لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

ساعة التجربة وسبيل النجاة منها

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

بقلم خادم الرب المرحوم: عوض سمعان

-5-

الهرب من الخطية ونتائجه

          ولننظر الآن إلى يوسف الذي انتصر على تجربة تعتبر في الواقع أحرج التجارب وأقساها، ونتساءل: ترى ما الذي كون شخصيته النبيلة المتعقلة؟ ترى ما الذي جعله شريفاً رزيناً وفياً، في موقف يسلب الطهر والشرف، ويقضي على الأمانة والرزانة، ويقوض دعائم الإخلاص والوفاء، وقد كان إنساناً مثلنا له غرائزنا وميولنا.

          الجواب: إن ما جعله يتصف بهذه الصفات هو اتصاله الحقيقي بالله. والدليل على ذلك أنه قال: "كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟". فالله الذي كان بعيداً كل البعد عن ذهن امرأة فوطيفار، كان هو الكل في الكل بالنسبة إلى يوسف، إذ كان يعيش بالروح في حضرته، ويحس في كل حين بهيبته التي تطغى على هيبة.

          لكن كيف استطاع يوسف أن يكون متصلاً بالله اتصالاً وثيقاً في هذا الموقف، الذي يسلب الإنسان صوابه ويدفعه إلى ارتكاب الخطيئة دون وعي منه؟

          الجواب: لأنه كان قد ألف العيش مع الله والطاعة له في كل الظروف والأحوال. فقد كان يعيش معه ويطيعه عندما كان ابناً مدللاً في بيت أبيه، كما كان يعيش معه ويطيعه عندما كان عبداً في بيت وثنى من الوثنيين. ومن يألف العيش مع الله ويطيعه في كل الظروف والأحوال، يستطيع أن يكون متصلاً به ومطيعاً له في أقسى التجارب. لأن إخضاع القلب لله والشركة العميقة معه، قبل مواجهة التجربة، يجعل الانتصار عليها سهلاً ميسوراً.

          فيوسف، لأنه كان يعيش في حضرة الله، وجد السعادة، وكل السعادة، في التوافق معه. ولذلك رفض إتيان الخطيئة التي يتهافت عليها الكثيرون، ليس فقط لأنها وصمة عار في جبين فاعلها، وليس فقط لأنها إساءة إلى شرف امرأة طائشة، وليس فقط لأنها خيانة لرجلها الغائب عنها، وليس فقط خوفاً من عقابها أو عواقبها، كما يفعل معظم الذين يمتنعون عن الخطيئة. بل لسبب أسمى من هذه الأسباب، ألا وهو لأنها تتعارض كل التعارض مع قداسة الله. فيوسف لم يكن يعمل حساباً لنفسه أو لغيره بقدر ما كان يعمل حساباً لله، لأنه تعالى بالنسبة إلى يوسف (كما بالنسبة إلى غيره من المؤمنين الحقيقيين) هو أعظم من كل عظيم، وأغلى من كل غالٍ، وأعز من كل عزيز، وأحب إلى القلب من كل حبيب – وهذا هو الأساس الحقيقي الراسخ لحياة القداسة والطهارة.

          أما لو كان يوسف يحيا بعيداً عن الله، لاستعذب صوت الخطيئة، ولكانت هذه قد استهوته واستحوذت على قلبه. ولكانت أيضاً قد أعمت بصيرته، فوجد المبررات والأعذار التي تجيز له فعلها في هذه الآونة. فقد كان عنفوان الشباب، ولم يكن هو الذي يسعى وراء هذه المرأة، بل هي التي كانت تسعى إليه. فضلاً عن ذلك كان عبداً لديها يجب عليه تلبية ندائها لكي ينال عطفها ورضاها، ويتجنب ما يمكن أن تقابله به من إهانة واضطهاد.

          لكن وجود يوسف في حضرة العليّ، هو الذي حفظ ضميره في حالة الصحو، وعقله في حالة اليقظة، وقلبه في حالة الطهر، ونفسه في حالة الورع. ففضل أن يهان من هذه المرأة على أن يسيء إلى الله. وأن يقتل بيدها الأثيمة على أن يقتل أدبياً وينفصل عن الله. فضلاً عن ذلك لم يكن يضيره أن تحكم عليه بالقتل، فقد سبق وقتل أهواءه، وقتل الأهواء أقسى من قتل الجسد بما لا يقاس. ومن ثم أعرض عن المرأة المذكورة وانتهرها بكل شهامة جرأة. وحقاً "فخر الشباب قوتهم" (أمثال 10: 19)، وقوتهم الأدبية قبل كل شيء آخر.

          كما أنه عندما تجرأت هذه المرأة ومدت إليه يدها الأثيمة لترغمه على تلبية ندائها، عزف عنها ووجد في الله الذي كان يعيش معه قوة أطلقت ساقيه للريح، فركض بكل سرعة من محضرها الدنس، لكي يظل في جو القداسة الذي تهنأ فيه نفسه وتستريح. ولما ركضت وراءه بعد ذلك وأمسكت بثوبه لتمنعه من الهرب، نزع نفسه منه وتركه لها، غير عابئ بما تدعيه عليه فيما بعد، إذ كان يكفيه أن يكون طاهراً في نظر الله. فضرب بذلك للشباب في كل الأجيال أعظم مثال للعفة والطهارة – ولا شك أن الله قد تطلع في هذه اللحظة إلى يوسف وابتهج بما فعله كل الابتهاج. ومن ثم كافأه في الوقت المناسب بأجلّ مكافأة، إذ جعله حاكماً في أرض مصر، ولا يكون حاكماً بين البشر بالمعنى الصحيح، إلا من حكم أولاً على أهواءه ونزواته (تكوين 41: 42-44).

          فلنستغفر نحن أيضاً أيها الأعزاء في حضرة الله. لنعرفه في كل طرقنا، وهو يقوم سبلنا (أمثال 3: 6). لنسكن معه في كل حين، نجده أيضاً معنا في كل حين، لاسيما في التجربة التي نكون فيها أحوج ما نكون إليه. وبذلك لا يمكن أن تسيطر علينا الأهواء أو تخدعنا، لأننا إذا كنا في حالة الشركة مع الرب، وهاجمتنا الخطيئة من الباطن، أو من الخارج، نستطيع أن نقولها: "لا".

          وإذا وعدتنا باللذة والنعيم إن عملناها، نستطيع أن نقول لها "لا".

          وإذا توعدنا بالإسي والاكتئاب إن ابتعدنا عنها، نستطيع أن نقول لها: "لا".

          و"لا" بكل معاني كلمة "لا"، لأنها لا تكون وقتئذ "لا" الراغبين في الشهوة المتمانعين عنها، بل "لا" القديسين الذين يبغضونها ويترفعون عن مجرد التفكير فيها، إذ أنهم يدركون الشر المخيف الذي ينجم من جرائها.

          أما الذين يرفضون إتيان الخطيئة أحياناً، بينما يميلون إليها في الباطن، فإنهم إذا قالوا لها وقتاً ما "لا" تشبهاً بالقديسين، فمن المحتمل جداً أن يأتوها قبل أن تغادر ألسنتهم كلمة "لا" هذه. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الرغبة الصادقة في البقاء في حضرة الله والتمتع به، هي وحدها التي تقدس القلب وتحفظه من السقوط في الخطيئة.

          إني أعرف كثيرين سمت حياتهم الروحية سمواً عظيماً بفضل وجودهم المستمر في حضرة الله. ولذلك فإنهم لا يعانون متاعب الجهاد ضد الأهواء، أو مذلة الانكسار أمامها. بل يشقون طريقهم في هذا العالم الشرير، وهم خالو الذهن منها، ولا شك أن كل واحد من القراء سيكون مثلهم، إذا هرب من الأهواء وعاش في حضرة الله بإخلاص كما يعيشون، لأن فضل القوة لله وليس منا (2 كورنثوس 4: 7).

          أخيراً إن الأسلوب الرائع الذي استعمله يوسف الصديق للتعبير عن استنكاره لعمل الخطيئة، والوارد في قوله: "كيف أفعل هذا الشر العظيم؟!" ليسترعى انتباهنا ويأخذ بمجامع قلوبنا، فهو يدل على:

          (أولاً) وجود يوسف في حالة الإدراك الحقيقي لمركزه كأحد قديسي العليّ: فهؤلاء يترفعون عن عمل الخطيئة، لأنها لا تتناسب مع مركزهم السماوي. فلسان حالهم دائماً أبداً: "نحن الذين متنا عن الخطيئة، كيف نعيش بعد فيها؟!" (رومية 6: 2). و"نحن مدينون ليس للجسد، لنعيش حسب الجسد" (رومية 8: 12). و"لأننا إن عشنا، فللرب نعيش. وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن" (رومية 14: 8).

          (ثانياً) عد تفكيره في النجاسة من قبل: لو كان يوسف يفكر في النجاسة أو يشتهيها من قبل لكان قد ضعف أمام امرأة فوطيفار واستجاب لرغبتها الإثمية. ولكن ما أبداه من شمم وأباه من جهة فعل الفحشاء، دليل قاطع على أنه كان يعيش في كل حين في جو القداسة – وهكذا يكون الحال معنا، إذا عشنا في هذا الجو مثله.

          (ثالثاً) فداحة النجاسة: إن كثيرين يلهون بالنجاسة دون وعي أو إدراك. ولكن الذين يعيشون في حضرة الله ينظرون إليها بذات النظرة التي ينظر بها تعالى إليها، فيرونها كما رآها يوسف، شراً عظيماً. وللإيضاح نقول أنه عندما تراءى الله لأشعياء النبي قديماً، صرخ هذا لساعته قائلاً: "ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين" (أشعياء 6: 5). فنجاسة الشفتين (أو مجرد استخدامهما في نطق كلام لا يليق بجلال الله وقداسته)، التي كان يراها أشعياء فيما سلف شيئاً عادياً، رآها في نور الله شيئاً خطيراً يستحق عقاباً أبدياً – وهكذا الحال معنا، فعندما ندرب نفوسنا على الوجود في حضرة الله، نفزع من الخطيئة ولا نفكر في إتيانها.

          (رابعاً) عظمة يوسف: نعلم من التاريخ أن يوسف لم يتوج حاكماً في مصر إلا بعد 14 سنة تقريباًُ من انتصاره على الأهواء الجسدية في بيت فوطيفار (أو بالحري بعدما فسر لفرعون حلمه، ونصحه بما يجب عليه القيام به لتفادي مأساة الجوع التي كانت عتيدة أن تحل ببلاده)، لكن ألا يرى القراء معي أن يوسف عندما قال لهذه المرأة "كيف أفعل هذا الشر العظيم"، كان يلبس تاجاً روحياً أبهى من التاج الذهبي الذي لبسه فيما بعد، عندما اعتلى عرش مصر!! نعم فالتاج الروحي أبهى من التاج الذهبي بما لا يقاس. فالأول مجد سماوي يضعه الله على هامة القديسين، ويظل عليها إلى الأبد. بينما الثاني مصنوع من معدن الأرض، ويضعه الناس على شخص معين إلى حين، مع أن هذا الشخص قد يكون في باطنه دنيئاً، لا يستحق سوى الاحتقار والازدراء.

المحتويات

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة

جميع الحقوق محفوظة © 1998-2005 لموقع بيت الله.كوم راجع اتفاقية استخدام الموقع.