لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

عشــرون محاضــــرة في شــرح 

رســائل يوحنا الرسول

خادم المسيح وليم كيلي

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الخطاب الثاني عشر

1يو 4: 1 – 6

« أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح إنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن وهو في العالم. أنتم من الله أيها الأولاد وقد غلبتموهم لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم. هم من العالم لأجل ذلك يتكلمون من العالم والعالم يسمع لهم. نحن من الله فمن يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا. من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال ».

قبل أن يواصل الرسول موضوع ثبوت الله فينا معروفاً بواسطة الروح المعطى لنا كما قرأنا في نهاية الإصحاح الثالث (عدد 24) نراه يتحول إلى الموضوع الخطير الذي أمامنا محذراً إيانا ضد هجمات العدة على أساس الإيمان وذلك بتذكيرنا بالحق الخاص بشخص المسيح وبإعلان الله الصريح عنه بفم الرسل الملهمين والأنبياء الذين هم عطايا الرب الممجد وكما هو مدون في كتب العهد الجديد.

فالكلام هنا ليس كما في تعليمه السابق عن العلامات التي تميز المسيحي الحقيقي عن المدعين أو الخادعين نفوسهم، ولكن إشارته إلى الروح القدس في ختام الإصحاح السابق قادته إلى الخروج قليلاً عن خط سيره – كعادته كما رأينا – ليحدثنا عن موضوع له خطره البالغ فيما يتعلق بالحق الأساسي خاصاً بالعلامات التي نستدل منها على الحق ذاته. وهذه العلامات اثنتان: شخصية ذاك الذي ظهر في الجسد، ثم إعلانه بواسطة شهود مختارين من الناس لكي يتسنى لنا، وقد كان له المجد إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً، أن نحصل على الخبر الخاص بتلك البركة السامية الفائقة – الخبر الإلهي نظيره – مطبوعاً بطابع سلطان الله بواسطة أناس ملهمين ومعينين لهذا الغرض* فهو الذي على قبوله تتوقف الحياة الأبدية وكل امتيازات المسيحي وامتيازات الكنيسة التي كان الرسول بولس خادماً لها بصفة خاصة. وهو الذي يترتب على رفضه حلول غضب الله على جميع رافضيه ( يو 3: 35 و36). وبما أنه جاء من السماء، وبما أنه هو الحق بالنعمة المطلقة لذلك عنى الله بأن يهيئ للإنسان بواسطة الإنسان سمع أو لم يسمع – أضمن إعلان في صورة مناسبة لضمير وقلب الإنسان ولكن بحراسة وإرشاد الله الذي لا يمكن أن يخطئ.

وإذا كان الله قد سر على أساس الفداء أن يعطي الروح القدس للمسيحي بصورة وكيفية لم تكن ممكنة قبل موت المسيح وقيامته وصعوده، فإن الشيطان نصب نفسه لتقليد وتزيف العطية السماوية ومعاكسة الآب والابن والروح القدس وذلك بواسطة أشخاص مرتدين، أنبياء كذبة كثيرين ليسوا فقط يضلون الآخرين ويقودونهم إلى التهلكة بل يذخرون لأنفسهم نقمة أشد وأقسى مما يصيب اليهودي المجرم أو الأممي المظلم. ومن هنا كانت عناية الرسول بتقديم بينة الحق المزدوجة في بساطة تامة لمعاونة كل مسيحي يحتاج إليها.

          « أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ». فالأمر هنا ليس تمييز المسيحيين الحقيقيين بل أولئك الذين يدعون أنهم يتكلمون بالروح. فهذا قد قلده العدو، وله في هذا الميدان قدرة عظيمة على الإقناع الماكر منذ تجربة الإنسان الأول في الجنة. « ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حق. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب » (يو44:8) ولقد كانت هناك أرواح شريرة أكثر من ذي قبل لمقاومة روح الحق لأن أروحا ً نجسة كثيرة قد طردها قدوس الله ممن كانت ساكنة فيهم يوم كان له المجد هنا على الأرض.

     والواقع أن إخراج الأرواح النجسة كانت أول معجزة يدونها لنا إنجيل خادم الله والإنسان (إنجيل مرقس) - الخادم الإلهي المبارك - ومنها نفهم أن كلمة المسيح كانت فيها القوة لبركة الإنسان وطرد الشيطان. والآن وقد مضى رسول الغرلة الباسل المقدام فها هو تحذيره لشيوخ كنيسة أفسس قد أخذ يتحقق سراعاً » لأني اعلم هذا أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية، ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم » (أع20: 29 و 30).

وقد تعاظمت موجة الشر أمام عيني آخر الرسل (يوحنا الحبيب) ولذلك هو يهيب بكل قديس مناشداً إياه بحق أيمانه وبكلمة الله، مجرداً البدعة الإبليسية من كل رونق جذاب ومن كل حاسة عاطفية خداعة يخفي العدو وراءها أخطر تعاليمه الهدامة التي هي في الواقع ليست سوى ابتعاد عن الله وإنكار لكلمته تحت ستار الإدعاء بحق جديد أسمى. فالبعض من أضداد المسيح أنكروا ناسوت المسيح الحقيقي والبعض الآخر أنكروا لاهوته الحقيقي وآخرون أنكروا اتحاد اللاهوت والناسوت في شخص واحد. وبهذه الطريقة أو تلك كانوا يحاولون تقويض حقيقة شخص سيدنا وبالتبعية حقيقة عمله أما القديسون فقد عرفوا الآب ويسوع المسيح الذي أرسله وكان لهم الروح القدس لمعاونتهم. وهكذا كأولاد لله بسطاء لم يكونوا مسؤولين فقط بل وبالنعمة قادرين على امتحان طبيعة الروح العامل في تلك « الأنوار » الجديدة وقد كانوا تحت التزام من أجل اسمه ومن أجل خير نفوسهم أن يغربلوا ما تنطوي عليه تعاليمهم من بدع ومستحدثات « لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم ». أكان أولئك المغرورون أنبياء؟ لقد أعطى المسيح « الرسل والأنبياء » الحقيقيين الذين يكونون معاً أساس الكنيسة تعليمياً. فعندما مرقس ولوقا ( فضلاً عن يعقوب ويهوذا كاتبي الرسالتين اللتين باسميهما) اللذان ( أي مرقس ولوقا) لم يكونا رسولين بل نبيين. وقد قام الشيطان يقلد هذا، مستعينا في تقليده بأولئك الأشخاص غير المؤمنين اللذين خرجوا إلى العالم ليضلوا ويتلفوا ويهلكوا. وهكذا كان » أنبياء كذبة كثيرون ».

والعلامة الأولى أو الامتحان الأول خاص بالروح. « بهذا تعرفون روح الله كل روح يعترف بيسوع المسيح (أنه قد) جاء في الجسد فهو من الله ». وهنا أقرر بأن الصيغة الحالية لهذا العدد - سواء في بعض النسخ الإنجليزية أو في النسخ العربية – لا تساعد كثيراً على تأدية المعنى الذي يريده الرسول. فان عبارة « أنه قد جاء » ليس فقط لا يتطلبها الأصل بل تجعل الأمر كأنه مجرد اعتراف بحقيقة تاريخية في حين أن الكلمة الرسولية تعني الاعتراف بشخص الرب متجسداً. وإلا فهل صحيح أن أي روح شرير ينكر الحقيقة التاريخية بأن يسوع المسيح قد جاء في الجسد؟ ألا يعترف المسلمون بهذه الحقيقة بغير تردد إن كان اليهود لا يسلمون بها؟ بل من المحقق أن جانباً من أكثر الملحدين تطرفاً وأشدهم خطراً يسلمون بهذه الحقيقة ويثنون على الرب بطريقتهم الخاصة باعتباره المعلم العظيم وأفضل من وطأت قدماه وجه الأرض.

ولكن ليس هناك اعتراف حقيقي بشخص الرب كما يرسمه الرسول هنا إلا بروح الله. ولئن كانت كلمات الرسول قليلة وموجزة إلا أنها تصل إلى صميم الموضوع لقد تسمى كثيرون باسم « يسوع » في الفترة بين يشوع بن نون ويسوع ابن مريم العذراء. ولم يكن أولهم – بحسب منطوق الكتاب – إلا رمزاً ليشوع أعظم منه بكثير. ومن المحتمل أن كثيرين سموا بعد ذلك بهذا الاسم الكريم ولم يكونوا به جديرين. وبالأخص ذلك « الباراباس » الذي فضله اليهود المجرمون على رب المجد. إذا كنا نصدق ما يقوله عنه الكثير من كتب التقليد. أما المؤكد فهو أنه كان يلقب باراباس (أي ابن الآب) تقليد إبليس لابن الآب الحقيقي.

وفي الإصحاح الأول من إنجيل متى يعطينا الروح القدس ترجمته لهذا الاسم الكريم بالقول « وتدعوا اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم » فو إن كان يشوع استطاع أن يقود إسرائيل إلى كنعان رغم حشود الأعداء الذين كانوا يترصدون لهم في كل مكان فإن المرموز له وحده (الرب يسوع) هو الذي استطاع أن يخلص شعبه من خطاياهم. فهو ياه، الرب-الكائن، الرب السرمدي، الأبدي المطلق، الأزلي نسبياً وتاريخياً. وحيث أنهم كانوا شعبه فهو الذي كان عليه أن يخلصهم من خطاياهم الأمر الذي لم يكن يستطيعه سواه، الذي هو أيضاً عمانوئيل، الله معنا، وليس غيره كان يحق له أن يتخذ هذا اللقب. وإذا كان شعبه قد رفضه فجلبوا على أنفسهم الخسران الموقوت، فإن نعمته تتجه إلى الأمم المسلوبين المساكين ولو على الأقل إلى الذين يسمعون صوته منهم. نعم فإلينا نحن الأمم (- كما كنا قبلاً) اتجه هذا الخلاص. على الأمم وقد انتفخوا في عدم إيمانهم وكبريائهم لابد أن يقطعوا كما قطعوا اليهود جزئياً لكي ندخل نحن. ولكن أخيراً سيرجع إسرائيل إلى مسياهم الذي صلب، الممجد عندئذ والمرتفع والمتسامي جداً، ويتحررون من كل خوف داخلي أو خارجي « وهكذا سيخلص جميع إسرائيل » فإن محبته تكون قد صبرت عليهم طويلاً وظلت أمينة لهم وفية لعهدها بلا كلل ولا ملل حتى وصلوا إلى أعماق شرهم وآلامهم، لأن إلى الأبد رحمته، وهباته ودعوته بلا ندامة.

هذا هو « يسوع المسيح » الذي يعترف به كل روح من الله. مع هذا الفارق وهو أنه الآن معروف في المسيحية معرفة أعمق وأوثق مما كان مقدماً لإسرائيل الذين سيعرفونه في أمجاد ملكوته العتيد المنظورة. على أن الذي جاء في الجسد هو ياه المخلص (يسوع) كما هو أيضاً مسيح الله أو المسيح. هو الذي يمجده روح الحق ويبغضه روح الضلال « وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح جاء في الجسد فليس من الله ».٭

إن اسم يسوع هو التعبير عن كل ما في ذاته الكريمة كما أعلنه الله، وذلك لصالحنا إذ نجد فيه كل ما يعوزنا، وكل ما فيه غبطتنا الأبدية. وليس هذا الاسم المحبوب معبراً فقط عن السمو الفائق الذي لكل ما فيه أو ما ينال بواسطته بل هو وحده الذي يكشف لنا عن حقيقة كل شخص وكل شيء. فهو الحق موضوعيا ً(أو خارجياً) كما أن الروح القدس هو الحق داخلياً أي القوة الباطنية التي تعيننا على التعرف بالمسيح والاستمتاع بكل ما فيه أو ما ينال منه (1يو5: 6) فهو (أي المسيح) وحده الذي يقودنا إلى معرفة صحيحة بالله. هو الذي يرينا الآب، وهو الذي يعلن لنا – وليس للعالم – الروح القدس. أعني أنه يعلن الثالوث الأقدس، وفي المسيح وحده نعرف النور والحياة و المحبة كما هي من الله، وفيه نعرف الطاعة والبر والقداسة والوقار والاتكال والأمانة و التواضع والوداعة. ونعرفها كلها في كمالها المطلق. وفيه نرى الإنسان موضوع لذة الله. وفي نور حياته نرى الإنسان في عدائه لله تحت سطوة الشيطان – أي حقيقة الإنسان كما هو بحسب الطبيعة. وكذلك بواسطته نعرف ما هو الشيطان في بغضائه وخداعه. وبدون المسيح لا يكون لدينا سوى ظلال الفداء والكفارة، الذبيحة والتقدمة، الكاهن والقدس. فهو وحده حقيقتها وتمامها جميعاً، معطيا ًلكل شيء صفته الحقيقية ونسبته الصحيحة لله، وهو نفسه مركزها جميعاً وهكذا في المسيح وبالمسيح نعرف الله والإنسان والشيطان وكل شيء. فهل أنت في شك من جهة أمر ما؟ أدخل المسيح في القضية وسلط نوره على المعضلة فحينئذ سينجلي لك الحق من كل جوانبه. أليس هو محك الحق وقياسه الكامل؟

وهكذا بينما نرى عشاق الجدل والنقاش يهيمون في بيداء الحدس والتخمين طلباً لمعرفة الحق الذي يشق على أصلب العقول الطبيعية عوداً، إذا بالنعمة تهب الحق في المسيح لأبسط مؤمن يعتمد عليه كمن هو كل شيء له. وهذا هو سر المسألة: إن المسيح هو الحق موضوعياً كما أن الروح والحق كقوة داخلية لإعانة روح الإنسان. ولئن كان أولئك « الأنبياء الكذبة » الأنانيون المنتفخون يقولون « للأولاد الصغار » أنهم لا يقدرون أن يستغنوا عنهم لن عندهم وحدهم « الروح » في حين أن الأولاد لا يملكون سوى « الحرف » فان المؤمن يعلم إن له المسيح الابن ظاهراً في الجسد، ويأتي أن يفرط في ما سمعه « من البدء » وهو الحق المدون الآن في كلمة الله المكتوبة هو لا يدعى بأنه يحقق في نفسه في وقت واحد كل ما هو مكتوب عن الحق وإنما يعلم أنه وقد فاز بالمسيح الحق، فقد امتلك الحق كاملاً في شخصه المحبوب ويعتمد على مسحة الروح للتطبيق والاستفادة العملية على قدر الحاجة. ومن أجل ذلك هو يشعر بأهمية ثباته هو في الابن وفي الآب. أما التفريط في المسيح المعلن على هذه الصورة فمعناه التجرد من المسيحية. ولذلك فعندما كان العدو يستعمل معول الادعاء بحق أسمى ليهدم به شخص سيدنا نرى الروح القدس يعيد النفوس إلى ذاك الذي كان ولا يزال هو الحق. وإذ هو كذلك فلا مجال فيه للتطور أو التدرج الذي لا يعدو أن يكون أكذوبة شيطانية تعلن عن حقيقتها بواسطة نكران الحياة الأبدية كشيء معروف ومدرك باعتبارها هبة الله في الوقت الحاضر. أما الأكذوبة فلا تقدم سوى « آراء » ونظريات جوفاء.

وإزاء ذلك تعطينا النعمة محكاً أكيداً مضموناً به نعرف متى يكون الله معلماً الحق ومتى يكون روح الضلال موحياً بالأكذوبة العظيمة. وهذا هو المحك: أن روح القدس يمجد الرب يسوع، أما روح الضلال فيطري العالم باعتباره الأداة التي يستخدمه إبليس للخداع والتضليل بقدر ما يستطيع. وإن كان لا يقوى على تضليل المختارين، فإن على اتهامهم قدير، يحاول أنت يظهرهم قوماً متزمتين متعصبين ضيقي الفكر، وكل ذنبهم أنه لم تغرر بهم الأولان البراقة التي يضفيها الشيطان على أعماله الشريرة، وإنهم يصدقون الله فيما شهد به عن ابنه وهنا يجب التفرقة بين الإيمان والتسليم الأعمى الذي ليس هو إلا تصديق الإنسان فلا يمكن بحال من الأحوال إيجاد علاقة ورابطة بالله إلا على أساس تصديق الله وذلك عن طريق كلمته المكتوبة. فإذا قد شهد الروح القدس للرب كابن الله المتجسد فما على الإنسان إلا أن يصدق كلمة الله ويؤمن بالرب يسوع المسيح الحياة الأبدية أما معرفة أية حقيقة عنه مهما كانت صحيحة وهامة فهي ليست الإيمان به والاعتراف بشخصه. إن الحياة هي في ابنه. وقد جاء الابن في الجسد، ولهذا كان يسوع « أعجوبة النعمة الإلهية ومحك الحق الإلهي ». وبالاعتراف به معناه الإقرار بحقيقة شخصه كمن جاء في الجسد.والفرق هائل وبالغ الأهمية. وهو ليس هاماً وخطيراً فقط بل وحيوياً أيضاً. ليس الإيمان بحقيقة ميلاده بل الإيمان بشخصه الأزلي مولوداً بهذا الاعتبار. وهذا هو الاعتراف الذي يعترف به كل من هو من الروح القدس.

يظن كثيرون أمن المراد هنا إنما هو حقيقة التجسد. لا شك أن التجسد متضمن فيها وهو حق خطير الشأن من حقائق المسيحية الجوهرية وثمرة النعمة الغنية، وقد كان هناك من قام بنكره حتى في تلك الأيام القديمة نازلاً به إلى مستوى الأديان الأخرى التي تقول بنظرية التشبه. وهنا ليسمح لي القارئ أن أشير إلى ذلك الكتيب الخرافي البالي الذي يقال إنه اكتشف حديثاً باسم « إنجيل بطرس » وهو كتيب ليس فقط زائفاً ومزوراً بل هرطوقياً من الدرجة الأولى – وإن دل على شيء فعلى صدق أقوال يوحنا إذ هو يحمل في طياته الشهادة على وجود روح الظلال القتال منذ الأيام الأولى، ويحزننا أنه كتب على الإطلاق، ذلك لأنه ينطوي على ضلالة لا يمكن أن تخرج من فم مسيحي عادي فكم بالحري من بطرس. لكن بطرس الذي ظلموه كان محبوباً لغيرته، ولعل الكثيرين ممن كان يصعب عليهم استيعاب تعاليم بولس استيعاباً كاملاً كان يشوقهم جداً أن يستمتعوا بكرازة بطرس وقد استغل المزور الأثيم صيت الرسول (على الأرجح بعد موته) ومهد لقبول أسطورته الأغنوسطية تحت ستار اسمه، وذلك لأن محصل تلك الأسطورة هو أن المسيح لم يأتي في الجسد لكي يموت على الصليب بل إن من اتخذ الجسد خيمة كما يسكن الإنسان في بيت، بمعنى أن الجسد المادي لم يكن جزءاً من شخصه، وإنه بعدما عاش في الجسد فترة من الزمن. وإذ اقترب من الصليب ترك ذلك المسكن ومضى إلى السماء.

أو لا يرى القارئ شبهاً لهذه الضلالة في دين ما؟ فهناك يزعمون أو يتصورون أنه في اللحظة الأخيرة الحاسمة استعمل الله سلطانه واستبدل يهوذا الإسخريوطي بالرب يسوع الذي رفعه إليه. فالبدعة الأغنوسطية وأختها التي أشرنا إليها تزعمان أن الرب لن يأتي فوق الصليب، ولو أن أصحاب هذه النظرية الأخيرة يعتقدون أن الرب سيأتي مرة ثانية ليدين العالم وأنه سيجد كل العالم حينئذ في حالة الارتداد. وهم في ذلك أحسن من كثيرين من الجهلة في النصرانية ممن ينادون في كل مكان لتحسين مطرد في العالم ويمنون أنفسهم وسامعيهم بحالة من الكمال الإنسان على الأرض بدون المسيح. وليس مخجلاً ومذلاً أن ينادوا بملكوت بغير ملك؟ لا ريب في أن البعض يتوقعون انسكاباً آخر للروح – انسكاباً اعظم من الأول – لتحقيق هذا التحسين والكمال المنتظر المنشود، ولكن الواقع المستفاد من كلمة الله هو أن الروح القدس سيسكب هكذا مرة ثانية تكريماً لملك المسيح على الأرض.وهناك دين من الأديان (وهو الذي أشرنا إليه سابقاً) يعتقد أصحابه أنه في الأزمنة المقبلة سيكون قد هجروا كتابهم كما سيهجر اليهود العهد القديم والنصارة العهد الجديد (أي الارتداد العام) والكتاب المقدس يرينا أن النصرانية تسير صوب هذا الارتداد بسرعة، ولعل أقوى حافز وعامل على هذا الاتجاه يقوم في تلك النظرية اللا دورية التي تنكر صحة الوحي والتي تسود في النصرانية منذ الآن.

ولكن أمامنا هنا محك الحق « كل روح يعترف بيسوع المسيح جاء في الجسد فهو في الله » فالروح الصادق الحقيقي يعترف بشخص المسيح. ومن المهم جداً أن نفهم هذا الحق، لأن مجرد التشديد على حقيقة أنه « جاء في الجسد » قد تؤدي إلى نسيان من هو الذي جاء هكذا. لا شك أن مجيئه في الجسد حق خطير وهام ولكن أخطر منه وأهم حقيقة ذاك الذي جاء هكذا. فمن هو الذي حاء في الجسد؟ إنه لا يمكن أن يقال عن أي إنسان بشري أنه جاء في الجسد. خذ أعظم الأباطرة الذين شادوا الإمبراطوريات العظيمة – نبوخذ نصر أو كورش أو الإسكندر أو القيصر وخذ أشهر الأسماء التي لمعت في عالم الأدب أو الفلسفة أو الخطابة أو العلوم وما إليها. لا يستطيع أحد أن يقول بحق أن أياً منهم جاء في الجسد. والسبب بسيط، وهو أنه لم يكن ممكناً لهم أو لنا أ، نظهر في عالم الوجود بالمرة ما لم نولد في الجسد. أما العجب، والحق، والنعمة اللانهائية. فهي أن سيدنا جاء في الجسد . فهو أقنوم إلهي، ابن الله الخالق الذي به كل شيء كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. ومجيئه في الجسد هو شيء مجيد للغاية لله وللإنسان في وقت واحد. والحق أن شيئاً في الأزل السحيق لا يقارن بمجيئه متجسداً سوى موته على الصليب، أما في الأبد العتيد فليس لهذه الحقيقة الفريدة من مثيل.

لكن الأمر الجوهري ليس مجرد ما صار له المجد، بل من هو الذي صار جسداً. كان في مقدوره بكل تحقيق أن يأتي في غير هذه الصورة. كان في مقدوره. أن يأتي في مجده الشخصي، أو في مجد ملائكي (كما ظهر فعلاً مراراً في هذه الصورة في أزمنة العهد القديم لفترات عابرات) غير أنه سر أخيراً أن يأتي في الجسد ليمجد الآب ويبرر الله كالله، ويبارك الذين يؤمنون، ويدين الذين يرفضون، ويرد الخليقة، ويبيد إبليس وينقض أعماله. وكل هذا يدور حول كيانه الأزلي ومجده الإلهي. وهذا هو تعليم يوحنا في رسالته كلها كما في إنجيله، ونبوياً في سفر الرؤيا. وهو متضمن هنا في المحك الذي يزودنا به للتمييز بين روح الله وروح الضلال.

إن روح الضلال لن يعترف به. ذلك لأن جميع هذه الأرواح ترهب الرب يسوع وتخافه خوفاً عظيماً والسبب في هذا الخوف الطبيعي فيها هو إنها تعرف يقيناً أنه أقنوم إلهي وإنه الشخص المعين ليس فقط ليدين العالم بل على وجه خاص ليعاقبها باعتبارها الأداة الماكرة الخبيثة التي لا تكف عن مقاومة الله وإيصال الأذى للإنسان. ومن هنا كان خوفها الرهيب وارتعادها العظيم كلما ألفت نفسها في حضرة الرب أو كلما وجهت بطلعته البهية. كما هو مكتوب في رسالة يعقوب « الشياطين يؤمنون ويقشعرون ». ومن الأسف أن الإنسان لا يساويهم في هذا. فهو لا يؤمن ولا يقشعر. ولكن سيأتي يوماً فيه يتحتم عليه ذلك ولا مفر. إذاً فقد عرفنا المحك الأول. وهو شخصية ذاك الذي جاء في الجسد. والواقع أن الحق الخاص بيسوع المسيح يضيء في هذه الرسالة من مطلعها حتى نهايتها.وهو هنا يقدم لنا في كلمات قليلة مركزة باعتباره المحك الذي به نميز روح الحق الذي جاء ليمجد المسيح.

بعد ذلك يقدم لنا الجاني العكسي. « وكل روح لا يعترف بيسوع فهو ليس من الله ». وهذه هي الصيغة المختصرة التي يقرها أبرز النقاد، وهي في هذا الوضع تعزز الأقوال السابقة وتوضح جلياً أن الاعتراف بشخص المسيح – لا بمجرد حقيقة متعلقة به – هو المقصود هنا، لأن غواية روح الضلال لا تقوم على إنكار حقيقة مجيء المسيح في الجسد بل تدور حول إنكار شخصية الرب يسوع الأزلية ومن هنا كان ذكر الاسم الكريم فقط « يسوع » في هذا العدد مسبوقاً كما قلنا في الأصل اليوناني بأداة التعريف « أل » أي بالشخص السابق وصفه. هذا الاعتراف وحده هو الكفيل بالكشف عن روح الضلال. ليس فقط أنه جاء وأنه كان إنساناً حقيقياً وأنه سيأتي ثانياً. هذا كله يعترف به أصحاب الدين الذي أشرنا إليه ومع ذلك فهم – كما يسمون غيرهم – غير مؤمنين، وذلك لأنهم لا يؤمنون بمجد شخصه. وإنما هم يعتبرونه نبياً، رجلاً عجيباً، يفضل جميع أبناء البشر، والمعين دياناً للعالم يوم يأتي ليملك سبع سنين! ولكنهم لا يؤمنون بلاهوته أو انه أخلى نفسه من مجده الإلهي ليظهر نعمة الله.

فإذا سلمنا بهذه الصيغة المختصرة فإننا نجد أنها لا تجعل فارقاً بين الجانب السلبي والجانب الإيجابي من الاعتراف، وإن كانت في الحقيقة تؤيد إلى أقصى حدود التأييد أن الاعتراف الذي يتطلبه روح الله ليس اعترافاً بمجرد حقيقة من الحقائق بل بشخص سيدنا ذاته، لأن العدد الثالث المتعلق بالجانب السلبي من الاعتراف لا يذكر إلا الاسم الكريم ولو أنه يتضمن الاعتراف الأكمل الوارد في العدد الثاني والخلاصة أن النبرة هي على حقيقة الشخص وليس على حقيقة المجيء.

هذا هو إذاً المحك الأول: شخص الرب يسوع المسيح كمن جاء في الجسد. كل روح يعترف به هكذا هو من الله، وكل روح لا يعترف به هكذا ليس من الله، « وهذا هو روح (أو مبدأ) ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي والآن هو في العالم ». فليس الناس فقط هم الذين كانوا يعملون مفسدين بل الأرواح الشريرة أيضاً. ولذلك فإن الرسول وهو يتكلم بلغة المحبة العميقة يستخدم أسلوباً عظيماً للغاية. ولا عجب فإن كان شخص إلهي تنازل في طريق المحبة للإنسان ليولد من امرأة، كيف يكون هذا موضع ريبة وجدل؟ إن عدم الاعتراف به معناه محاربة الله.

ولذلك فبجانب المحك الأول نجد المحك الثاني الذي نتبين فيه هداه الحق المعطى للمسيحي. لا شك أنه هو شخصياً الحق (يو 14: 6) الكلمة الذي صار جسداً وحل بيننا. غير أن الله في غنى نعمته شاء أن يعطينا إعلانا جديدا ً محوره ومركزه شخص ربنا يسوع المسيح. وهذا الإعلان هو كلمته التي هي الحق. وهي التي يدور حولها الكلام هنا. إنها كلمة الآب، وهي تعلن الآب والابن بالروح القدس وأين نجد هذا الإعلان؟ نجده في كتب العهد الجديد التي هي مجموعة تعاليم رسله وأنبيائه القديسين. والأمر الغريب أنه حتى في ذلك الوقت قام أنبياء كذبة يدعون بأن لديهم نور الله الأكمل ولم يسلموا بأن « تعليم الرسل » هو كلمة الله. قد يكون هذا التعليم حسناً كبداية، أما الحق الكامل فعندهم هم . كانوا يشبهون جماعة الكويكرز في الوقت الحاضر الشغوفين بالشهادة، ولكنها شهادة هي وليدة أفكارهم الخاصة. وهناك آخرون أيضا ممن يعتمدون على الرؤيا والأحلام لتريهم المسيح أو لتدلهم على واجبهم كمسيحيين أكثر من اعتمادهم على كلمة الله المكتوبة. وعندنا العقليون الذين ينكرون على الكتاب أنه كلمة الله، ولو أن جانبا منهم يسلم بأن في الكتاب بعضاً من أقوال الله ولكنهم ينكرون أنه في مجموعة كلمة الله. على أن عدم إيمانهم هذا من شأنه أن يزعزع كل شيء في الكتاب إذ من ذا الذي من حقه في هذه الحالة أن يقرر ما هو من كلمة الله وما ليس منها ما دامت الكتابات التي بين يديك غير مؤكدة؟ هذه دعوى المتشكك التي يحبها ويرتاح إليها لأنه يرهب سلطان الكتاب، ويفزع من الخطر الذي يحذر منه جميع الذين لا يطيعون الله. أما إذا كان الكتاب هو كلمة الله، كما هو كذلك بالحقيقة فيالها من إهانة لله أن تقف موقف المتشكك فيه ويالها من إهانة بصفة خاصة للروح القدس الذي أعلن سيدنا أنه لا غفران لمن يجدف عليه!.

ولاشك أن الذين كان يخاطبهم الرسول أحسوا خطورة أقواله ولذلك نراه على الفور يضيف محكاً آخر من نوع مماثل هو كلمة الله الجديدة، إعلانه الأخير المؤسس على يسوع الرب وعمله الفدائي الذي تم وقبله الله، فيقول » أنتم من الله أيها الأولاد ( الأعزاء) ». ومن الخير أن نعرف أن هذا هو معنى الكلمة المستعملة هنا » الأولاد الأعزاء » ذلك أن الرسول يستعمل ثلاث كلمات في هذا الصدد: واحدة معناها الأولاد بصفة مطلقة وهي الواردة في ( ص 3: 1 و 2) وفي القول » أولاد الله » والثانية معناها » الأطفال أن الأولاد الصغار » وهي المستعملة في (ص2: 13 و 18) والثالثة معناها  » الأولاد الأعزاء أو الأحباء «   ويقصد بها الطبقات الثلاث التي تتكون منها مجموعة عائلة الله. وهنا نلاحظ أن لفظ » الأولاد » المذكور في ( ص3: 1و2) يضم كل العائلة حيث ندعى أولاد الله، وفعلاً نحن كذلك من الآن، ومن الخطأ أن يقال « أبناء الله » مع أننا أبناؤه أيضاً غير أن المقصود هنا « أولاد » الله، ليس الأبناء بطريق التبني، بل مولودون من الله ولذلك فإننا  أولاده. أما الكلمة الثالثة فعبارة عن مصغر كلمة « أولاد » وتعبر عن المودة والمعزة نظير ألقاب التدليل التي نستعملها أحيانا مع أولادنا إظهاراً لمودتنا نحوهم، ولذلك كان من الخير أن نترجمها هنا » الأولاد الأعزاء » تمييزاً لها عن تلك المترجمة » أولاد » من جهة والأطفال أو « الأولاد الصغار » من الجهة الأخرى.

إذاً الرسول يخاطب عائلة الله جميعاً بالقول « أنتم من الله أيها الأولاد الأعزاء » مشدداً النبرة على ضمير المخاطب « أنتم ». فمع إن الأنبياء الكذبة كانوا يعمون أنهم هم القادة الموثوق بهم إلا أن الرسول يفند زعمهم وكأنه يقول ما معناه. كلا إنهم أعداء المسيح وسفراء الشيطان، أما « أ،تم » فأولاد الله بالمفارق مع هؤلاء الأدعياء والقادة الكذبة والأردياء الذين يحتقرون الأولاد الأعزاء. والله في المسيح هو لكم مصدر كل بركة: الحياة الأبدية والغفران والانتساب إلى الله نفسه كالآب وعطية الروح القدس الساكن فيكم « أنتم من الله أيها الأولاد الأعزاء وقد غلبتموهم » أي الأنبياء الكذبة.  ولكن مرجع هذه الغلبة ليس إلى شيء فيكم تفتخرون به كما من حكمتكم أو قوتكم أو قداستكم الخاصة بل « لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم » ذلك أن مصدر قوة المسيحي هو روح الله الماكث فيه. الله نفسه ماكث فيه وذلك بواسطة روحه الساكن فيه. ولذلك استطاع الرسول أن يقول « لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم » أو كقوله في (ص 5: 19) « العالم كله قد وضع في الشرير » وهذا معناه بكل وضوح أن إبليس هو العامل بهذه الأرواح الشريرة.

وهكذا يتبين أن النبرة على « أنتم » تحمل في طياتها تعزية كبرى وتثبيتا عظيماً إذ يخاطبهم الرسول بأنهم بكل يقين « من الله » بمعنى إنه مصدر كل بركاتهم. وإذا كان الله هو مانح البركة فهو تعالى لا يتغير، وهبات الله هي بلا ندامة من جانبه. قد يقال إنه « ندم » حينما لا يكون الأمر متعلقاً بهبة أو دعوة من الله، كما ندم على الخليقة (تك 6: 6) وأهلكها، لأنها لم تكن هبة بل مجرد عمل مهما كان خطيراً. ولكن عندما يدعو لنفسه في مطلق محبته خطاة بائسين لكمي يجعلهم خاصته، وحينما يهب الحياة الأبدية أو مغفرة خطايانا أو منزلة الأولاد فمثل هذه العطايا هي هبات الله ودعوته، وجميعها بلا ندامة. وهنا لن يتغير فكره. قد يظهر الأولاد جهالة وغباء وانحرافاً محزناً، ولكنه تعالى لا يتغير.

لا شك أن لأقوال الرسول هنا قوتها الخاصة. فلم يكن الأمر قاصراً على أن القديسين نالوا هذه البركات جميعها من الله، بل إنهم هم (هم أنفسهم) من الله، « أنتم من الله ». مولودون من الله، ومحبوبون منه باعتبارهم أولاده، وثابتون في هذا المقام باعتباره كيانهم الجديد. وإذا كانوا قد « غلبوهم » (أي آلات خداع الشيطان) فذلك « لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم » وإن كان رئيسه وإلهه. ولئن كان الأنبياء الكذبة يستمرون في غيهم وضلالهم وشرهم الروحي فإن القديسين قد غلبوهم. ذلك أنهم لم يتحولوا نحوهم بل ظلوا بمعزل عنهم. سمعوا صوت الراعي الصالح وتبعوه، عرفوا أنه وحده يستطيع أن يهب الحياة والحرية والطعام (يو 10: 9) وإنه جاء مرسلاً من الآب في مهمة محبة الله هذه ومن تلقاء محبته هو لخاصته. وإن ابن الله وحده يستطيع أن ينطق بمثل هذه الأقوال، كما أنه هو وحده الذي وضع حياته عنهم في الكفارة. آمنوا بذاك الذي يدعو خرافه الخاصة بأسماء وهي تتبعه لأنها تعرف صوته. أما الغرباء فهي لا تعرف صوتهم بل تهرب منهم ولا تتبعهم. والآن وقد استقرت نفوسهم على فداء المسيح فإن الله نفسه أصبح فيهم بروحه ويثبت فيهم.

وبعد ذلك يصف الرسول هؤلاء الأنبياء بعبارات قاطعة حازمة دامغاً إياهم بوصمة مرعبة وشنيعة وواضعاً نبرة أخرى عليهم بالقول « هم من العالم » بمعنى إن مصدر كل تعليمهم وسلوكهم وأهدافهم ليس من الله بل العالم الذي هو عداوة لله. إذاً فالأمر كله من تحريض الشيطان الذي هو منشأ جميع الأكاذيب التي تزعم أنها الحق « من أجل ذلك يتكلمون من الله ». العالم الذي طرد الله في المسيح وصلبه هو مصدر وينبوع كل تعليمهم. هم لا يتكلمون عن العالم كموضوع بل يتكلمون منه كينبوع. « والعالم يسمع لهم » لأن العالم يحب خاصته فعلاً، وإذ ليس له معرفة الله ولا معرفة الخطية التي تقتضي تدخله بواسطة الرب يسوع لمنح الحياة الأبدية والفداء الأبدي، فإنه يكتفي بفلسفة المتفلسفين وخيالات ومضاربات العميان المتحذلقين التي تترك الله وتمجد الإنسان. والواقع أن هؤلاء العميان أو الأنبياء الكذبة لم يسمعوا صوت ابن الله قط بل هم أموات ويستمدون حقائقهم من دائرة الموت.

بعد ذلك يتحول الرسول إلى نبرة أخرى. « نحن من الله » وهو شيء مختلف ومتميز عن التوكيل الأول « أنتم من الله ». فإن كانت « أنتم » تنصرف إلى مجموع المسيحيين الحقيقيين، وإن كانت « نحن » تساهم مع « أنتم » في البركة العامة، غير أن الله هو مصدر القوة الإلهية التي جعلت الرسل أكفاء ليكونوا أبواق كلمته، بحيث أننا نسمعه إذ نسمعهم. إذاً « نحن » يقصد بها الرسول والأنبياء المرسلون من المسيح والمعطون لبركة قديسيه. لقد ألهموا من الله ولذلك علمونا الحق كما هو في يسوع. والعهد الجديد يتضمن هذه التعاليم الإلهية بصورة ثابتة مستديمة. فكما علموا هكذا كتبوا. وكما كتبوا هكذا نطقوا. وبما أن العهد الجديد يجمع بين دفتيه عدداً من الأجزاء أضيف بعضها إلى بعض تدريجياً ولم تكن يومئذ مجتمعة في مجلد واحد كما هي الآن، فربما كانت هناك صعوبة لدى البعض. أما سلطان الرب فكان نهاية كل مشاجرة فيما يتعلق بالعهد القديم في نظر جميع رجال الإيمان. ولربما قيل في تلك الأيام الأولى أن الأقوال الجديدة كانت مختلفة عن أقوال العهد القديم من حيث عمق تلك وبساطة هذه، اختلافاً كان يصعب معه القول عن جميع الكتب الصغيرة التي كانت متداولة يومئذ – الأناجيل والرسائل – إنها موحى بها من الله بكل تأكيد. ولذلك فعن كلمة الله الجديدة هذه المتضمنة فيما نسميه العهد الجديد يتكلم الرسول هنا باعتبارها المحك الأخير الذي يقدمه لنا الله لاختبار الحق وتمييزه. فكل ما شهد به الرسل والأنبياء في الروح القدس عن الآب والابن في وقته المعين قد تذخر في هذا المستودع الجديد من مستودعات الوحي. والرسول يشير هنا إلى شهادتهم المشتركة بوصفها الحق كم أن المسيح هو الحق. فالمسيح هو الحق مشخصاً. والعهد الجديد الذي هو سجل شهادة هؤلاء الشهود المختارين هو الحق مكتوباً. لذلك يقول عن هؤلاء الشهود « نحن من الله » كأنه يقول للقديسين: « لقد رسمنا لكم بقلم الروح القدس حق المسيح من الأول للآخر. ونحن من الله في هذا العمل ولأجله فمن يعرف الله يسمع لنا ».

وإنه لخطأ جسيم وضار للغاية  تطبيق مثل هذا القول على كل مسيحي يكرز بالكلمة مهما كان مبلغ إخلاصه وصحة دعوته، أو كل معلم للحق مهما كانت كفايته ودرايته. ومن هو المبشر أو المعلم الذي يستطيع أن يدعى لنفسه مثل هذه المنزلة؟ حشا لأيهما أ، يدعى بأن أحداً من أصحاب هذه المواهب الذين يعطيهم الرب لكنيسته في هذه الأيام قد يرتفع على هذه  الدرجة وشكراً لله لني شخصياً لم ألتقي في حياتي بأي خادم حقيقي يدعي لنفسه مثل هذه اللغة التي تخص أواني الوحي دون سواهم. تأمل جدياُ أيها القارئ في ما يقوله الرسول « من يعرف الله يسمع لنا ». هل لي خادم على الأرض أن يتوقع هذه الحالة بصفة مطلقة؟ كلا. ليس فقط انه في حالة الانقسام التي عليها النصرانية في الوقت الحاضر لا يستطيع أي إنسان أن يتوقع مثل هذا الاستماع بل أن الأمر في حقيقته لم يتعدى في يوم من الأيام دائرة خدمة الرسل والأنبياء. إن الرسول يتكلم هنا فقط عن الأشخاص الذين كانوا يشغلون مركزاً مثله في تلك الأيام التي فيها وضع أساس المسيحية، وكان من الصواب واللازم أن يعرف المؤمنون من ذلك الوقت فصاعداًُ مبلغ السلطان الإلهي الذي يضيفه الله على التعليم الرسولي ويصر عليه، ولكنه سلطان قاصر على أواني الوحي في العهد الجديد كما كان قاصراً على أواني الوحي في العهد القديم. وكل ما في الأمر انه يوجد في الوقت الحاضر كما كان في ذلك الوقت إرشاد الهي بالروح القدس لكل كارز أو معلم بالحق، غير أن للوحي صفته الخاصة وهي تحرره من كل خطأ في ما أعطى كقاعدة الإيمان وأساسه.

وفضلا عن ذلك فقد عني الله في نعمته أن يحتفظ لنا – حتى بعد أن مضى الرسل والأنبياء – بأقوالهم المعطاة من الروح، لا مجرد شهادتهم بل ذات الكلمات التي أعطاهم الروح القدس أن ينطقوا بها، حتى كما كانت حينئذ « من الله » لا تضيع أبداً بل تبقى طالما بقي مسيحي ليستفيد منها. فهذه رسالة يوحنا الأولى مثلاً، هاهي بين أيدينا بالضبط كما كانت بين أيدي الذين كتبت إليهم، ولنا أيضاً نفس روح الله التي كانت لهم والذي يبقى إلى الأبد. غير أنه كان من نصيب الملهمين الموحى إليهم أن يضعوا الأساس، ولا يوجد على الأرض الآن مثل هذه الطبقة من خدام الله ولكن لنا الخدمة التي أتموها بصفتهم كتبت الوحي، وهي دستور المسيحية والكنيسة المكتوبة. والرسول هنا يتكلم فقط عما قالوه وأذاعوه وسمعه القديسون، وكان معظمه مكتوباً يومئذ ولو أن بعض منه بقي من حصة هذا الرسول أن يضيفه ولكنه لم يتردد في القول أن « من يعرف الله (أي كل مسيحي) يسمع لنا » رافضاً الأنبياء الكذبة كمن هم من الشيطان وليسوا من الله. « يسمع لنا » كمن أقامنا الله وخصصنا لإعلان الحق المتضمن الآن في العهد الجديد

إن أقوال الرسول هذه لها خطورتها وأهميتها البالغة فهناك من تجاسروا على القول أنه لا يوجد في العهد الجديد ما يدل على أنه يدعي لنفسه سلطان الله، وإنما هو جهلهم الذي أعمى عيونهم عما يقول الله هناك طابعاً العهد الجديد بسلطانه الإلهي وليس ما يقوله الرسول يوحنا هنا هي الشهادة الوحيدة لهذا الحق، بل هناك شهادات أخرى عديدة من هذا القبيل في طيات العهد الجديد. وأول هذه الشهادات التي نسوقها للقارئ نجدها في (1كو 2)، فإنه حتى في تلك الأيام الأولى كانت الشياطين تعمل بنشاط وقد عني الرسول بولس في الإصحاح الثاني عشر بحماية المؤمنين ضد كل روح يأتي أن يقول يسوع رب. غير أن العدد 13 من الإصحاح الثاني من نفس الرسالة يأتينا من الله « معلناً » بالروح كانت مكتومة حتى على الأنبياء القدامى. وأما وقد جاء ابن الله، فقد جاء الوقت الذي فيه يعلن لنا بالروح حتى « أعماق الله ». وبد ذلك يضيف إشارة إلى الوحي الذي عهد إليهم أن يبلغوه للمؤمنين « الأمور التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح » – ليس أن الروح أوصل إليهم مجرد الأفكار فقط، لأنه بمثل هذه النظرية الفاسدة يحاول الكثيرون تقويض الوحي أو التقليل من شأنه حيث يزعمون أن الأفكار جاءت من روح الله، أما اللغة أو الأقوال التي صيغت فيها الأفكار فقد ترك لأناس صالحين أن يبذلوا أقصى جهودهم لاختياره.

ولا عجب إن كان الأمر كما يعلمون أن يقع الناس في أخطاء، غير أن زعمهم هذا هو باطل بعينه. فالرسول بولس يقول هنا بصريح اللفظ أن الأمور المعلنة هي نفسها لا يتكلمون بها أيضاً (أي الرسل)، وذلك بأقوال من تعليم الروح القدس بدلاً من تركهم للضعف البشري أو الحكمة الإنسانية. وبالاختصار كان الروح الذي أعلن الحقائق حريصاً في نفس الوقت على صياغة الأقوال « قارنين (أي شارحين أو موصلين) الروحيات بالروحيات » أي موصلين الأمور الروحية بأقوال روحية وبعبارة أخرى إن وسيلة التوصيل كانت أقوالاً علمهم إياها الروح ولم يترك أمرها للإنسان الضعيف. وهكذا يخبرنا هذا العدد بكل وضوح أن الأقوال وليس فقط الأفكار كانت موحى بها.

وإليك شهادة أخرى بنفس المعنى من آخر الرسالة كتبها الرسول بولس وهي رسالته الثانية لتيموثاوس. فهو يروي هناك أن الوقاية الصحيحة التي تحفظ القديس في الأيام الأخيرة الصعبة ليست في التقاليد الغامضة المجهولة المصدر بل بالثبات في الحق الذي تعلمناه عن اقتناع تام ونحن عالمون مصدره، والمتضمن في اليوم في الكلمة المكتوبة. فيقول لتلميذه  لاحظ الذين يتكلمون كيف يسلكون وما هي سيرتهم وحياتهم، ومن ثم يقول « وأما أنت فقد تبعت (أو عرف تماماً) تعليمي » بالمقابلة مع أولئك الناس الأردياء الأدعياء الذين يقارنهم بسحرة مصر الوثنية – « وأما أنت فقد تبعت تعليمي وسيرتي وقصدي وإيماني وأناتي ومحبتي وصبري واضطهاداتي (لا ترحيب الجماهير بي) وآلامي مثل ما أصابني في أنطاكية وإيقونية ولستره. أية اضطهادات احتملت ومن الجميع أنقذني الرب. جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون » – هذه هي علامة المسيحي الحقيقي الآن كما كانت في كل أوان – « ولكن الأشرار المزورين سيتقدمون إلى أردأ مضِلين ومضَلين. وأما أنت فأثبت على ما تعلمت وأيقنت عارفاً ممن تعلمت ». ومن هذه الأقوال نرى أهمية الدور الذي تلعبه أخلاق الذين ينادون بالحق وصفاتهم، فإنه مهما يكن سمو الحق الذين ينادون به، ومهما تكن مهارة المتكلمين به ولباقتهم ونعومتهم فلا قيمة مطلقة لكل ذلك ما لم يكونوا عائشين في الحق لدى ضمير مختاري الله.

ثم يقول له « وإنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة (أي كتب العهد القديم) القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع ». هذا ما يقوله في عدد 15. أما في عدد 16 فيقول « كل الكتاب every scripture وهو موحى به من الله » وكلمة « كل » هنا لا يقصد بها كل الكتاب المقدس all scripture كما كان مكتوباً حينئذ (وإن كان هذا صحيحاً) لأن جزءاً من الكتاب – على الأقل كتابات يوحنا – لم يكن قد كتب بعد، بل المقصود هو كل كتاب أي كل جزء من الكتاب (every) وبذلك يترك الباب مفتوحاً للأسفار الإلهية التي لم تكن قد كتبت بعد فليس فقط أن الكتبة كانوا ملهمين، موحى إليهم، بل إن كل ما هو من الكتاب سواء كان سفراً أو فصلاً أو عدداً هو موحى به. وللمرة الثانية نفهم أنه ليست فقط الأفكار موحى بها بل ذات الأقوال التي صيغت فيها هي موحى بها كذلك، ولولا أنه كذلك لما بقي لنا شيء يمكننا الاستناد عليه تمام الاستناد.

ولندع جانباً أصحاب الحلول الوسط الذين يحاولون أن يوقفوا بين الأناجيل وبعضها توفيقاً مصطنعاً فيخلطون بين الوحي والأضاليل. لندع هؤلاء وشأنهم، أما نحن الذين نؤمن أن وحي الله منزه ويستبعد كل نقص استبعاداً كاملاً فإننا مدعوون لأن نرفض النظريات ونتقبل الحقائق ولكننا في الوقت نفسه ننكر اعتراضاتهم التي لا أساس لها.

ولعله لا توجد بين كل نظرياتهم واحدة عرجاء خالية من روح التوقير مثل تلك التي تقول بوجود وحي إلهي تتخلله أخطاء ومتناقضات تعم جزءاً حيوياً من الكتاب هو الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل. وكيف يعقل – ولو كان الأمر كما يزعمون – أم مجموعة مشوهة وكثيرة الأخلاط يمكن أن تحمل سلطان الله أو يجوز لها أن تسمى كلمة الله؟ الواقع أن ما يبدو لأول وهلة كأنه تناقض أو اختلاف يرجع إلى غرض الله في كل إنجيل وإلى الهدف الذي أعطى لكل كاتب أن يستهدفه وهو يكتب، مؤهلاً كل كاتب بالنعمة للخدمة المعينة له بحيث استطاع أربعتهم أن ينتجوا بمهارة الروح القدس الفائقة تلك الشهادة الغنية المشتركة لمجد الرب يسوع، وهي الشهادة التي فاقت أفكارهم الشخصية، والتي بقيت على المن سنداً للإيمان المسيحي في كل عصر وجيل . أما أن نسلم بأن الله أوحى إلى البشيرين الأربعة وقادهم لإتمام غرضه في تمجيد المسيح بقوة الروح القدس ثم نزعم بعد ذلك بأنهم تركوا يتورطون في أخطاء فتلك بكل يقين أعرج وأسخف نظرية يمكن أن تخطر على بال إنسان عاقل ولا يمكن الدفاع عنها ولو حتى من الوجهة المنطقية فضلاً عن كونها غير لائقة إطلاقاً بالروح وبذلك الذي هو الحق. والواقع أن هذه النظرية المبتورة – كسائر نظريات الحلول الوسط والتوافق المصطنع – لا يمكن أن تقف على قدميها إلا في مخيلة مخترعيها، وعلى الأرجح لا يمكنها أن تستقيم في مخيلتهم هم أيضاً فكلنا نعلم أن الرب وعد الرسل بنوال قوة الروح ليعلمهم كل شيء وليذكرهم بكل ما قاله لهم. وعلى ذلك يكون مؤدي هذه النظرية العرجاء أن الروح قد ذكرهم بأقوال السيد بطريقة عرضتهم للأخطاء والنقائض المزعومة. وهذا لاشك تجديف على الروح القدس وانتقاض لأمانة الرب في ما وعد به الرب قد أنجزه الروح القدس تماماً وإن كل الكتاب every scripture جدير ليس فقط بمن كتبوه بل بالله مؤلفه الحقيقي.

إذن فمن القول أن كل « من يعرف الله يسمع لنا » ينتج أن كل مسيحي يتقبل العهد الجديد باعتباره من الله. وبالتالي كل من لا يتقبله هذا القبول ليس مسيحياً حقيقياً بل ملحداً، فإن سماع رسل العهد الجديد وأنبيائه أمر غير منفصل الآن عن معرفة الله. إن هذا المحك الثاني المتعلق بالحق الكتابي يذهب في تدليله إلى أبعد مما إذا كان الشخص مسيحياً حقيقياً أم لا لأن مجرد الاعتراف بالمسيح مع رفض كمال الوحي هو من عمل الأرواح الشريرة. إن الإلحاد يبدأ عادة بالعهد القديم ولكنه يتجاوزه إلى العهد الجديد فيهاجمه ويرفضه هو أيضاً ولعله من أغرب ما يروي أني التقيت مرة بشخص كان يشغل مركزاً هاماً في نظر أهل العالم وله نشاط موفور في مدارس الأحد ومعروف بأنه مسيحي غيور، أعلن لي فجأة ونحن تتجاذب أطراف الحديث أنه وإن كان يؤمن بالعهد القديم إيماناً كاملاً إلا أنه لا يؤمن بالعهد الجديد! ومثل هذا التصريح كان كفيلاً بأن يجرح أي مؤمن جرحاً يجل عن كل وصف. والحق أن التجرؤ على قتل إنسان بغدارة هو في نظري خطية أهون من هذا التهجم الجريء على كلمة الله. وأليس مرعباً أن يصدر مثل هذا الإلحاد الشنيع من شخص معترف به كمعلم مسيحي؟ « من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال ».

وحسن أن نلاحظ إلى أي مدى ينطبق المبدأ الذي يقرره الرسول هنا بكيفية حازمة وقاطعة « من يعرف الله يسمع لنا ومن ليس من الله لا يسمع لنا ». فإنه مبدأ يبهج نفس المسيحي الذي يجد أدسم طعامه الروحي لا في العهد القديم فقط (مع أنه كذلك موحى به من الله وحياً كاملاً) بل بالأحرى في العهد الجديد حيث لم يعد المسيح بعيداً  أو مستتراً بحجاب بل معلناً في ملء مجده ونعمته في جلال الله ووداعة ألطف إنسان وطأت قدماه وجه الأرض. إننا نسمع الله متكلماً قديماً بعبيده الأنبياء، ولكنن نسمعه كالآب متكلماً في الابن، كأبيه وأبينا وإلهه وإلهنا. وهذا يدين الإنسان متديناً كان أو ملحداً ويعطى الله مكانه ويضعني في مكاني. يدين خرافات المتدين كما يقضي القضاء المبرم على إلحاد الملحد وعلى كل شكل من أشكال عدم الإيمان الذي يأبى أن يسمع لصوت الله في أقوال رجاله المهمين بصفة عامة وفي أقوال رسل المسيح وأنبيائه بصفة خاصة. ولعله لا يفوتنا أن نلاحظ أن الرسول بولس لا يقل شعرة واحدة في تأكيد الوحي لكتاباته عما يؤكده يوحنا بالنسبة للرسل جميعاً « إن كان أحد يحسب نفسه نبياً أو روحياً فليعلم ما أكتبه إليكم إنه وصايا الرب. ولكن إن يجهل أحد فليجهل » (1 كو 14: 37 و 38) ويا له من توبيخ صارم للمسيحيين المنتفخين باطلاً (أمثال أولئك الكورنثيين) الذين يقفون على أساس منزلق وهم لا يدرون.

« إن كلمة الله حياة فعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته وليست خليقة غير ظاهرة قدامه بل كل شيء عريان ومكشوف لعيني ذاك الذي معه أمرنا » (عب 4: 12 و 13) فهل نحن في حاجة لأن تقول لنا الكنيسة أن سيف الروح هو كلمة الله حينما تخرق هذه الكلمة أستارنا كما لا يستطيع شيء سواها؟ وكما قال الرب في حديثه الأخير مع اليهود الغير المؤمنين « إن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه. لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العاب. ومن رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه. الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير » (يو 12: 47 و 48). وهنا في رسالة يوحنا (1 يو 4: 6) نرى الروح القدس يوحي لرسولنا لأن يؤكد هذه الصفة للكلمة التي جاءت بواسطة الرسل والأنبياء. فهل نحن في حاجة بعد ذلك لأن تقول لنا الكنيسة أن الرسول نطق بحق الله لبركة المؤمن وهلاك الأنبياء الكذبة وكل من يرذل كلمة الله؟ إن الملهمين كانوا خداماً للمسيح ووكلاء سرائر الله، ولكن الكلمة التي تكلموا بها أو كتبوها كانت كلمة الله نفسه كما لو كلن هو تعالى الناطق بها في أذن من سمعها.

إن كلمة الله موجهة للكنيسة وللفرد المسيحي مباشرة وعلى حد سواء. وهذا واضح لأول وهلة من عنوان رسائل العهد الجديد، فإنها جميعاً كتبت لمجموعة المؤمنين فيما خلا بعض الرسائل القليلة والقصيرة جداً التي كتبت لشركاء في خدمة لم يكن المؤمنون أكفاء لها بصفة عامة، وإنما عهد بها لأشخاص مزودين بسلطان خاص. وهاهي جميع الرسائل باقية للمؤمنين الآن كما كانت لهم تماماً وقتذاك، وإذ ما اعترضتهم فيها الآن بعض الصعاب كما اعترضت المسيحيين الأوائل فعندهم نفس المفسر الحي الذي كان مع إخوتهم الأقدمين. ولكن المبدأ الجوهري للإيمان هو أن يتكلم الله إلى أولاده مباشرة في كلمته. أما إقحام الكنيسة أو الإكليروس بين كلمة الله وأولاده فليس إلا تمرداً وعصياناً ضد الله. وليست كل حجتنا في هذا أن من حق كل إنسان أن يسمع كلمة الله المكتوبة بل أن من حق الله نفسه أن يخاطب ويعلم ويعزى ويوبخ أهل بيته، بل من حقه أكثر من ذلك أن يتكلم إلى ضمير كل إنسان كما تكلم الرب ورسله وكما يتكلم خدامه بصفة عامة.

وإذا زعم البعض أن الرسول إنما تكلم هنا عن الكلمة الشفوية، فليعلموا أنهم على ضلال مبين وأنهم بذلك يسيئون إساءة غير كريمة إلى الكلمة المكتوية. ولسنا نسوق هذا الكلام من عندياتنا بل هاهو الرب نفسه يضع القاعدة الإلهية وهي أن الكتاب أعلى سلطان من أي كلام شفوي. من أجل ذلك قال الرب يسوع لليهود المتماحكين « لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب يوجد الذي يشكوكم. وهو موسى الذي عليه رجاؤكم. لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه ه، كتب عني.  فإن كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي؟ » صحيح إن كليهما كانا كلمة الله التي لا تدحض، إحداهما مقولة والأخرى مكتوبة بالروح القدس غير أن سيدنا في طريق تحديد سلطان الله اللازم للإنسان يعطى المكانة الأسمى للكلمة المكتوبة باعتبارها الشهادة الدائمة عن الفكر الإلهي والتي تسمح للإنسان بالتأمل والتفكير قدام الله أكثر مما تسمح به الأقوال الشفاهية.

إن كلمات الرسول يوحنا التي نحن بصددها تختم الموضوع وإنها لخاتمة جديرة بكل إعجاب. فسواء من جهة الاعتراف بالمسيح كما هو في حقيقته، أو من جهة سلطان الكلمة التي أعلنته، فلنا في كليهما الحق في أبسط صورة، الحق في شخصه والحق الصادر عنه. هذا هو روح الحق. ولكن هناك أيضاً روح الضلال وإبليس هو مصدره القتال. ومن الطبيعي أن الأشخاص الذي لا يؤمنون بحضور روح الله لا يؤمنون كذلك بالدور الخطير الذي يلعبه الشيطان في الكوارث التي تصيب العالم بصفة عامة سواء الأفراد أو الشعوب أو القبائل البربرية. ولكن أسوأ جانب من شر إبليس هو ما يمارسه في المسيحية، أو ما يوسوس به ضد ربنا يسوع المسيح وحق الله المعلن يسمى في هذه الحالة « روح الضلال » وهو أخطر أنواع الشر، فهو ليس فساداً فاضحاً مكشوفاً. ولا ظلماً سفاكاً للدماء، بل هو خداع وتغرير من الخارج ومكر ودهاء من الداخل. جزء صغير من الحق في مقدمة أكذوبة ضخمة، إباحة للإرادة البشرية وانعدام لتدريب الضمير، لا اعتراف بالرب يسوع بل تحريف لشخصه المحبوب مع جهل للآب. ذلك هو عمل روح الضلال. ومنه سيخرج الارتداد  ويولد إنسان الخطية.

ولكن ما أعظم نعمة الله وما أكرمها في مواجهة انحراف الاعتراف المسيحي والخراب الشامل والدينونة التي تنتظره بعد أن ضاع كل رجاء في الشفاء: ما أعظمها حين أعدت العدة لضمان سلامة المؤمنين وفرحهم لكل التجارب التي يتعرضون لها. وما عدتها إلا الاعتراف الحقيقي بالرب يسوع والإيمان به. ثم كلمة الله وكلاهما بواسطة روح الحق. وهذه هي خلاصة وجوهر العبارة الاعتراضية التي نتأمل فيها الآن.

معلوم أن بين النصارة قوماً يعتمدون في إرشادهم وسلامتهم على الفرائض والوظائف الرسمية ومع ذلك فإنهم يواجهنك دائماً بالقول « يسمع من الكنيسة » والغريب أنهم لا يفكرون في تطبيق هذا القول الكريم من أقوال سيدنا في (مت 18: 17) كما يريده أن يطبق له المجد. فهناك كان الرب يتحدث عن التأديب اللازم اتباعه في حالة ما يخطئ أخ ضد أخيه في أمر شخصي قد لا يتعداهما في مبدأ الأمر ولكنه أخيراً يصل إلى مسامع جميع القديسين بسبب عناد الأخ البادئ بالخطأ، ومن ثم تصبح الجماعة أو الكنيسة هي المرجع الأخير، وعلى المخطئ عندئذ أن « يسمع من الكنيسة » ولكن أهذا ما يفعله ولو مرة واحدة في حياته أولئك الذين يقتبسون هذا العدد لتعزيز ما لم يقصده الرب هنا ولا في أي مكان آخر؟ إنهم في والواقع يقصدون بالكنيسة الكاهن أو مجموعة الكهنة أو – في الحالات القصوى – البابا زعيم الجميع. ولكن هذا خطأ، خصوصاُ إذا كانوا عن معرفة وتعمد يسيئون تطبيق أقوال سيدنا له المجد.

أما الكتاب فإنه يذهب إلى أبعد من ذلك فيرينا أنه قبل ارتحال آخر الرسل كان الانحراف قد بدأ بصورة ملموسة حتى أن الرب أخبر يوحنا بالروح أن يكتب للسبع الكنائس التي اختارها لتوجه إليها الرسائل الأخيرة. وأوال هذه الرسائل موجهة إلى أفسس، الكنيسة التي كانت لامعة في الأيام الأولى، ولكنها كانت حينئذ مهددة بزحزحة منارتها، وآخرها ينتهي بتقيؤ كنيسة لاودكية من فم الرب كشيء كريه تعافه النفس. في ذلك المشهد من سفر الرؤيا لا نرى الرب يخدم بالنعمة بل يقضي في الوسط ولذلك يبدو كابن الإنسان متسرباً بثوب إلى الرجلين ليس مشموراً أو مخلوعاً للخدمة. ولكل كنيسة من هذه الكنائس التي اختيرت إعلان أدوار الكنيسة على الأرض كما في سر قبل أن تختفي من المشهد الأرضي يوجه الرب كلمته الأخيرة (مع وعد قبلها أو بعدها) « من له أذن فليسمع ما يقوله الرب بالكنائس » فمنذ أيام الرسول وللرب عتاب خطير وحساب عسير مع الكنائس لأنها كجماعات كانت تتجه نحو الخراب وقد هددها أخيراً بالرفض والاستنكار، بل أن النبوة في الإصحاح التالي مباشرة ترينا أن الإطار الخارجي – أو الصورة الكنسية الظاهرة – لم تعد بعد موضع اتصال بالرب، وإن الغالبين قد صاروا في السماء ممجدين حول عرش يرسل الدينونة الإلهية على اليهود والأمم فيما خلا بقية من كلا الفريقين ولم تعد الكنيسة ظاهرة بعد على الأرض، بل ضربات غضب وسحق ترى على الشعوب. هذا ما هو وشيك أن يكون ولابد أن يكون « بعد هذا » (أي بعد فترة الكنيسة).

والآن ماذا نرى؟ إن رسالة تأتي من الرب إلى كل « من له أذن » هي بكل تأكيد رسالة قوية وخطيرة للغاية وهي رسالة تهدم على الفور تفسير القوم المغلوط لقوله له المجد « يسمع من الكنيسة » وتدعو كل مؤمن أمين أن « يسمع ما يقوله الروح للكنائس ». إن الكنيسة لم تكن في يوم من الأيام قياساً للحق، وإنما كلمة الله هي وحدها الدستور وهي القياس. لاشك أن الكنيسة (وليس اليهود أو الأمم أو سواهم) هي شاهدة الحق المسؤولة أن تكون أمينة له بالقول والعمل. ففيها وحدها، وفي عهدها دون غيرها، شهد « لسر التقوى » مع فائق عظمته. غير أن الكنيسة ليست الحق بل عمود الحق وقاعدته. لأن المسيح هو الحق موضوعاً، والروح هو القوة التي تعمل في الداخل لتطبيقه وتأييده في القلب. ولكن بعد ظهور الانحلال والهرطقة والبدع لم تعد الكنيسة الاسمية الخارجية شاهدة يؤمن إليها. من أجل ذلك يأمر الرب كل من له أذن طائعة أن يسمع ما يقوله الروح للكنائس.

إن سلطان الحق مرتكز في ذاك الذي كلماته إلهية. وليس الأمر هكذا مع العمود والقاعدة الذين حملا مرة تلك الأقوال لكي ترى من الناس وتسمع (1 تي 3) أن العمود قد يخدش أو يشوه ولكن الحق يبقى سليماً إلى الأبد في المسيح، في الروح وفي الكلمة، وقد حدث ذلك فعلاً فإن رسالة تيموثاوس الثانية (ص 3) تتحدث عن أناس لهم صورة التقوى وهم منكرون قوتها، وتدعونا أن نعرض عنهم. وسرعان ما يحدثنا التاريخ عن قيام كنيستين متنافستين، وليس ذلك فقط بل راحت إحداهما تحرم الأخرى وتنعتها بالأناثيما. وكان من شأن هذه الأوضاع أن حفزت جميع المسيحيين – إلا القوم المتهاونتين – لضرورة معرفة الحق حتى يحكموا أي الكنيستين هي الكنيسة الحقيقة، هذه أو تلك، أو ربما لا هذه ولا تلك. ومن هنا كانت أهمية النصيحة السباعية التي نصحنا بها الرب أن نسمع ما يقوله الروح للكنائس. ولم تفقد هذه النصيحة أهميتها بعد حركة الإصلاح حيث لم يقتصر الأمر على ادعاء ملوك وشعوب بحق تأسيس كنائس وطنية خاصة بهم ومتميزة بعضها عن بعض بل قام زعماء وقادة يطالبون بنفس الحق لجمعياتهم وهيئاتهم الدينية، وهكذا ضاعت فكرة الكنيسة ذاتها عند الكثيرين في العالم المسيحي.

ولا عجب إذا كان القوم – وقد كفوا عن الإيمان بحضور الروح القدس وعمله في الكنيسة – قد خسروا بجانب هذا سلطان الكلمة ليس فقط من حيث التصرف بل من حيث المبدأ حتى راحوا ينكرون كفاية نورها الذاتي لضمير الإنسان ويؤكدون ضرورة الكنيسة لتأييد سلطان الكلمة. ولكن اعوجاجهم في هذا واضح لأنهم يستغلون كل ظل من ظلال تفسيراتهم الخاطئة لبعض الأقوال الكتابية ليقيموا عليها معتقداتهم ويدعموا بها أنظمتهم. غير أن مبدأ استخدام الكنيسة للمصادفة على كلمة الله هو بلا شك مبدأ كافر يثبت على مقرريه خطية الانحراف عن سلطان الله ففي يوم الخمسين ذاته نرى بطرس الرسول يؤيد حقيقة عطية الروح القدس بأدلة من كلمة الله ولم يحاول هو أو أي رسول آخر أن يلجأ إلى سلطان الكنيسة. إن كلمة الله لا تحتاج إلى مصادقة. والادعاء بغير ذلك هو التجديف بعينه وهاهو الرسول بولس يكرم العهد القديم حين يمتدح يهود بيرية ليس فقط لأنهم تقبلوا الكلمة بذهن صاح ونشاط بل لأنهم كانوا يفحصون الكتب كل يوم ليحكموا هل هذه الأمور هكذا. كانوا يعرفون أن أقوال العهد القديم من الله، وقد فعلوا حسناً إذ امتحنوا في ضوئها الكرازة الشفوية من شخص لم يكونوا يعرفونه حتى وجدوا وتأكدوا بالبحث المتواصل أن تلك الكتب القديمة تؤيد شهادته. ولهذا هو يمتدحهم. أعني أن الكلمة القديمة المكتوبة كانت المقياس الذي قادهم بالأكثر لقبول الكلمة الجديدة بكل ترحاب ونشاط.

أ -  ب - مقدمة - الخطاب 1- 2 -  3 - 4 - 5 - 6 - 7 - 8 - 9 - 10 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 16- 17 - 18 * 19 * 20

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

 

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.