لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الثامن

1 وَعَلَى أَثَرِ ذلِكَ كَانَ يَسِيرُ فِي مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ يَكْرِزُ وَيُبَشِّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَمَعَهُ الاثْنَا عَشَرَ. 2 وَبَعْضُ النِّسَاءِ كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ: مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ، 3 وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ. (عدد 1-3).

استمر الرب في خدمتهِ لإسرائيل وكان يزور كل مدينة وقرية يُفتش على الخراف الضالة ويُنادي بملكوت الله. ونراهُ هنا مُتقدمًا في موكب نُصرتهِ إذ كان مصحوبًا بالاثنى عشر الذين سبق واختارهم اختيارًا خصوصيًا وببعض النساء المؤمنات أيضًا. فكان هؤلاء جميعهم قد اُجتذبوا إلى المسيح بكلمتهِ والتصقوا بهِ فصار هو مركزهم وقائدهم، وأما المقصد الخصوصي هنا فهو لإظهار بعض الأثمار النفيسة التي نتجت من خدمة الرب في النفوس التي أنقذها من يد العدو ونرى مُقابلة جميلة جدًا بين ما ظهر في هؤلاء المؤمنات اللواتي كُنَّ يتبعنَّ المسيح ويخدمنهُ من أموالهنَّ وبين المرأة الخاطئة المذكورة في آخر الإصحاح السابع فإن هذه أظهرت المحبة الكثيرة لأنها شعرت بأنها حصلت على الغفران والقبول عند المسيح ومعرفتها نعمتهُ فتحت مصادر قلبها وجعلت دموعها تتساقط، فلم يوجد فيها قلب أو عين لوليمة سمعان ولاحتقارهِ ليسوع. لأن محبة المسيح كانت قد إستأسرتها وأفرزتها عن كل شيء سواهُ فإنما أهمَّها أن تقترب إليهِ بالسجود والعبادة كما يليق بشخصهِ ثم أطلقها بسلام. وأما هؤلاء المؤمنات فأظهرنَّ محبتهنَّ بطريق أخرى جميلة في وقتها بحيث تبعنهُ بالخدمة التي لاقت بهُنَّ والتي كان هو يستحقُّها من الذين كانوا مديونين لهُ لأجل كل شيء. فكانت محبة الأولى ساكتة بالسجود وأما محبة هؤلاء فعاملة في الخدمة ويمكننَّا نحن أيضًا أن نُظهر محبتنا بالطريقين إذ ساعةً نسجد أمام قدميهِ بالبكاء وأخرى نتبعهُ في طريقهِ مُمارسين أنواع الخدمة المرضية لهُ.

4 فَلَمَّا اجْتَمَعَ جَمْعٌ كَثِيرٌ أَيْضًا مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ مَدِينَةٍ، قَالَ بِمَثَل: 5 «خَرَجَ الزَّارِعُ لِيَزْرَعَ زَرْعَهُ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَانْدَاسَ وَأَكَلَتْهُ طُيُورُ السَّمَاءِ. 6 وَسَقَطَ آخَرُ عَلَى الصَّخْرِ، فَلَمَّا نَبَتَ جَفَّ لأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ رُطُوبَةٌ. 7 وَسَقَطَ آخَرُ فِي وَسْطِ الشَّوْكِ، فَنَبَتَ مَعَهُ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. 8 وَسَقَطَ آخَرُ فِي الأَرْضِ الصَّالِحَةِ، فَلَمَّا نَبَتَ صَنَعَ ثَمَرًا مِئَةَ ضِعْفٍ». قَالَ هذَا وَنَادَى:«مَنْ لَهُ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ!». (عدد 4-8).

هذا هو المثل نفسهُ الموجود في (مَتَّىَ إصحاح 13). ومعناهُ واحد في الموضعين غير أنهُ يوجد اختلاف بينهما من جهة قرائنهِ بحيث أن مَتَّىَ يدرجهُ في الحوادث الدالة على رفض إسرائيل أي أن الله رافضه لرفضهم المسيح فمن الآن وصاعدًا لا يُصادق عليهم باعتبار نسبتهم الخارجية لهُ كأولاد إبراهيم بل إنما يعترف بالذين انتسبوا للمسيح بواسطة الكلمة فلذلك عاد وادرج ستة أمثال أخرى تُصدق على هيئات ملكوت السموات العتيد أن يتخذها بعد موت المسيح. وأما لوقا فإنما يدرجهُ ليُظهر نتائج سماع كلمة الله فقط ولا يقرنهُ مع الحقائق المُختصّة بنظامات الله وتدابيرهِ في العالم.

9 فَسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ:«مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا الْمَثَلُ؟». 10 فَقَالَ:«لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ اللهِ، وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَال، حَتَّى إِنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَفْهَمُونَ. 11 وَهذَا هُوَ الْمَثَلُ: الزَّرْعُ هُوَ كَلاَمُ اللهِ، 12 وَالَّذِينَ عَلَى الطَّرِيقِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَأْتِي إِبْلِيسُ وَيَنْزِعُ الْكَلِمَةَ مِنْ قُلُوبِهِمْ لِئَلاَّ يُؤْمِنُوا فَيَخْلُصُوا. 13 وَالَّذِينَ عَلَى الصَّخْرِ هُمُ الَّذِينَ مَتَى سَمِعُوا يَقْبَلُونَ الْكَلِمَةَ بِفَرَحٍ، وَهؤُلاَءِ لَيْسَ لَهُمْ أَصْلٌ، فَيُؤْمِنُونَ إِلَى حِينٍ، وَفِي وَقْتِ التَّجْرِبَةِ يَرْتَدُّونَ. 14 وَالَّذِي سَقَطَ بَيْنَ الشَّوْكِ هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ فَيَخْتَنِقُونَ مِنْ هُمُومِ الْحَيَاةِ وَغِنَاهَا وَلَذَّاتِهَا، وَلاَ يُنْضِجُونَ ثَمَرًا. 15 وَالَّذِي فِي الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ، هُوَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْكَلِمَةَ فَيَحْفَظُونَهَا فِي قَلْبٍ جَيِّدٍ صَالِحٍ، وَيُثْمِرُونَ بِالصَّبْرِ. (عدد 9-15).

فتفسير الرب لهذا المثل واحد في الموضعين إلاَّ أن مَتَّىَ يقتبس يقتبس الشهادة من إشعياء صريحًا لأن ذلك وافق قصدهُ إذ كان يكتب لإسرائيل على نوع خصوصي. لاحظ أيضًا أن في المثل نفسهِ لوقا إنما يذكر درجة واحدة من الأثمار أي مئة ضِعفٍ والتفسير لذلك هو المذكور في (العدد 15) حيث يقول: والذي في الأرض الجيدة هو الذين يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويثمرون بالصبر. ويفرض أن هذا الثمر يظهر في جميع المؤمنين. وأما المثل وتفسيرهُ فلا حاجة إلى التكلم عنهما بالتفصيل هنا إذ سبق ذلك في الشرح عليهما في إنجيل مَتَّىَ. 

16 «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجًا وَيُغَطِّيهِ بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ، بَلْ يَضَعُهُ عَلَى مَنَارَةٍ، لِيَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. 17 لأَنَّهُ لَيْسَ خَفِيٌّ لاَ يُظْهَرُ، وَلاَ مَكْتُومٌ لاَ يُعْلَمُ وَيُعْلَنُ. 18 فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْمَعُونَ، لأَنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي يَظُنُّهُ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ». (عدد 16-18).

لا يُخفى أن هذا التشبيه وارد في (مَتَّى 15:5) قرينة أخرى، ولكنهُ يوافق مقصد الرَّبِّ هنا أيضًا فأنهُ أظهر في مثل الزارع وجوب انغراس كلمة الله في قلوب مهيَّأة لها بالنعمة لأجل إظهار الثمر فإذًا ينبغي أن نستنير أولاً ثمَّ نضيء للآخرين. فكان الرَّبُّ مزمعًا أن يصنع شهادة جهارية في هذا العالم المُظلم بواسطة الذين انغرست فيهم كلمتهُ لأنهُ ينيرنا لكي ننير الآخرين كالذي يوقد سراجًا ويضعهُ على منارة للذين يدخلون بيتهُ. ولكنهُ يجب أن ننظر كيف نسمع؟ فأنهُ يطلب منا أن نخصّص لنفوسنا ما نسمعهُ من فمهِ فهكذا يصير نورًا فينا لا بدَّ أن يظهر للآخرين كما أنهُ من شأن السراج الموقد أن يضيء. فإن كنا ندرس كلمة الله عقليَّا فقط فنكون بلا ثمر لأن مرامنا ليس الاقتراب إلى المسيح كتلك المرأة الخاطية بل الحصول على مقدار من المعرفة فقط وربما نجدُّ أيضًا لتعليم الآخرين وقلوبنا غير مؤثَّرة مما ننطق بهِ لهم فالنتيجة من ذلك أننا نتقسى روحيًا وأخيرًا نصير مرائيين إذ نقول أقوالاً حسنة ولا نفعل بها. وأما النور الذي كان لنا فيؤخذ منا. وقد تم هذا في كثيرين إذ فقدوا النور الذي كان لهم مرَّةً فاصبحوا في الظلام الدامس. فلا يظنّ القارئ أن الله يدعهُ يتهاون بالنور المُعطي لهُ. لأن من لهُ سيُعطى، يعني: أن من يأتي بثمر حسب ما عندهُ من النور سيُعطى نورًا أكثر. وهذا القول يصدق كقاعدة عامة:

 أولاً- من جهة التوبة والإيمان فأن الخاطئ الذي يبلغهُ نور الإنجيل أن تاب وآمن يعطي نورًا كمؤمن، وإلاَّ يتقسى قلبهُ ويبتعد عن النور أو يكفر بهِ ويهلك.

ثانيًا- من جهة ازديادنا في الأثمار كمؤمنين فأن الله كلما أنعم علينا بنور من كلمتهِ أزيد يطلب أننا نسلك فيهِ فإذا تأخرنا عن ذلك فبعد الصبر يبتدى يعاملنا معاملات تأديبية من شأنها أن يعلّمنا أنهُ لا يدعنا نشمخ عليهِ لأنهُ هو الله ونحن بشر محتاجون إلى نعمتهِ وإذا شاء أن يفتقدنا، ولا نبالي بذلك، فلا بدَّ أن يجعلنا نحصد ما زرعناهُ ونتألم من عاقبة حماقتنا. نعم المؤمن لا يهلك، ولكن يوجد عدَّة أنواع تأديب لأولاد الله دون هلاك نفوسهم فعلينا أن نخاف لأنهُ مُخيف هو الوقوع في يدي الله الحيّ. لا يوجد منظر يحزن القلب أكثر من مشاهدة الذين انتبهوا للنور، وابتهجوا بهِ إلى حين ثمَّ عادوا إلى طرقهم السالفة وربما يحاولون أن يطمنوا أفكارهم بالعقيدة العقلية أن خراف المسيح لن تهلك. نعم ، أنها لا تهلك حسب قول المسيح الصريح ولكنهُ يعطينا صفاتها أيضًا التي منها أن خرافهُ تسمع صوتهُ وتتبعهُ فإذًا حفظنا للحياة الأبدية يتوقف لا على إقرارنا بهذه العقيدة كشيء عقلي بل على سماعنا كلمتهُ. فلننظر كيف نسمع. ومن ليس لهُ فالذي يظنهُ لهُ يؤخذ منهُ. أو النور الذي يُظهر أنهُ لهُ يؤخذ منهُ. ولا يُخفى أن كثيرين يظهرون مؤمنين إلى حين كما سبق الرَّبِّ وعبَّر عنهم في مثل الزارع، ولكن في وقت التجربة يتضح أنهم ليسوا مقترنين معهُ بتةً بواسطة انغراس كلامهِ في قلوبهم.

19 وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ. 20 فَأَخْبَرُوهُ قَائِلِينَ:«أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجًا، يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ». 21 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللهِ وَيَعْمَلُونَ بِهَا». (عدد 19-21).

راجع (مَتَّى 46:12-50)، حيث نرى أن هذه الحادثة مدرجة قبل مثل الزارع، وهذا يكفي ليبرهن أن الوحي في لوقا لا يراعي ترتيب الحوادث تاريخيًّا فالمقصد بهذه الحادثة في الموضعين إظهار قطع علاقة الرَّبِّ مع إسرائيل بحسب الجسد، وأنهُ لا يعرف من الآن فصاعدًا إلاَّ علاقتهُ الروحية مع الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها غير أن مَتَّى يزيد على ذلك ما يدل على رفض إسرائيل صريحًا إذ خرج يسوع من البيت وجلس على البحر الذي هو عبارة عن شعوب وأمم فلذلك تهيئت الحالة للنطق بالأمثال المرموز بها إلى ملكوت السماوات حين غيابهِ في السماء.

22 وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ دَخَلَ سَفِينَةً هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ، فَقَالَ لَهُمْ:«لِنَعْبُرْ إِلَى عَبْرِ الْبُحَيْرَةِ». فَأَقْلَعُوا. 23 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ نَامَ. فَنَزَلَ نَوْءُ رِيحٍ فِي الْبُحَيْرَةِ، وَكَانُوا يَمْتَلِئُونَ مَاءً وَصَارُوا فِي خَطَرٍ. 24 فَتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ:«يَا مُعَلِّمُ، يَا مُعَلِّمُ، إِنَّنَا نَهْلِكُ!». فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ وَتَمَوُّجَ الْمَاءِ، فَانْتَهَيَا وَصَارَ هُدُوُّ. 25 ثُمَّ قَالَ لَهُمْ:«أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟» فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: «مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ أَيْضًا وَالْمَاءَ فَتُطِيعُهُ!». (عدد 22-25).

فالذين تنقطع علاقتهم مع إسرائيل والعالم ويلتصقون بالمسيح بواسطة كلمتهِ ليس لهم مقرٌ هنا فأنهُ يدعوهم للذهاب إلى عبر بحر هذا العالم، ولكن بينما هم ذاهبون وراءهُ لا يجدون البحر مستريحًا لهم. راجع رسالة بولس إلى أهل فيلبي في شأن دعوتنا والصعوبات التي نلاقيها في طريقنا إلى المجد، ولكن متى علت الأمواج إلى أقصى درجة نصرخ إلى الرَّبِّ ونجدهُ معنا وحضورهُ يكفي لتسكين الرياح الهائجة والماء المُتموج. كان التلاميذ مقترنين مع يسوع بل كانوا في سفينة واحدة معهُ فكيف يمكن هلاكهم وهو معهم في السفينة، فكان يجب عليهم أن يتيقنوا ذلك ولكنهم من ضعف الإيمان أيقظوهُ فبادر أولاً إلى إزالة مخاوفهم ثم وبَّخهم على قلة إيمانهم إذ قال لهم: أين إيمانكم؟ فأنهُ لم يكن لهم داعٍ لذلك السفر الخطر إلاَّ بموجب أمر الرَّبِّ. لنعبر إلى عبر البحيرة. فأقلعوا فإذًا كان يجب أن يعتبروا الرَّبِّ قائدهم، وأن مسئولية السفر عليهِ، ولكنهُ اتضح أن إيمانهم لم يزل ضعيفًا ومعرفتهم قليلة بحيث لما هدئت لهم العناصر المُضطربة طوعًا لصوت خالقها خافوا وتعجبوا قائلين فيما بينهم من هو هذا؟ فأنهُ يأمر الرياح أيضًا والماء فتطيعهُ. ولفظة، أيضًا، من أفواههم تدل على حالة أفكارهم إذ كانوا قد عاينوا سلطانهُ على الأمراض والشياطين وسمك البحر أيضًا، ولكنهم تعجبوا من خضوع الرياح العاصفة لهُ حالاً بكلمتهِ كأن ذلك أعظم من انتصاره على إبليس وأعمالهِ.

26 وَسَارُوا إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ الَّتِي هِيَ مُقَابِلَ الْجَلِيلِ. 27 وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الأَرْضِ اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيل، وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْبًا، وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ، بَلْ فِي الْقُبُورِ. 28 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَهُ، وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ:«مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!». 29 لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ. لأَنَّهُ مُنْذُ زَمَانٍ كَثِيرٍ كَانَ يَخْطَفُهُ، وَقَدْ رُبِطَ بِسَلاَسِل وَقُيُودٍ مَحْرُوسًا، وَكَانَ يَقْطَعُ الرُّبُطَ وَيُسَاقُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِلَى الْبَرَارِي. 30 فَسَأَلَهُ يَسُوعُ قِائِلاً:«مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ:«لَجِئُونُ». لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. 31 وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَى الْهَاوِيَةِ. (عدد 26-31).

 هذه البلاد واقعة إلى الشرق من بحر الجليل، وكانت ضمن أملاك إسرائيل، ولكنهم فقدوها كباقي أراضيهم من زمان طويل. سكن هناك بعض يهود ولكن أكثر سكانها كانوا أممًا. فكانت هذه البلاد وسكانها المشكلين المختلطين صورة لهذا العالم تمامًا. فافتقدهم المسيح ابن الله بنعمتهِ لأنهُ في جولاتهِ لم يتغاضَ عن موضع من البلاد حيث كان أناس من خراف بيت إسرائيل الضالة ساكنين. ولكن عند خروجهِ من السفينة إلى الأرض استقبلهُ رجل قد تسلَّط عليهِ الشيطان إلى الدرجة القصوى. فالمقصد بأدراج هذه الحادثة أن يرينا سطوة الشيطان على البشر وأن حضور ابن الله يسبّب حركة، وخوفًا للشياطين لأنها عرفتهُ وخافت من قدرتهِ ولم تستطع أن تقف أمامهُ دقيقة واحدة. كان العالم أجمع كبيت القوي، ولكن المسيح أقوى من القوي، وإذا دخل البيت فلا بدَّ من المُصارعة، ولكنهُ يغلبهُ بكلمة ويخرجهُ إلى الخارج. خافت الشياطين الكثيرة المجتمعة في ذلك الرجل المسكين وطلبت إلى السيد أن لا يعذبها ولما سأل الرجل عن اسمهِ أجابت عن لسانهِ، وقالت لجئون بسبب كثرتها ثمَّ طلبوا إليهِ أن لا يأمرهم بالذهاب إلى الهاوية، فأن هذا العذاب عرفوا أنهُ يمكن أن يجريهُ فيهم (انظر رؤيا 2:20). كان يقدر أن يأمر بحبسهم هناك قبل بداءة الألف السنة.

32 وَكَانَ هُنَاكَ قَطِيعُ خَنَازِيرَ كَثِيرَةٍ تَرْعَى فِي الْجَبَلِ، فَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ بِالدُّخُولِ فِيهَا، فَأَذِنَ لَهُمْ. 33 فَخَرَجَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرُفِ إِلَى الْبُحَيْرَةِ وَاخْتَنَقَ. (عدد 32، 33).

لا يُخفى أن الخنزير من الحيوانات النجسة واسمهُ يستعمل كناية عن الناس المتنجسين، وكان اليهود على وجه العموم الموجودين وقتئذٍ في أرض الرب كقوم نجسين مثل ذلك القطيع من الخنازير، ولم يزالوا هكذا إلى الآن ونعلم من مواضع أخرى أن الشيطان يجدد قوتهُ عليهم زمان المسيح الكذاب ويسوقهم جميعًا للهلاك ما عدا بقية قليلة منهم.

34 فَلَمَّا رَأَى الرُّعَاةُ مَا كَانَ هَرَبُوا وَذَهَبُوا وَأَخْبَرُوا فِي الْمَدِينَةِ وَفِي الضِّيَاعِ، 35 فَخَرَجُوا لِيَرَوْا مَا جَرَى. وَجَاءُوا إِلَى يَسُوعَ فَوَجَدُوا الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَتِ الشَّيَاطِينُ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ لاَبِسًا وَعَاقِلاً، جَالِسًا عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ، فَخَافُوا. 36 فَأَخْبَرَهُمْ أَيْضًا الَّذِينَ رَأَوْا كَيْفَ خَلَصَ الْمَجْنُونُ. 37 فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ جُمْهُورِ كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُمْ، لأَنَّهُ اعْتَرَاهُمْ خَوْفٌ عَظِيمٌ. فَدَخَلَ السَّفِينَةَ وَرَجَعَ. 38 أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الشَّيَاطِينُ فَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ، وَلكِنَّ يَسُوعَ صَرَفَهُ قَائِلاً: 39 «ارْجعْ إِلَى بَيْتِكَ وَحَدِّثْ بِكَمْ صَنَعَ اللهُ بِكَ». فَمَضَى وَهُوَ يُنَادِي فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا بِكَمْ صَنَعَ بِهِ يَسُوعُ. (عدد 34-39).

نرى أولاً- الفريق العظيم بين تسلُّط يسوع على الإنسان وبين تسلط الشيطان عليهِ. كان العدو قد استعمل ذلك الرجل كسخرة في أعين الجميع إذ ساقهُ عريانًا بين الناس واسكنهُ في القبور إلى خلاف ذلك من الأفعال الشنيعة الفظيعة، وأما بعد تخليصهِ من يد المستأسر، لبس ثيابًا وجلس عاقلاً عند قدمي يسوع. وكان التغيير ظاهرًا للجميع.

ثانيًا- نرى الخوف الذي اعترى كل جمهور كورة الجدريين لما شاهدوا عمل المسيح إذ طلبوا إليهِ بصوت واحد أن يذهب عنهم فدخل السفينة ورجع إلى نواحي الجليل. عاينوا قدرتهُ، ولكنهم لم يريدوهُ بل فضَّلوا سلطة الشيطان على حضور ابن الله في وسطهم. واليهود عملوا مثلهم فيما بعد حين صرخوا. ليس هذا بل باراباس. فوقت صلب المسيح تمكَّن سلطان إبليس على العالم، وإله هذا الدهر. فإن اليهود والأمم مع ملوكهم قاموا ضد مسيح الله وأرادوا أن يتخلصوا من حضورهِ وسيبقون على حالتهم هذه إلى أن يرجع ليُجري القضاء عليهم (انظر مزمور 2).

ثالثًا- الرجل الذي تخلَّص من سلطان الظلمة طلب أن يكون مع الرب حالاً، ولكبهُ صرفهُ إلى بيتهِ كشاهد وكارز لهُ فمضى وهو ينادي في المدينة كلها بكم صنع بهِ يسوع؟ وهذا مثال جميل لإقامتنا في العالم بعد إيماننا بالمسيح وخلاصنا من يد العدو الذي كنا مستأسرين لهُ قبل. لستُ أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما إني أنا لست من العالم. قدّسهم في الحق. كلامك هو حق. كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم (يوحنا 15:17-18).

40 وَلَمَّا رَجَعَ يَسُوعُ قَبِلَهُ الْجَمْعُ لأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعُهُمْ يَنْتَظِرُونَهُ. 41 وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ يَايِرُسُ قَدْ جَاءَ، وَكَانَ رَئِيسَ الْمَجْمَعِ، فَوَقَعَ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، 42 لأَنَّهُ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَحِيدَةٌ لَهَا نَحْوُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَكَانَتْ فِي حَالِ الْمَوْتِ. فَفِيمَا هُوَ مُنْطَلِقٌ زَحَمَتْهُ الْجُمُوعُ. (عدد 40-42).

لم يظهر قط في هذا العالم إنسانٌ نظير يسوع المسيح، وإذا نظرنا إلى حياتهِ وخدمتهِ تتبيَّن لنا جليًّا صفات الله الذي يشفق على خلائق يديهِ ولا يعيى من صنع الخير معها. في كل موضع وصل إليهِ كُشف لهُ شيءٌ من احتياجات البشر المُتضايقين من الخطية وعواقبها، وكان يخدمهم بصبر ومحبةٍ مثل قوتهِ تمامًا. لم يملَّ من عمل الخير. فلما رجع إلى كفر ناحوم وجد جمهورًا بغاية الانتظار إليهِ. لا شك بأنهُ كان كثيرون منهم في الضيق الشديد ولكن الوحي إنما يذكر حادثة بل حادثتين أي مرض بنت رئيس المجمع ثمَّ شفاء المرأة التي كان فيها نزف دم. ويوجد اقتران بينهما وبالحق الكلام الوارد من (عدد 40 إلى آخر الإصحاح) هو فصل واحد (ولكني قسمتهُ تسهيلاً للشرح فقط).

ونرى أولاً- لجاجة يايرس إذ جاء ووقع عند قدمي يسوع وطلب إليهِ أن يدخل بيتهُ.

ثانيًا- شدّة ضيقةِ إذ كانت ابنتهُ الوحيدة في حال الموت.فأجابهُ الرَّبُّ: حالاً لأنهُ كان ليايرس بالقليل إيمان بقدرتهِ على شفاء ابنتهِ العزيزة، ولكن بينما هو في الطريق زحمتهُ الجموع ولعلَّ أغراضهم متنوعة وأخصَّها الحصول على بعض المنافع لأجسادهم المسكينة.    

43 وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، 44 جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. فَفِي الْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. 45 فَقَالَ يَسُوعُ:«مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي؟» وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ، قَالَ بُطْرُسُ وَالَّذِينَ مَعَهُ: «يَامُعَلِّمُ، الْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَقُولُ: مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي؟» 46 فَقَالَ يَسُوعُ:«قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي». 47 فَلَمَّا رَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ، جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي الْحَالِ. 48 فَقَالَ لَهَا:«ثِقِي يَا ابْنَةُ، إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ». (عدد 43-48).

فكان مرضها مثل الخطية غير قابل العلاج من يد البشر وكان نوعًا من النجاسة أيضًا حسب الشريعة ومنعها عن الاقتراب إلى شيء مقدَّس. فكان الأطباء والشريعة سويةً قد عجزوا عن نفعها فقامت وأتت إلى المسيح. كان لها إيمان بقدرتهِ ولكنها لم تعرف محبتهُ. فإنما أُجتذبت إليهِ من الشعور العميق باحتياجها وعدم وجود أقل عون لها عند غيرهِ فحصلت حالاً على الجواب لحاجتها الجسدية حسب إيمانها، ولكن الرَّبِّ قصد أن يقودها إلى الإقرار علانيةً بما جرى معها، ولكنها خافت وارتعدت أمامهُ خلاف تلك المرأة الخاطئة المذكورة آنفًا التي أُعلن لها مجد شخصهِ فأتت إليهِ كغافر خطاياها. لأننا لا نقدر أن نتعلم صفات المسيح إلاَّ بواسطة احتياجاتنا وكلما كانت أكثر وأعظم تزداد معرفتنا بالذي يسدُّها. فهذه إنما حضرت لأجل الشفاء ولما نالتهُ ذهبت في طريقها. لا شك بأنها فرحت في داخلها، ولكن لم يكن عندها قارورة طيب كتلك الخاطئة التي لما عرفت بحضور يسوع قامت وأتت إليهِ كمخلّصها وإلهها وسجدت لهُ أحلى نوع من السجود. وأما الرَّبِّ إذا ابتدأ بعمل صالح فلا بدَّ أن يكملهُ أيضًا. فلما رأت المرأة أنها لم تختفِ عن علمهِ المحيط بسرائر القلب خرَّت لهُ وقدَّمت اعترافًا حسنًا فكلَّمها بالكلام المناسب لإزالة خوفها وتطمين قلبها. فكأنهُ ربط قلبها لهُ بكلامهِ ثمَّ صرفها بسلام. 

49 وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ، جَاءَ وَاحِدٌ مِنْ دَارِ رَئِيسِ الْمَجْمَعِ قَائِلاً لَهُ:«قَدْ مَاتَتِ ابْنَتُكَ. لاَ تُتْعِبِ الْمُعَلِّمَ». 50 فَسَمِعَ يَسُوعُ، وَأَجَابَهُ قِائِلاً: «لاَتَخَفْ! آمِنْ فَقَطْ، فَهِيَ تُشْفَى». 51 فَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ لَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَدْخُلُ إِلاَّ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا، وَأَبَا الصَّبِيَّةِ وَأُمَّهَا. 52 وَكَانَ الْجَمِيعُ يَبْكُونَ عَلَيْهَا وَيَلْطِمُونَ. فَقَالَ:«لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لكِنَّهَا نَائِمَةٌ». 53 فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، عَارِفِينَ أَنَّهَا مَاتَتْ. 54 فَأَخْرَجَ الْجَمِيعَ خَارِجًا، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً:«يَا صَبِيَّةُ، قُومِي!». 55 فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي الْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. 56 فَبُهِتَ وَالِدَاهَا. فَأَوْصَاهُمَا أَنْ لاَ يَقُولاَ لأَحَدٍ عَمَّا كَانَ. (عدد 49-56).

 المرض الوارد وصفهُ في الفصل السابق كان نوعًا من النجاسة مثل الخطية نفسها وكان قد تمكّن في العليل من زمان طويل ولكنهُ شُفي بلمسة يسوع كشفاء مرض الخطية المُزمن فينا وعدا ذلك المرأة المُصابة قدرت أن تأتي إلى المسيح بالإيمان كما قد رأينا. وأما بنت يايرس فاشتدَّ المرض فيها والموت قدم عليها بسرعةٍ وخطفها حسب الظاهر قبل حضور المسيح إلى ذلك البيت الإسرائيلي وانقطع رجاء الحاضرين وجاء واحد منهم ليقول لوالدها: أنه ما بقى موضعٍ للشفاء فإذًا لا حاجة لهُ بعد أن يتعب المُعلّم بالمجيء إلى بيتهِ. وأما يسوع فعزَّى يايرس بأنهُ إن آمن فقط تُشفى أو تخلص ابنتهُ. فعند وصولهِ إلى البيت لم يدع أحدًا من مُرافقيهِ يدخل معهُ إلاّ ثلاثة من التلاميذ وأبويَ الصبية والمُحتمل أن الباقين لم يكن فيه الاستعداد لمُشاهدة العمل الذي قصد أن يُجريهُ. وأما المُجتمعون في البيت فكانت حالتهم أردأ فإنهم ضحكوا عليهِ لما قال: أنها لم تمت لكنها نائمة. لأن الموت كان ذا سلطان على أفكارهم أكثر جدًّا مما لكلمة المسيح فأخرجهم خارجًا ونادى الصبية باسمها وأمرها بأن تقوم فرجعت روحها وقامت في الحال وأمر أيضًا بأنها تُعطى طعامًا لأن والديها كانا ملهوفين مبهوتين ثم أوصاهما أن لا يقولا لأحد عما كان لأن إظهارهُ قوة إقامة الموتى يُهيج غضب الرؤساء الذين صاروا مُمتلئين من الشيطان وهذه الآية لم تكن شهادةً إلاَّ للذين فيهم الإيمان. إني أظن أن الوحي قد ادرج هاتين الحادثتين مع تعلقاتهما لكي يفيدنا بعض حقائق رمزيَّة عدا ما نستفيد من ظاهر الكلام ولكن ذلك يتوقف على معرفتنا طرق الله مع إسرائيل والعالم وعلى مقدار تمييزنا الروحي أيضًا. غير أنهُ لا يجوز لنا أن نسند شيئًا من التعليم الجازم الإيجابي على التفاسير الرمزيَّة بل إنما نتعلم أولاً الحقائق نفسها من المواضع الأخرى الصريحة ثم نذكر ما يُظهر لنا من الحوادث التي نظنها مُفيدة على سبيل الرمز ونترك الأمر بدون مُجادلة لتمييز القارئ كما يرى في قُبولهِ وعدمهِ. فكأن يايرس وبيتهُ المُتضايق كرمز إلى بيت إسرائيل في ضيقتهم الشديدة ولا عون لهم إلاَّ بالمسيح المرفوض من رؤسائهم المُتكبرين. وأما يايرس بالتجائهِ بالإيمان إلى يسوع في الأول فمثل التائبين في إسرائيل الذين طلبوا الشفاء لأُمتهم من المسيح حتى بعد رفضهِ وموتهِ. انظر سؤال التلاميذ من الرب بعد قيامتهِ ياربّ هل في هذا الوقت تردُّ المُلّك إلى إسرائيل؟ (أعمال الرسل 6:1؛ ثم في إصحاح 17:3-26) الرسول بطرس عرض عليهم أوقات الفرج بحسب النبوات على شرط أنهم يتوبون ويؤمنون بيسوع. فلم تزل البقية الإسرائيلية طالبة شفاء الأُمة كلها ولكنها كانت فريضة فقط حسب إيمانهم، ولكنها بقيت غير مؤمنة فإنها رفضت نعمة الإنجيل كما كانت قد رفضت ذات المسيح وقتلتهُ. وأما المسيح فلم يتغاضَ عن إجابة إيمان البقية لأنهُ من حين ارتفاعهِ على استعداد ليدين الأحياء والأموات ويُبارك إسرائيل ولكن الجموع تزحمهُ كما هي الحالة من بداءة التبشير بالإنجيل ولهم أغراض مُختلفة ولكن لا ينتفع منهُ كثيرًا إلاَّ الذين يُجتذبون إليهِ بالإيمان كتلك المرأة المُصابة بنزف دم من زمان طويل التي لمستهُ ونالت مرغوب قلبها بل أكثر من ذلك. مع أن المسيح لم يزل يفتكر في الضيقة الشديدة الموجودة في البيت الإسرائيلي التي تقدَّم في طريقهِ بقصد أن يُزيلها. ثم نرى في (رومية إصحاح 11خصوصًا في العدد 15؛ تسالونيكي الأولى 16:2). ان بنت إسرائيل قد ماتت وما بقى موضع لشفائها. وهكذا قد جزم جميع الذين ليس فيهم الإيمان بشخص المسيح والانتظار أن يُتمم مواعيدهُ لإسرائيل. ربما يلتهون بالبكاء وعلامات النوح عند جنازة الأُمة الإسرائيلية ولكنهم يضحكون على القول: أنها لم تمُت لكنها نائمة. كما ينظر إليها الرب بمقاصدهِ وهو مُقبل ليُقيمها. لا شك بأنهُ يجدها مائتة ولكن الموت ليس سوى النوم في خاصتهِ سواءَ كان المؤمنون بهِ أو أُمتهُ القديمة المُختارة للحياة بعد في هذا العالم لمجد الله. ونرى في أيامنا أن عدم الإيمان بإقامة إسرائيل كأُمة قد استولى على قلوب جمهور النصارى مع أن ذلك من الحقائق المُعلنة بغاية الصراحة. غير أن ليس أحد يُشاهد تتميم هذا العمل الجليل إلاَّ الذين لهم الإيمان بمجد شخص ابن الله فان الغير المؤمنين إن كانوا في البيت نفسهِ أو خارجًا عنهُ لا يشتركون في تلك الحادثة العجيبة. راجع أيضًا (إشعياء إصحاح 65 وإصحاح 66).

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة