لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح التاسع

1 وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ، وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ وَشِفَاءِ أَمْرَاضٍ، 2 وَأَرْسَلَهُمْ لِيَكْرِزُوا بِمَلَكُوتِ اللهِ وَيَشْفُوا الْمَرْضَى. 3 وَقَالَ لَهُمْ:«لاَ تَحْمِلُوا شَيْئًا لِلطَّرِيقِ: لاَ عَصًا وَلاَ مِزْوَدًا وَلاَ خُبْزًا وَلاَ فِضَّةً، وَلاَ يَكُونُ لِلْوَاحِدِ ثَوْبَانِ. 4 وَأَيَُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَهُنَاكَ أَقِيمُوا، وَمِنْ هُنَاكَ اخْرُجُوا. 5 وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضًا عَنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ». 6 فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ. (عدد 1-6).

هذه الإرسالية مذكورة في (مَتَّىَ إصحاح 10) وهي في محلها تاريخيًا هناك حيث يوجد أيضًا عدَّة تفاصيل ليس لها ذكر هنا فعلى القارئ أن يُراجع الشرح عليها هناك. ويتضح أيضًا بمُقابلة الموضعين معًا أن الوحي إنما يدرجها هنا في لوقا باعتبار أنها جزءٌ من خدمة الكلمة فقط بحيث أن المسيح من نعمتهِ شاءَ وزاد على شهادتهِ الشخصية المذكورة في (إصحاح 8) إرسالية الاثنى عشر أيضًا والنتيجة أنهم اجتازوا في كل قرية يُبشرون ويشفون في كل موضع. وهذا يُكمل المطلوب بحسب هذا الإنجيل إذ المقصد هنا إظهار النعمة المُفتقدة لإسرائيل من العلاء وان البشارة انتشرت في بلادهم كلها وإن كل مَنْ قَبَلَهَا حصل بها على بركة والذين رفضوها ما بقى لهم أقلّ عذر. ولم يزل الأمر هكذا إلى الآن مع المُناداة بالإنجيل بغضّ النظر عن مُعاملات الله النظامية مع إسرائيل في المُستقبل.

7 فَسَمِعَ هِيرُودُسُ رَئِيسُ الرُّبْعِ بِجَمِيعِ مَا كَانَ مِنْهُ، وَارْتَابَ، لأَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ:«إِنَّ يُوحَنَّا قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ». 8 وَقَوْمًا:«إِنَّ إِيلِيَّا ظَهَرَ». وَآخَرِينَ:«إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ». 9 فَقَالَ هِيرُودُسُ:«يُوحَنَّا أَنَا قَطَعْتُ رَأْسَهُ. فَمَنْ هُوَ هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْهُ مِثْلَ هذَا؟» وَكَانَ يَطْلُبُ أَنْ يَرَاهُ. (عدد 7-9).

هذا الفصل مذكور في (مَتَّىَ إصحاح 14) مع قرائنهِ التاريخيَّة وبعض تفاصيل من شأنها أن تُبرهن سوء حالة إسرائيل مع حُكامهم وأما لوقا فإنما يذكر اضطراب الأفكار الحاصلة للجميع من نشر الخبر عن المسيح فذهبوا كل واحد إلى رأيهِ الخاص وأما هيرودس فمن قلق ضميرهِ ارتاب في هل المسيح هو يوحنا المعمدان قد قام من الأموات أم لا؟ قيل في مَتَّىَ أنهُ جزم بهذا الرأي وأما هنا فلا يذكر إلاَّ اضطراب أفكارهِ مثل الآخرين وأنهُ كان يطلب أن يرى المسيح.

10 وَلَمَّا رَجَعَ الرُّسُلُ أَخْبَرُوهُ بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صَيْدَا. 11 فَالْجُمُوعُ إِذْ عَلِمُوا تَبِعُوهُ، فَقَبِلَهُمْ وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ اللهِ، وَالْمُحْتَاجُونَ إِلَى الشِّفَاءِ شَفَاهُمْ. 12 فَابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاثْنَا عَشَرَ وَقَالُوا لَهُ: «اصْرِفِ الْجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلَى الْقُرَى وَالضِّيَاعِ حَوَالَيْنَا فَيَبِيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لأَنَّنَا ههُنَا فِي مَوْضِعٍ خَلاَءٍ». 13 فَقَالَ لَهُمْ:«أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا:«لَيْسَ عِنْدَنَا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ نَذْهَبَ وَنَبْتَاعَ طَعَامًا لِهذَا الشَّعْبِ كُلِّهِ». 14 لأَنَّهُمْ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُل. فَقَالَ لِتَلاَمِيذِهِ:«أَتْكِئُوهُمْ فِرَقًا خَمْسِينَ خَمْسِينَ». 15 فَفَعَلُوا هكَذَا، وَأَتْكَأُوا الْجَمِيعَ. 16 فَأَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَهُنَّ، ثُمَّ كَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلْجَمْعِ. 17 فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً. (عدد 10-17).

راجع (مَتَّىَ 14:14-21) والشرح عليهِ فإن الحادثة واحدة إلاَّ أن لوقا يقرنها مع لطف المسيح للجموع الذين تبعوهُ وهو مُنفرد مع تلاميذهِ فإنهُ قَبَلَهم وكلمهم عن ملكوت الله. فنراهُ هنا ككارز بالكلمة عدا عن كونهِ راعي إسرائيل الحنون الذي تحنن على الرعية المسكينة الجائعة وأطعمها خُبزًا في البرية. ثُمَّ بعد هذه الحادثة لا نرى ذكرًا للنوء والمشي على الماء كما رأينا في مَتَّىَ
لأن أعظم الأهميَّة هنا لمجد شخصهِ والالتصاق بهِ بواسطة كلمتهِ كما يتضح من الفصل القادم.

18 وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى انْفِرَادٍ كَانَ التَّلاَمِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ قِائِلاً:«مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟» 19 فَأَجَابُوا وَقَالوا:«يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ». 20 فَقَالَ لَهُمْ:«وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ:«مَسِيحُ اللهِ!». 21 فَانْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لاَ يَقُولُوا ذلِكَ لأَحَدٍ، 22 قَائِلاً:«إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ». (عدد 18-22).

لوقا وحدهُ يذكر أنهُ كان يُصلي في هذا الوقت. ثُمَّ سأل التلاميذ ما هو رأي الناس عنهُ؟ فاتضح من جوابهم أنهُ لم يوجد في الجمهور أيمان بشخصهِ الذي يتوقف عليهِ كل شيء لأنهُ إن كان هو ليس سوى نبي عندهم فلا ينفعهم خلاص الله الذي كان الجميع يحتاجون إليهِ. دعنا نفرض أن إيليا قد رجع أو يوحنا المعمدان قد قام أو أحد الأنبياء القدماء فلا يقدر أن يعمل أكثر مما عمل قبل فينال الإهانة والرفض والقتل من يد إسرائيل المُتصفين بصلابة الرقاب وقساوة القلب. فإذًا إسرائيل على وجه الإجمال عميان كسمعان الفريسي الذي لم يعرف إلههُ حين حضر كضيف في بيتهِ. فقال لهم: وأنتم مَنْ تقولون أنِّي أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح الله! لا يخفى أن لوقا لا يذكر إلاَّ جزءًا واحدًا من جواب بطرس لهذا السؤال العظيم أي أن يسوع هو مسيح الله وإن مَتَّىَ يضيف إلى ذلك ابن الله الحي فإنهُ مُزمع أن يدرج إعلانات المسيح العظيمة من جهة العمل الذي كان قاصدًا أن يُجريهُ بعد موتهِ وتبرهنهِ ابن الله بالقيامة من الأموات إذ يبني كنيستهُ على صخرة شخصهِ كما ورد في ذلك الإنجيل (إصحاح 13:16) الخ (إصحاح 17؛ إصحاح 18) أيضًا. وأما لوقا فإنما يدرج ما يتعلق بهِ كمسيح الله المرسل إلى إسرائيل فلما لم يحصل على القبول منهم بالإيمان فلا بد أن رفضهُ يتم رسميًّا من رؤسائهم عن قريب ويُقتل وفي اليوم الثالث يقوم. ولكنهُ لا يذكر هنا بناء الكنيسة عليهِ بحالة القيامة بل وجوب حمل الصليب على مَنْ يتبعهُ ويخلّص نفسهُ كما يتضح من الفصل القادم.

23 وَقَالَ لِلْجَمِيعِ:«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي. 24 فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي فَهذَا يُخَلِّصُهَا. 25 لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ 26 لأَنَّ مَنِ اسْتَحَى بِي وَبِكَلاَمِي، فَبِهذَا يَسْتَحِي ابْنُ الإِنْسَانِ مَتَى جَاءَ بِمَجْدِهِ وَمَجْدِ الآبِ وَالْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ. 27 حَقًّا أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لاَ يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوْا مَلَكُوتَ اللهِ». (عدد 23-27).

سبق وأوصى التلاميذ بأن لا يقولوا لأحد أنهُ مسيح الله لأن الوقت لتقديم هذه الشهادة لإسرائيل قد مضى ولكنهُ عاد في هذا الفصل وخاطب الجميع يعني جميع تلاميذهِ بالاسم عدا الاثنى عشر انظر (مَتَّى 24:16؛ مرقس 34:8) فإن كلامهُ هذا تنبيه ضروري لهم ولغيرهم أيضًا من الذين يقرون بنسبتهم للمسيح كمُعلّمهم وربّهم. إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسهُ ويحمل صليبهُ كل يوم ويتبعني. إنكار النفس عبارة عن ترك الارتفاع في هذا العالم الرافض ابن الله. الجميع بحسب الطبيعة يحبون الكرامة والصوالح الذاتية مثل آدم لما ترك الله طالبًا الارتفاع وتدبير الأشياء التي استحسنها. للإنسان الساقط إرادة عاصية يستمرُّ يفعل بها إلى أن يدعوهُ المسيح فحينئذٍ يلتزم أن يتركها قائلاً مع شاول الطرسوسي يارب ماذا تُريد أن أفعل؟ والصليب اليومي عبارة عن الأمور الحادثة لنا يوميًّا مضادّة لطبيعتنا ومؤلمة لقلوبنا أيضًا ونراها مرَّة لأن الله يُرتبها قاصدًا أمانتنا روحيًا ولا بد منها إن كنا في طريق المسيح. تلاميذ عاصون غير مُذلَّلين لا ينفعون لشيء. مَنْ أراد أن يخلّص نفسهُ يُهلكها. أي مَنْ أراد أن يُخلّص ذاتهُ من عار العالم الناتج من خضوعهِ للمسيح حقيقةً فلا بد أن يهلك إلى الأبد لأن العالم والمسيح ضدّان. ومَنْ يهلك نفسهُ من أجلي يُخلّصها. إذا سلّمنا أنفسنا للمسيح يظهر للعالم ولنا أيضًا في الأول كأننا عملنا بغباوةٍ إذا بدلنا الصوالح الظاهرة بما لا يظهر ولكن بالحقيقة ربحنا النصيب الجيد والميراث المؤبَّد. لأنهُ ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلهُ وأهلك نفسهُ أو خسرها. كلما درسنا كلمة الله يتضح لنا أكثر أنهُ من المستحيل أن نمتلك العالم والمسيح سويةً. كثيرون يجرون ذلك وقد جربوهُ ولم يجدوا سوى خسارة نفوسهم وندموا حيث الندامة لا تنفع. لا يظن القارئ أن هذا من النوادر بين النصارى المنتسبين إلى المسيح كتلاميذ. لأن من استحى بي وبكلامي. كانت التجربة الكبيرة في الأول من جهة الاعتراف بالمسيح ذاتهِ وقد عثر فيهِ من جهة كلامهِ هل نخضع لهُ أم لا. لا ينفعنا أن نقول لهُ يارب يارب بدون ما نطلب أن نكرمهُ بالطاعة كسيدنا. فبهذا يستحي ابن الإنسان مَتَّى جاء بمجدهِ ومجد الآب والملائكة القديسين. الاستحاءُ بكلام المسيح بعد الاقتناع في القلب أنهُ الحقُّ الواجب الخضوع لهُ موجود في ربوات من المسيحيين الآن لأن الله لم ينشر نسخ كلمتهِ بكثرةٍ في هذه الأيَّام بدون سبب. كلامهُ نور وقد شعر كثيرون بهِ، ولكنهم يستعفون من السلوك فيهِ. وأن قيل ربما هم أولاد الله حقيقة، ولكن من الضعف يترددون. أقول التردُّد لا بدَّ أن يظهر بعض الأوقات، ولكن الله عامل الآن لكي يظهر أولادهُ ويهيئهم للقاء العريس والتعرُّج بين جنبين لا ينفعنا شيئًا ولا يبرهن وجود زيت النعمة فينا. وعلى كل حال الرَّبِّ لا ينسخ قولهُ بأنهُ يستحي بمن استحى بهِ أو بكلامهِ قيل هنا. متى جاء بمجدهِ… إلخ. وقابل هذا مع (مَتَّى 27:16) حيث قيل أنهُ يأتي بمجد أبيهِ وملائكتهِ ليجازي كل إنسان حسب عملهِ. وفي (مرقس 38:8) أنهُ يأتي بمجد أبيهِ… إلخ. فبعد مقابلة العبارات معًا نرى أن المقصد الخصوصي في لوقا أن يوضح مجد المسيح الخاص الشخصي أكثر من الآخرين فأنهُ يذكر مجدهُ صريحًا ولا يُخفى أن اختلافات كهذا ولو كانت صغيرة لم تحصل بصدفةٍ لأن أصحاب الوحي كتبوا مسوقين من الروح القدس. حقًا أقول لكم أن من القيام ههنا قومًا لا يذقون الموت حتى يروا ملكوت الله. كان كلامهُ في العدد السابق عن مجيئهِ حقيقةً وأما هنا فنذكر حقيقة أخرى استثنائية أعني التجلي الذي كان بعض تلاميذهِ مزمعين أن يعاينوهُ قبل الموت. وقد قيل في (مَتَّى 28:16) أنهم يرون ملكوت الله قد أتى بقوةٍ وأما في لوقا فيرون ملكوت الله. فالمقصد في مَتَّى إظهار مجدهِ الرسمي باعتبار وكالتهِ من الآب ليرجع ثانيةً ليدين، ويجازي كل واحد حسب عملهِ. والتجلي نفسهُ هو العربون لذلك. وهذا يوافق إنجيل مَتَّى بحيث أنهُ نظامي والرسول بطرس أيضًا يشير إليهِ (بطرس الثانية 15:1) كعربون للملكوت العتيد. في مرقس، الأهمية للقوة التي ظهرت في التجلي، وأما في لوقا فنرى التعظيم لمجد شخصهِ أكثر كما سبقت وقلت. فأنهُ لا بدَّ أن يرجع أيضًا إلى هذا العالم موضع إهانتهِ ورفضهِ ويظهر بمجدهِ الخاص علاوة على أمجادهِ الرسمية المُعطاة لهُ من الآب. فلذلك التجلي في هذا الإنجيل عبارة عن ملكوت الله أي حضور الله بقوتهِ لأجراء مقاصدهِ، وسنرى عند مُطالعتنا حادثة التجلي بتفصيل، أن لوقا يوضحها أكثر من غيرهِ؛ إذ يذكر أشياء ليست مذكورة إلاَّ هنا وبالاختصار أقول أنهُ لا يصفهُ بالمناسبة للملكوت المستقبل فقط، بل باعتبار مجد بيت الآب أيضًا كقول الرَّبُّ: في بيت أبي منازل كثيرة، وأنهُ يأتي أيضًا، ويأخذ تلاميذهُ إلى حيث هو وطلب ذلك لأجلهم في (يوحنا 22:17، 24).

28 وَبَعْدَ هذَا الْكَلاَمِ بِنَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ، أَخَذَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا وَيَعْقُوبَ وَصَعِدَ إِلَى جَبَل لِيُصَلِّيَ. 29 وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي صَارَتْ هَيْئَةُ وَجْهِهِ مُتَغَيِّرَةً، وَلِبَاسُهُ مُبْيَضًّا لاَمِعًا. 30 وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ، وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا، 31 اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ، وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ. (عدد 28-31).

لوقا حسب عادتهِ يذكر صلاة الرب بل أنهُ صعد إلى جبل ليصلي. فنرى هنا الظروف التي كان المسيح فيها وقت التجلي فأنهُ صعد إلى جبل لكي يُصلي كإنسان محتاج إلى أن يستمد من السماء كل شيء.

لاحظ أنهُ ليس مذكورًا أنهُ طلب ذلك من الآب. موسى قال لله مرة . أرني مجدك. وكان الجواب له: هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة. ويكون متى أجتاز مجدي أني أضعك في نقرةٍ من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي. وأما وجهي فلا يُرى (خروج 18:33-23). ثمَّ نرى في سفر الرؤيا أن يوحنا أُخذ بالروح إلى جبل عظيم عالٍ لكي ينظر المدينة أورشليم المقدسة نازلةً من السماء من عند الله. وأما يسوع فأخذ ثلاثة من تلاميذهِ فصعد إلى الجبل ليصلي ولا نرى شيئًا من العلامات التي من شأنها أن تهيئ إنسانًا ضعيفًا لرؤية مجد الله، ولا نرى فيهِ ذاتهِ شيئًا استعداديًّا كما قيل عن يوحنا مثلاً أن الملاك ذهب بهِ بالروح وموسى أن الله وضعهُ في نقرة الصخرة إلى خلاف ذلك مما كان معتادًا أن يظهر في الذين اقتربوا إلى المجد البهي وهذا مما يدلُّ على مجد ذاتهِ لأنهُ كان معتادًا على المجد منذ الأزل. وفيما هو يصلي صارت هيئة وجههِ متغيّرة. لا يقال: أن المجد أنحدر عليهِ من فوق أو أنهُ نظرهُ من بعيد كشيء خارج عنهُ كما عمل الأنبياء فأن المجد الإلهي صدر من ذات شخصهِ وتلأَلأَ حولهُ وهو مصدرهُ ومركزهُ. كان هو بهاء مجد الله ورسم جوهرهِ (عبرانيين 3:1) والابن الوحيد الذي هو في حضن الآب، وابن الإنسان الذي هو في السماء (يوحنا 18:1؛ 13:3). فلم يكن أقلَّ مجدًا بذاتهِ مما كان حين كوَّن العالمين فلم يقتضِ الأمر بأنهُ يستعدَّ لرؤيتهِ كمنظر عجيب فوق طاقتهِ ولا نرى أنهُ فاجأَهُ كإشعياء حين ظهر لهُ فصرخ ويلٌ لي أني هلكت لأن عينيَّ قد رأتا ربَّ الجنود (إشعياء 5:6)، ودانيال أيضًا إذ انقلبت عليهِ أوجاعهُ، ولم يضبط قوةً بسبب الرؤيا (دانيال 15:10-17). نعم، أيُّها القارئ العزيز، نرى اختلافًا عظيمًا جدًا بين سيدنا وربنا وبين غيرهِ من بني البشر مهما كان الله قد أنعم عليهم من كنوز جودتهِ بحيث أن المجد الأسنى كان حالاً فيهِ لا بل كان هو إياهُ بعينهِ مع أنهُ كان معتادًا أن يحجبهُ، ولكنهُ لمع فيهِ ومنهُ برونقهِ الخاص السماوي إلى برهةٍ من الزمان وهو على الجبل المقدس، وفعل في هيئة وجههِ التي تغيَّرت. كان يظهر بين الناس كرجل أوجاع ومُختبر الحزن وكان منظرهُ كذا مُفسدًا أكثر من بني آدم (إشعياء 3:53؛ 14:52). يتضح أن الرَّبَّ من جهة منظرهِ كان دائمًا مؤقرًا مهيبًا وبعض الأوقات ظهر مُتضايقًا ومحصورًا لأنهُ حمل أحزان شعبهِ وتحمَّل أوجاعهم (إشعياء 4:53). لم يظهر منهُ قط شيءٌ من خفَّة العمل والكلام التي كثيرًا ما تظهر فينا كثمر حماقة القلب التي قد اتصفنا بها. لأننا جميعًا وُلدنا في حالة البعد عن الله فيعسر علينا حتى بعد ولادتنا ثانيةً أن نحافظ على الهيبة والوقار المقدس الذي يليق بمحضر الله وقرابتنا إليهِ. وأما يسوع فكان  دائمًا أمام الله ولم يختلج في قلبهِ فكر ولا صدر منهُ فعل أو كلمة إلاَّ مما يوافق نسبتهُ وقرابتهُ للآب. ابن الإنسان الذي هو في السماء. لم يزل هذا المقام مقامهُ طول مدة سكناهُ على الأرض. لم تكن السماءُ عندهُ كموطن جديد أو غريب فأنها كانت بيتهُ وهو جائل في الأرض بلا سند لرأسهِ. نعلم أنهُ حجب مجدهُ الشخصي اعتبارًا لضعف الإنسان الساقط الذي ابتعد عن الله بالطبيعة والسلوك إلى هذا المقدار حتى أن مجد الله أصبح أعظم رعب وأشدَّ عذاب لهُ. فأن الذي كان حاملاً كل الأشياء بكلمة قدرتهِ وُجد على الهيئة كإنسان لكي يجتذب جبلة يديهِ الساقطة بنغمات النعمة ويعلّمها أن خالقها هو المحبة بعينها. وقد رأينا أن سبيلهُ في الخدمة الجهارية قد تعسَّر عليهِ يومًا فيومًا وجلب عليهِ أحزانًا متزايدة، ولكن هيئة وجههِ تغيَّرت قليلاً على الجبل وأُبدلت لوائح الحزن بما يوافق المجد الداخلي والخارجي. تلك كانت ساعة عجيبة استثنائية في حياتهِ المتصفة بالحزن وهذه هي الهيئة نفسها التي يحملها الآن، وسيحملها إلى الأبد. ولباسهُ مبيضًا لامعًا. الله نفسهُ ألبس آدم الساقط وطردهُ من جنة عدن إلى الخارج حيث ينبت الشوك والحسك. ولكن يسوع آدم الأخير -الإنسان الثاني- فلم يحكم عليهِ بالابتعاد عن الله، والإقامة خارج عدن غير أنهُ أتخذ هذا المقام باختيارهِ وكان من نسل داود ومع ذلك لم يوجد في بيوت الملوك بين الذين يلبسون الثياب الناعمة فكان لباسهُ يدلُّ على المقام الوضيع الذي أتخذهُ، ولكن ذلك تغيَّر أيضًا مثل هيئة وجههِ وكأنهُ أُبتلع وقتيًّا بالمجد السماوي المُتلأَلأَ من شخصهِ الجليل. وإذا رجلان يتكلمان معهُ وهما موسى وإيليا. مَتَّى ومرقس يذكرانهما بأسمائهما بدون لفظة رجلان التي يذكرها لوقا أولاً لأجل مقصدهِ الخاص ثمَّ بعد ذلك يخبرنا من هما لأنهُ يريد أن يفيدنا أنهُ يمكن للناس أن يشتركوا في المجد. اللذان ظهرا بمجدٍ وتكلما عن خروجهِ الذي كان عتيدًا أن يكملهُ في أورشليم. كان الأنبياء جميعًا قد تكلموا ن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (بطرس الأولى 11:1) ولم يزل موتهُ أول موضوع في أفكار أهل السماء. كان الملائكة وقت ولادتهِ قد سبحوا الله ذاكرين المجد العتيد أن يحصل لهُ في الأعالي والسلام للأرض والمسَّرة بالناس ولكنهم لم يذكروا موتهُ مع أنهُ أساس كل بركة، وأما موسى وإيليا فيتكلمان عنهُ كموضوع معروف جيدًا عندهما مع أن الناس على الأرض أهملوا الآلام وافتكروا في الأمجاد وبالحقيقة لم يتصوروا شيئًا أعظم من المجد العالمي مثل ما كان لسليمان الملك. فكان مزمعًا أن يصعد إلى أورشليم بعد قليل، ولكن عوض اكليل الملك، ينال اكليل الشوك والإهانة بدل الكرامة.

32 وَأَمَّا بُطْرُسُ وَاللَّذَانِ مَعَهُ فَكَانُوا قَدْ تَثَقَّلُوا بِالنَّوْمِ. فَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا رَأَوْا مَجْدَهُ، وَالرَّجُلَيْنِ الْوَاقِفَيْنِ مَعَهُ. 33 وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ: «يَامُعَلِّمُ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةً، وَلِمُوسَى وَاحِدَةً، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةً». وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَقُولُ. (عدد 32، 33).

حضور المجد يفعل فعلاً قويًّا في الناس في الجسد بحيث أنهُ لا يناسب حالتهم الحاضرة، انظر دانيال مثلاً (دانيال 18:8؛ 9:10) وشهادات أخرى. أضأت الأمجاد السماوية حول التلاميذ فتثقلَّوا بالنوم، ولكن لا عجب من ذلك لأن مَن يستطيع احتمال منظرها الآن. غير أن قلوبهم لم تزل متأثرة منها كقول الحبيبة: أنا نائمة وقلبي مستيقظ (نشيد الأنشاد 2:5). فلمَّا استيقظوا رأوا مجدهُ. لاحظ أن هذا مجدهُ الخاص الشخصي كما قال عنهُ بطرس الرسول. بل قد كنا معاينين عظمتهُ (بطرس الثانية 17:1). لا نعرف كم طال عليهم زمان النوم، ولكنهم بعد التيقُّظ عاينوا المجد لامعًا في سيدهم وكان الرجلان قد فارقاهُ وشعر بطرس أنهُ جيدٌ لهم أن يكونوا هناك لأن المؤمن مهما تثقل بالنوم يشعر بنسبتهِ للرَّبِّ لكونهِ مولودًا من الله، ومدعوَّا للمجد كنصيبهِ كقول داود. أما أنا فبالبرّ انظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشهبك (مزمور 15:7) لأن برَّ الله الذي لهُ بالإيمان بالمسيح قد نزع العداوة من باطن قلبهِ فبدل ما يرى المجد عدوًا لهُ يتغير روحيًّا بمشاهدتهِ الآن راجيًا أن يدخلهُ فيما بعد (كورنثوس الثانية 18:3). غير أنهُ ينبغي أن نعاينهُ في المسيح أولاً. فحالة التلاميذ الثلاثة في تلك الساعة تشبه حالتنا الآن على أن لنا نورًا أزيد مما كان لهم وقتئذٍ. لأننا نرى أن بطرس من ارتباك أفكارهِ عرض على الرَّبِّ أن يصنعوا ثلاث مظال لهُ ولموسى ولإيليا سويةً لكي يقيموا على حالتهم.

34 وَفِيمَا هُوَ يَقُولُ ذلِكَ كَانَتْ سَحَابَةٌ فَظَلَّلَتْهُمْ. فَخَافُوا عِنْدَمَا دَخَلُوا فِي السَّحَابَةِ. 35 وَصَارَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً:«هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا». 36 وَلَمَّا كَانَ الصَّوْتُ وُجِدَ يَسُوعُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا هُمْ فَسَكَتُوا وَلَمْ يُخْبِرُوا أَحَدًا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْصَرُوهُ. (عدد 34-36).

هذه الرؤيا وحدها. لا يُخفى أن السحابة كانت معتادة أن تظهر لإسرائيل، وكانت مقترنة مع مجد الله وقت ظهوراتهِ لمقاصدهِ المتنوعة. قيل في مَتَّى أنها كانت نيرة. فالسحابة التي ظلَّلتهم عبارة عن مجد الله الأسنى، وهي جواب الله على القول بصنع ثلاث مظال. فخافوا عندما دخلوا في السحابة. يعني أن التلاميذ الثلاثة خافوا عندما دخل أولئك الثلاثة في السحابة. كانت قد ظلَّلتهم جميعًا في الأول ثمَّ يسوع وموسى وإيليَّا دخلوا فيها. وفي هذا بعض حقائق عظيمة جدًّا لتعليمنا وتعزيتنا.

أولاً- السحابة عبارة عن المجد الإلهي الأزلي الذي لا يستقصى كما قد قلنا. هذا مصدر كل شيء. ويقال لهُ أيضًا ملكوت الآب وبيت الآب لأنهُ مصدر الحكم والسلطان ومقام المسيح والقديسين المُمجدين، ولكنهُ موجود قبل تمجيدهم ودخولهم فيهِ. خلاف الملكوت مدَّة الألف السنة الذي ليس موجودًا الآن كما لا يُخفى.

ثانيًا- يسوع وموسى وإيليا دخلوا في السحابة ودخولهم فيها مثل رمزًا وعربون لدخول جميع القديسين في ملكوت الآب وبيتهِ في الوقت المعيَّن. حينئذٍ يضئ الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم (مَتَّى 43:13). وأقول لكم أني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربهُ جديدًا في ملكوت أبي (مَتَّى 29:26). في بيت أبي منازل كثيرة. أنا أمضي لأُعدَّ لكم مكانًا. وأن مضيت وأعددت لكم مكانًا آتي أيضًا، وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضًا (يوحنا 2:14، 3). البيت موجود ولكن ليس لنا مكان فيهِ أن لم يُمت المسيح ويقُم أيضًا. وكما دخل يسوع مع الرجلين إلى سحابة المجد هكذا لابدَّ أن يدخل بي الآب وملكوت الآب، ويأخذنا معهُ قبل أقامتهِ ملكوتهُ الخاص مدة الألف السنة. لا شك بأن ملكوتهُ يكون مجيدًا في وقتهِ ونحن سنشترك معهُ فيهِ، ولكنهُ ينتهي ويسلَّم لله الآب. وأما ملكوت الآب وبيت الآب الذي لنا النصيب الخاص فيهِ، فهو منذ الأزل إلى الأبد لأنهُ ليس من التدابير والنظامات المتعلقة بمعاملات الله مع الناس الأحياء على هذه الأرض. ليس لهُ كما لغيرهِ بداءة ونهاية لأنهُ مركز الثالوث الأقدس الآب الابن والروح القدس، وقد خرج الابن من هناك باعتبار التجسُّد ثمَّ بعد موتهِ وقيامتهِ رجع إليهِ كإنسان مُمجَّد ولكنهُ آتٍ في الوقت المعيَّن ليأخذهم إليهِ.

ثالثًا- حالة التلاميذ الثلاثة كقديسين في الجسد بعد تشبه حالة البقية الإسرائيلية في الأرض وقت الملكوت العتيد أن يُقام مدة الألف السنة فأن العائلة السماوية تُنقل إلى بيت الآب بل يملكون مع المسيح كالوارثين معهُ فيكونون في سحابة المجد عينها بينما يكون المُخلَّصون من إسرائيل والأمم على الأرض رعية للملكوت. فالمجد الذي نكون فيهِ بدون خوف يحلّ فوقهم ويظلَّلهم ويكون هيبة واعتبار لهُ كمصدر السلطان عليهم مع أنهم يشعرون بأنهُ جيد لهم أن يكونوا تحت ظلّهِ وسلطتهِ (انظر إشعياء 5:4، 6؛ 18:66؛ حزقيال 27:37، 28؛ رؤيا 15:7-17؛ 23:21-27).

وصار صوت من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب. قد رأينا وقت معمودية يسوع أنهُ صار صوت من السماوات المفتوحة يشهد لنسبتهِ إلى الآب ومسرَّة الآب بهِ وأما هنا فالصوت خرج من سحابة المجد نفسها التي عبارة عن مركز الثالوث الأقدس، والرسول بطرس يذكر أن هذا الصوت كان كرامة ومجدًا للمسيح من الله الآب. لأنهُ أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليهِ صوت كهذا من المجد الأسنى هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت بهِ (بطرس الثانية 17:1). فيقول صريحًا أن الصوت أتى من المجد الأسنى وهذا يبرهن أن السحابة المذكورة في الثلاث البشائر هي عبارة عن ذلك المجد فلذلك ينسب الأهميَّة العظمى للشهادة المقدَّمة للمسيح من نفس مصدر الأمجاد. لهُ اسمعوا، هذا جواب الآب على ما كان في نية بطرس واللذين معهُ إذ عظَّموا موسى وإيليا جدًّا وظنُّوا أنهُ من الأمور اللائقة أن يساووهم معًا كمعلّمي إسرائيل الكبار ولكن الآب بادر إلى الدفاع عن مجد ابنهِ وصرَّح بأنهُ هو المُعلَّم العظيم الذي يجب أن نسمع لهُ. لكي يكون هو مُتقدَّمًا في كل شيء (كولوسي 18:1). ولمَّا كان الصوت وُجد يسوع وحدهُ. قد تنازل الله من لطفهِ أن يشارك أُناسًا من البشر مع ابنهِ في التمتُّع بالأمجاد غير المُتناهية، ولكن ليس لهم أقلُّ فضل في ذواتهم لأن ذلك كلهُ يعطي لهم إكرامًا لدم المسيح، وأن سُمع من فم أحدٍ أصغر كلمة مما يضع شأن المسيح، ويعظم البشر فحالاً يتوارى القديسون عن النظر ولا يبقى إلاَّ يسوع وحدهُ. وأما هم فسكتوا… إلخ. يُقال في مَتَّى أن الرَّبَّ أوصاهم بكتام ما نظروا وسمعوا حتى بعد قيامتهِ من الأموات.

37 وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي إِذْ نَزَلُوا مِنَ الْجَبَلِ، اسْتَقْبَلَهُ جَمْعٌ كَثِيرٌ. 38 وَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الْجَمْعِ صَرَخَ قِائِلاً:«يَا مُعَلِّمُ، أَطْلُبُ إِلَيْكَ. اُنْظُرْ إِلَى ابْنِي، فَإِنَّهُ وَحِيدٌ لِي. 39 وَهَا رُوحٌ يَأْخُذُهُ فَيَصْرُخُ بَغْتَةً، فَيَصْرَعُهُ مُزْبِدًا، وَبِالْجَهْدِ يُفَارِقُهُ مُرَضِّضًا إِيَّاهُ. 40 وَطَلَبْتُ مِنْ تَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 41 فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ:«أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ وَأَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمِ ابْنَكَ إِلَى هُنَا!». 42 وَبَيْنَمَا هُوَ آتٍ مَزَّقَهُ الشَّيْطَانُ وَصَرَعَهُ، فَانْتَهَرَ يَسُوعُ الرُّوحَ النَّجِسَ، وَشَفَى الصَّبِيَّ وَسَلَّمَهُ إِلَى أَبِيهِ. 43 فَبُهِتَ الْجَمِيعُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ. (عدد 37-43).

راجع هذا الفصل والشرح عليه في (مَتَّى 14:17-18) غير أن مَتَّى يُضيف إليهِ سؤال التلاميذ من الرَّبِّ  على انفراد، لماذا لم يقدروا هم على إخراج هذا الروح الشرير، ولكن المقصد واحد بإدراج هذه الحادثة حالاً بعد التجلي وهو إظهار حالة إسرائيل كجيل غير مؤمن وملتوٍ لأن مسيحهم كان حاضرًا في وسطهم بكل قوة وسلطان لإنقاذهم من أعدائهم أخصّهم الشيطان، ولم يكن فيهم إيمان بهِ لينالوا منهُ الخلاص. فلذلك كان الله مزمعًا عن قريب أن ينهي نظامهم القديم المؤسَّس على شريعة موسى، ويبدي نظامًا آخر يؤسَّس على ذات ابن الله المُقام من الأموات. طالما كان الشيطان استولى عليهم كما على ذلك الولد المسكين، ولم يكن لهم نفع إلاَّ من يد المسيح ولكنهم رفضوهُ وقد أشار إلى مفارقتهِ إياهم بقولهِ. إلى مَتَّى أكون معكم واحتملكم؟ ولكن صبرهُ لم يكن قد أُفرغ بعد أن وبخهم جميعًا على عدم إيمانهم اخرج الرُّوح النجس، وشفى الصبي وسلَّمهُ إلى أبيهِ. كثيرًا ما نتعجب من تاريخ إسرائيل وعدم إيمانهم بجودة الله،وكلمتهِ فأنهم من وقت خروجهم من مصر لم يزالوا يجربونهُ بحيدانهم عنهُ وعدم الإيمان بهِ. كما قال عنهم موسى أنهم جيلٌ مُتقلب، أولاد لا أمانة فيهم (تثنية 20:32). ولكن الكنيسة المسيحية قد سلكت مسلكهم تمامًا فلا بدَّ أن مدتها تنتهي بالدينونة كما انتهت مدة إسرائيل. فبهت الجميع من عظمة الله. وهذا نفسهُ يبرهن حالة قلوبهم إذ بهتوا من إظهار قوة المسيح كأنهم لم يكونوا منتظرين أنهُ يقوى على الشيطان. مَن فيه إيمان ليس مثلهُ في إسرائيل، وأيضًا المرأة الخاطية التي أتت إليهِ بخطاياها الكثيرة، ولم تتعجب من نوال غفرانها وأما الشعب المُتقلب فعاين أعمالهُ من يوم إلى يوم وبقيت قلوبهم غليظة وعديمة البصيرة.

وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: 44 «ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ». 45 وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا هذَا الْقَوْلَ، وَكَانَ مُخْفىً عَنْهُمْ لِكَيْ لاَ يَفْهَمُوهُ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ. (عدد 44، 45).

الرَّبُّ لم يلتفت إلى تعجُّب الشعب لأنهُ لا ينفع لشيء بحيث أن الذين يتعجبون من أفعالهِ اليوم يصرخون غدًا أصلبهُ أصلبهُ فبادر إلى تعليم التلاميذ من جهة رفضهِ الأمر البعيد عن أفكارهم إلى هذا المقدار حتى أنهم لم يقدروا أن يفهموا كلامهُ. كان مُخفىً عنهم، ولكن بسبب قلَّة إيمانهم وأفكارهم الغليظة وخافوا أن يسألوهُ أن: يفسر لهم الكلام الظاهر أنهُ مُبهم مع أنهُ كان على غاية الوضوح وهذا الخوف ينتج أيضًا من الأفكار الجسدية حيث لاح لهم شيءٌ خلاف انتصارهم وشعروا أنهُ يناقض اميالهم فخافوا منهُ ولم يطلبوا إيضاحهُ بالزيادة. وربما رأينا مثل ذلك في أنفسنا أوقاتًا كثيرة إذ ظهر لنا شيء من كلمة الله، وشعرنا بأنهُ حقٌ ولكن ضدّ خاطرنا بحيث أنهُ يلاشي آمالنا الجسدية، ويفصلنا عن العالم فلذلك تركناهُ على جانب بدون أن نبحث فيهِ أكثر، وربما امتلأنا غيظًا فيما بعد وقاومناهُ لأن الجسد لا يقبل ما يناقضهُ. راجع قرائن هذا الكلام في (مَتَّى 22:16، 23).

46 وَدَاخَلَهُمْ فِكْرٌ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ فِيهِمْ؟ 47 فَعَلِمَ يَسُوعُ فِكْرَ قَلْبِهِمْ، وَأَخَذَ وَلَدًا وَأَقَامَهُ عِنْدَهُ، 48 وَقَالَ لَهُمْ:«مَنْ قَبِلَ هذَا الْوَلَدَ بِاسْمِي يَقْبَلُنِي، وَمَنْ قَبِلَنِي يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي، لأَنَّ الأَصْغَرَ فِيكُمْ جَمِيعًا هُوَ يَكُونُ عَظِيمًا» (عدد 46-48).

فانكشف هنا حبُّ الذات والارتفاع الذي هو سبب خوفهم أن يطلبوا من الرَّبِّ إيضاح كلامهُ عن الموت. لأن الموت ينهي التسلُّط في العالم، وتفضيل الواحد على الآخر. فأن أعظم الملوك لا ينفع لشيء بعد موتهِ. هذا أشرُّ كل ما عُمل تحت الشمس أن حادثة واحدة للجميع وأيضًا قلب بني البشر ملآن من الشرّ والحماقة في قلبهم وهم أحياء وبعد ذلك يذهبون إلى الأموات. لأنهُ من يستثنى، لكل الأحياء يوجد رجاءٌ فأن الكلب الحي خيرٌ من الأسد الميت (جامعة 3:9، 4). لا يُخفى أن الجسد الفاسد يظهر على عدَّة أنواع كالتعجُّب الباطل عند سماع كلمة الله، ومشاهدة أعمالهِ والخوف مما يميتهُ والسكوت عن البحث في موضوع كهذا، أو الفكر بالتعظُّم الذاتي والتسلُّط على الآخرين. فعرف الرَّبُّ الفكر الجسدي في قلوب تلاميذهِ المحبوبين، وأتخذ الوسائط لأزالتهِ إذ أخذ ولدًا وأقامهُ عندهُ حتى يريهم أن من يكون الأقرب إليهِ ينبغي أن يتصف ببعض صفات الأولاد الصغار، لا سيما عدم افتكارهم في المجد العالمي. ثمَّ بقولهِ ومن قبلني يقبل الذي أرسلني يشير إلى أعظم شيء لهم ولنا أيضًا أعني قبولنا المسيح كالذي أرسله الآب، وهذا يؤول لخلاصنا المؤبّد واشتراكنا في أفراح بيت الآب وأمجادهِ حيث لا يوجد موضع للمنافسات والمخاصمات المُتصف بها البشر. لأن الأصغر فيكم جميعًا هو يكون عظيمًا. فالعظمة عند الله لا تقاس على أفكار الناس، ولا توافقًا لأن الله يطلب منا أن نتسابق في الاتضاع لا بالارتفاع. ولكن هذا ضد طبيعتهم تمامًا (انظر الرسالة إلى أهل فيلبي الإصحاح الثاني).

49 فَأجَابَ يُوحَنَّا وَقَالَ:«يَا مُعَلِّمُ، رَأَيْنَا وَاحِدًا يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ فَمَنَعْنَاهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ يَتْبَعُ مَعَنَا». 50 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا». (عدد 49، 50).

سبق الجميع واظهروا حبَّ الذات في طمعهم في الرياسة إذ كل واحد ظنَّ نفسهُ أكثر أهلاً للعظمة بالنسبة إلى رفقائهِ، وأما هنا فاظهروا الغيرة المذهبيَّة التي هي حبُّ الذات بعينهِ ولكن على هيئة أخرى أي هيئة اجتماعيَّة إذ ندَّعي لمذهبنا فضائل وامتيازات على غيرها. رأوا واحدًا يخرج الشياطين باسم المسيح ومنعوهُ ليس لأنهُ يعمل شيئًا محرَّمًا بل لأنهُ ليس يتبعهم. لم يكن الروح القدس قد حلَّ بعد ليجمع المؤمنين معًا، ويجعلهم يسلكون معًا في وحدانية الروح ورباط السلام، ولكن مع ذلك كان يجب أن يفرحوا بتعظيم اسم سيدهم الذي شاء الله أن يُجري بعض أعمال قوة إكرامًا لهُ عن يد واحد ليس محسوبًا من التلاميذ. فنهاهم الرَّبُّ عن منعهِ لأنهُ كان بالحقيقة معهُ إذ كان يستعمل اسمهُ ضدَّ خصمهِ إبليس.

51 وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 52 وَأَرْسَلَ أَمَامَ وَجْهِهِ رُسُلاً، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِرِيِّينَ حَتَّى يُعِدُّوا لَهُ. 53 فَلَمْ يَقْبَلُوهُ لأَنَّ وَجْهَهُ كَانَ مُتَّجِهًا نَحْوَ أُورُشَلِيمَ. 54 فَلَمَّا رَأَى ذلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالاَ:«يَارَبُّ، أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ، كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضًا؟» 55 فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ:«لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! 56 لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ». فَمَضَوْا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى. (عدد 51-56).

نرى هنا نهاية خدمة الرب الجهارية في نواحي الجليل ولهذا الفصل أهميَّة عظيمة جدًّا لأن الرب يبتدي من هنا بصعودهِ إلى أُورشليم المرة الأخيرة.حين تمَّت الأيام لارتفاعهِ يعني لارتفاعهِ إلى المجد الأسنى الذي كان قد دخل فيهِ مؤقتًا ساعة التجلي. كان موضوع الحديث بينهُ وبين موسى وإيليا خروجهُ من هذا العالم الذي دخلهُ بالنعمة ولم يجد قبولاً فيهِ فإذًا كان مزمعًا أن يخرج منهُ عند صعودهِ إلى أورشليم والوحي في هذا الفصل يذكر ارتفاعهُ إلى المجد بعد إهانة الصليب. ثبَّت وجههُ لينطلق إلى أورشليم. هذا يدل على شدة طاعتهِ لمشيئة الآب لما حان الوقت لذهابهِ إلى الموضع المُعيَّن لرفضهِ جهارًا ورسميًّا من إسرائيل. نعم المجد كان لهُ ولكنهُ لا يقدر أن يبلغ إليهِ كإنسان بدون أن يختبر غاية الإهانة ويجتاز الموت. ونرى شيئًا آخر هنا إذ الرب اتخذ لنفسهِ كرامة ملكية بإرسالهِ رُسلاً أمام وجههِ ليعدُّوا لهُ. فلم يلبث أن يحصل شيء من اعوجاج البشر من كل الجهات فإن السامريين من بُغضهم لليهود لم يُريدوا أن يقبلوهُ لأنهُ كان مُتجهًا نحو أورشليم. لو قصدهم خصوصًا لقبلوهُ وحسبوا حضورهُ شرفًا لهم ولكنهم أبوا أن يقبلوهُ كملِك إسرائيل يمرُّ في الطريق إلى أورشليم وإنما يبيت ليلةً عندهم. حقًّا أنهُ لم يجد شيئًا في محلهِ من أول حياتهِ إلى آخرها. ولكنهُ لم يزل يعمل بالنعمة. اغتاظ بعض التلاميذ من إهانة السامريين للسيد فإنهُ يتضح أن التلاميذ ميَّزوا التغيير الذي حصل في هيئة سفر الرب والمُحتمل أنهم ظنُّوا أن وقت إقامة الملكوت بالقوة وإجراء القضاء صار قريبًا فتحركت فيهم الغيرة الناموسيَّة وقال الاثنان المذكوران: يارب أتُريد أن نقول: أن تنزل نارٌ من السماء فتُنقيهم كما فعل إيليا أيضًا؟ كان إيليا قد أهلك بعض الإسرائيليين بالنار (انظر ملوك الثاني 10:1، 12) لأنهُ كان حينئذٍ الوقت لابتداء القضاء من بيت الله وكان إيليا مُتوظفًا لإجراء أعمال كهذا ولكنهُ لا يليق بابن الإنسان أن يأمر بإبادة بعض السامريين وهو ذاهب إلى أورشليم المُختارة المحبوبة ليعرض نفسهُ عليها كملكها ثم يُعلَّق على الخشبة وبعد ذلك يرتفع إلى المجد السماوي فالتفت وانتهرهما وقال: لستُما تعلمان من أي روح أنتما لأن ابن الإنسان لم يأتِ ليُهلِك الناس بل ليُخلِّص. كانا قد أظهرا أردأ نوع من الحبّ الذاتي إذ كان ملبَّسًا حسب الظاهر بغيرة حسنة للرب. وهذه من شأنها أن تخدع الناس إذ يضطهدون الذين لا يوافقون آرائهم الدينية بل يقتلونهم أيضًا ويظنون أنهم يُقدّمون خدمة لله. ولكن الانتقام للرب هو يُجازي مُقاوميهِ وقت الدينونة وأما الآن فالوقت المقبول ويوم الخلاص. فمضوا إلى قريةٍ أخرى. تصرَّف الرب كما يليق بالنعمة إذ قبل الإهانة بالاتضاع. ابتدأ بسفرهِ على هيئة توافقهُ كوارث كرسي المُلك ولكن أفكار الناس العالمية صدتهُ في الطريق إذ لم يشأُوا أن يُهيئوا طريقًا لمَلِكهم وإلههم إلاَّ بحسب استحسانهم فمضى إلى قرية أخرى ليبيت كغريب عابر السبيل وترك لنا قدوة حسنة بحيث أن الاغتصاب والانتقام ليسا لنا الآن بل إنما تمرُّ في طريقنا إلى المجد وإذا حصلت لنا الإهانة في قرية واحدة نعدل عنها ونمضي إلى أخرى. كانت الأرض وملؤها لهُ ولكنهُ لا ينزل كضيف عند الناس غصبًا عنهم ولا يأمر بقصاصهم إذا أهانوهُ.

57 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». 58 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ». 59 وَقَالَ لآخَرَ:«اتْبَعْنِي». فَقَالَ:«يَا سَيِّدُ، ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». 60 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ». 61 وَقَالَ آخَرُ أَيْضًا: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلكِنِ ائْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي». 62 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ». (عدد 57-62).

يذكر هنا ثلاثة أشخاص ومنهم اثنان مذكوران في (مَتَّى 21:8) في قينة أخرى والثالث لا يذكر إلاَّ هنا. والمرجح أن هذا الفصل ليس في محلهِ تاريخيًّا هنا فأن لوقا كعادتهِ يدرجهُ لمناسبتهِ إلى حالة المسيح الآن، ويستخرج منهُ الفوائد التي تلزمنا في كل حين. فالشخص الأول تبرَّع أن يتبع المسيح أينما يمضي. ولكنهُ لم يكن من الذين اختبروا ضعفهم ولا عرفوا حقيقة رفض السيد بعد. وكثيرًا ما أمثال هؤلاء يستعجلون لإتباع المسيح بدون ما يعملون حسابهم أنهُ ليس لهُ أين يسند رأسهُ في هذا العالم وأنهُ يكفي التلميذ أن يكون كمعلِّمهِ. يوجد مقر للثعالب والطيور وإن كانت قليلة النفع بل مضرّة ولكن خالق السماوات والأرض ألتزم أن يجول كغريب ونزيل يصنع خيرًا للجميع وينال الإهانة بدلاً. وأما الثاني فدعاهُ الرب أن يتبعهُ. قيل في مَتَّى أن هذا كان من جملة تلاميذهِ. فعند الدعوة من الرَّبِّ ابتدأ يشعر بالصعوبات خلاف الأول الذي لم يشعر بها لأن الرَّبَّ لم يدعهُ بعد فهذا طلب مهلةً أن يمكث في بيتهِ حتى بعد وفاة أبيهِ ثمَّ يدفنهُ، وبعد ذلك يتبع السيد. فقال لهُ الرَّبُّ: أن يترك دفن أبيهِ لأهل العالم ويذهب عاجلاً للمناداة بملكوت الله لأن الدعوة الصحيحة من الرَّبِّ لخدمتهِ في الكلمة تحرّرنا من بعض الواجبات الطبيعية كالمشار إليهِ هنا غير أن إكرام الوالدين واجب في محلهِ. ولا يجوز لنا أبدًا أن نهينهم. لا يُخفى أن الاعتناء باعيالنا يختلف عن ذلك نوعًا بحيث أننا ملزومون فيهم بحسب ترتيب الله فأن كان الرَّبُّ يدعونا دعوة خصوصية لخدمتهِ لا بدَّ أن يعطينا نعمة لكي نتكل عليهِ لأجل اعيالنا، وهو يساعدنا في ذلك، ولكن إجابةٌ لإيماننا. الثالث كان في حالة التردُّد مثل أليشع لمَّا مرَّ بهِ إيليَّا النبي، وطرح رداءهُ عليهِ فشعر حالاً ما هو المقصد بذلك لكنهُ أخذ يتردد قليلاً وطلب فرصة ليودع أباهُ وأُمهُ، وأما النبي فجرَّب إيمانهُ إذ قال لهُ. اذهب راجعًا لأني ماذا فعلت لك (انظر ملوك الأول 19:19-21). وهكذا جرب الرَّبُّ الرجل المذكور هنا بقولهِ. ليس أحد يضع يدهُ على المحراث، وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله. نعلم أن إيمان أليشع تقوّى عند الامتحان فأنهُ أخذ فدان بقر وذبحهما وسلقهما بأدوات البقر وعمل وليمة تقدمة سلامة للذين معهُ علامة تركهِ كل شيء حالاً، وبسرور ثمَّ قام وتبع النبي. وأما الشخص المذكور هنا فلا نعلم ماذا عمل. ويتضح أن الرَّبِّ دعاهُ للخدمة مع أن كلامهُ يصدق أيضًا كمبدأ لنا إذا دعانا للتوبة والإيمان كما سنرى في (إصحاح 14) لأن من فضَّل شيئًا على المسيح لا يستحقُّهُ. وأما التردُّد من جهة الخدمة فلا يجوز لنا إذا دعانا الرَّبُّ. فأنهُ ينبغي لنا أن نثق بجودتهِ ولطفهِ، ولا نخاف أنهُ مزمع أن يضرَّنا بشيء أو يميتنا بالجوع والعطش. فيجب أن نتقدم بسرور مثل أليشع حاسبين أن كل ما عندنا تقدمة للرَّبِّ، وأننا نحن أنفسنا عبيد لهُ. ثمَّ بعد ما نضع أيدينا على المحراث يعني بعد قبولنا دعوتهِ للخدمة لا يليق بنا أن ننظر إلى الوراء كأننا مستصعبين خدمة الرَّبِّ أو مشتاقين إلى ما تركناهُ لأن الحارث ينظر إلى ما هو قدامهُ كما نرى بولس الرسول، وهو يصف نفسهُ في (رسالتهِ إلى أهل فيلبي إصحاح الثالث). الالتفات إلى الوراء ليس ممدوحًا في كلمة الله لأنهُ يدلُّ على حالة قلوبنا بحيث أنها ليست مسرورة ومرتضية بطريق الرَّبِّ وخدمتهِ. لا ينسرُّ الرَّبُّ أن كنا نتبعهُ بأرجلنا فقط وقلوبنا ليست معهُ وعدا ذلك أقول أن الأرجل لا بدَّ أن تلحق القلب يومًا ما. فكل من كان قلبهُ وراء فلا بدَّ أن يرتدَّ إلى الوراء. معلوم أن هذا يصير وقد صار مع كثيرين. قال الرسول عن بعض الخدام الذين رافقوهُ بغيرة حسنة في الأول ثمَّ التفتوا إلى الوراء. إذ الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح (فيلبي 21:2). لا يُخفى أنهُ هو كان يشتغل بيديهِ ويمارس خدمتهُ فإذًا ليس المرام ترك شغل اليد الذي كنا مُمارسيهِ قبل، فلا بأس لأنهُ قادر أن يعولنا فقط، يطلب منا أن نثبت إلى النهاية بدون التردُّد الناتج من قلَّة الإيمان.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة