لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل مرقس

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

 الأصحاح الرابع

1 وَابْتَدَأَ أَيْضًا يُعَلِّمُ عِنْدَ الْبَحْرِ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمْعٌ كَثِيرٌ حَتَّى إِنَّهُ دَخَلَ السَّفِينَةَ وَجَلَسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْجَمْعُ كُلُّهُ كَانَ عِنْدَ الْبَحْرِ عَلَى الأَرْضِ. 2 فَكَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيرًا بِأَمْثَال. وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «اسْمَعُوا! هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ، 4 وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ وَأَكَلَتْهُ. 5 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى مَكَانٍ مُحْجِرٍ، حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ أَرْضٍ. 6 وَلكِنْ لَمَّا أَشْرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ فَلَمْ يُعْطِ ثَمَرًا. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، فَأَعْطَى ثَمَرًا يَصْعَدُ وَيَنْمُو، فَأَتَى وَاحِدٌ بِثَلاَثِينَ وَآخَرُ بِسِتِّينَ وَآخَرُ بِمِئَةٍ». 9 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» 10 وَلَمَّا كَانَ وَحْدَهُ سَأَلَهُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ عَنِ الْمَثَلِ، 11 فَقَالَ لَهُمْ:«قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا سِرَّ مَلَكُوتِ اللهِ. وَأَمَّا الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ فَبِالأَمْثَالِ يَكُونُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، 12 لِكَيْ يُبْصِرُوا مُبْصِرِينَ وَلاَ يَنْظُرُوا، وَيَسْمَعُوا سَامِعِينَ وَلاَ يَفْهَمُوا، لِئَلاَّ يَرْجِعُوا فَتُغْفَرَ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ». 13 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«أَمَا تَعْلَمُونَ هذَا الْمَثَلَ؟ فَكَيْفَ تَعْرِفُونَ جَمِيعَ الأَمْثَالِ؟ 14 اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الْكَلِمَةَ. 15 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ: حَيْثُ تُزْرَعُ الْكَلِمَةُ، وَحِينَمَا يَسْمَعُونَ يَأْتِي الشَّيْطَانُ لِلْوَقْتِ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ الْمَزْرُوعَةَ فِي قُلُوبِهِمْ. 16 وَهؤُلاَءِ كَذلِكَ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ: الَّذِينَ حِينَمَا يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ يَقْبَلُونَهَا لِلْوَقْتِ بِفَرَحٍ، 17 وَلكِنْ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ فِي ذَوَاتِهِمْ، بَلْ هُمْ إِلَى حِينٍ. فَبَعْدَ ذلِكَ إِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ، فَلِلْوَقْتِ يَعْثُرُونَ. 18 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا بَيْنَ الشَّوْكِ: هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ، 19 وَهُمُومُ هذَا الْعَالَمِ وَغُرُورُ الْغِنَى وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الْكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ. 20 وَهؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ زُرِعُوا عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ: الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ وَيَقْبَلُونَهَا، وَيُثْمِرُونَ: وَاحِدٌ ثَلاَثِينَ وَآخَرُ سِتِّينَ وَآخَرُ مِئَةً». (عدد 1-20).

الرب نطق بمثل الزارع وهو جالس في السفينة عند جانب البحيرة، فذلك الزارع ذهب ليزرع زرعًا إذًا قبلهُ القلب أتى بفعل النعمة بالثمر الذي يطلبهُ الله . فالثمر لم يوجد في الكرم الإسرائيلي حيث كان قد أُمتحن الإنسان حين كان في الجسد مرتبطًا بالعهد القديم، فإن الناموس كُتب على ألواح من حجارة؛ فلهذا السبب لعن السيد شجرة التين التي لم تأتِ بأثمار، بل أنبتت ورقًا فقط. على أنهُ نقب حولها وسمدها غير أن ذلك كان عبثًا فمن ثمَّ وجب قطعها. فما أرهب هذا الحق المقدس!. لا جُرم أن النعمة ترفعنا فوق الخطية، غير أن الإنسان كان قد هلك بالنظر لمسئوليتهُ لدى الله. أما السيد فبدأ يُعَلّم الجموع بأمثال قائلاً: هوذا الزارع قد خرج ليزرع. فكما قلنا: هو لا يطلب ثمرًا بعد من الإنسان على الأرض ولا من شعبهِ القديم، بل يزرع ما يجب أن يأتي بثمر.

فحين كان الزارع يزرع سقط بعض على الطريق وبعض على الأماكن المُحجرة وبعض في وسط الشوك وبعض على الأرض الجيدة. فتلك ليست مسألة تتعلق بالتعليم، بل بالنتائج التابعة زرع كلمة الملكوت وهي مسألة حقائق خارجية. فثلاثة أجزاء من الزرع لم تأتِ بثمر. ففي الحالة الأولى، حين تُزرع الكلمة في القلب تستمر على السطح الخارجي ولا تخرق إلى الداخل فيخطفها الشيطان بسهولةٍ فلا يكون ثمر. وفي الحالة الثانية، تُقبل الكلمة بفرح ويسرُّ السامعون بالإصغاء لصوت نعمة الملكوت وغفران الخطايا، ولكن حالما يلمُّ بهم من جرائها ضيق أو اضطهاد يتركونها وينبذونها عنهم. فإن السامع قد قبلها بفرح، ولكن لا يلبث حتى يُغادرها حين حلول الضيق؛ لأن الضمير لم يُؤتَ بهِ إلى حضرة الله ولم يمسهُ انزعاج واضطراب خوفًا من دينونة الله. فكلمة الله إنما تتأصل في نفسهُ يُعلن للقلب فيرى الإنسان نفسه في حضرتهِ شاعرًا بوجوده لدى فاحص القلوب. ثم يتبع ذلك القضاء على الذات فتتبدد الظلمة وتضمحل ويشرق نور الله في القلب. فحين يستفيق الضمير ويتدرب على المنوال المُشار إليهِ يأتي الإنجيل بالفرح والسلام  الدائمين ويُلبي الله حاجة النفس، فمهما كانت نعمة الله ومحبتهُ عند بداءة إعلانهما لا ينشئان فرحًا؛ لأنهما يزعجان الضمير. فيخترق النور القلب؛ لأن الله نور. ولكن المحبة تُنشئ ثقة؛ لأن الله محبة فينجذب القلب ويتكل على المخلص نظير المرأة الخاطئة التي غسلت قدميه بدموعها، ولكن الضمير لا يكون قد طُهر بعد فلا يكون له فرح. فإذا كانت بشرى الغفران تُنشئ فرحًا حالاً يُخشى أن الضمير لم يستيقظ بعد. فالفهم والتمييز وربما العواطف الطبيعية تكون قد فهمت أنباء المحبة والغفران الجميلة الواردة في الإنجيل، غير أن العمل إنما هو على السطح الخارجي ولا عمق له فيزول ويتلاشى عند الامتحان. والقسم الأخر من الزرع وَقع بين الشوك فنبت الشوك وخنقهُ فلم يأتِ بثمر. وأخيرًا أتى الزرع الساقط على الأرض الجيدة بأثمار تتفاوت مقاديرها فغاية هذا المَثل لا ليُبين كيفية حدوث ذلك، بل ليتكلم فقط عن النتائج الظاهرة. فلا ريب في أن هذا هو فعل النعمة، ولكن لم يذكر شيء إلا الحقيقة على أن نرى فعل النعمة في هذا النوع الأخير، فإنهُ ينمو ويأتي بثمر ويظل ناميًا. فمن قَبلَ فعل النعمة في قلبهِ أصبح صالحًا لإبلاغها إلى الآخرين أيضًا. فربما ليس لهُ موهبة الكرازة غير أنهُ يحب الحق ويحب النفوس ومجد المخلص، فلابد أن يُضيء النور الذي أشرق قلبهُ على مَنْ حولهُ وهو أيضًا يزرع بحسب قوتهِ وهو مُكلف في أن يفعل ذلك. فالأمانة والخيانة في هذا الأمر ستعلنان كما سائر الأمور،فإن الله يُرسل النور إلى القلب لينبعث إلى الآخرين لا لكي يخفي ويستر. فإذا كنا أُمناء في إبلاغ ما نملكهُ إلى الآخرين كثرت عطايا الله لنا ازدادت. وإذا وُجدت في قلوبنا المحبة لابد من ظهورها وإعلانها، فالحق والمحبة قد أتيا كلاهما بيسوع، فما لم يكن القلب ملآن من المسيح لا يستطيع أن يُعلن الحق وإذا كان مُفعمًا من الأمور الدنيوية ومحبة الذات تعذَّر إعلان المسيح، ولكن متى حلَّ المسيح وحقهُ ومحبتهُ في القلب نستطيع أن نُظهرهُ للآخرين للبركة وننال نحن أنفسنا فيض البركة وتزداد عطايا الله لنا وتتمتع النفس بالحرية والسرور. فإذا لم يستفد الآخرون من نورنا نزع ذلك النور منا وتحوَّل إلى ظلام.

نرى أيضًا أن خدمة الرب لليهود كأُمة على وجه العموم كانت قد انقضت، فإنه أخذ يوجه كلامهُ خصوصًا للذين كانوا قد قبلوا، إذ قال لهم: قد أُعطي لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله وأما الذين هم خارج فبالأمثال يكون كل شيء، لكي يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا لئلا يرجعوا فتُغفر لهم خطاياهم؛ لأنهم تحت قضاء الله ودينونتهِ. فلا يعني الرب بهذا القول عدم إمكانية إيمان الأفراد ونوالهم المغفرة، بل أن الله ترك الأمة ونزع البركات وأصبحت عرضة للدينونة لأنها رفضت شهادة يسوع، فوبخ التلاميذ؛ لأنهم هم لم يفهموا أيضًا هذا المَثل، ولكنهُ فسرهُ لهم بنعمتهِ.

21 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«هَلْ يُؤْتَى بِسِرَاجٍ لِيُوضَعَ تَحْتَ الْمِكْيَالِ أَوْ تَحْتَ السَّرِيرِ؟ أَلَيْسَ لِيُوضَعَ عَلَى الْمَنَارَةِ؟ 22 لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ صَارَ مَكْتُومًا إِلاَّ لِيُعْلَنَ. 23 إِنْ كَانَ لأَحَدٍ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ» 24 وَقَالَ لَهُمُ:«انْظُرُوا مَا تَسْمَعُونَ! بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ لَكُمْ أَيُّهَا السَّامِعُونَ. 25 لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ». (عدد 21-25).

 يعود الرب في هذا الفصل يُنبه التلاميذ على الإصغاء إلى كلمته وتخصيصها لأنفسهم وبعد ذلك تبليغها للآخرين؛ لأن الله إنما يمنحنا نوره لكي يُنيرنا قبل كل شيء ثم يستخدمنا لإنارة الآخرين وليس من خواص النور ان يُخفى. هل يؤتى بسراج ليوضع تحت المكيال أو تحت السرير، أليس ليوضع على المنارة؟ كان المسيح نفسهُ نورًا إلهيًا في العالم والمعلوم انهُ لم ينطق بأقواله ولا عمل في زاوية فإن أمورهُ كلها كانت ظاهرة لأجل إفادة البشر، كما قال: لأنهُُ ليس شيء خفي لا يظهر ولا صار مكتومًا إلا ليُعلن. كان هو خفيًا ومكتومًا في الأول، ولكنهُ صار ظاهرًا بخدمة المحبة وكذلك تلاميذه فإنه اجتذبهم إليهِ وأنارهم وبعد ذلك عينَّهم للإضاءة للآخرين، ونحن أيضًا كذلك إن كنا قد استفدنا منه حقيقةً فإننا قد صرنا نورًا مخفي. وعلى قدر ما نُنير للآخرين نزداد وننمو في النور، كما قال: بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم؛ لأن مَنْ لهُ سيُعطى، وأما من ليس له فالذي عنده سيؤخذ منهُ.

26 وَقَالَ:«هكَذَا مَلَكُوتُ اللهِ: كَأَنَّ إِنْسَانًا يُلْقِي الْبِذَارَ عَلَى الأَرْضِ، 27 وَيَنَامُ وَيَقُومُ لَيْلاً وَنَهَارًا، وَالْبِذَارُ يَطْلُعُ وَيَنْمُو، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ كَيْفَ، 28 لأَنَّ الأَرْضَ مِنْ ذَاتِهَا تَأْتِي بِثَمَرٍ. أَوَّلاً نَبَاتًا، ثُمَّ سُنْبُلاً، ثُمَّ قَمْحًا مَلآنَ فِي السُّنْبُلِ. 29 وَأَمَّا مَتَى أَدْرَكَ الثَّمَرُ، فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُ الْمِنْجَلَ لأَنَّ الْحَصَادَ قَدْ حَضَرَ». (عدد 26-29).

ثم نطق بمثل آخر يُبين طرقهُ وأعمالهُ بيانًا صريحًا. فقد شبه الملكوت برجل ألقى البذار على الأرض ثم نام واستيقظ ليلاً ونهارًا والزرع ينمو ويزداد وهو لا يلاحظ ذلك فإن الأرض اطلعت ثمرًا من نفسها أولاً نباتًا ثم سنبلاً ثم قمحًا ملآن في السنبل. ولما أدرك الثمر أُرسل المنجل للوقت؛ لأن الحصاد قد حضر. فمن ثمَّ قد عمل الرب شخصيًا زرع كلمة الله على الأرض وفي النهاية سيعود ويعمل أيضًا شخصيًا عندما تأتي دينونة هذا العالم. أما الآن فيظل جالسًا عن يمين الله كأنه لا يهتم بحقله على أنهُ يعمل بنعمتهِ سرًا ويُنشئ كل شيء صالح، غير أن ذلك ليس بمعلن إعلانًا ظاهرًا. فهو يعمل غير منظور لإنماء الزرع بنعمتهِ بطريقة إلهية بينما يسمح للإنجيل حسب الظاهر بالنمو بدون أن يتداخل بهِ حتى الحصاد، ثم يظهر ثانيةً ويعمل بنفسهُ علنًا.

30 وَقَالَ:«بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ 31 مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. 32 وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا». 33 وَبِأَمْثَال كَثِيرَةٍ مِثْلِ هذِهِ كَانَ يُكَلِّمُهُمْ حَسْبَمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَسْمَعُوا، 34 وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ. وَأَمَّا عَلَى انْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شَيْءٍ. (عدد 30-34)

 ثم علَّم الشعب أيضًا بمثل آخر. لا نرى هنا شرح الملكوت واردًا كما في الأصحاح الثالث عشر من مَتَّى، بل نُعاين المُبادئة العظيمة وعمل الرب بالمقابلة مع إعلان الملكوت وتأسيسه بحضوره. فإنهُ ينمو في غيابهِ على كيفية لا يعرفها أحد معرفة إنسانية. فالملكوت يُشبه حبة الخردل أصغر البذور، ولكن حالما تنمو تُصبح نباتًا عظيمًا إلى أن تتحول إلى شجرة كبيرة تتآوى طيور السماء في أغصانها. ذلك يضارع الديانة المسيحية البذرة الصغيرة المتأصلة من إنسان محتقر ومخذول من العالم، فقد أمست قوة عظمى على الأرض ونشرت أغصانها على كل الأنحاء والجهات. يجب أن نلاحظ أن الرب لا يقول: الشجرة الكبيرة جيدة أم لا. غير أننا نعلم من محلات أخرى من الكتاب أنها لا تناسب عملاً روحيًا والوحي لم يُلهم مرقس لا يعطينا معاملات الله السياسية ولا يوضح هيئات الملكوت السرية بعد رفض المَلك. يوجد ملكوت إلهي في مدة غياب المسيح يعني الله نفسه لا يزال يعمل ويُقال لعمله ملكوت الله، وأما مرقس فإنما يشير إلى وجهين من أوجهه كما قدر رأينا في هذين المثلين ولا يجوز لنا أن ننسب له أخطاء أو تقصيرًا في المعرفة كأنه لم يعرف أن يوضح موضوعه توضيحًا كاملاً كمَتَّى؛ لأنهُ بالحقيقة إنما يوجد مؤلف واحد للأناجيل الأربعة وهو الروح القدس الذي شاء واستخدم مرقس أولا لإدراج مَثل البذار الملقى على الأرض، فالأهمية هنا لوقت الزرع ووقت الحصاد، وأما في أثناء ذلك فتجري الأمور مجراها كان صاحب البذار لا يدري ولا يبالي بما يحصل ولا يفرض بحسب صورة المثل مضى أكثر من جيل واحد أو بالأحرى موسم واحد فإن الأمر الأعظم بعد الزرع هو الحصاد. فكان الرب حاضرًا بقوة إلهية ألقى البذار على الأرض وسيحضر هكذا أيضًا لإجراء الحصاد أي الدينونة. وثانيًا مَثل حبة الخردل الذي إنما يُظهر حقيقة نمو الديانة المسيحية في العالم من أصغر بداءة إلى أن بلغت مقامًا عالميًا عظيمًا. فيتضح لنا إذا أمعنَّا النظر أن قصد الوحي بإدراج المثلين يختلف عن قصدهِ بما ألهم البشير مَتَّى، ثم كرر الإنجيلي كلامهُ بأن السيد كلَّم الجموع بأمثال ولم يُخاطبهم بسوى ذلك، ثم فسر لتلاميذهِ على انفراد معاني أقوالهِ.

35 وَقَالَ لَهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ: «لِنَجْتَزْ إِلَى الْعَبْرِ». 36 فَصَرَفُوا الْجَمْعَ وَأَخَذُوهُ كَمَا كَانَ فِي السَّفِينَةِ. وَكَانَتْ مَعَهُ أَيْضًا سُفُنٌ أُخْرَى صَغِيرَةٌ. 37 فَحَدَثَ نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ، فَكَانَتِ الأَمْوَاجُ تَضْرِبُ إِلَى السَّفِينَةِ حَتَّى صَارَتْ تَمْتَلِئُ. 38 وَكَانَ هُوَ فِي الْمُؤَخَّرِ عَلَى وِسَادَةٍ نَائِمًا. فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟» 39 فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ:«اسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. 40 وَقَالَ لَهُمْ:«مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟» 41 فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:«مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!». (عدد 35-41).

 ثم نرى في هذا الفصل سُلطانهُ على العناصر المُضطربة وأَمن خاصتهِ في الأخطار والمصاعب حتى في حين يخال كأنهُ غير مُبالٍ بما ألمّ بهم من النوازل. ثم نرى نسبتهُ للأُمة اليهودية وقضاءهُ عليها فإنه بعد صرف الجموع دخل يسوع سفينةً وذهب لينام وإذا بعاصفة ثارت على البحيرة حتى ملأَت الأمواج السفينة، فارتاع التلاميذ كل الروع فأتوا وأيقظوه فنهض وانتهر الريح، وقال للبحر: اسكت. أبكم. فسكنت الريح وصار هدوءٌ عظيم، ثم وبخ التلاميذ على عدم إيمانهم. فيا أيها القارئُ أتظن أن ابن الله يعتري سُلطانه الفشل والنقص من نوء فُجائي على بحيرة جنيسارت؟ كلاَّ. إن ذلك بالمُستحيل؛ لأن مقاصد الله ومشوراتهَِ كانت مجموعة في شخصهِ ولم يكن للحوادث العرضية بحسب نظر البشر أن تهبط ما كان الله قد قصدهُ منذ الأزل وليس ذلك فقط، بل قد اختار أُناسًا من البشر وأتى بهم إلى المسيح وجعلهم مُقترنين معه كل الاقتران. أكان يليق بالتلاميذ الروع وهم في سفينة واحدة مع يسوع. فما ذلك الأمثال وتنبيه لنا. فإننا على الدوام في سفينة واحدة مع يسوع إذا كنا صانعين مشيئتُه وتلك السفينة تمرُّ بنا في أخطار الحياة المسيحية ومصاعبها في خلال سفرنا على الأمواج المزبدة من بحر الحياة العجاج والخدمة المسيحية. فربما خلنا أنهُ نائِم، ولكن وإن سمح للعاصفة بالهبوب امتحانًا لإيماننا لا يسمح بغرقنا وهلاكنا لأننا معهُ في النوء. لا جُرم أن لا سلطة الهلاك عليه ولا علينا. وربما لاح لنا انهُ غير مبال بنا ولكني أكرر ما قلته بأننا معه في مركب واحد فأمنهُ هو كأمتنا نحن لا محالة.

8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
16 15 14 13 12 11 10 9

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة