مقدمة: هل الحقيقة قابلة أن نعرفها؟

معرفية الحقيقة
  المبادئ الأولىة للمعرفة
المبادئ الأولية هي الأساس ذاتي البرهان لكل المعارف
المبادئ الأولية للمعرفة مستنبطة من أكثر الأشياء الأساسية المرتبطة بالواقع- إنه كيانه
قائمة بالمبادئ الأولية
يقينية المبادئ الأولية
المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها ولايمكن برهنتها
الاعتراضات التى تواجه المبادئ الأولية


 
1(أ) مقدمة: هل الحقيقة قابلة لأن نعرفها؟
حيث أننا قد عرفنا الحقيقة بأنها التوافق والترابط ما بين أفكارنا والعبارات التي ننطق بها لكي تشير للواقع الموضوعي، لذا يجب علينا أن نقدم دليلاً يدافع عن الحقيقة التي تقول إنه من الممكن أن نعرف حدوث هذا الترابط، بمعني، ما إذا كان في مقدورنا أن نعرف الحقيقة. هذا يعني أنه لكي نعرف ما إذا كانت أفكارنا أو جملنا تتوافق مع الواقع، يجب علينا أولاً أن يكون في مقدورنا أن نعرف الواقع أو الحقيقة.

حقل الفلسفة الذي يتعامل مع كيفية المعرفة يطلق عليه نظرية المعرفة أو الإبستمولوجي. ويكفي في حالتنا هذه أن نعطي دليلاً لحقيقة أننا نعلم الحقيقة فعلاً، فليس مهماً في هذه المرحلة أن نشرح كيف يحدث هذا. لذلك، الدليل الذي نعرضه أدناه ليس الإجابة على السؤال الذي يقول كيف نعلم؟ لكن هو: هل نعلم؟

وهذا تحديد هام، لأن كل الفلسفات الحديثة التي تنكر إمكانية معرفتنا للواقع، وبالتالي تنكر أننا نتعرف على الحقيقة، تقع في خطأ بناء النظم المعرفية لشرح كيف نعلم الواقع بدون التعرف على حقيقة أن نعرف. وعندما يبدأون داخل مجال الفكر ويعلمون أنهم غير قادرين على بناء معبر إلى الواقع، حينئذ يعلنون أنهم غير قادرين على تلمس الواقع. هذا يشبه القيام برسم خريطة مغلوطة لطريق ما قبل فحص هذا الطريق، ثم يعلنون أنهم غير قادرين على معرفة كيف يصلون من شيكاغو إلى نيويورك.

في هذا الفصل، سوف نقدم الدليل في الاقتراح الذي يحدد أننا نعرف الواقع، وبالتالي نعرف الحقيقة- وهي التي تتوافق وترتبط بالواقع.

2(أ) معرفة الحقيقة

1(ب) المبادئ الأولية للمعرفة
المبادئ الأولية هي أساس كل الاستنتاجات التي يتمّ رسمها وتصويرها في منطقة خاصة بالمعرفة، سواء في مجال العلم أو الفلسفة.

الفيلسوف أرسطو يذكر كيف أن البرهان يعتمد على المبادئ الأولية، وهو الذي قال: «الظاهرة يجب أن تؤسس على مقدمات سابقة وأفضل معرفياً من الاستنتاجات. لأنه من المستحيل أن يكون هناك إثبات لكل شئ بشكل مطلق» (Aristotle, AP, 1.3.72b. 25) (سوف يكون هناك نكوص لا حد له، لذلك سوف يظل هناك غياب للإثباتات). (Aristotle, M, 4.4. 10061006a)

ويوضح لنا توما الأكويني ما يقصد به تعريف المبادئ وهي «أي شيئاً يسبق شئ آخر بطريقة ما ندعوه بالمبدأ». ويقول الأكويني: «المبدأ الأول لا يوضح الأسبقية (في الزمن) ولكن في المصدر». (Caquinas, ST, 1.33.1)

ويحدد ج. سوليفان المبادئ الأولية بأنها هي الأحكام التعميمية المفهومة والأكثر وضوحاً، والتي لا تفترض مسبقاً شيئاً آخر بنفس الترتيب لبرهنتها ومضمرة داخل كل حكم. (Sullivan, EFPTB, 33)

يذكر جيسلر أن المبدأ الأول هو:

نقطة البداية النهائية التي منها يتمّ رسم وتخطيط كل الاستنتاجات في منطقة معينة من المعارف أو الواقع. المبادئ الأولية تعتبر مكوِّنات ضرورية لكل المعارف، لكنها لا تمدنا بأي قدر من المعلومات.

هناك العديد من المبادئ الأولية، وكذلك هناك تنويعات من المعارف والوقائع. وطالما أن المبدأ الأول الذي تنبع منه باقي الأشياء في نظام معين، فإن المبادئ الأولية هي المقدمات المنطقية الأساسية والتي ينبع منها أي شئ آخر في نطاق المعرفة. (Geisler, TA, 72- 73)

لأي فرد يهدف إلى الوصول إلى المعرفة الدقيقة، يجب توافر نقطة بداية صحيحة. نقطة البداية هذه تخلق الأساس المعرفي ولا تحتاج إلى إثبات آخر للقول بأنها حقيقة. وهذا ما نعنيه بالمبدأ الأول.

ويذكر لنا ل. ريجيس الآتي: لذلك فإن المبدأ الأول هو، الأول ضمن أوائل، ويضيف قائلاً: تعبير المبدأ الأول يجب لذلك أن يُفهم بأنه مجموعة من الأحكام التي بها تستطيع ملكات الإنسان أن تلاحظ تواجد الروابط الضرورية بين تصورات مبدئية عديدة، هي روابط تدعو إلى التعريف بها بالإثبات أو فصلها بالنفي. (Regis, E, 378)

2(ب) المبادئ الأولية هي الأساس ذاتي البرهان لكل المعارف
نعني بذاتية البرهان، أنها ليست في حاجة لإثبات. إنها تظهر ذاتها بأنها حقيقية. لذلك، فإن المبادئ الأولية ليست في حاجة لأن تستنتج من واقع مبادئ أخرى. ويمكننا أن نعتبرها هي أساس كل المعارف.

ويذكر توما الأكويني أنه من الضروري تواجد نقطة بداية من الظواهر، إذا كان هناك نكوص غير محدود في الظواهر، فإن الإثبات سوف يكون مستحيلاً، لأن نتيجة أي ظاهرة تتأكد بالرجوع إلى المبدأ الأول لهذه الظاهرة. (Aquinas, CMA, 224)

يقول الأكويني بأن المعرفة يجب أن تتأسس على شئ نحن متأكدون منه: «المعرفة الأكيدة يلزمها اليقين، لهذا لا يمكن القول بأننا عرفنا بدون أن نعلم ما هو البديل». (Aquinas, PH, 1.8)

ويعيد جيسلر صياغة هذه النقطة بقوله: «إذا توخينا التأكيد الشامل، لذا يجب أن تتأسس المعارف على بعض المبادئ التي لا يشوبها شائبة». (Geisler, TA, 71)

ويلخص ذلك بقوله: «ليس من المعقول أن نتخطاها، حيث لا يمكن للإنسان أن يكون متفتحاً عما إذا كانت صحيحة. ولا يكون للإنسان أي نوع من أنواع الفكر بدونها». (Geisler, BECA, 259)

ويقول جورج مافرودس إن المبادئ الأولية أساسية بالأكثر بالمقارنة بالحجج. ويستنتج من ذلك، إذا كان هناك معارف، إذن سوف يكون هناك مصدر لهذه المعارف أكثر من الحجج والبراهين. (Mavrodes, BG, 49)

ويتفق مع ذلك سي. أس. لويس بقوله: «المبادئ الأولية ذات الأسباب العملية تعتبر ضرورية لكل المعارف والحجج. وعندما ننكرها كأننا ننكر كل المعارف، ولا فائدة من محاولة النفاذ من خلال المبادئ الأولية. إذاً رأيت كل شيء، إذا كل شئ يعتبر شفافاً. لكن العالم الشفاف كلية هو عالم خفي لا نرى من خلاله كل الأشياء. ويشبه هذا تماماً كأننا لا نرى شيئاً». (Lwis, AM, 87)

ويجادل الفيلسوف جيمس ب. سوليفان بأنه لا يمكن أن يكون هناك نكوص لانهائي من الإثباتات:

كحقيقية واقعية، نفس نظام منطقة الأمور تستلزم أن يكون للسلسلة بداية. لأن الاستنتاجات تعرض من خلال مقدمات منطقية التي هي أما أن تكون ذاتية- الوضوح أو قادرة على إثبات ذاتها من خلال المقدمات الأخرى. لا يمكن أن يكون هناك نكوص لانهائي، حتى في نظام المنطق. إذا لم يكن هناك مقدمات في السلسلة ذاتية- الوضوح، فإن كل السلسلة ولن تحتوي على برهان. ولا يهم المدى الذي قد يسلكه الانسان، فسوف يظل هناك مقدمات مطلوب أن يبرهنها. لا، يجب أن يصل الانسان في النهاية إلى مقدمات ذاتية- الوضوح لا تحتاج إلى برهان من خارجها. (Sullivan, EEPTB, 25 - 26)

3(ب) المبادئ الأولية للمعرفة مستنبطة من أكثر الأشياء الأساسية المرتبطة بالواقع إنه كيانه
يذكر توما الأكويني أن الشيء الأولي الذي نفهمه هو أن هناك نظام معين يمكن العثور عليه في هذه الأشياء المفهومة عالميا. هذه الأشياء التي، قبل كل شئ، تخضع للفهم، هي، الفكر المحتوي في كل الأشياء مهما كان في مقدرة الانسان أن يتفهم. (Aquinas, ST, 1.2.94.2)

ويتفق رودلف بانداس مع ذلك بقوله: ما أن تتوافق مع الواقع، مهما كان شأن الشيء الذي أثار احساساتنا، فإن التصور الأول الذي نحصل عليه هو الوجود ذاته.

ويوضح بانداس بأن ما نفهمه ليس فقط فكرة تختص بالوجود، لكنه الوجود ذاته، العالم المادي هو الذي يمكن أن نقتحمه بشكل مباشر، وفيه يجب علينا أن نكتشف الحقائق الميتافيزيقية، حتى أكثرها علوا وسموا. إنها الميتافيزيقية الحقيقية لأنها ميتافيزيقا الحقيقة، كونها مثل هذا، وغرضها ليس هو فكرة الوجود. ولكنه هو الوجود الذي منه نحصل على فكرة. (Bandas, CPT, 34)

ويذكر الأكويني أن ملكاتنا وإدراكاتنا تعرف بطريقة طبيعية الوجود وخصائصه، وفي هذه المعرفة تستقر معرفة المبادئ الأولية. (Aquinas, CG, 2.83)

ويشير مورتمر أدلر إلى أن الفكر هو الذي يتوافق مع الواقع، وليس الواقع مع الفكر:

يوضع تعريف توافق وارتباط الحقيقة وزيفها، وهما فرضان قام بهما كل من أرسطو والأكويني، والذان طبقاً لحكمي، يمكن الدفاع عنهما فلسفياً شرعياً.

الأول يقول بتواجد واقع مستقل عن الفكر الإنساني، وهو إما أن يتوافق أو لا يتوافق. وبكلمات أخرى، ما نفكر فيه لا يخلق أو يؤثر فيما نفكر فيه. إنه هو كما هو، سواء فكَّرنا فيه أم لا، وبغض النظر عما نفكِّر فيه بشأنه.

الفرض الآخر هو أن الواقع المستقل هو محدَّد بشكل كامل. هذا هو مبدأ التناقض الميتافيزيقي لأرسطو. لا يمكن أن يتواجد شئ ما ثم لا يتواجد في آن واحد. وكل شئ موجود لا يمكن له أن يكون أو لا يكون له شأن ما في نفس الوقت.

يلاحظ رودلف بانداس أننا لسنا مضطرين أن نفكر في المبادئ الأولية، نحن نتصورها في تواجدها: هذه المبادئ الأولية يدركها ويتصورها الذكاء الإنساني في تواجدها. (Bansas, CPTP, 66)

في الفصل التالي سوف نرى أن هناك مبادئ أولية ترد إلى أصلها وهو مبدأ عدم التناقض. يلخص بانداس هذا الواقع، والوجود، وفعل المعرفة، ومبدأ عدم التناقض بأنها جميعاً متضامنة ومتصلة ببعضها البعض:

إذا كانت فكرة الوجود لا تمتلك قيمة منطقية (وجود حقيقي)، فإن مبدأ التناقض سوف يصبح قانون المنطق لكن ليس بالضرورة أن يكون خاصاً بالواقع. مع ذلك، فإن هذا الافتراض هو أيضاً لا يمكن التفكير فيه بشكل ذاتي: فكرة الوجود بسيطة بشكل مطلق ولا يمكن لشيء أن يتوافق معها جزئياً فقط. فكل ما يتطابق معها هو وجود، وما لا يتطابق هو ليس له وجود. إذن ذكاؤنا وفعلنا الخاص بالمعرفة هو ضروري بشكل قصدي ومتناسب مع الوجود. وإذا رفضت هذه العلاقة، فإن كل شئ يصبح غير واضح. (Bandas, CPTP, 65)

4(ب) قائمة بالمبادئ الأولية
كل من هذه المبادئ حقيقية في نطاق الانطولوچيا (علم الكائنات والموجودات) ويطبق أيضاً على منطقة نظم المعرفة (الإبستمولوچيا).

1(ج) الهوية أو التطابق (ب هو ب)
الكيان:
الشئ يطابق ذاته، إذا لم يكن كذلك، إذن هو ليس هو.

المعرفة (النتيجة): الوجود واضح وجِّلي، إذا لم يكن كذلك. فلا يمكن أن نتصور أو نفهم أي شيء.

2(ج) عدم التناقض (ب ليس هو نقيض ب)
الكيان:
الموجود لا يمكن أن يكون ليس موجوداً، لأن هذا ضد ذاك. والأضداد لا يمكن أن تتطابق. (Geisler, BECA, 251)

المعرفة (النتيجة): هناك طريقتان للتعبير عن هذا المبدأ:

(1) يستحيل أن تكون العبارات المتناقضة صحيحة في وقت واحد.

(2) إذا كانت العبارة المتناقضة الأولى صحيحة، فإن الأخرى ستكون خاطئة بالضرورة. (Regis, E, 388- 89)

3(ج) الوسط المستبعد ( إما ب أو ليس- ب)
الكيان:
طالما أن الوجود وعدم الوجود ضدان (متناقضان)، والأضداد لا يمكن أن تكون ذاتها، لذا لا يمكن لشئ أن يندَّس في الخبايا ما بين الوجود وعدم الوجود. الاختيارات الوحيدة هي: الوجود وعدم الوجود. (Geisler, BECA, 251)

المعرفة (النتيجة): الافتراض إما أن يكون صائباً أو خاطئاً. (Geisler, TA, 73)

4(ج) السببية (ما ليس هو ب لا يمكن أن يسبب ب)
الكيان:
فقط ما هو كائن الذي يسبب الوجود. لا شئ غير موجود. والشئ الوحيد فقط الذي يوجد يمكن له أن يسبب الوجود. وطالما أن تصوُّر السبب يشير إلى تواجد شيء له القدرة على التأثير في شيء آخر. فمن لا شيء المطلق ينتج لا شيء المطلق. (Geisler, BECA, 251)

المعرفة (النتيجة): ليس كل افتراض يمكن أن يعتمد في إثبات صحته على آخر. كل افتراض لا يتحقق فيها البرهان الذاتي، يعتمد في صحته على حقيقة افتراض له برهان ذاتي. (Geisler, TA, 64)

5(ج) الغائية (كل وسيلة تعمل لأجل غاية)
الكيان:
كل وسيلة تعمل لأجل غاية.

المعرفة: (النتيجة): كل افتراض له غاية منظورة، من الضروري أن يؤدي كل افتراض إلى معنى معين، والفكر يتواصل ويرتبط بما هو واضح وجليّ. (Geisler, TA, 74)

6(ج) المبادئ الأولية الأخرى يمكن ردها لمبدأ عدم التناقض
يصوِّر الأستاذ جسلر كيف أن كل من المبادئ التي ذكرت أعلاه يمكن ردها لمبدأ عدم التناقض:

أولوية مبدأ عدم التناقض واضحة طالما أن مبادئ الهوية أو التطابق والوسط المستبعد عبارة عن ظواهر معتمدة عليها. إذا كان التناقض ممكنا، إذاً لا يوجد شئ ما مطابق لنفسه (الهوية)، ولن يكون أحد الأضداد مخالف لأخيه (الوسط المستبعد). مبدأ السببية أيضا يرد إلى مبدأ عدم التناقض، لأنه بفحص التعبيرات فإنه يصبح الأمر متناقضاً لنؤكد أن كائن غير ضروري الوجود (معتمد) هو كائن ضروري الوجود ومستقل. وهكذا أيضاًَ، فإن مبدأ الغائية يستقر أيضاً حول مبدأ عدم التناقض، طالما الكائن يمكن أن يتصل بشئ غير الوجود، فإن الذكاء سوف يتواصل مع شيء مخالف لما هو واضح. (Geisler, TA, 76)

يضع أرسطو شرطين لأكثر المبادئ تأكيداً:

المبدأ الأكثر تأكيداً هو الذي يتحقق فيه استحالة خطأه، لأن مثل هذا المبدأ يجب أن يتحقق له أن يكون معروفاً بالأكثر ويكون أيضاً غير مفترض. هذا إذن، هو المبدأ الأكثر تأكيداً، حيث أنه يتطابق مع التحديد الموضَّح أعلاه. لأنه من المستحيل لأي فرد أن يصدق بأن نفس الشيء يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في آن واحد. وهذه هي النقطة المبدئية حتى بالنسبة للمبادئ الأخرى. (Aristotle, M, 4.3, 10055 emphasis mine)

ويذكر أرسطو أيضاً: لقد أوضحنا الآن أنه من المستحيل أن يكون الشيء متواجداً وغير متواجد في آن واحد، وبهذا بيننا أن هذا هو أكثر المبادئ التي لا يمكن إنكارها.

ويلخص توما الأكويني الطبيعة البنائية لقانون عدم التناقض الذي اكتشفه أرسطو بقوله:

يقول أرسطو بأنه لا يستطيع أحد أن يتصور أن شئ ما يتواجد ولا يتواجد في وقت واحد، ولأن يفكر هكذا فإنه يؤكد وينكر في شهقة نفس. إن هذا سوف يدمر اللغة، وينكر كل المادة، كل الحقيقة، كل الاحتمالات وكل درجات الاحتمالات، إنها سوف تكون إخماداً لكل رغبة، وكل عمل سوف سيختفي ويضمحل. لأنه إذا تحددت كل التعارضات والأضداد (جعلت كنفسها)، حينئذ تكون نقطة المغادرة في الحركة محددة مع نهاية الطريق والشيء المفترض أن يكون حركة سوف يصل قبل أن يغادر.

لذا يوافق الأكويني بأن المبدأ الأول الذي يمكن برهنته هو أن نفس الشئ لا يمكن إثباته وإنكاره في نفس الوقت، وهو مبني على فكرة التواجد وعدم التواجد: وعلى هذا المبدأ يتأسس كل شئ. (Aquinas, ST, 1.2.94.2)

يلاحظ أدلر أن عدم التعارض والوجود والواقع تربطها صلة وثيقة مع بعضها البعض: بين أوائل مبادئ المنطق اليوناني هي القاعدة التي تحكم الصواب والخطأ بالنسبة إلى الافتراضات غير متوافقة: إما أن الاثنين على صواب، أو أن الاثنين قد يكونا على خطأ، أو أن أحدهما صحيح، إذن الآخر على خطأ. في داخل هذه القاعدة تتواجد بديهيات خاصة بعلم الكائنات والموجودات - حقيقة تختص بالواقع- حيث أن الفكر اليوناني كان ذاتي- الوضوح، وتحديداً، إنه لا يمكن لشيء أن يكون في آن واحد متواجداً وغير متواجد. (Adler, Tr, 70, 71)

في قائمة المبادئ الأولية نرى أنها جميعاً لديها مظهر وجودي ومظهر إبستمولوجي (كيف نعرف الشيء). ويوضح أدلر التحديد الهام بينهم في قانون عدم التناقض: قانون التناقض كتعبير عن الواقع يشتمل داخله قانون التناقض كقاعدة للفكر. قانون التناقض كتعبير عن الواقع يشرح الطريقة التي تكون عليها الأشياء. قانون التناقض كقاعدة فكر تصف الطريقة التي يجب أن نفكر بها إذا رغبنا أن يكون التفكير مطابقاً للحالة التي عليها الأشياء. (Adler, AE, 140)

ويسجل لنا ريجلند جاريجو- لاجرانج عالمية نظرية عدم التناقض، طبقا للواقعية التقليدية، كما عبر عنها أرسطو والأكويني، الفكرة العالمية تتواجد في العالم الحسي، ليس بشكل تكويني، لكن بشكل أساسي، وطبقاً لكل الآراء يعتبر الوجود هو الأكثر عالمية، وعليه نشأ قانون التناقض. (Garrigou - Lagronge, R, 372373)

ويتفق أدلر مع ذلك بقوله: «منطق الحقيقة هو ذاته لكل الادِّعاءات الاستثنائية للحقيقة- ادِّعاءات تقول بأن هناك شيئاً يتمّ الحكم عليه بأنه صحيح، وإن كانت الأحكام على العكس، فهي غير صحيحة. المسألة قد تكون نظرية في الرياضيات، تقييم علمي، استنتاج خاص ببحث تاريخي، مبدأ فلسفي أو مقالة تناقش الإيمان الديني. (Adler, TR, 10)

ويوضح أدلر الطبيعة ذاتية البرهان لنظرية عدم التناقض:

قانون التناقض، كتعبير عن الواقع، يشرح ما هو جاري وواضح للإدراك السليم. فهناك شيء- مهما كان - لا يمكن أن يتواجد ولا يتواجد في نفس الوقت. إنه إما أن يتواجد أو لا، لكن ليس نفس الحالتين في ذات الوقت. الشيء لا يمكن أن يكون له خاصية ولا يكون له تلك الخاصية في نفس الوقت. التفاحة التي أنظر إليها وهي في يدي لا يمكن في نفس اللحظة تكون حمراء اللون وليست حمراء. هذا الأمر واضح لدرجة أن أرسطو دعاه قانون التناقض ذاتي- البرهان. فبالنسبة له، ذاتية- البرهان تعني عدم إنكارها. يستحيل أن نفكر في تفاحة تكون حمراء وليست حمراء في نفس الوقت. (Adler AR, 140)

5(ب) يقينية المبادئ الأولية

1(ج) الطبيعة ذاتية البرهان للمبادئ الأولية
ليس علينا أن نتأمل في المبادئ الأولية لنعلم ما إذا كانت صحيحة أم لا، لأنها جميعاً واضحة (ذاتية- البرهان). فهي صحيحة بمجرد تفهُّم التعبيرات المستخدمة. الخمسة مبادئ المذكورة سابقاً هي جميعا ذاتية- البرهان وصحيحة.

هناك مثال كلاسيكي وهي المسألة التي تقول (المجموع أكبر من مجموع أجزاءه). وبمجرد أن نعرف كل من المجموع والأجزاء، سوف نعلم حالاً أن المسألة صحيحة. حالاً لا تعني في هذا المفهوم بسرعة، لكن الأفضل أن نقول: إنها لا تستغرق تفكيراً عميقاً وبعملية تمعن شديدة، هذا يعني، أنه ليس علينا أن نتأمل بعمق في المسألة قبل أن نعرف أنها على صواب.

يقول توما الأكويني إن الفكر لا يمكن أن يكون على خطأ بالنسبة لتلك التعبيرات المعروفة بمجرد ما تُفهم ألفاظها، كما في المبادئ الأولية التي نتقدم فيها نحو استنتاجات تكون تأكيداتها العلمية لها عصمة الحق ذاته.

ويضيف الأكويني قائلاً: الفكر دائماً على حق فيما يختص بالمبادئ الأولية، طالما لم يحدث خداع لنفس السبب الذي بسببه لم يحدث خداع عن كينونة الشيء، لأن المبادئ المعروفة بديهياً يتم التعرف عليها فور فهمنا لألفاظها، ومن حقيقة أن الافتراض متضمن داخل تعريف الموضوع. (Aquinas, ST, 1.17.3)

المبادئ الأولية مسائل ذاتية- البرهان (مثلاً: يظهر من شكلها أنها صحيحة). ولا يمكن أن نخطئ في المسائل ذاتية - البرهان، لذا فإننا لن نخطئ في المبادئ الأولية.

يعلِّق سكوت ماكدونلد ويقول بأن المسائل العاجلة تعتمد على الواقع، وهي الأساس الواقعي لكل التداخلات، ويستحيل أن نخطئ في شأنها:

إذن فالمسائل العاجلة، تعتمد فقط على الطبيعة الواقعية التي هي عليها ومدى العلاقات التي تربطهم سوياً، أي أنها في التركيب الأساسي للعالم، وليس على السيكولوجية والتراكيب الاعتقادية لأي موضوع معرفي. إذن، حالة التبرير غير الاستنتاجي تتكون في وعي الفرد بشكل مباشر للحقائق العاجلة التي تغرس الصحة الضرورية للمسألة. عندما يجد الإنسان أن هناك مسألة تعبِّر عن حقيقة عاجلة من هذا النوع، لن يخطئ أبداً في الإمساك بها. (Mac Donald, TK, as cited in Kretzmann, CCA, 170- 171)

النقطة التي أشار إليها ماكدونلد هي أن المسائل العاجلة لا يحدث لها تصفية ضمن أي نظام اعتقادي. هذه النقطة يجب أن نأخذها في الحسبان عندما نبدأ في نقد العبارات ذاتية- الهدم لهؤلاء الذين ينكرون أن الحقيقة معلومة. سوف نرى، أنه بالرغم من أساليبهم الفلسفية، لا يمكن للفلاسفة أن يتجاهلوا الواقع ومبادئ عدم التعارض. إنهم يودون أن يعملوا على تصفية الواقع من خلال نظامهم، لكن في حالة المبادئ الأولية، الواقع ليس ملزماً.

2(ج) العقل يميل إلى الحقيقة
يذكر توما الأكويني أن العقل يميل إلى الحقيقة، «الحقيقة هي نتاج الذهن، وهي تعبير عن تنصيبه الطبيعي، وكما أن الأشياء بدون معرفة تصل إلى منتهاها بدون العلم بذلك، لذا أحيانا ما يميل العقل الانساني نحو الحقيقة بالرغم أنه لا يتخيل طبيعتها». (Aquinas, P, 10.5)

يلاحظ الأكويني أن العقل له شهية طبيعية نحو الحقيقة - ويشرح ما يعنيه بذلك: «الشهية الطبيعية هي الميل الذي يصبغ كل شيء، كشيء طبيعي فيها، لشيء ما، حيث تميل كل قوة بشهيتها الطبيعية إلى ما هو مناسب لها». (Aquinas, ST, 1.78.1)

ويوضح مورتمر أدلر بأنه ليس لدينا تأكيدات للحقيقة، وكل ما نملكه هو الحقائق ذاتية- البرهان:

العقل الإنساني يقبض على الحقيقة إلى الدرجة التي تبدو أحكامها متوافقة أو متطابقة مع الواقع- الطريقة التي بها أو ليست بها الأشياء. لأن نقول إن هذا لا يخصنا عندما ندَّعي بأن العقل البشري لديه قبضة حازمة، نهائية وعنيدة على أي حقيقة، بالرغم أنني أعتقد شخصياً أن هناك عدد من الحقائق ذاتية- البرهان بشكل نسبي نمسك بها في حزم وبشكل نهائي. مع ذلك، ومهما كان الأمر، يجب علينا أن نعرف أن الحقيقة يمكن الحصول عليها بشكل مبدئي، بالرغم من عدم تمكننا أبداً من القبض على الحقيقة بشكل كامل. (Adler, TR, 116- 17)

6(ب) المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها ولا يمكن برهنتها

1(ج) عدم الإنكار
نحتاج أن نكون واضحين فيما نقوله في هذه النقطة. عندما نقول إن المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها، نحن لا نقدم برهاناً إيجابياً عن المبادئ الأولية لكن بالأولى برهاناً سلبياً به نؤكد أن المبادئ الأولية لا يمكن إنكارها.

جيمس سوليفان يلخص منظومة أرسطو التي فيها يدافع عن عدم إنكارية المبادئ غير المتناقضة، ويسجل ثماني نتائج حتمية.

ثماني نتائج منطقية خاصة بإنكار قانون عدم التناقض
1- إن إنكار أهمية وصحة مبدأ التناقض، سوف يكون بمثابة انتزاع الكلمات من معانيها المحددة وتصير لغة الحديث بلا معني.

2- إن حقيقة الأمور الجوهرية يجب أن تهمل، سوف تقوم أحداث بلا أحداث، طيران بدون طيور؛ تغيرات بدون من يحدث لهم التغيير.

3- سوف لا يكون هناك تمييز بين الأشياء- الكل سيصبح واحداً. السفينة، الجدران، الرجل. الكل سيصبح واحداً.

4- هذا سوف يعني تدمير الحقيقة، فالصواب والخطأ سيكونون سواء.

5- سوف تدمر كل فكر، وحتى الآراء، لأن إثباتها سيكون هو نفيها.

6- الرغبات والتفضيلات سوف تكون غير لازمة، سوف لا يكون هناك فرق ما بين الخير والشر؛ لن يكون هناك سبباً للذهاب إلى المنزل، لأن الذهاب إلى المنزل لن يختلف عن البقاء في نفس المكان.

7- كل شئ سوف يكون صواباً وخطأ في نفس الوقت، لذلك لن يكون هناك رأي أكثر خطأ من غيره حتى بالنسبة لدرجته.

8- سوف يستحيل حدوث تغيير، أو حركة. لأن هذا يعني حدوث تغيير من حالة لأخرى؛ لكن إذا كانت مبادئ التناقض مزيفة، فإن كل حالات الوجود ستكون بنفس الشكل. (Sullivan, EFPTB, 121- 22)

ويكتب جون دونس سكوتس مقترحاً نتيجة أخرى لازمة لأي فرد ينكر المبادئ الأولية: « هؤلاء الذين ينكرون المبدأ الأول يجب أن يتم ضربهم أو يعرِّضوا للنار حتى يوافقون على أن الضرب وعدمه والحرق وعدمه ليست متطابقة». (Avicenna, M, as dited in Scotus, PW, 10)

ويسجل ريجنالد جاريجو- لاجرانج هذه النتيجة الغريبة:

إن لم يكن مبدأ التناقض ليس مطلقاً، لذا سوف تكون مقولة ديكارت: «أنا أفكر، إذن أنا موجود» فاقدة لكل معنى لها وتصبح مجرد ظاهرة فكرية. إذا كان ممكنا أن أنكر هذا المبدأ، لذا يمكن أن أقول، ربما أنا أفكر ولا أفكر في نفس الوقت، ربما أنا موجود وغير موجود، ربما أنا هو أنا وأنا لست أنا، ربما أنا أفكر هي غير شخصية مماثلة للفظة إنها تمطر. بدون إطلاق التناقض، فإنني لن أعرف الوجود الموضوعي لشخصي المفرد. (Garrigou- Lagrange, R, 372)

يجب على الفرد أن يستخدم المبدأ الأول لكي ينكر المبدأ الأول، وهذا شئ غريب:

المبادئ الأولية ليست منكرة أو متناقضة حتى درجة عدم الإنكار. هي إما أن تكون ذاتية- البرهان أو ترد إلى أمور ذاتية -البرهان. والمبادئ ذاتية - البرهان إما أنها صحيحة بطبيعتها أو أنها لا يمكن إنكارها لأن المسنود قابل للرد إلى الموضوع. ولأن المسنود قابل للرد إلى الموضوع تعني أن الإنسان لا يمكن له أن ينكر المبدأ بدون استخدامه. ومثال على ذلك هو أن مبدأ عدم التناقض لا يمكن أن يُنكر بدون استخدامه في موضوع الإنكار هذا.

ويوافق على ذلك رافي زاكارياس بقوله: «لا توجد طريقة لإنكار هذه القوانين الخاصة بالمجادلة، لأنه من الطبيعي أن يضطر الانسان لاستخدامها لكي يبطلها». (Zacharias, CMLWG, 11)

ويلاحظ جوزيف أوينز أكثر من ذلك أنه لا يمكن إنكار عدم التناقض في الفكر، «مهما كانت قدرتك على إنكارها في مجال الكلمات، إلا أنه لا يمكن إنكارها في مجال الفكر. فكل محاولة لإنكارها تعني إثباتها. تبعا لذلك هي ليست قابلة سواء للشك أو التصحيح. أنه حكم يتم التعبير عنه عالمياً عن الكيان الذي يمكن تلمسه في الأشياء المقتصرة على الحواس الخارجية ومن ذات الشخص نفسه من خلال الوعي». (Owens, ECM, 269- 70)

ويشرح مورتمر أدلر بأن العقل السليم يجد أن يدرك عدم التناقض هو خاصية غير منكرة للواقع، العقل السليم لن يتردد لحظة لكي يؤكد في لحظة معينة عن شيء ما أنه متواجد أو غير متواجد، إن ما حدث قد وقع أو لم يقع، إن شيئاً ما يعتبر له خاصية معينة أو ليست له هذه الخاصية. وبعيداً عن كون الفرد غير معقول، أو مخطئ، فإن افتراضات الواقع تتجاوب معها آرائنا أو لا تتجاوب. هذا الشكل من الواقعية يبدو أنه غير منكر بالنسبة للإدراك السليم. (Adler, SGI, 36)

2(ج) عدم إمكانية البرهنة

علينا أن نوضح هنا أننا لا نقول إن عدم البرهنة (مسألة غير مؤهلة للبرهنة عليها) هي دليل على كونها من المبادئ الأولية. الأفضل، نحن نقول إن عدم البرهنة هي حقيقية بالنسبة للمبادئ الأولية. تذكر أنه لا يوجد دليل آخر للمبادئ الأولية سواها. إنها ذاتية- البرهان. إنها أساسنا لكل الظواهر والمجادلات الأخرى.

يقول أرسطو بأن «عدم البرهنة» تعني أنه ليس كل المعارف قابلة للبرهنة: على العكس، معارف المقدمات لا تقبل البرهنة (أهمية ذلك واضحة؛ لأنه طالما يجب علينا أن نعرف المقدمات المنطقية السابقة التي يأتي منه البرهان، وطالما أن ذلك يجب أن ينتهي إلى حقائق جديدة، لذا يجب أن تكون تلك الحقائق غير قابلة للبرهنة. (Aristotle, AP, 1.3.72b)

ويعلن أرسطو أنه: من المستحيل أن يكون هناك إثبات لكل شئ على إطلاقه، حيث يظل دائماً هناك نكوص لانهائي لكي يظل هناك دائما عدم برهان. (Aristotle, M, 4.4.10062)

ويوضح الأكويني لا جدوى النكوص اللانهائي للبرهان:

نفرض أن أحدهم لديه برهان (لنتيجة ما) يجري على قواعد القياس المنطقي، على أساس مقدمات مبرهنة. هذا الشخص إما أن يمتلك قدرة على برهنة هذه المقدمات أو لا. إذا لم يكن لديه هذه القدرة، إذاً ليس في حوزته معلومات مناسبة لهذه المقدمات، وبالتالي ليس لديه معلومات بالنسبة للنتيجة التي يتمسك بها على حساب المقدمات، لكنه إذا كان لديه برهان لهذه المقدمات، فإنه سوف يتقابل مع مقدمات جديدة يصعب عليه برهنتها، وطالما أنه في حالة البرهان لا يمكن للإنسان أن يستمر إلى ما لا نهاية...ولذلك فإنه يجب أن يكون البرهان مستمداً من المقدمات الثابتة إما بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال وسائط أخرى.(Aquinas, PA,1.4,14)

ويوضح ألاسدير ماكنتاير الأمر بقوله: البحث في المبادئ الأولية لا يمكن أن يعتمد على البراهين، لأن البرهان نفسه نابع من المبادئ الأولية. (Macintyre, FP, 35)

ويناقش مورتمر أدلر هذا الموضوع بقوله: إنه لا يوجد دليل عن الحقيقة «ذاتية- البرهان» بعيداً عن ذاتها:

الحقائق ذاتية- البرهان تمدنا بأوضح الأمثلة للمعرفة بأفضل صورة لهذا التعبير. إنها تسمى ذاتية- البرهان لأن تأكيداتنا لا تعتمد على الدليل الجاري في تعضيدها وليس على المنطق المرسوم لإظهار أنها عبارة عن نتائج صحيحة تمّ التوصل إليها بالاستنتاج المنطقي. نحن نكتشف صدقها حالاً أو بشكل مباشر من فهمنا لما تؤكده. نحن مقتنعون- وليـس مجبورون- بحقيقتها لأننا نجد أنه من المستحيل أن نفكر بعكس ما تؤكده. نحن لسنا أحراراً بأي شكل بأن نفكر العكس. (Adler, SGI, 52)

7(ب) الاعتراضات التي تواجه المبادئ الأولية

1(ج) المبادئ الأولية هي طريقة غربية للتفكير
يجب علينا أن نلاحظ طبيعة عنصر الهدم- الذاتي لهذا الاعتراض.

البعض يقول إن هناك نوعاً آخر من المنطق، منطق شرقي (أو ربما من الشرق الأقصى)، يتمسك بفكرة أن الواقع، في صميمه، يتعانق مع المتناقضات. مع ذلك، فإن وضع حدود جغرافية لأي قانون عالمي هو مستحيل منطقياً. وطبقاً للمنطق الشرقي، يمكن للواقع أن يكون منطقياً أو غير منطقي، لكن إذا كان هناك شيئاً منطقياً وليس منطقياً، فإن هذا يمثل تعارضاً ولا معني له. لذا فبالنسبة للمنطق الشرقي فإن كل شيء هو بلا معنى تماماً. مع ذلك، إذا كان كل شيء بلا معنى، فهكذا يكون أيضاً التفرقة ما بين المنطق الغربي والشرقي هي تفرقة لا معنى لها. (Geisler and Bocchino, WSA,np)

ويعلن مورتمر أدلر: أساسيات المنطق يجب أن تكون عامة الثقافة كالرياضيات التي ترتبط بها مبادئ المنطق. مبادئ المنطق ليست غربية أو شرقية، لكن هي عالمية. (Adler, TR, 36)

ويخبرنا رافي زاكارياس القصة التالية التي تنير الطريق الذي يوضح مدى عدم جدوى الحديث في هذا الموضوع:

عندما كان الأستاذ يشرح ويعبِّر عن قانون عدم التناقض، أنهي كلامه بالجملة التالية، منطق (إما/ أو) هو طريقة غربية للنظر إلى الواقع. المشكلة الحقيقية هي أنك ترى المتناقضات كرجل غربي، بينما يجب أن تتقارب نحوها كإنسان شرقي. علماً بأن (كلاً/ و) وهي الطريقة الشرقية للنظر إلى الواقع.

بعد أن شرح كل من الفكرتين وهما (أما/ أو)، (كلاً/و) ولبعض الوقت، سألته عما إذا كان في إمكاني أن أقاطع تيار أفكاره وأسأله سؤالاً.

قلت له: سيدي، هل تريد أن تقول لي بأنني عندما أدرس الهندوسية فإنني إما أن أستخدم منطق (كلاً/و) أو لا شئ آخر؟

هنا حدث صمت رهيب، لذا أعدت تكرار نفس السؤال.

لذا طرح الأستاذ رأسه خلفاً وأجاب: إن (إما/ أو)، تبدو إنها قد بزغت من هذا السؤال أليس كذلك؟

قلت حـقاً، لقد بزغـت في هذا السؤال. وكأمر واقعي، فإنه حتى في الهند نحن ننظر إلى كل من الاتجاهين عندما نعبر الشارع، إنه إما الأتوبيس أو أنا، وليس كلانا.

هل تلمح الخطأ الذي وقع فيه ؟ إنه كان يستخدم منطق (إما/ أو) لكي يبرهن( كلاً/و). كلما حاولت أن تدمر قانون عدم التناقض كلما دمرك هو.

ويشير زاكارياس إلى، ما الذي يجعل الكثيرين لا يدركون الفلسفة «الشرقية»:

كل الطريقة التعليمية للفيلسوف الهندي شانكارا كانت سقراطية المنبع عندما كان ينازل الأفكار ليس بمنهج ديالتيكي ( كلاً/ و) لكن بمنهج عدم التناقض (إما/ أو)، كان يتحدي معارضيه ليثبتوا أنه على خطأ، وإذا لم يكن الأمر هكذا، فليستسلموا لآرائه. النقطة الهامة إذن ليس أننا نستخدم منطقاً شرقياً أو غربياً، إننا نستخدم المنطق الذي يعكس الواقع، وقانون عدم التناقض يستخدم بكل ثقة في الغرب والشرق. (Zacharias, CMLWG, 130)

2(ج) القوانين المنطقية مثل قانون التناقض ليست سوى قوانين شكلية لبناء نظم شكلية؛ وهي لا تنطبق على الواقع
ويجيب على ذلك رونالد ناش: «قانون عدم التناقض ليس هو بكل بساطة قانون خاص بالفكر، إنه قانون للفكر لأنه هو في المبدأ قانون وجودي. ليس القانون هو شئ يمكن لفرد ما أن يتناوله أم لا. إنكار قانون عدم التناقض يقود إلى العبثية في التفكير. إنه أمر مستحيل بشكل معقول أن تنكر قوانين المنطق. إذا تمَّ إنكار قانون عدم التناقض، إذن فلا شيء له معنى. إذا لم تعن قوانين المنطـق أولاً بما تعبر عنه فلا شيء آخر سيكون له معنى، ويشمل في ذلك أيضاً إنكار القوانين». (Nash, WVC, 84)

ويوافق على ذلك رددلف بانداس:

إذا كانت فكرة الوجود ليست لها قيمة منطقية، سوف يكون مبدأ التناقض قانوناً منطقياً لكن ليس بالضرورة خاصاً بالواقع. ولذلك، هذا الافتراض، لا يمكن التفكير فيه: فكرة الوجود هي فكرة بسيطة بشكل مطلق وليس هناك شيء يستطيع أن يتوافق معها إلا جزئياً. كل ما يتطابق «مع» هو متواجد: وكل ما ليس كذلك، لا يتواجد. إذن، هو عمدي بالضرورة ونسبي التواجد. إذا تم إنكار هذه العلاقة، فإن كل شئ سيصبح غير واضح. (Bandas, CPTP, 65)

3(ج) إن الدفاع عن قانون أو مبدأ عدم التناقض باستخدام عدم التناقض هو جدل دائري
ويجيب على ذلك نورمان جيسلر:

هذا اعتراض يربك الموضوع، لأن قانون عدم التناقض لا يُستخدم كأنه مصدر دليل صحته غير المباشر؛ إنه يستخدم بكل بساطة في مجال الدفاع عن أحقيته. خذ المثال والجملة التي تقول إنني لا أستطيع أن أتكلم كلمة باللغة العربية. هذه الجملة ذاتية - التدمير، طالما أنها تفعل ما تقول إنها لا تستطيع فعله. إنها تستخدم اللغة العربية لإنكار أنها يمكن أن تستخدم اللغة العربية، لذا هي لا تبرهن ذاتها. الدليل غير المباشر لقانون عدم التناقض هو مشابه لذلك. لا يمكن أن ننكر قانون عدم التناقض بدون استخدامها في نفس الجملة التي ننكرها. لأن الجملة التي تنكر عدم التناقض تقدَم كجملة غير متناقضة. إذا لم يكن كذلك، فلا معنى لها.

وبنفس الطريقة، إذا قلت أستطيع أن أنطق كلمة بالعربية. فإنه من الواضح أنني نطقت بكلمة عربية عند قيامي بنطق هذه الجملة. لكن لا توجد ذاتية- التدمير في شأن استخدام اللغة العربية عندما أقول أنا أستخدم اللغة العربية. هناك فقط شئ ذاتي التدمير في شأن استخدام العربية لإنكار إمكانية استخدامي لهذه اللغة. ومماثلاً لذلك، ليس من الخطأ استخدام مبدأ عدم التناقض للدفاع عنه. هناك فقط شئ خاطئ عند استخدام مبدأ عدم التناقض لإنكار هذا المبدأ. (Geisler, TA, 79)

4(ج) لا يمكن أن نعرف المبادئ الأولية (بعيداً عن التجربة) طالما أن الذهن فارغ تماماً إلى أن يختبر شيئاً ما.
يقول توما الأكويني: المعارف المختبرة ليست هي كل أسباب المعارف الذهنية... لذا ليس من المستغرب أن المعارف الذهنية تمتد أكثر من المعارف المختبرة. (Aquinas, ST, 1.84.6)

ويشرح نورمان جيسلر ويقول: إن معارف المبادئ الأولية هي «طبيعية». المعارف الطبيعية تُعرف بشكل طبيعي لأن لدينا القدرات الطبيعية أن نتصورها ونفهمها. (Geisler, TA, 90)

ويستخدم بيتر هوينن اللفظ «طبيعياً»: مثل المبادئ الأولية الأخرى، يحكم مبدأ عدم التناقض كل من الفكر والكيان، كذلك العلاقات بين الاثنين. وكنتيجة للسهولة التي يمكن بها أن نتعرف على هذه المبادئ- ليس دائماً مشكلة مع ذلك- هي تنتمي للعقل الانساني كأمر طبيعي. (Hoenen, PJ, 208)

يشرح جيمس سوليفان ما الذي يقصد باستخدام كلمة طبيعيا: الشخص الذي يضع حكماً ملموساً ليس على وعي واضح لهذه المبادئ في ذلك الوقت، لكن يمكن بكل سهولة وسلاسة أن تسحب منه السؤال، حتى إذا لم يفكر فيها أبداً سابقاً. وطالما أنه يقال إنه يمتلك مبادئ بالعادة أو الفعل، منذ بداية حياته المدركة. وهذا ما يعني بقولنا إن المبادئ الأولية تأتي بشكل طبيعي، ويتم التعرف عليها طبيعيا. (Sullivan, EFPTB, 33)

يلاحظ الأكويني أن هذه المعارف الطبيعية تحدث عندما يتقدم شيء إلى الذهن: «في كل إنسان يوجد قدر معين من المعارف، وبالتحديد نور الفكر الفعَّال، والذي من خلاله تستقر بعض المبادئ لكل أنواع العلوم حيث تفهم بمجرد ما تقدم للذهن». (Aquinas, ST, 1.117.1)

5(ج) كيف تكون معارف المبادئ الأولية من نتائج الخبرة ومع ذلك تكون فطرية؟
تذكَّر أنه حينما يُسأل أي إنسان باستخدام صيغة السؤال كيف يطلب معلومات معينة، هو بذلك يبحث في مجال الإبستمولوجي. لقد ذكرنا سابقاً أنه ليس من الضروري الإجابة عن صيغة السؤال عن كيف عند إعطاء دليل أي شئ ما هي الحالة في الحقيقة؛ مع ذلك، سوف نقدِّم إجابة عن هذا الاعتراض.

للإجابة عن هذا السؤال:

يقدم الأكويني مساهمة واضحة للإبستمولوچيا، إذ أنه يوحد ما بين عناصر (الملقن) و (المكتسب) في مجال المعارف. الإنسانية لديها غريزة فطرية وقدرة طبيعية أو شكل من أشكال حقيقة المبادئ الأولية التي زُرعت في طبيعتهم من قبل الله. لديهم المبادئ الأولية بشكل طبيعي كاستعداد لكل الأنشطة الإدراكية. وعندما نمتلئ من هذه القدرة الفطرية بمحتوى خبرات الحواس، نكون قادرين بالانعكاس الواعي أن ندرك المعارف الخاصة بالمبادئ الأولية، والتي هي جزء حيوي في طبيعتنا، هي تمكننا من إدراك الوعي بها. هي كأننا نقول، إننا نستطيع أن نعرف المبدأ الأول إذا استخدمنا المبادئ الأولية لمعرفتها، وإلا، لن تتيسر لنا الوسيلة التي يمكن بها تحقيق المعرفة بها. نحن نحصل عليها عن طريق التلامس قبل أن نعرفها عن طريق الوعي. (Geisler, TA, 90)

يلخص ايتين جيلسون إجابة الأكويني عن موضوع سؤال «كيف» بالآتي:

نحن نجد بذور كل المعارف في الإدراك ذاته. هذه البذور السابقة التكوين والتي لدينا عنها معرفة طبيعية هي المبادئ الأولية. من صفات هذه المبادئ هي أنها التصورات الأولىة التي تكونت بملكاتنا عندما نتصل مع المعقولات. وكوننا نقول بأنها سابقة الوجود لا يعني أن الملكات تمتلكها فعلاً، بشكل مستقل عن الفعل الذي تمارسه أذهاننا، إنها تعني بكل بساطة أولىة التجليات التي تستطيع إدراكاتنا أن تصل إليها في البداية من الخبرة الواعية. إدراك هذه المبادئ ليست أكثر فطرية من نتائج المجادلات الاستدلالية، لكن ما أن نكتشف السابق بشكل طبيعي، سنضطر أن نصل إلى التالي بجهد بحثي. (Gilson, PSTA, 246)

6(ج) لكن المنطق لا ينطبق على الواقع
للإجابة على هذا الاعتراض:

توجد فقط ثلاث وجهات نظر معقولة لها صلة بالعلاقة ما بين الضرورة المنطقية والواقع:

(1) المنطق لا يستطيع أن ينطبق على الواقع.

(2) المنطق ربما لا ينطبق على الواقع.

(3) المنطق يجب أن ينطبق على الواقع.

نحن نقول إن البديل الأول هو فكرة ذاتية الهدم، الثاني لا معنى له، لذلك فإن الثالث هو الرأي الوحيد المناسب. هذا يتركنا مع بديل وحيد ذو معنى، وهو: المنطق يجب أن ينطبق على الواقع. لأن الرأي القائل بأن المنطق لا يمكن أن ينطبق على الواقع يؤكد أن المنطق ينطبق فعلاً على الواقع في نفس المحاولة لإنكار ذلك.

والوضع الذي فيه المنطق ربما ينطبق على الواقع هو فرض لا معنى له، إلا إذا تطابق مع لفظ المنطق مع معنى الاصطلاح الواقع و ممكن في الجملة التي تدَّعى أن المنطق ربما لا ينطبق على الواقع. (Geisler, MPOA, 292- 93)

ويؤكد رافي زاكارياس أن: قوانين المنطق يجب أن تتطابق مع الواقع؛ وإلا كنا نعيش في مسكن للمجانين. (Zacharias, CMLWG, 11)

7(ج) لا توجد حقيقة تتوافق مع الواقع
يوضِّح رافي زاكارياس الطبيعة الانهزامية لهذه الجملة: لكل فرد يأخذ في حسبانه تلك الجملة بمحمل الجد وأنه ليس هناك حقيقة تتوافق مع الواقع يهدم الجملة ذاتها بالإيحاء بأنها ليست انعكاس للواقع، إذا كانت هناك جملة لا تعكس الواقع، لماذا إذن ننظر إليها بجدية ؟ الحقيقة كمبدأ يجب أن تتواجد حتى إذا رفض الإنسان وجودها، ويجب أن يكون قادراً على تحمل إمكانية التعريف بها.

ويشرح جيسلر هذا الأمر: حتى نظرية التعمدية تعتمد على نظرية التوافق مع الحقيقة. نظرية التعمدية تدَّعي بأن هناك شيئاً سليماً وصحيحاً إذا تممت ما انتويت عليه وتعمدت فعله. لكن هذا يعني أن هذا حقيقي إذا كان الإتمام يتواصل مع القصد والنية. لذا بدون تواصل للنيات والحقائق المستكملة لا توجد حقيقة. (Geisler, CTID, 335- 36)

8(ج) إذا لزم أساس معين لكل المجادلات، إذن أليست المبادئ الأولية في حاجة إلى أساس أيضاً؟
يوضح جيسلر: «إن قضيتنا ليست منحصرة في أن كل شئ في حاجة إلى أساس، لكن فقط الأشياء التي ليست ذاتية- البرهان. الأشياء التي ليست واضحة في حد ذاتها يجب أن توضِّح في تعبيرات تختلف عن الجمل ذاتية - البرهان. وما أن يصل الإنسان إلى مرحلة ذاتية - البرهان، فإنه حينذاك ليس في حاجة إلى التوضيحات بجمل وعبارات أخرى. (Geisler, BECA, 260)

هذه نقطة حساسة نتذكرها عندما نناقش هذه المسألة مع هؤلاء الذين يحتاجون إلى دليل للمبادئ الأولية؛ ولا يوجد دليل للمبادئ الأولية خلاف ذاتها - لأنها بكل بساطة ذاتية - البرهان.

9(ج) ليست كل إنسان يرى أن هذه المبادئ ذاتية- البرهان.
مع ذلك، وبكل بساطة، لأنه يوجد هناك بعض الأشياء ليست واضحة لكل فرد. لا يعني هذا إنها ليست ذاتية - البرهان. السبب الذي من أجله تكون الحقيقة ذاتية- البرهان غير كذلك لبعض الناس، ربما يكون ذلك لأنه لم يحللها بشكل جيد. لكن فشلهم في ذلك ليس سبباً لكي لا تتحقق الطبيعة الذاتية البرهان للمبادئ الأولية. (Geisler, BECA, 260)

10(ج) أنت فقط تحاول أن تفترض أن كل الظواهر تعتمد على إرجاعها إلى المبادئ الأولية، لكي تبرهن على أنه لا يمكن أن يتواجد نكوص لانهائي للإثباتات
ويجيب على ذلك جيمس سوليفان، هذه الاستنتاجات صارت مؤكدة ويقينية بإحالتها إلى المبدأ الأول للظواهر، وهو ليس مبدأً خاصاً باستقلالية الخبرة فيه يفشل النكوص اللانهائي للظواهر لأنه يتطابق؛ إنه على الأكثر نتيجة مشتقة من استحالة النكوص اللانهائي. (Sulivan, EFPTB, 26)

 

 

 

التالي

السابق