لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

سِفْر زَكَرِيَّا

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

خادم الرب الأخ رشاد فكري

 الأصحاح الثاني 

ينقسم هذا الأصحاح إلى أربعة أقسام هي:

1- السيد الرب يُرَى بمجده في أورشليم (ع 1-5)

2- رجوع الشعب إلى أورشليم (ع 6)

3- قضاء الرب على الأمم عند استعلائه بالقوة والمجد في آخر الأيام (ع 7-9)

4- بركة الأرض بعد ذلك في ملكوت المسيح الألفي (ع 10-13)

***

أولاً: السيد الرب يُرَى بمجده في أورشليم (ع 1 - 5)

 الرُؤْيَا الثالثة: رجلٌ وبيده حَبْل قياس (ع 1،2)

«فرفعت عينيَّ ونظرت وإذا رجلٌ وبيده حبل قياس» (ع 1).

يُشير حَبْل القياس إلى إعادة الرب لبناء أورشليم في مُلكه الألفي، ودعوة الذين سيكونون في الشتات قبل ذلك (مرموزاً إليهم في وقت النبي بالباقين في السبي) ليرجعوا إلى أورشليم الأرضية التي يسكن الرب فيها.

***

ويُشار بحَبْل القياس في الكتاب إلى ثلاثة أمور:

1-  القتل والاستحياء: كما نقرأ في صموئيل الثاني 1:8،2 عن داود أنه ضرب الموآبيين وقاسهم بالحَبْل وأضجعهم على الأرض فقاس بحَبْلَين للقتل وبحَبْل للاستحياء.

2-  الهدم والتدمير: كما نقرأ في ملوك الثاني 13:21 «وأمد على أورشليم خيط السامرة ومطمار بيت آخاب .. وأرفض بقية ميراثي، وأدفعهم إلى أيدي أعدائهم، فيكونون غنيمة ونهباً لجميع أعدائهم».

3- البناء والتجديد: كما نقرأ عن ذلك هنا في زكريا 2 وكما هو مذكور أيضاً في حزقيال 40-48.

«فقلت: إلى أين ذاهب؟ فقال لي: لأقيس أورشليم، لأرى كَمْ عرضها وكَمْ طولها» (ع 2).

قد ذكر القياس في خمسة مواضع في الكتاب تجدر الإشارة إليها هنا وهي:

1- في رؤيا 1:11، 2 «ثم أعطيت قصبة شبه عصا، ووقف الملاك قائلاً لي: قُمْ وقِسْ هيكل الله والمذبح والساجدين فيه. وأما الدار التي هي خارج الهيكل، فاطرحها خارجاً ولا تقسها، لأنها قد أُعطيت للأمم، وسيدوسون المدينة المقدسة اثنين وأربعين شهراً». وهنا نرى يوحنا، لا مشاهداً وسامعاً فقط، بل قائماً بنشاط مُعَيَّن مُكَلَّف به من قِبَل الرب، فكان عليه أن يقيس الهيكل والمذبح والساجدين فيه إعلاناً لاعتراف الرب بأولئك الساجدين ومصادقته عليهم، أما الدار الخارجية فلا يقيسها لأنها تُمثِّل العبادة الشكلية بدون إيمان، وهذا سيكون في الفترة التي بعد اختطاف الكنيسة، في زمن الوحش والنبي الكذاب حيث ستكون هناك بقية تقية وهي المُشار إليها هنا بالساجدين الذين سيعترف الله بهم ولذلك يُسَمَّى الهيكل «هيكل الله» والمذبح المُشار إليه هنا مذبح النُحَاس الذي يُشير إلى قَبُول كل الذين يتقدمون إلى الله بالإيمان على أساس ذبيحة المسيح، فالهيكل يُعبِّر عن السجود، والمذبح يُعبِّر عن القَبُول أمام الله. هذا من جهة البقية التقية الأمينة، أما الجزء الخارجي أي المُرتدُّون الذين يُمَارسُون العبادة ظاهرياً فهم مرفوضون ومُسَلَّمُون للأمم، أي سيكونون في اتحاد مع الأمم الذين سيدوسون المدينة المقدسة وهم أنصار الوحش. وهذه المدة هي النصف الأخير من أسابيع دانيال السبعين (دا 24:9،27).

2-  في سفر حزقيال، الأصحاحات من 40-45 تلك الأصحاحات التي تتضمن رؤيا النبي حزقيال للهيكل الجديد العتيد أن يبنيه الرب نفسه للعبادة في المُلك الألفي. وإذا أخذت هذه الرؤيا على أن معناها مجازي أو روحي وحاولت أن تطبقها على بركات العهد الجديد التي يتمتع بها المسيحيون الآن فلن تطاوعك الرؤيا حتى تتحول عن موضوعها أو تنصرف عن معناها الحرفي، فموضوعها الذي لا شك فيه هو الشعب الأرضي ومدينته الأرضية وهيكله الأرضي الذي سيبنيه الرب نفسه، ولا معنى لها إلا أن الرب في مستقبل الأيام سيبني مدينته وهيكله، فالقياس هو قياس بناء.

3- القياس المذكور في سفر حزقيال أصحاح 48 وهو خاص بقياس المدينة الأرضية أورشليم الأرضية[*] وقصبة القياس التي استخدمت في القياس كانت من صناعة وتركيب عاديين مما يلائم مدينة أرضية ثم إن مدينة حزقيال كبيرة وعظيمة تتفق مع العاصمة الأرضية بينما مدينة الرؤيا أكثر عظمة وأبعد من كل الحدود الأرضية المُسْتَطَاعة. وفي نبوة حزقيال تبدو المدينة مربعة ويستخدم هذا الوصف في الكتاب المقدس للدلالة على النظام الأرضي، أما في سفر الرؤيا فالمقاييس مختلفة، الارتفاع فيها مُتساوٍ مع الطول والعرض دلالة على المكعب الكامل وفي هذا إشارة إلى نظام أسمى، سماوي الصنعة. ووضح أنه لا يلائم الأرض واسم المدينة في حزقيال «يهوه شمة» أي «الرب هناك» (حز 35:48).

4- القياس الرابع مذكور في رؤيا 21 وهو الخاص بمقاسات المدينة السماوية[†]. ونرى أن أداة القياس هنا عبارة عن قصبة من ذهب وهذا يتفق مع المدينة السماوية التي هي من ذهب نقي كما أن المدينة مكعبة متساوية الطول والعرض والارتفاع إشارة إلى النظام السماوي الكامل. كما أن المدينة السماوية أكبر من المدينة الأرضية المذكورة في حزقيال كما سبقت الإشارة وهذا يرينا أن مجد الأرضيات شيء ومجد السماويات آخر.

5- القياس الخامس مذكور هنا في نبوة زكريا موضوع تأملنا فقد ذكر الله مراحمه القديمة وأرسل رجلاً بيده حَبْل قياس إشارة إلى وعد البناء والبركة. ولماذا يقال: «لأرى كَمْ عرضها وكَمْ طولها»؟ لكي يمتلكها الرب لأن الذي يُريد أن يمتلك شيئاً لا بد أن يقيسه لأن ملكه عزيز عليه لا يريد أن يفرط في بوصة واحدة منه في الطول والعرض، وهذا القياس دلالة على أن الرب سيعود ويقتني أورشليم ويمتلكها. والرب يقول في الأصحاح الأول: «واختار بعد أورشليم» (ع 17)، وهنا، في الأصحاح الثاني، يقيس أورشليم لأنه اختارها للامتلاك.

«وإذا بالملاك الذي كَلَّمني قد خرج، وخرج ملاك آخر للقائه. فقال له: اجر وكَلِّم هذا الغلام قائلاً: كالأعْرَاء تُسكن أورشليم من كثرة الناس والبهائم فيها» (ع 3، 4).

نرى هنا أكثر من ملاك وكلهم تحت أمر الرب يستخدمهم لصالح القديسين كما يقول الرسول: «أليس جميعهم أرواحاً خادمة مُرسلة للخدمة لأجل العَتيدين أن يَرِثُوا الخلاص!» (عب 14:1).

وذكر الملائكة هنا دلالة على عودة الرب لاستئناف علاقته مع شعبه القديم بعد اختطاف الكنيسة لأن للملائكة شأناً واضحاً في علاقة الرب مع شعبه، فالناموس أُعطِي لهم بترتيب ملائكة (أع 53:7)، والملائكة كانت تُرْسَل من قِبَل الرب لإعلان قصده من شعبه (دا 21:9-27).

وكَوْن الأمر يُوَجَّه للملاك أن يُجْرِي يدل على أن الله متى جاء الميعاد سيُنصفهم سريعاً «لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلَّم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتياناً ولا تتأخَّر» (حب 3:2).

   «كالأعْرَاء تسكن أورشليم». الأعْرَاء هي الأماكن المفتوحة المُتَّسَعة بلا حدود وبلا أسوار. والمقصود هو أن سكان أورشليم في المُلك الألفي سيتكاثرون بحيث لا تسعهم مدينة لها أسوار أو حدود.

   «من كثرة الناس والبهائم». هذا الكلام لا يمكن تحويله روحياً، لأنه إذا كان الكلام عن الكنيسة كما يظن البعض، فما هي البهائم التي يمكن أن تنمو أو تزداد؟ إن هذا التفسير لا يمكن أن يستقيم هنا ولا في أي مكان آخر لأن الروحيات شيء والأرضيات شيء آخر. إنما المقصود بهذا الكلام هو أن البهائم ستتمتع ببركات المُلك الألفي من تكاثر ورغد، وهذا يدل على أن هذه البركات ليست البركات الروحية التي بُوركنا بها نحن المسيحيين في المسيح يسوع في السماويات (أف 3:1)، بل هي البركات الأرضية للشعب الأرضي في مُلك المسيح على الأرض الذي سيشمل الناس والبهائم والطيور والأسماك والأشجار والنباتات. والنبي إشعياء، وهو يتأمل هذه السعادة في المُلك الألفي، يقول: «أَوْسِعي مكان خيمتك، ولتُبْسَط شُقَقُ مساكنك. لا تُمسكي. أطيلي أطنابك وشدِّدي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أمماً، ويُعمِر مدناً خربة» (إش 2:54)، وأيضاً «إن خِرَبِك وبَرَارِيَّك وأرض خَرابِك، إنك تكونين الآن ضيقةً على السكان، ويتباعد مُبتلعُوك. يقول أيضاً: في أذنيك بنو ثُكلِك: ضيِّقٌ على المكان، وسِّعِي لي لأسكن» (إش 19:49،20).

وإذا كانت المدينة كالأعْرَاء بلا أسوار، ألا تكون مفتوحة للهجوم عليها من الأعداء؟ فمن يمنع العدو من الهجوم عليها ودخوله له للسلب؟ إن العدو والحالة هذه يقول: «إني أصعد على أرض أعْرَاء. آتي الهادئين الساكنين في أمن، كلهم ساكنون بغير سور وليس لهم عارضة ولا مصاريع، لسلب السلب ولغُنْم الغنيمة» (حز 11:38،12). ومن الملاحظ أن كلام العدو المُشار إليه هنا في حزقيال هو سابق لمُلك المسيح الألفي حيث توجد أعداء للهجوم على المدينة التي ليست لها أسوار، وأما بعد أن يملك ربنا يسوع المسيح وتصير ممالك العالم لربنا ومسيحه فيتم القول الوارد في نبوة إشعياء: «فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أُمَّة على أُمَّة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد» (إش 4:2).

«وأنا، يقول الرب، أكون لها سور نارٍ من حولها، وأكون مجداً في وسطها» (ع 5).

من الجميل أن الرب نفسه في هذا الوقت، في المُلك الألفي السعيد، سيكون لها سوراً من نار من حولها، أي أن الرب سيكون هو الدرع الواقي لشعبه ضد الأعداء، كما سيكون لها مجداً في وسطها «يخلق الرب على كل مكانٍ من جبل صهيون وعلى محفلها سحابةً نهاراً، ودخاناً ولمعان نارٍ ملتهبة ليلاً، لأن على كل مجد غطاء» (إش 5:4). وكما كان الرب مع شعبه قديماً حيث «وكان في هزيع الصبح أن الرب أشرف على عسكر المصريين في عمود النار والسحاب، وأزعج عسكر المصريين، وخلع بَكَرَ مَرْكَباتهم حتى ساقوها بثقلة» (خر 24:14) هكذا يُسيِّج الرب حول شعبه بالنار، وعلى هذا فإن كل قوات الأرض والجحيم لن تقترب منهم. وفي الواقع سيكون حضور الرب في وسط شعبه مصدراً لكل بركة. وكثيراً ما يرتبط سور النار وسور المجد معاً في الكتاب (قارن خر 24:14 مع إش 5:4).

وهكذا يقول الرب: «ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنةٍ وفي محلات أمينةٍ» (إش 18:32). لقد كانت لأريحا أسوار عظيمة لكن ماذا حدث؟ لقد سقطت تلك الأسوار. إن الأسوار هي أعظم ما يمكن أن يعمله الإنسان، لكن الرب نفسه هو السور حول شعبه «سور نار»، وفي وسطهم «عمود سحاب» (أي مجد).

ثانياً: رجوع الشعب إلى أورشليم (ع 6)

«يا يا، اهربوا من أرض الشمال، يقول الرب. فإني قد فرقتكم كرياح السماء الأربع، يقول الرب» (ع 6).

الأعداد من 6 إلى 9 عبارة عن خطاب مُوَجَّه من الرب إلى الذين كانوا لا يزالون في أرض السبي ولم يرجعوا منها، فالرب يُشَجِّعهم أن يرجعوا لأن الذين رجعوا من السبي كانوا عدداً قليلاً جداً بالنسبة للذين سبوا إذ لم يزد عدد الراجعين من السبي عن خمسين ألفاً، أما الباقون فلم يرجعوا لأنهم وجدوا في بابل مصالح زمنية، ولهذا السبب ظلوا في تحولهم عن إلههم وعبادته. وأرض الشمال المطلوب الهرب منها هي أرض الكلدانيين أو أرض بابل التي تفرقوا فيها كرياح السماء الأربع. وفي الأيام الأخيرة وهم مُشَتَّتُون فعلاً إلى رياح السماء عندما تصل إلى قلوبهم الدعوة يلبونها كما قيل: «في تلك الأيام يذهب بيت يهوذا مع بيت إسرائيل، ويأتيان معاً من أرض الشمال إلى الأرض التي مَلَّكت آباءهم إيَّاها» (إر 18:3). وواضح أن هذه النبوة تخص المستقبل ولا تخص الماضي (انظر أيضاً مت 31:24)، لأنه من بابل لم يرجع بيت إسرائيل الذين كانوا مَسْبِّيين في أشور وليس في بابل، وحتى بيت يهوذا الذين كانوا مَسْبِّيين في بابل لم يرجعوا كلهم بل بعضهم فقط، وعادوا ليَتَشَتَّتُوا مرة أخرى على يد تيطس الروماني في سنة 70 م.

ثالثاً: قضاء الرب على الأمم (ع 7 - 9)

«تنجي يا صهيون الساكنة في بنت بابل» (ع 6).

أليس من التناقض أن نجد صهيون ساكنة في بنت بابل ومطبوعة بطابعها؟ لذلك يحثهم الله أن ينجوا أنفسهم بالانفصال عن بابل وشرها. وبمثل هذا يُناديهم إشعياء قائلاً: «اخرجوا من بابل، اهربوا من أرض الكلدانيين. بصوت التَرَنُّم أخبروا. نادوا بهذا. شيعوه إلى أقصى الأرض. قولوا: قد فَدَى الرب عبده يعقوب» (إش 20:48). وبمثل هذا الكلام يدعوهم أيضاً إرميا قائلاً: «اهربوا من وسط بابل، وانجوا كل واحد بنفسه. لا تهلكوا بذنبها، لأن هذا زمان انتقام الرب، هو يؤدي لها جزاءها» (إر 6:51). والروح القدس في العهد الجديد يُوجِّه هذا الكلام للمُؤمنين في الوقت الحاضر ليعتزلوا الشر والأشرار: «اخرجوا من وسطهم واعتزلوا، يقول الرب. ولا تَمِسُّوا نَجِسَاً فأقبلكم» (2كو 17:6). ولا يوجد وقت نحن فيه في حاجة إلى المُناداة بالانفصال مثل هذا الوقت الصعب الذي نعيش فيه. فالكنيسة أصبحت عالمية، والعالم أصبح كَنسياً إلى درجة اختفى فيها الخط الفاصل وتعذَّر معها التَميِّيز بين هذا وذاك، وقد تَهدَّم سور الانفصال، إذ اعتقد البعض أنه من اللازم أن نندمج بالعالم ونسايره ليتسنى لنا أن نربح منه نفوساً للمسيح بتأثيرنا عليهم، ولكن العكس هو الصحيح لأن الذين كان لهم التأثير على حياة الآخرين وربحوهم للمسيح إنما هم الذين انفصلوا عن العالم وساروا مع الله بعيداً عن مفاسد العالم ومسراته وروابطه في العبادة، أو الزواج، أو التجارة، أو مجالس السمر العالمية. إن أي شخص مُرتبط بنير مُتخالف من أي جهة لا يمكنه أن يكون تابعاً للمسيح بالمعنى الصحيح. قد يكون مُؤمن حقيقي مُتَمتِّع بخلاص نفسه، ولكنه لا يكون تلميذاً للمسيح متعلِّماً منه كيف يَسْلُك. إننا بالانفصال فقط نستطيع أن نُثبت نسبتنا كبنيه وبناته. فعوبديا مع أنه كان يخاف الله لكنه وُجِدَ في جو فاسد في بيت أخآب وإيزابل، ذلك الوسط الشرير الفاسد، فعطَّله هذا عن الخدمة الجَهَارية وأداء الشهادة العلنية، وما عمله للرب كان خفية إذ كان يخاف أن يفعله علناً خشية الموت.

«لأنه هكذا قال رب الجنود: بعد المجد أرسلني إلى الأمم الذين سلبوكم، لأنه مَنْ يمسُّكُم يَمَسُّ حدقةََ عينِه. لأني هأنذا أُحَرِّكُ يدي عليهم فيكونون سلباً لعبيدهم. فتعلمون أن رب الجنود قد أرسلني» (ع 8، 9).

يقابلنا هنا سر التثليث. إن رب الجنود هو بلا شك «الله الآب»، والذي أرسله هو بلا شك «ابن الله». لقد أرسل الآب ابنه في المرة الأولى لكي يُتَمِّم عمل الفداء، وهذا واضح في مثل الكَرَّامِين «فأخيراً أرسل إليهم ابنه قائلاً: يَهابُون ابني!» (مت 37:21) وكما أرسل الآب ابنه في المَرَّة الأولى، وكانت هذه الإرسالية خاصة بالشعب القديم، سيُرسل الآب ابنه في المَرَّة الثانية، وستكون خاصة بالشعب القديم أيضاً. وهاتان الإرساليتان واضحتان في الرسالة إلى العبرانيين فنقرأ عن الإرسالية الأولى: «لذلك عند دخوله إلى العالم يقول: ذبيحةً وقرباناً لم تُرِدْ، ولكن هيَّأت لي جسداً» (عب 5:10). أما الإرسالية الثانية فنقرأ: «وأيضاً متى أَدخَلَ البكر إلى العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله» (عب 6:1) ونورد الشواهد الآتية عن الإرسالية الأولى:

1-  «فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دَانَ الخطية في الجسد» (رو 3:8).

2-  «فجاء وبشَّرُكم بسلامٍ، أنتم البعيدين والقريبين» (أف 17:2).

أما الإرسالية الثانية فيدل عليها القول: «بعد المجد أرسلني إلى الأمم»، وأيضاً قول الرسول بطرس في سفر الأعمال: «فتوبوا وارجعوا لتُمْحَى خطاياكم، لكي تأتي أوقات الفرج من وجه الرب. ويُرْسِل يسوع المسيح المُبشَّر به لكم قبل. الذي ينبغي أن السماء تقبله، إلى أزمنة رد كل شيء، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر» (أع 19:3،20). معنى ذلك أنهم إذا تابوا يُرْسِل الله لهم يسوع الذي سبق وبشَّرهم به. فأوقات الفَرَج عبارة عن خلاص الشعب من أعدائهم وتمتعهم بالراحة والبركة تحت مُلك المسيح، ولكنهم لا يقدرون أن يحصلوا على ذلك إلا عن طريق توبتهم كأمَّة، وهذا ما سيتم مستقبلاً.

وإذا فهمنا ترتيب الحوادث ترتيباً نبوياً صحيحاً نستطيع أن نفهم عبارة «بعد المجد» وتنسجم الحقائق مع بعضها. ولنأخذ هذا الترتيب من إنجيل متى 24، 25 على النحو التالي:

1-   إن مجيء المسيح للاختطاف سيكون للمؤمنين فقط (انظر 1تس 13:4-18).

2-  بعد الاختطاف يبدأ أسبوع الضيق ومدته سبع سنوات تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: «مُبتدأ الأوجاع» ونجده في متى 6:24-8. والقسم الثاني يُسمَّى: «الضيقة العظيمة» ونجدها في متى 15:24-28.

3-   بعد أسبوع الضيق مباشرة يظهر الرب بالمجد (مت 30:24).

4-  بعد ظهور الرب بالمجد يرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت ويجمع مُختاريه من الشعب القديم من أقاصي الأرض الأربعة (مت 31:24).

5-   بعد ذلك يأتي جلوس الرب على كرسي مجده لدينونة الأمم الأحياء (مت 31:25).

على أن ترتيب الحوادث بعد الظهور المذكورة في إنجيل متى هي:

1- متى 30:24 ظهور الرب بالمجد.

2- متى 31:24 جمع المُختارين من الأربع الرياح.

3- متى 31:25 جلوس الرب على كرسي مجده لدينونة الأحياء.

ثم لا يفوتنا أنه عند ظهور الرب بعد المجد، أي بعد انتهاء مدة الضيقة العظيمة، ستحدث حوادث أخرى مشار إليها في نبوات أخرى، نذكر منها ما أشار إليه الرسول بولس في رسالة تسالونيكي الثانية، وما أشار إليه الرسول يوحنا في سفر الرؤيا، ومنها القضاء على الوحش والنبي الكذاب وطرحهما حَيَّين في بحيرة النار (رؤ 11:19)، ومنها ما هو مذكور في نبوات إشعياء ودانيال بخصوص القضاء على ملك الشمال الذي يُسمَّى «الملك» (إش 30) وطرحه مثل النبي الكذاب في بحيرة النار. فمن مقارنة إشعياء 33:30 مع دانيال 25:8، 45:11 يتضح أن ملك الشمال سيُقابل نفس القضاء بطرحه في حتفه المُهيّأ للمَلك (ضد المسيح). أي أنه سيُبَاد من الأرض بواسطة القضاء الإلهي مباشرة وبلا دخل ليد الإنسان، ثم يطرح في بحيرة النار كما طُرِح المَلك، النبي الكذاب، قبله. وبعد ذلك ستُبَاد جيوشه كما أُبيدَت جيوش الوحش والنبي الكذَّاب ثم تأتي دينونة الأحياء (مت 31:25) وبعد ذلك يملك الرب بعد أن يكون قد طهَّر ملكوته من جميع المَعَاثِر وفَعَلة الإثم.

   «لأنه مَنْ يمسكم يَمس حدقة عينه». ونلاحظ أنه لا يقول: "الذي يضربكم بالسيف" بل «الذي يَمَسُّكُم» أي مجرد لمس. يا له من إله مُحِبّ وراع عظيم. والمقصود بعبارة «حدقة عينه» حدقة عين الشخص الذي يحاول أن يؤذيهم، أي أنه إنما يؤذي نفسه في أعز وأغلى ما له وهو حدقة عينه. وهذا ما نجده في الأصحاح الأخير من السفر حيث نقرأ عن الذين قصدوا أن يؤذوا شعبه أن «عيونهم تذوب في أوقابها» (زك 12:14). وقد حدث مثل هذا في حادثة هامان، فالخشبة التي أعدها لمُردخاي صُلِب عليها هو، أي أنه لم يُؤذ إلا نفسه. على أننا نقرأ في تثنية 10:32 أن الرب وجد يعقوب في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب فأحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه؛ والمقصود هنا أن الرب حافظ عليه كما يحافظ الإنسان على حدقة عينه، تبارك اسمه القدوس، فالرب يُشبِّه إعزازه لشعبه بإعزاز الإنسان لحدقة عينه وسهره على سلامتها.

   «لأني هأنذا أحرِّك يدي عليهم فيكونون سلباً لعبيدهم». فالرب سيحرِّك يده على الأمم لإفنائهم. أما شعبه الذي كان مَسبياً لأولئك الأمم فسيكون في مركز القوة والحرية فيسلب الذين سبوه ويتسلَّط على الذين ظلموه، وبهذا المعنى يقول إشعياء: «ويأخذهم شعوب ويأتون بهم إلى موضعهم، ويمتلكهم بيت إسرائيل في أرض الرب عبيداً وإماءً، ويَسْبُون الذين سَبُوهم ويتسلَّطُون على ظالميهم» (إش 2:14).

رابعاً: بركة الأرض في المُلك الألفي (ع 10 - 13)

«تَرَنَّمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب» (ع 10).

يتكلَّم النبي هنا عن المُستقبل، وكأن النبي يعيش في جو المُستقبل، ولهم الحق أن يترنُّموا من الآن لأنه لا بد أن يأتي الخلاص يقيناً.

وكما كان ارتحال الرب من صهيون ورفضه المدينة المُقَدَّسَة حتى لا تكون مسكنه بسبب خطايا شعبه (حز 9، 10) هكذا سيكون رجوعه وسُكناه في وسطهم علامة على رضاه عليهم ونهاية أغراض بركته من نحو جبل قدسه. ولنلاحظ أن مصدر كل بركة لشعب الرب هو سكناه في وسطهم. وهذا يذهب بنا إلى الحالة الأبدية، لا حالة المُلك الألفي فقط، بل حالة السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر كما نقرأ «هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه سيكون معهم إلهاً لهم» (رؤ 3:21). إنه لحقيقة عظيمة مجيدة، بل هي رغبة قلب الله منذ الأزل التي لا بد أن تتحقق بصورة كاملة في الأبدية. لقد تمشَّى الله في الجنة وتحدث مع آدم، وزار إبراهيم ودخل في شَرِكة معه، وظهر للآباء، ومع ذلك لم يسكن معهم ولم يتم ذلك إلا بعد الفداء بدم خروف الفصح والإنقاذ من العبودية. وقد ذُكرت سُكنى الله في خمس حالات في الكتاب: الأولى في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع محجوباً عن أعين الناس، والثانية في الهيكل الذي بناه سليمان محجوباً عن أعين الناس أيضاً، والثالثة كان الله في المسيح في أيام تجسده (كو 19:1)، والرابعة حيث يسكن الآن بروحه في الكنيسة التي صارت «مَسْكَناً لله في الروح» (أف 22:2)، والخامسة والأخيرة في الحالة الأبدية (رؤ 3:21) حيث مسكن الله هو الكنيسة، والناس هم القديسون الأرضيون الذين كانوا رعايا الملكوت الألفي. ويا لها من غبطة أن الله سيسكن مع الناس، لا في خيمة ولا في هيكل أرضي، بل سكنى مباشرة، وجميعهم سيكونون شعبه، ليس على نطاق ضيق كما كان الشعب القديم، بل على نطاق عام وشامل بكيفية لم تعرف من قبل (انظر إش 18:65) فيما يتعلق بفرح الرب بشعبه في الملك الألفي.

«فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعباً فأسكن في وسطك، فتعلمين أن ربَّ الجنود قد أرسلني إليك» (ع 11).

إن سُكنى الرب وسط شعبه في المُلك الألفي ستكون مبعث بركات عظمى للأمم، لأنهم بعمل الروح القدس فيهم سيلتصقون بالرب وبشعبه، كراعوث قديماً، بل هم أنفسهم سيكونون له شعباً. ويقول إشعياء، في معرض كلامه عن المُلك الألفي حين يُشرق مجد الرب في وسط شعبه في هيكل قدسه: «فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك» (إش 3:60). ويُشير حجي في نبوته إلى المسيح كمُشْتَهى كل الأمم (حج 7:2). وفي الملكوت الألفي تحسب الأمم أنه شرف لهم أن أسماءهم تسجل بين شعبه «وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيُعلِّمنا من طرقه ونسلك في سبله. لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب» (إش 3:2). وكما هو مكتوب عن شخص الرب سيكون اسمه «إلى الدهر. قدام الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به. كل أمم الأرض يُطَوِّبُونه» (مز 17:72).

ولنلاحظ تكرار ذلك الوعد «فأسكن في وسطك»، في عددي 10، 11. وفي ذلك ضمان مزدوج لإتمام ذلك الوعد بدينونة الأمم ثم بالبركة وفي ذلك برهان على أن يهوه رب الجنود قد أرسل ملاكه.

«والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد» (ع 12).

أي أن الشعب القديم هم ميراث الرب في الأرض المقدسة وهم أيضاً نصيبه. وكثيراً ما يتكلم الرب عن شعبه بهاتين الصفتين كنصيبه وميراثه «وأخرجكم من كور الحديد من مصر، لكي تكونوا له شعب ميراثٍ» (تث 20:4) وأيضاً «وصليت للرب وقلت: يا سيد الرب، لا تُهلِك شعبك وميراثك الذي فديته بعظمتك، الذي أخرجته من مصر بيد شديدة» (تث 26:9) وأيضاً «إن قِسْم الرب هو شعبه. يعقوب حَبْل نصيبه» (تث 9:32). ولذلك يجدر بنا أن نقول إنه إن كان هذا فيما يتعلَّق بالشعب الأرضي فنحن نرى شيئاً أسمى وأعظم عندما نتحوَّل إلى مركز الكنيسة كما يوضحه الروح القدس في رسالة أفسس «مستنيرة عيون أذهانكم، لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غِنَى مجد ميراثه في القديسين» (أف 18:1). معنى ذلك أنه عندما يُخْضِع الله كل الأشياء التي في السماء وعلى الأرض لسيادة المسيح وسلطانه، أو بالحري عندما يستولي الرب على ميراثه المجيد، سيستولي عليه في قديسيه. لقد كانت أرض كنعان قديماً ميراث الله ولما أخذها لم ينزل من السماء ليأخذها بقوته الإلهية، بل امتلكها بواسطة شعبه القديم، كذلك في المُلك الألفي سيأخذ الله ميراثه في قديسيه الذين سيملكون مع المسيح. ومَنْ يستطيع أن يُدرك سمو وعظمة نصيبنا السماوي في المجد، وأيضاً عندما يرجع الرب ليأخذ ملكه المجيد ونشاركه في مُلكه السعيد؟ إننا سنراه كما هو وسنجلس معه في عرشه. هذا هو غِنَى مجد ميراث الله الذي يُريدنا أن نعرفه في أفسس 9:1-11. والرسول بولس يتكلَّم عن أن كل المخلوقات ستُوضع تحت سيادة المسيح، وستكون الكنيسة شريكة له في ذلك. وفي عدد 18 لا نجد غِنَى ميراثه فقط، بل غِنَى مجد الميراث، حيث أن مجده، تبارك اسمه، سيملأ الكل. ولكي نفهم معنى القول: «ميراثه في القديسين» يحسن أن نرجع إلى عبارة في العهد القديم «الأرض لا تُبَاع بَتَّةً، لأن لي الأرض، وأنتم غُرباء ونُزلاء عندي» (لا 23:25). فالأرض يومئذ كانت ملك الرب، وكان هو المَالك الفعلي ما دام شعبه هو الذي يضع يده عليها. هكذا الحال معنا فالله هو المَالِك الفعلي، ولو أننا نحن الذين سوف نتمتع بثمار التمَّلُك وحصيلة الميراث.

وعلى الرغم من أن شعبه مُشَتَّت الآن لكن بحسب مقاصد نعمته سيرث يهوذا (السبط الذي منه أتى المسيح حسب الجسد). ونلاحظ أن تعبير «الأرض المُقَدَّسة» هو لأن الله سيعود ويخصصها لنفسه، ولأنه سيزيل منها النجاسة. وهذا ما سوف نراه في الأصحاح التالي «وأُزيل إثم تلك الأرض في يوم واحدٍ» (زك 9:3) وبذلك تتطهَّر الأرض من كل دنسها وتكون قُدساً للرب أي مُفرزَة ومُخصَّصَة له. ونلاحظ أن القول: «ويختار بعد أورشليم» قد سبق ذكره «والرب يُعَزِّي صهيون بعد، ويختار بعد أورشليم» (زك 17:1). وهنا يعود الرب ويُكرِّره للتأكيد. لقد مَرَّت عصور طويلة منذ النُطق بهذه الأقوال لكن الإيمان يعلم أنه وإن كانت أورشليم مَدَوسَة في الوقت الحاضر تحت أقدام الأمم، لكن هذه الأقوال ستتم وستُصبح أورشليم في المستقبل كَمَال الجَمال فرح كل الأرض لأنها ستكون مركز عرشه على الأرض.

«اسكتوا يا كل البشر قدام الرب، لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه» (ع 13).

يختتم النبي رؤياه الثالثة بهذا الخطاب الذي يُوَّجهَه لكل البشر، وعندما يستيقظ الرب لا بد أن يكون هناك سكون رهيب لأنه ستقع دينونة رهيبة، فالنبي يرى الرب وكأنه خارج من مسكنه للدينونة لإتمام أغراضه التي كان قد أعلنها. وعلى ضوء نتيجة قيام الرب يهيب النبي بكل البشر أن يسكتوا قدام الرب، لأنه حينما يأتي في يوم غضبه مَنْ يستطيع الوقوف؟ في ذلك الوقت سيُعْلَن مجد الرب ويراه كل بشر «وستراه كل عين» وإذ يتطلع النبي إشعياء بعين النبوة إلى تلك اللحظة يهتف في يومه: «ادخل إلى الصخرة واختبئ في التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته» (إش 10:2) كما هتف حبقوق أيضاً: «الرب في هيكل قدسه. فاسكتي قدامه يا كل الأرض» (حب 20:2) وكما قال صفنيا «اسكت قدام السيد الرب، لأن يوم الرب قريب» (صف 7:1).


[*] إن مقاسات المدينة حسب قياس قصبة حزقيال: 4500 في الطول من الشمال، 4500 من الجنوب، 4500 من الشرق، 4500 من الغرب، أي أنها مربعة الشكل (انظر حز 33:48-35).

[†] مقاسات المدينة السماوية هي 12000 غلوة في الطول ومثلها في العرض ومثلها في الارتفاع أي أنها مكعبة الشكل (انظر رؤ 16:21).

افتتاحية * مقدمة ضرورية *

*  السابع

*  السادس

*  الخامس

 *  الرابع

*  الثالث

 *  الثاني

*  الأول

*  الرابع عشر

*  الثالث عشر

*  الثاني عشر

*  الحادي عشر

*  العاشر

*  التاسع

*  الثامن

 آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة Baytallah.com

 

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.