدد المذكور أعلاه نرى أن بطرس هو أول من أعلن الآب له هذه الحقيقة العظمى المرتبطة بشخص المسيح، بأنه "المسيح ابن الله الحي"، ولما قال بطرس هذا الإعلان كان جواب الرب يسوع: أنه على هذه الصخرة - "المسيح ابن الله الحي" - يبنى كنيسته، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، ثم قال له بعد أن طَوَّبهُ: "وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات". ولقد تمم الرب لبطرس ما وعده به، إذ استخدمه في فتح الأبواب لدخول البشر في دائرة جديدة، هي دائرة ملكوت السماوات. ففي الأصحاح الثاني من سفر الأعمال نجد أول مفتاح الذي فتح الباب أمام اليهود، وفى نفس السفر الأصحاح الثامن نجد المفتاح الثاني الذي فتح الباب أمام السامريين، ثم في الأصحاح العاشر نجد المفتاح الثالث الذي فتح الباب أمام الأمم. وبالعودة إلى هذه الأحداث الثلاثة، نرى أنهم آمنوا أولا، وسبق هذا الإيمان الكرازة بالإنجيل عن المسيح المخلص، ثم بعد ذلك اعتمدوا، وبعدها جاء دور التعليم، فكيف تكون مفاتيح ملكوت السماوات هى المعمودية والتعليم؟

وفي سفر الأعمال يقولالرسول بطرس في مجمع الرسل والمشايخ: "أيها الرجال الإخوة: انتم تعلمون انه منذ ايام قديمة اختار الله بيننا انه بفمى يسمع جميع الأمم كلمة الانجيل ويؤمنون. والله العارف القلوب شهد لهم، معطيا لهم الروح القدس كما لنا أيضا، ولم يميز بيننا وبينهم بشىء اذ طهر بالايمان قلوبهم" (أع7:15-9)، وهذا يوضح أن المفاتيح التي استخدمها هي سماع كلمة الإنجيل والإيمان وإعطاء الروح القدس وتطهير قلوبهم بالإيمان. وهذا ما لا يتم للأطفال مطلقاً.

ويقول ذات المعتقد السابق: "كما أنه ينبغي أن يكون المتتلمذ ذا إرادة تطيع الحق وتخضع له"، ومن هنا نسأل هل للطفل ارادة طائعة للحق وادراك وخضوع؟ ثم هل نتعلم لنصير تلاميذ أم نصير تلاميذ لنتعلم؟ وبعبارة أخرى: هل نتعلم لندخل المدرسة أم ندخل المدرسة لنتعلم ؟ فكيف يصير القول: "نسمح للأطفال بالدخول في دائرة الملكوت ثم بعد ذلك نعلمهم ونتلمذهم" مقبولاً؟!

في سفر الأعمال ترد كلمة "تلاميذ" كثيراً، وبفحصها نرى ان الذين قيل عنهم انهم تلاميذ، قد بُشِّروا أولا، ثم آمنوا واعتمدوا، وهذا ما لا يتناسب مع الأطفال نهائياً. راجع، على سبيل المثال: (أع 2: 41 4:4 ، 6: 1 ، 1:9و10و19و25و26و36 ، 11 :25و26و29 ، 13: 52 ، 14 :21و22 ) .. الخ. في هذه الأعداد وغيرها، نلاحظ أن كلمة "تلميذ" لم تطلق على أحد إلا بعد الإيمان، وسكنى الروح القدس. قيل عن شاول الطرسوسي بعد الإيمان: "وكان شاول مع التلاميذ" (اع9 : 19)، ولما جاء إلى اورشليم نقرأ: "وكان الجميع يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ" (أع 9 : 26). وعن التلاميذ جاء هذا الوصف الرائع: "وأما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس" (أع 13 : 52). وعن بولس وبرنابا في دربة: "بشرا في تلك المدينة وتلمذا كثيرين"، لاحظ القول: "بشرا" ؛ وتلمذا"؛ ثم يقول: "ثم رجعا إلى لسترة وأيقونيه وإنطاكية يشددان أنفس التلاميذ" ( أع 14 : 21 , 22 ). أَبَعْدَ هذا نقول أن كل من هم في دائرة الاعتراف المسيحي هم تلاميذ لأنهم اعتمدوا وهم أطفال؟!

 

ثانياً: في سفر الأعمـال:

في هذا السفر يأتى الحديث عن المعمودية كثيراً، بعكس الأربعة بشائر، فنجد أن المعمودية يرد ذكرها حوالي 16 مرة. وفى هذا السفر تبرز التلمذة الحقيقية، وأخبار العمل الإلهي في الكنيسة الأولى، ونتائج الكرازة، لذلك نرى معمودية الذين آمنوا، فالكرازة كانت تقدم للبالغين فإن قبلوها كانوا يعتمدون .

بالإضافة إلى ذلك نرى أن المعمودية في هذا السفر هي "باسم الرب يسوع"، وذلك لأن الموضوع في هذا السفر هو الشهادة للرب يسوع الذى احتُقر من اليهود حتى الصلب، لكنه قد تمجد بالقيامة، لذلك فمن يعتمد باسمه يعلن عن التحاقه بالدائرة التى تعترف بيسوع رباً، ويعلن عن ارتباطه وخضوعه لهذا الشخص المجيد. وليس ذلك فقط، بل إن المعمودية باسم المسيح تعبر عن عمق الاتحاد والشركة والخضوع التى يعلنها المسيحى الراغب في الاعتماد للشخص الذي يعتمد باسمه، وكذلك من اعتمد إلى اسمه يعلن عن اتحاده به. مع ملاحظة أن الإشارة الواردة في (أع 19)، تعطينا وضوحاً أكثر بأن المعمودية باسم المسيح ليست تعدياً على مكانة الآب أو الروح القدس، وليست تناقضا مع ما أمر الرب به تلاميذه بأن يعمدوا باسم الآب والابن والروح القدس. فعندما وصل الرسول بولس ‎إلى مدينة أفسس ووجد فيها تلاميذ، سألهم قائلاً: "هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم؟" فكان جوابهم له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس، عندئذ سألهم قائلاً: "فبماذا اعتمدتم؟".. ومن هذا السؤال نفهم أن الرسول بولس سألهم لأن المعمودية المسيحية تتم باسم الآب والابن والروح القدس فلو أنهم عُمّدوا بالمعمودية المسيحية، لَمَا قالوا: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. لذلك كان جوابهم للرسول أنهم اعتمدوا بمعمودية يوحنا، عندها شرح لهم الحق في قول يوحنا المعمدان عن المسيح، فقبلوا كلامه واعتمدوا باسم الرب يسوع.

يمكننا أن نفهم أن المعمودية دائماً كانت تتم باسم الآب والابن والروح القدس، لكن عندما تأتى الاشارة اليها يذكر أنهم اعتمدوا باسم الرب يسوع، وهذا تأكيد للحقائق الآتية:-

أ أن المسيح هو صوره الله غير المنظور والخالق العظيم، والذي فيه سُر أن يحل كل الملء (كو 1 : 15 ، 16 ، 19)، وفيه "يحل كل ملء اللاهوت جسديا" (كو2 : 9).

ب أن المسيح قد ُدفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض (مت 28 : 18).

ج أن المؤمن يُدفن ويقوم مع المسيح في المعمودية (رو6: 2-5).

د أن خطايا المؤمن قد غُفرت لأجل اسم الرب يسوع (1يو2 :12).

هـ ما لهذا الاسم من سلطان وقوه وعظمه.

ولقد جاء الكثير في سفر الأعمال عن ممارسه المعمودية كما يلى :-

  • معمودية الثلاثة آلاف نفس في أورشليم (أع 2 :38-41) في يوم الخمسين بعد أن انسكب الروح القدس على التلاميذ.

  • معمودية رجال ونساء من السامرة (أع 8: 12) نتيجة كرازة فيلبس المبشر في السامرة.

  • معمودية الخصي الحبشي (أع 36:8-38) بعد أن بشره فيلبس في طريق غزة.

  • معمودية شاول الطرسوسي (أع 9: 18)، عمده حنانيا في دمشق بعد أن ظهر له الرب يسوع في الطريق.

  • معمودية كرنيليوس ومن معه في بيته (أع 10: 47, 48) بعد أن كلمهم الرسول بطرس بكلمة الرب وقبلوا الروح القدس.

  • معمودية ليديا وأهل بيتها (أع 16 :15) في مدينة فيلبى عن طريق بولس الرسول.

  • معمودية السجان وأهل بيته (أع 16 : 33) في مدينة فيلبى عن طريق بولس الرسول.

  • معمودية كثيرين من كورنثوس (أع 18: 8) إذ سمعوا كلمة الله وآمنوا.

  • معمودية أثنى عشر تلميذا في أفسس(أع 19: 3-5) رغم أنه قد سبق لهم أن اعتمدوا بمعمودية يوحنا المعمدان، ولقد سبق ذكر هذه الأحداث في الفصل السابق.

 

ثالثــا: في الرسائل:

1- فى رسالة الرسول بولس الى الموْمنين في مدينة روميه:

يقول الرسول بولس: "أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا‍، نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته" (رو 1:6 5).

إن الموضوع الرئيسي في هذه الرسالة هو تبرير الإنسان أمام الله بالايمان بدون أعمال الناموس ( رو 28:3 )، هذا هو طريق الله لتبرير الإنسان، الإيمان بالمسيح. لذلك بعد أن تكلم الرسول عن المسيح ودمه الكريم المسفوك لأجل الخطايا، تكلم في الأصحاح الخامس عن رأسين ونائبين هما آدم والمسيح ( رو 12:5--21). وأصبح المؤمن مرتبطاً بالمسيح، وانتهى ارتباطه بآدم الأول "لأنه إن كان بخطية واحد }آدم{ مات الكثيرون، فبالأولى كثيراً نعمة الله، والعطية بالنعمة التى بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت للكثيرين". وأيضا "لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالون فيـض النعمـة وعطية البر سيملكـون في الحياة بالواحد يسوع المسيــح" (رو5: 15،17). و"لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جعل الكثيرون خطاة هكذا ايضا بإطاعة الواحد سيجعل الكثيرون أبراراً" (رو5: 19). ومن هنا جاء القول "ولكن حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جداً" (رو5: 20) هذا الأمر الذى جعل البعض يتساءلون: إن كانت كثرة الخطية تزيد النعمة فلماذا لا أعيش كما أريد؟ لذلك كان من الضرورى أن يجيب الرسول على هذا التساؤل في الأصحاح السادس، وفى جوابه أشار إلى الحق الأساسى المرموز إليه في المعمودية فقال: "فماذا نقول؟ أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا، نحن الذين متنا عن الخطية*، فكيف نعيش بعد فيها؟". لذلك يقول في عدد 11: "احسبوا أنفسكم أمواتا عن الخطية"، على أساس أن المسيح قد مات فعلاً للخطية مرة واحدة. ثم يواصل الرسول الكلام عن المعمودية فيقول "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته" (رو 3:6 )، وكأنه يقول: ما هو الهدف أو الغرض الذي لأجله اعتمدتم لموت المسيح؟ أليس لأن تتحدوا مع المسيح في موته، ذلك الموت الذي جلبته الخطية؟ فكيف للمؤمن بعد ذلك أن يعود ليعيش في الخطية من جديد؟

فالمعمودية إذن تعنى أنني قد صُلبت بالفعل مع المسيح، لذا يجب أن أُدفن لأُعلن أن علاقتي بالعالم القديم قد انتهت، وأنني الآن أنتمي لعالم جديد، بل وتعني أيضاً: أن حالتي الأولى {أي انتسابي إلى آدم} قد انتهت تماماً، لأن المكان الوحيد المناسب لنا كنسل آدم - الذي ملك عليه الموت بسبب الخطية - هو القبر. لذلك فإن المعمودية ليست هي الموت مع المسيح فحسب، بل تعني الدفن معه "فدفنا معه بالمعمودية للموت"، أي أن موت المسيح كان هدفاً أمامنا ونحن نعتمد. هذا ما عبرّ عنه الوزير الحبشي - بعد أن آمن بالرب يسوع أنه ابن الله - قائلاً: "ماذا يمنع أن أعتمد؟" (أع 36:8).

الدفن هو وضع حد فاصل بين الإنسان وحياته السابقة، ولأن المعمودية مرتبطة بالموت والدفن، فهي تعلن عن انتهاء علاقتنا بالوضع القديم - "دائرة الخطية والموت" - وانتقال إلى وضع جديد: " أنبقى في الخطية...؟ حاشـا".

لقد حُسب موت المسيح لنا، وكل ما نحن عليه بالطبيعة تعامل الله معه قضائيا في صليب المسيح، ولكون المؤمن قد مات فينبغي عليه أن يُدفن شهادة على ذلك، فالمعمودية هي "شبه موته" أي مثاله. لقد صرنا متحدين معه في المعمودية بشبه موته، إننا لم نتحد معه في موته، ولكننا في المعمودية نتحد معه بشبه موته، أما من جهة القيامة، فنحن متحدون معه حقيقة لا رمزاً، ولا دخل للمعمودية في ذلك، لذلك يقول: "لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضا بقيامته"، ولا يقول "بشبه قيامته"، فالمعمودية معناها: اعتراف في صورة رمزية أن الله قد أدخلنا في اتحاد وثيق مع المسيح في الموت والقيامة (رو 5:6).

يقول الرسول بولس في (رو6: 4) أن المعمودية معناها الدفن: "فدفنا معه بالمعمودية"، وتشير المعمودية إلى الموت والقيامة، وإن كانت في حد ذاتها ليست موتا ولا قيامة ولكنها دفن، والذي يستحق الدفن هو الميت فقط. فكل من يُقبل على المعمودية إنما يعلن انه ميت ولا يستحق إلا القبر، فالنزول إلى المـاء معناه في نظر الله أننا أموات؛ فالمعمودية تعنى اعتراف بما صنعه الله، أنه قد صلبني.

ألا نتعلم الدرس، درس الموت والدفن، كمؤمنين، من خلال المعمودية؛ ثم نحياه في حياتنا العملية باستمرار؟ وكأننا بالمعمودية نُدفن معه لنشاركه موته هنا، لكن عيوننا تتجه إلى حيثما ذهب، وبالتالي نعيش معه في عالم جديد "فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضا في جدة الحياة".

إن من يعتمد باسم المسيح، فأنه يعنى أنه قرر أن يتحد بالمسيح ويعيش له وفيه، وهو مقام الآن إنساناً جديداً في المسيح، ويعيش الآن في جدة الحياة {أو الأسلوب الجديد للحياة}. لا توجد ممارسة يمكن أن تنقل لنا هذا المعنى الغني سوى غمر الإنسان في مياه المعمودية.

هذا ومن جانب آخر، نرى في هذا الفصل (روميه6) جوابا شافيا للقول "أنبقى في الخطية؟"، وكان الجواب "حاشا"، لأن:

1- الفكر الذي تُعلمنا إياه المعمودية، كما سبق الكلام، أن الإيمان يعترف أنى "مع المسيح صلبت" (غلا20:2). والمعمودية تعلن الدفن معه ويلي ذلك: "فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في".

2- لا نبقى في الخطية، لأن لنا سيد آخر غير الخطية (رو6: 12- 23).

3-لا نبقى في الخطية، لأن علاقتنا بالناموس قُطعت كمبدأ للسلوك، وصارت علاقتنا بالمسيح المقام الذي نجد فيه كل القوة للإثمار (رو7 ‎:1-6).

مختصر القول: مع أن المعمودية ليست هي الموضوع المراد بحثه في ( رو 6 )، لكنها وردت لكي توضح الحق العظيم، وهو اتحاد المؤمن بالرب يسوع في موته ودفنه وقيامته، ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية هي الصورة الوحيدة التي تبين ذلك "لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته". وتصور المعمودية لنا هنا الحق الأساسي في المسيحية: أن المسيح مات من أجل خطايانا ودُفن وقام، واستخدام المعمودية لتوضيح هذا الحق، يُظهر أهميتها؛ وفي نفس الوقت لا نجهل أن المعمودية لا تجعل الشخص مؤهلاً للسماء، ولا تطهر من الخطية، ولا تمنح الطبيعة الإلهية، ولا تنقل الشخص إلى دائرة الامتياز والبركات، ولا تؤدي إلى الميلاد الثاني، ولا تجعل الشخص تلميذاً، ولا تربط الشخص بالكنيسة التي هي جسد المسيح، ولا تضمن قبول الشخص في المسيح لأن كل هذه الأمور تتم بناء على ذبيحة المسيح وعمله الكامل على الصليب.

كيف يمكن تطبيق كل هذه الأقوال على الطفل الذي يُعَمَّد؟ كيف يمكن لطفل لا يدرك معنى المعمودية ولا يعلم ما هو السلوك الجديد أن يُعمَّـد؟ هل يمكن للطفل أن يدرك القول: "أم تجهلون..؟"، "عالمين هذا.."، "عالمين أن المسيح بعد ما أقيم من الأموات، لا يموت أيضا"، "احسبوا أنفسكم" ، "قدموا ذواتكم لله كأحياء" (رو6: 3, 6, 9, 11و13)، وغيرها من العبارات، حتى أننا نصرح بإمكانية معمودية الأطفال؟؟

يقول البعض: إن الإنجيل الذي سمعناه وقبلناه نحن الأمم المساكين، أعطانا مركزاً جديداً على الأرض، عبرت عنه المعمودية، حيث تتوحد كل آمالنا في المسيح، وبكل ممنونية وشكر نقبل لأجل كل العائلة نعمة الله التي لا تفرق بين العائلة ورأسها في هذا المركز الذي على الأرض..

وهنا أسأل: هل يا ترى لكون رأس العائلة قد قبل الإنجيل، تكون معه كل العائلة قد قبلت الإنجيل؟ وهل يمكن أن الإيمان والنعمة يُورثان من رأس العائلة؟ وإن كان رأس العائلة رافضاً للإنجيل فما هو شأن عائلته؟ ولماذا يعتمدون؟ أليس الإنسان مسؤولاً أمام الله عن نفسه وعن طاعته لله؟ إن نعمة الله لا تُفَرِّق بين أفراد العائلة، ولا بين كل البشر، فالنعمة قد ظهرت لكل البشر وهي على أتم الاستعداد لأن تُخلَّص كل من يؤمن (تى 2-11 ، أف2: 8)، ثم ما هو المركز الجديد الذي أخذناه على الأرض وعبرت عنه المعمودية؟ والمركز الجديد الذي عبرت عنه المعمودية وأخذناه، هل هو بالإيمان أم بالوراثة من رأس العائلة؟ وكيف يدرك الطفل نواله لهذا المركز؟

ويذهب البعض إلى الاعتقاد بأن: الخطوة الأولى التي من

عندها تبدأ الحياة الجديدة، هي الدفن مع المسيح، لكن هذه الحياة تتطلب ما هو أكثر من مجرد طقس، إنها تتطلب اتحاداً حيا بالمسيح، امتلاك حياة المسيح، وهذا القول يصدق على الكبار كما على الصغار.. وهنا أسأل كيف يصدق هذا القول على الصغار؟ وهل بالمعمودية يتحد الصغار (الأطفال) اتحاداً حياً بالمسيح (امتلاك حيا ة المسيح)؟ إن كان الأمر هكذا، فالقوم الذين يؤمنون بأن المعمودية تعطى الحياة الجديدة هم على حق؟! وما هو الداعي بعد ذلك للكرازة بالإنجيل؟ وإن كان هذا القول صحيحاً، يكون كل المعَمَّدين في المسيحية قد امتلكوا حياة المسيح، وهذا ما لا يقبله كل فاهم لكلمة الله.

إن كان البعض يسأل عن سيمون الساحر وأمثاله، أقول: إن كان شخص ما أو أشخاص يعتمدون بناء على اعتراف شفهي بالإيمان دون أن يكون هناك عمل إلهي في القلب، فهذا ليس سبباً أستخدمه للتقليل من الحق، وللبرهنة على صحة معمودية الأطفال، فالحق حق ولو أخطأ البعض في تنفيذه، ولنعلم أن الحياة الجديدة لا ولن تُعطَى فعلياً بمجرد ممارسة طقس، بل تعطى بالأيمان بالمسيح وحده.

2-في رسالة الرسول بولس إلى المؤمنين في مدينة كولوسي، (ص2):

"مدفونين معه في المعمودية التي فيها اُقمتم أيضا معه بإيمان عمل الله الذي أقامه من الأموات" (كو 2 : 12). من هذه العبارة يتضح لنا أن كل الذين دُفنوا بالمعمودية انتهت علاقتهم بكل الماضي، لذلك لا تفرض على هؤلاء فرائض وممارسات (كو2 : 14-20)، بل يصير المسيح هو الكل وفى الكل (كو2 : 11)، كما انه من الواضح أن كل الذين خضعوا لهذا الحق اعتبروا أنهم "أُقيموا مع المسيح بإيمان عمل الله"، فالمعتمدون قد اختتنوا حقاً بختان غير مصنوع بيد، والختان يعبِّر عن نهاية الجسد، الأمر الذي تم في صليب المسيح "مع المسيح صلبت" ( غلا 2 : 20 )، ونتيجة لذلك انتهى الجسد في نظر الله، لأنه حينما مات المسيح مت أنا معه، وبذلك أكون قد خُتنت في موته، لأن ختان المسيح يشير إلى موته على الصليب (كو 2 : 11). والآن دعونا نقف على الجانب الآخر من القيامة..

3- في رسالة الرسول بولس الأولى إلى المؤمنين في مدينه كورنثوس:

أ في الأصحاح الأول:

يقول الرسول للكورنثيين: "هل انقسم المسيح؟ ألعل بولس صلب لأجلكم، أم باسم بولس اعتمدت؟ أشكر الله أني لم اعمد أحداً منكم إلا كريسبس وغايس، حتى لا يقول أحد أنى عمَّدت باسمي، وعمدت أيضا بيت استفانوس، عدا ذلك لست اعلم هل عمدت أحدا آخر؟ لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر، لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح" (1 كو 1: 13 17).

لم يقصد الرسول بولس بهذا الكلام أن المعمودية ليست ذات أهمية في خدمته التبشيرية، لكن لأن حديثه في هذا الأصحاح بل وفى هذه الرسالة كان عن الانقسامات الخطيرة التي هددت بنيان الكنيسة هناك، والتي سمع عنها من أهل خلوي*، لذلك استخدم الرسول بولس الأسلوب المناسب كما أعطاه الروح القدس لإيجاد حل لهذه الانقسامات.

الكنيسة في كورنثوس انقسمت إلى جماعات: فالبعض اتخذوا شعاراً لهم "أنا لبولس"، وآخرون "أنا لأبلوس وآخرون "أنا لصفا (أي بطرس)"، وآخرون "أنـــا للمسيح". ويتضح لنا من ذلك أن الموضوع في الأعداد السابقة لم يكن عــن المعمودية أو ضرورتها، بل كان أساسا عن الانقسام في الكنيسة الذي ربمـا تكون المعمودية أحد أسبابه، وبالتالي ما قاله الرسول بولس "اشكر الله إني لم اعمد أحد منكم إلا كريسبس.." (اكو1 : 14- 17)، لا يعنى التقليل من شأن المعمودية، بل محاربة الانقسام الحادث، وما يسببه من انزعاج في وسط الجماعة، لذلك فعندما يقول لهم: "اشكر الله إني لم أعمد أحدا منكم . حتى لا يقول أحد أنى عمدت باسمي"، فهو يريد أن يوضح لهم حيث انه لم يعمد أحداً باسمه فلماذا يقول واحد "أنا لبولس"؟ وهو يعنى بذلك أن الذين اعتمدوا بالمسيح ينبغي أن يكونوا للمسيح فقط، وليس لآخر سواه.

ب في الأصحاح الخامس عشر:

يقول الرسول: "..وإلا فماذا يصنع الذين يعتمدون من اجل الأموات؟ إن كان الأموات لا يقومون البتة، فلماذا يعتمدون من اجل الأموات؟" (اكو 15 : 29).

هذا النص يأتي في منتصف فصل كتابي يتحدث فيه الرسول بولس عن الأدلة التي تثبت حقيقة قيامة الأموات، الأمر الذي أنكره بعض المضِلِّين في كورنثوس، لذلك يشرح الرسول النتائج التي يمكن أن تحدث إن لم تكن هناك قيامة أموات (ا كو 15 : 12-19)، ثم يعود ليستكمل في عدد 29 قائلاً: "وإلا فماذا يصنع الذين يعتمدون من اجل الأموات؟"، وهذه العبارة تعنى: فإن كان الموتى لا يقومون، والموت هو نهاية كل شئ كما يقول المضلون، فلماذا يرضى المؤمنون الجدد أن يعتمدوا لكي يملئوا الأماكن التي خلت بموت أو استشهاد مؤمنين من بينكم؟ ألا يكون هذا التصرف تصرفاً غير سليم إن كان الموتى لا يقومون؟ وهم قد رأوا بعيونهم أناساً تنتهي حياتهم بسبب اتباعهم للمسيح، وسبق أن تعمدوا معلنين نهاية تلذذهم بالحياة الحاضرة، إيمانا منهم بقيامة أفضل؟ إذا كان الذين سبقوا ورقدوا هلكوا بدون رجاء، فلماذا إذاً اعتمدوا وأعلنوا اتحادهم بالمسيح في قبول الخزي والعار في الحياة، في الوقت الذي ليس أمامهم أي رجاء مستقبلاً؟

ومن هنا نسأل أيضا: تُرى هل وجد بين أولئك الذين خاطبهم الرسول بهذه الأقوال أطفالا؟ وهل يمكن أن يقال عن مجموعة من الأطفال أنهم اعتمدوا من اجل الأموات، بينما واضح من الكلام السابق أن الذين اعتمدوا ليشغلوا مكان الذين رقدوا من المؤمنين كان تقدمهم لهذا العمل بحسب اختيارهم ورغبتهم الشخصية وبكامل إرادتهم؟

4- في رسالة الرسول بولس إلى كنائس غلاطية (ص3):

يقول الرسول للغلاطيين: "إذاً قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان، ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب، لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع" (غلا 3 : 24 28). نرى في هذه الأعداد أن مبدأ الله في التعامل مع الناس هو مبدأ الإيمان وليس مبدأ الناموس، وأيضا المركز الجديد الذي للمؤمنين الآن هو: "أنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع". ونرى أيضا الوضع الجديد الذي اصبحوا فيه بالمعمودية إذ أزيلت كل الفوارق، حيث ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأن في المعمودية قد دفن الإنسان القديم بكل خصائصه، فتلاشت كل الفوارق، ولا يُرى إلا المسيح، لذلك يقول: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح".

من اعتمد بمعمودية يوحنا المعمدان أعلن توبته، وفى نفس الوقت أعلن إيمانه بمن سيأتي بعد المعمدان، واليهودي الذي يختتن يلزمه تتميم الناموس لكي يتبرر، ومن يعتمد بالمسيح يعلن أنه لبس المسيح، وبالتالي لا يعترف بأية امتيازات أخرى إلى جواره أو خارجاً عنه. ومن الملاحظ أن القول: "لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح"، المبدأ الواضح هنا وفى كل الكتاب (يو11:1،12 رو16:8 غل7:6 )، ينفى جواز معمودية الأطفال، لأن بداية الكلام "بالإيمان بالمسيح يسوع"، ثم زوال الفوارق بالمعمودية. هذه الأمور لا يدركها الطفل نهائياً، وعليه فسواء كان إيمان الغلاطيون صحيحاً أم لا [حسب أقوال المعترضين على ذلك لوجود الإخوة الكذبة الذين تكلم عنهم الرسول في (ص4:2)] فهذا لا يغير من الحق شيئاً.

5- في رسالة الرسول بولس إلى المؤمنين في مدينه أفسس:

يقول الرسول بولس: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام . جسد واحد وروح واحد كما دعيتم أيضا في رجاء دعوتكم الواحد . رب واحد ، إيمان واحد معمودية واحدة . إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفى كلكم، ولكن لكل واحد منا أعطيت النعمة حسب قياس هبه المسيح" ( أف3:4-7 ).

لم يرد في هذه الرسالة عن المعمودية، إلا هذه الأعداد التي تحتوى على سباعية مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً، وتكلمنا عن امتيازات صارت للمؤمنين الحقيقيين الذين يسميهم الرسول في مطلع الرسالة: "القديسين الذين في أفسس والمؤمنين (الأمناء) في المسيح يسوع" (أف1:1). ومن خلال هذه السباعية، نرى مدى ارتباط المؤمنين بالله مثلث الأقانيم، الروح الواحد والرب الواحد والآب الواحد. الروح الذي سكن بالإيمان، والرب والسيد الذي ملك على الحياة، والآب الذي تبنّانا.

يرى البعض أن هذه الأعداد تكلمنا عن ثلاث دوائر، لكنني أرى أنها سباعية واحدة مترابطة، لا تحكى عن دائرة أضيق ثم دائرة أوسع منها، لكنها تتكلم عن امتيازات رائعة. فما أوصى به الرسول بالقول: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام" - قبل هذه السباعية - نفهم منه أن الكلام موجه للمؤمنين، والكلام الذي بعد هذه الوصية "جسد واحد…… الخ" متلاحق دون انفصال، وحتى العدد الأول في مطلع الأصحاح، الكلام بخصوص السلوك بحسب الدعوة، موجه لفئة واحدة، والكلام الوارد بعد هذه الأعداد {من عدد7 وما يليه}، واضح أن هذا الكلام مخصص لكنيسة الله. فلماذا نأتي عند الأعداد (4- 6) ونقسمها إلى دوائر؟ ومن جانب آخر، وبالتأمل البسيط لهذه الأعداد، نرى أن المؤمنين جميعا يكونون جسداً واحد للمسيح، ألا وهو الكنيسة (أف1 :22 ,23) والذي كونها وجعلها هكذا "الروح الواحد"، وهو الروح القدس "سقينا روحاً واحداً" (1كو13:12)، والهدف من ذلك هو "رجاء الدعوة الواحد"، "المسيح فيكم رجاء المجد" (كو 27:1)، وصارت الكنيسة تخضع لسلطان وسيادة الرب الواحد، لذلك فهو الذي يضم إليها المخلصين (أع47:2). هؤلاء هم المنضمون إلى الرب "جماهير من رجال ونساء" (اع14:5). هؤلاء جميعا مؤمنون، وبحسب سفر الأعمال: إذ آمنوا اعتمدوا إلى (اسم المسيح) "معمودية واحدة" لأن لهم جميعا نفس "الإيمان الواحد" بالمسيح الرب، وهؤلاء يكونون عائلة واحدة هي عائلة الله الذي عينهم للتبني بيسوع المسيح ( أف5:1 )، والذي فيهم جميعاً، والذي يعتني بالكل، وهو فوق الكل (أف1: 3-5 ، 3: 15,14).

ويجب أن نلاحظ أنه لا يمكن أن يقول أحد أن يسوع رب إلا بالروح القدس (1كو 3:12)، ولا يسكن الروح القدس إلا في الذي يؤمن (اف1: 14,13)، هذا ومن جانب آخر، لا يصير الإنسان ابناً لله إلا بقبولـه للمسيـح ربـاً ومخلصــاً (يو 1: 12,11).

من هنا نستنتج أن المعمودية الواحدة (معمودية الماء) هي للمؤمنين فقط. هذه قاعدة ثابتة، وإن كان البعض يأخذ صورة الإيمان بخداع مثل سيمون، لكن هذا لا يغير ولا يقلل من الحق شيئاً، كما أنه لا يجعلنا نتراجع عنه ونجتهد بفكرنا فنُضَيِّع جمال الحق.

6- في رسالة الرسول بطرس الأولى (ص3):

جاء في الرسالة هذا القول : "000 حين كانت أناة الله تنتظر مرة في أيام نوح إذ كان الفلك يُبنى، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء، الذي مثاله يخلصنا نحن الآن أي المعمودية، لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامه يسوع المسيح، الذي هو في يمين الله، إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له" ( 1بط20:3-22 ).

في هذه الأعداد نرى نوعين من الخلاص هما: "الخلاص في الفلك" و "الخلاص بالماء". الخلاص من الغضب الإلهي المعلن من السماء {والمتمثل في طوفان الماء}، وهذا ما تم بالنسبة لنوح وبيته عن طريق الفلك "الذي فيه - في الفلك - خلص قليلون أي ثماني انفس"، والثاني الخلاص من عالم الفجار( 2 بط 2: 5)، العالم الذي امتلأ فساداً وظلماً (تك6 : 11و 12)، عالم أتت نهايته أمام الله، يحتاج نوح أن ينهى علاقته به ويخلص منه، وهذا كان "بالماء"، أي بماء الطوفان نفسه "..خلص قليلون أي ثماني انفس بالماء".

ويمكننا أن ندرك نفس الشي في العهد الجديد، فدخول نوح ومَن معه في الفلك، ما هو إلا صورة رمزية لدخولنا في المسيح فلك نجاتنا، "إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع" (رو 8 : 1)، وهذا هو الشيء الذي يتم بالإيمان القلبي بالمسيح، الذي احتمل كل غضب الله على الصليب عوضاً عنا لننجو نحن من الغضب الآتي على العالم. فكما فاضت مياه الطوفان على الفلك، من أعلى ومن أسفل، ونوح في الداخل في أمان، هكذا أمننا الحقيقي هو نتيجة احتمال الرب يسوع كل سيول وتيارات الغضب الإلهي والبشرى وهو فوق الصليب. كل الذين كانوا خارج الفلك هلكوا، لكن كل من كانوا في داخل الفلك خلصوا، بمعنى أن كل مَن هو في المسيح بالإيمان ، صار في دائرة الأمان والرضى الإلهي، وكل من لم يقبل المسيح بالإيمان حتماً سيهلك في يوم ما.

لو دخل نوح الفلك وأُغلق عليه باب الفلك، ولم ينزل ماء الطوفان، لكان أمره مدهشاً ومثيراً؛ إنسان مع بيته في سفينة مغلق عليه.. لماذا ؟! إن الأمر كان لابد سيثير الحيرة عند الكثيرين، لكن نزول مياه الطوفان أعلنت وجوب هلاك العالم المحيط به، وأظهرت خلاصه هو. هذا الشيء الذي قال عنه الرسول بطرس: "الذي مثاله يخلصنا نحن الآن؛ أي المعمودية". فالإيمان بالمسيح خلصنا من الغضب والدينونة، والمعمودية برهنت وأعلنت هذا الخلاص، فلولا الماء الذي نزل، مَن كان سيعرف أن نوح قد خلص؟ ومن أي شئ كان سيخلص؟ لكن نزول ماء الطوفان، كان بمثابة الغضب الإلهي الذي أعلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم، وفى ذات الوقت أعلن خلاص نوح إذ رفع الفلك إلى أعلى بمن فيه.

بالإيمان بالمسيح نخلُص من الغضب الآتي والموت الأبدي "لأن أجرة الخطية هي موت" ( رو23:6)، لكن "آمن بالرب يسوع فتخلص" (أع31:16). وبالمعمودية نخلص من انتسابنا لهذا العالم الحاضر الشرير. لقد برهنَّا على نهاية علاقتنا به. فالمسيح بموته نيابة عنا، خلصنا من الموت الذي هو عقوبة الخطية، وباتحادنا معه في موته خلصنا من العالم الشرير (غلا14:6) ، (رو4:6-6). بالإيمان بالمسيح أعلنَّا قبوله والاحتماء فيه، وبالمعمودية أعلنَّا انفصالنا عن هذا العالم الحاضر الشرير الذي لابد أن يدان، الأمر الذي يتطلب "جواب ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" هذا الشيء الذي لا يتوافر في الطفل، فالضمير الصالح لا يتواجد إلا من خلال الإيمان والثقة الكاملة في فعالية دم المسيح، وقبوله باعتباره الذبيح الأكمل.

لقد قال بولس لتيموثاوس: "أما غاية الوصية فهي المحبة من قلب طاهر وضمير صالح وإيمان بلا رياء" (1تى 5:1)، فالقلب الطاهر والضمير الصالح مرتبطان معاً، وكلاهما لا يتواجدا إلا في البالغين المولودين ثانية.

لقد عبَّرت مياه الطوفان التي نزلت على الفلك، عن غضب الله الذي نزل على المسيح بدلاً عنَّا، ونوح في الفلك قد نجا من هذا الغضب ومن الدينونة، وهذا ما حصلنا عليه بالإيمان بالمسيح، الذي صرنا فيه خليقة جديدة (2كو 17:5)، وهذا ما عبّرنا عنه في المعمودية التي بها نقلنا إلى عالم جديد يسوده المسيح.

 

 

 

 

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة