لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية

 تفسير إنجيل لوقا

بنيامين بنكرتن

قال المسيح الحي: الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية

الأصحاح الخامس عشر

1 وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. 2 فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ:«هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ!». 3 فَكَلَّمَهُمْ بِهذَا الْمَثَلِ قِائِلاً: 4 «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَأَضَاعَ وَاحِدًا مِنْهَا، أَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ، وَيَذْهَبَ لأَجْلِ الضَّالِّ حَتَّى يَجِدَهُ؟ 5 وَإِذَا وَجَدَهُ يَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ فَرِحًا، 6 وَيَأْتِي إِلَى بَيْتِهِ وَيَدْعُو الأَصْدِقَاءَ وَالْجِيرَانَ قَائِلاً لَهُمُ: افْرَحُوا مَعِي، لأَنِّي وَجَدْتُ خَرُوفِي الضَّالَّ!. (عدد 1-6).

قد وصلنا إلى هذا الإصحاح الجميل الذي قد اتخذهُ المُبشرون كموضع لخطبهم للخطاة أكثر من كل ما سواهُ من عبارات الإنجيل لكونهِ إعلانًا صريحًا لمحبة الله المُثلَّث الأقانيم نحو الخطاة من الجنس البشري الساقط. ونرى أن الرب يسوع نفسهُ فرحان بهذا الموضوع فإنهُ مُتقدم في طريقهِ إلى الصليب حيث برهن حقيقة المحبة الإلهية برهانًا جليًّا لا يمكن أن يوجد أقوى منهُ نعم وقد وضع بموتهِ أساسًا لتخصيص هذه المحبة لنفوسنا بطريق الحق والعدل. طالما تعب في إسرائيل وهو يدعوهم إلى التوبة ولم يكن لدعوتهِ اللطيفة من فعل فيهم إلاَّ في الذين لم يكن عندهم شيءٌ من البرّ الذاتي ليفتخروا بهِ. كان قد دخل إلى بيت الفريسي وخرج منهُ أيضًا ولم يجد شيئًا يسرُّهُ فإنهُ كان صورة هذا العالم المشحون من الكبرياء وحبّ الذات ولم يقدر أن يُسرَّ بالجموع أيضًا المُترافقين معهُ في الطريق لأنهم قليلو الفكر وسريعو التقلُّب ولكنهُ يرتفع في هذا الإصحاح الجميل فوق كبرياء الفريسيين وجهالة الجموع إذ يُقدّم ثلاثة أمثال ليُعلن بها ما هي المحبة الإلهية وما هو شكل بيت الآب وقلبهِ. لا نقدر أن نذكُر شيئًا جديدًا في شرحنا على مضمون هذا الفصل ولكن مجرَّد مُطالعتهِ ينعش قلوبنا إذ نتأمل في مصدر بركاتنا وأساس رجائنا. تذمر أهل الكبرياء على المسيح لأن كلامهُ لم ينفرهم فقط بل فعل في الخطاة أيضًا واجتذبهم إليهِ فكأن قصدهم أن يوهموا البسطاء بأن تعليم المسيح فاسد لكونهِ قد انتج نتائج كهذه. فكان يمكن لهُ أن يُجاوبهم بعدَّة أجوبة صحيحة تكفي لدحض زعمهم بأن النعمة تؤول إلى الدعارة وتُطمّن الناس بالعيشة في الفجور. انظر جواب الوحي على ذلك في (رومية إصحاح 6) مثلاً ومواضع أخرى كثيرة جدًا حيث نرى إيضاح هذا الموضوع وإيراد الأدلة التي تقنعنا بأن قبول نعمة الله حقيقةً إنما يُغيرنا عن شكلنا القديم ويُصيرنا على شكل آخر. وكان يمكن للرب أن يُبرر نفسهُ وتعليمهُ عن افتراء أخصامهِ قائلاً: أنهُ هو لم يكن يقصد أولئك الخطاة ليُعاشرهم في شرورهم بل هم كانوا يقتربون إليهِ لكي يستفيدوا منهُ وإذا استفاد أحدهم يترك خطاياهُ السالفة ليسلك في الطاعة لله. ولكن من الأمور العجيبة نراهُ يجاوبهم على أسلوب آخر فإنهُ يُدافع عن النعمة هنا لأن خلاص الخطاة يسرُّ الله ويُسبب فرحً في السماء.

فكلَّمهم بهذا المثل قائلاً: أي إنسانٌ منكم لهُ مائة خروف وأضاع واحدًا منها ألا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب لأجل الضَّال حتى يجدهُ. فيُشير هنا إلى حقيقة بسيطة معروفة جيدًا عندنا وهي محبتنا لما هو لنا واعتناؤنا بخاصتنا إلى هذا المقدار حتى إذا فُقد منهُ شيء كبير أو صغير لا نقدر أن نرتاح فإننا حالاً نهتمُّ بالمفقود ونُبادر إلى التفتيش عليهِ. وإذا وجدهُ يضعهُ على منكبيهِ فرحًا. معلوم أن الفرح من احساسات القلب الإنساني ويأتي غالبًا بعد الحزن ويعظم أيضًا على قدر ما كان الحزن شديدًا قبلهُ. فصاحب الخروف هنا يفرح بوجدان الضال على قدر ما حزن على فُقدانهِ واهتَّم بالتفتيش عليهِ. نرى إنهُ شفوق عليهِ أيضًا فإنهُ يحملهُ راجعًا إلى بيتهِ. ويأتي إلى بيتهِ ويدعو الأصدقاء والجيران قائلاً لهم افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضال. بعض الاحساسات كالغمّ الشديد والحزن العميق تحملنا إلى السكوت ربما نكتم أسبابها عن أعزّ أصدقائنا وأما الفرح فبعكس ذلك لأنهُ يحملنا إلى التكلُّم ونذكر أسبابهُ للآخرين بغاية السرور على أمل أنهم يشتركون معنا فيهِ. يُبادر القلب الفرحان لينطق بأفراحهِ. أقول لكم: إنهُ يكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبةٍ. ينبغي أن نُلاحظ جيدًا أنهُ لا يوجد في هذا المثل اعتبارٌ كثيرٌ للتسعة والتسعين بارًّا الذين لا يحتاجون إلى توبةٍ. لأن مقصد الرب الخصوصي أن يُعلن حقيقة عظيمة جدًّا أن الله الذي خلقنا والذي ضللنا عنهُ بالخطية قد اهتَّم بنا وإن نكن قد نسيناهُ ويفرح بخلاص نفس واحدة كما يفرح مَنْ وجد المفقود. كان أولئك الفريسيون أبرارًا في أعين أنفسهم فكان ينبغي لهم أن ينتبهوا لقول الرب. أكثر من تسعة وتسعين بارًّا لا يحتاجون إلى توبةٍ لأنهُ لو سلَّمنا أن التوبة ليست لهم فلم تكن خدمة الراعي الحنون لهم ولا اقتران لهم مع فرح السماء. غير أني لا أرى أن الرب يُشير إليهم إشارة صريحة بل إنما يُصور لهم صورة كاملة لِما يُسبب فرحًا في السماء ولكن لو ميَّزوا قوة كلامهِ لفهموا أنهم ليسوا على الحالة التي تُفرح قلب الله الذي يُفتش على الضَّالين ليردَّهم إلى الأفراح السماوية.

7 أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ. 8 «أَوْ أَيَّةُ امْرَأَةٍ لَهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، إِنْ أَضَاعَتْ دِرْهَمًا وَاحِدًا، أَلاَ تُوقِدُ سِرَاجًا وَتَكْنُسُ الْبَيْتَ وَتُفَتِّشُ بِاجْتِهَادٍ حَتَّى تَجِدَهُ؟ 9 وَإِذَا وَجَدَتْهُ تَدْعُو الصَّدِيقَاتِ وَالْجَارَاتِ قَائِلَةً: افْرَحْنَ مَعِي لأَنِّي وَجَدْتُ الدِّرْهَمَ الَّذِي أَضَعْتُهُ. 10 هكَذَا، أَقُولُ لَكُمْ: يَكُونُ فَرَحٌ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ. (عدد 7-10).

أو أيَّة امرأة لها عشرة دراهم إن أضاعت درهمًا واحدًا ألا توقد سراجًا وتكنس البيت وتُفتش باجتهاد حتى تجدهُ الخ. هذا المثل يوضح أيضًا نفس الحقيقة المُتضمنة في ما سبقهُ من جهة الفرح عند وجدان مفقودٍ مع أنهُ يزيد على ذلك بعض حقائق أخرى ستظهر لنا في تخصيص المثلين.

أقول: أولاً- أن الخروف الضَّال والدرهم المفقود عبارة عن العشارين والخطاة أو أي خاطئ كان وبالتبعيَّة عن الجنس البشري الساقط على وجه الإجمال. فالأول يُشير إلينا كضالين والثاني كمفقودين. آدم ترك الله وضلَّ وصار مُتصفًا بجهالة وبلادة الخروف إذا ضلَّ عن صاحبهِ فإنهُ يستمرُّ تائهًا ولا يعرف أن يرجع من نفسهِ. ولكنهُ ثمين أيضًا عند الله كدرهم مع أنهُ لا يعرف ذلك ولا ينتبه إليهِ ما لم يحصل فيهِ عمل إلهي.

ثانيًا- العمل في المثل الأول يُناسب خدمة الإقنوم الثاني الذي تجسَّد وفتَّش على الضالين وأما العمل في الثاني فيُناسب وظيفة الروح القدس الذي يفعل أولاً في هذا العالم كبيت مُظلم ليدخل نور الله فيهِ كشهادة للناس وثانيًا في قلوبنا المُظلمة أيضًا ليُنير جهالتنا. ويعلمنا قيمة نفوسنا. المسيح نفسهُ هو النور لنا ولكننا لا نقدر أن نعرفهُ إن لم يفعل فينا الروح القدس. ومَتَّى جاء ذاك يُبكت العالم على خطيةٍ، وعلى برٍ، وعلى دينونةٍ. (يوحنا 8:16). فهذا العمل لهُ ونراهُ يعمل باجتهادٍ وطول أناة ليبلغ كلام الله لضمائر الخطاة المُتغافلين. نرى في المثل الأول عمل المسيح لأجل بيت إسرائيل الضال بل لأجل الخطاة عمومًا ويفرض بكلامهِ أنهُ يجد الذين يُفتش عليهم لأنهُ لا يقصد أن يعلن لنا حُزنهُ على الذين يدنون منهُ بقلوب مُنسحقة ليسمعوهُ مثل العشارين والخطاة المُشار إليهم في أول الإصحاح وأنهُ يتكلف بحملهم على منكبيهِ ويعمل معهم بالنعمة الكاملة السابق إيضاحها في مثل السامري المُسافر الذي تحنَّن على الرجل الواقع بين لصوص. لأنكم كنتم كخراف ضالة لكنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها. (بطرس الأولى 25:2). وأما المثل الثاني فيُرينا عمل التفتيش جاريًا باجتهادٍ إلى أنهُ يحصل المقصود ليس في البراري والقفار على خروف يمكن لهُ بالقليل أن يسمع صوت صاحبهِ من بعيد وينتبه بل أيضًا على شيء بلا عقل ثمين بذاتهِ وقيمتهُ إنما معلومة عند مَنْ أضاعهُ. العمل الأول خارجي وأما الثاني فداخلي في مواضع مُظلمة مثل العالم ومثل قلوبنا أيضًا. وقد سبقت إشارات كثيرة إلى عمل النور إذا أضاء في داخلنا. لا شك بأن كثيرين يتعذبون إلى حين من هذا العمل ثم يرفضونهُ ويهلكون ولكن المقصد هنا إظهار عمل الروح فينا إذا تمَّ وبلغ مُرادهُ.

ثالثًا- قيل في المثل الأول أنهُ هكذا يكون فرحٌ في السماء. وفي الثاني، يكون فرح قُدام ملائكة الله. فالنتيجة أن الفرح لله الآب والابن والروح القدس. ومع أنهُ يُريد أن يُخبر الآخرين بفرحهِ فلا يقول أن الملائكة يفرحون. ولكنهُ بالحقيقة يُخبرنا نحن بفرحهِ كما في هذا الإصحاح لكي نشترك معهُ فيهِ. فيُعاملنا كأصدقاء وجيران لتكون لنا شركة معهُ مع أن فرحهُ أعظم. لا شك بأن الملائكة الأطهار يفرحون أيضًا انظر (إصحاح 13:2، 14) ولكن هذا ليس الموضوع هنا. 

11 وَقَالَ:«إِنْسَانٌ كَانَ لَهُ ابْنَانِ. 12 فَقَالَ أَصْغَرُهُمَا لأَبِيهِ: يَا أَبِي أَعْطِنِي الْقِسْمَ الَّذِي يُصِيبُنِي مِنَ الْمَالِ. فَقَسَمَ لَهُمَا مَعِيشَتَهُ. 13 وَبَعْدَ أَيَّامٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ جَمَعَ الابْنُ الأَصْغَرُ كُلَّ شَيْءٍ وَسَافَرَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ، وَهُنَاكَ بَذَّرَ مَالَهُ بِعَيْشٍ مُسْرِفٍ. 14 فَلَمَّا أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ، حَدَثَ جُوعٌ شَدِيدٌ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ، فَابْتَدَأَ يَحْتَاجُ. 15 فَمَضَى وَالْتَصَقَ بِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْكُورَةِ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى حُقُولِهِ لِيَرْعَى خَنَازِيرَ. 16 وَكَانَ يَشْتَهِي أَنْ يَمْلأَ بَطْنَهُ مِنَ الْخُرْنُوبِ الَّذِي كَانَتِ الْخَنَازِيرُ تَأْكُلُهُ، فَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدٌ. (عدد 11-16).

قد رأينا في المثلين الأولين صورة الإنسان كضال وضائع ومحبة الله حملتهُ للتفتيش عليهِ وأما في هذا المثل فنرى صورة الإنسان الساقط كعاقل ومُذنب وبالغ إلى عواقب ذنوبهِ القصوى ثم محبة الله الظاهرة بقبول التائبين. والابن الأصغر عبارة عن الأُمم بالمُقابلة مع اليهود الذين نقدر أن نعتبرهم كالابن الأكبر من جهة امتيازاتهم مدة النظام العتيق ولكن لما أشرق النور الكامل على الجميع اتضح أنهُ لا يوجد فرق فإن الجميع كانوا قد زاغوا وفسدوا فلذلك الكلام عن الأصغر يُطابق تاريخ الإنسان ويعلن زيغانهُ عن الله وما نتج منهُ. فقال أصغرهما لأبيهِ: يا أبي أعطني القسم الذي يُصيبني من المال فقسم لهما معيشتهُ. انظر. هذا وجدت فقط أن الله صنع الإنسان مُستقيمًا. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة (جامعة 29:7). لما خُلق آدم كان على حالة الصواب كأحد خلائق الله ولكنهُ وضع في الأول على مقام المسئولية لأجل امتحانهِ. وجبل الرب الإله آدم تُرابًا من الأرض ونفخ في أنفهِ نسمة حياة فصار آدم نفسًا حية. وغرس الرب الإله جنَّة في عدن شرقًا ووضع هناك آدم الذي جبلهُ. وأنبت الرب الإله من الأرض كل شجرة شهيَّة للنظر وجيدة للأكل. وشجرة الحياة في وسط الجنّة وشجرة معرفة الخير والشر. (تكوين 7:2-9). فالشجرة الثانية تعلَّقتْ بمسئوليتهِ إذ نهاهُ الله عن أكلهِ لامتحانهِ هل يبقى طائعًا أم لا؟ ترتَّب كل شيء على طريق مُناسب لحفظهِ ولكنهُ فُوض لهُ أن يختار بين الطاعة والمعصية كما نعلم. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بَذر مالهُ بعيش مُسرف. وهذا مُختصر تاريخ الإنسان تمامًا فإنهُ استعمل حُريَّة العمل المعطاة لهُ للتعدي على وصية الله والابتعاد عنهُ فصارت الأرض الملعونة بسببهِ ككورة بعيدة حيث يعيش الإنسان الساقط بحسب نظر عينيهِ وشهوات قلبهِ. فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج. لا يلبث الشفاء أن يلحق الخطأ. العمل بإرادتنا وشهواتنا يظهر حلوًا لنا في الأول ولكن لا بد أن آخرتهُ تكون مُرَّة جدًّا لأن دينونة الله لا تتأخر بل تُسرع لتلحق المُتعدين. افرح أيها الشاب في حداثتك وليُسرَّك قلبك في أيام شبابك واسلك في طريق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنهُ على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة. (جامعة 9:11). فهكذا قد عمل الجنس البشري في وقت شبابهِ ولم يلبث الله أن يُبدئ حكمهُ العادل على هذه الأمور كلها حتى في الوقت الحاضر لأنهُ لعن الأرض حالاً بسبب خطية آدم ثم طردهُ إلى خارج الجنة قصاصًا لهُ حيث يُنبت الشوك الحسك. ويتم هذا أيضًا في حياة كلٍ منا بحيث نصرف وقتنا وننفق قوتنا في هذا العالم مبتعدين عن الله روحيًّا أكثر فأكثر وكلما مضت الأيام تتمسك قلوبنا بأباطيلها أكثر فأكثر إن لم يفتقدنا نور الله ليُرجعنا إلى نفسهِ. فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسلهُ إلى حقولهِ ليرعى خنازير. فلم يمكن لإنسان يهودي أن يتصور إهانة وانحطاطًا أعظم مما يصفهُ الرب بهذا الكلام ولكنهُ وصفٌ صريح لحالة الإنسان بعد السقوط بحيث أنهُ لم يفتكر في الرجوع إلى إلههِ بل عمل كل جهدهِ أن يعيش بلا إله ولو اشتدَّ الجوع في الأرض الملعونة. فإنما انحطَّ انحطاطًا مُتزايدًا إذ كلما عمل في شهواتهِ الشنيعة ازداد شقاؤُهُ. فلم يلبث أن الأرض امتلأت ظُلمًا وفسادًا حتى إن إثم البشر بلغ إلى السماء وجلب عليهم الطوفان وأهلك الجميع. ثم بعد الطوفان تركوا معرفة الله سريعًا وتوغلوا في شهواتهم الردية وعبادة الأصنام المُحرَّمة انظر تاريخهم من هذا القبيل المُتضمن في (رومية 18:1-32) حيث الرسول يذكر ثلاث درجات لتقدُّمهم في الإثم وأن الله عاقبهم حتى الآن إذ أسلمهم.

أولاً- في شهوات قلوبهم في النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم.

ثانيًا- أسلمهم إلى أهواء الهوان.

ثالثًا- إلى ذهن مرفوض. بقيت فيهم شرورهم السابقة ولكنهم زادوا عليها من وقت إلى آخر إذ حصدوا ما زرعوهُ كما فعل الابن الأصغر تمامًا. وكان يشتهي أن يملأ بطنهُ من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكلهُ. فلم يُعطهِ أحدٌ. عجيبة هي حالة الإنسان الساقط بحيث هو دائمًا على حالة الجوع والعطش ومهما انصبَّ وراء شهوات قلبهِ لا يجد الشبع. نظن في الأول أن العمل هكذا لا بد أن يلذَّ لنا ولكن اللذة إنما هي وقتية فإن الشهوة تتقوى من الممارسة مثلاً الذي يشتهي المال لا يقدر أن يشبع بهِ بل كلما زاد زادت رغبتهُ فيهِ وهكذا أيضًا الذي يطلب الشهوة والسلطان في العالم فإنهُ لو قدر أن يفتح المسكونة كلها ويملك عليها فلا يراها إلاَّ كشيء زهيد بالنسبة إلى أفكارهِ المُتكبرة. وأما المغلوب من شهواتهِ الدنية كالسكر والزنا فحالتهُ التعيسة معلومة بحيث أنهُ لا يعرف الشبع منها فكلما عمل بها قويتْ فيهِ وبالحقيقة يشبه مَنْ عطش وشرب قليلاً من الماء ثم يعود ظَماؤُهُ بشدَّةٍ بعد وقت وجيز. أجاب يسوع وقال لها: منْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. ولكن مَنْ يشرب من الماء الذي أُعطيهِ أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أُعطيهِ يصير فيهِ ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية. (يوحنا 13:4، 14). من وقتما ترك الإنسان الله مخدوعًا من إبليس بالظن أنهُ يقدر أن يجد لذَّةً لنفسهِ في حالة المعصية والابتعاد عن مصدر الفرح والسرور لم يزل تائهًا كما في ورطة وكلما اجتهد أن يتخلص منها يضلُّ أكثر لأنهُ إنما يعمل بحسب حكمتهِ وأفكارهِ ولا يطلب الله بدون ما يفعل فيهِ الروح القدس بنور كلمتهِ ويُبكتهُ على خطيتهِ ويأتي بهِ إلى التوبة.     

17 فَرَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ وَقَالَ: كَمْ مِنْ أَجِيرٍ لأَبِي يَفْضُلُ عَنْهُ الْخُبْزُ وَأَنَا أَهْلِكُ جُوعًا! 18 أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، 19 وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ. 20 فَقَامَ وَجَاءَ إِلَى أَبِيهِ. وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيدًا رَآهُ أَبُوهُ، فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ. 21 فَقَالَ لَهُ الابْنُ:يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. 22 فَقَالَ الأَبُ لِعَبِيدِهِ: أَخْرِجُوا الْحُلَّةَ الأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَاجْعَلُوا خَاتَمًا فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، 23 وَقَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، 24 لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ (عدد 17-24).

فالتوبة واجبة علينا باعتبار مسئوليتنا لأننا قد أخطأنا إلى الله بإرادتنا وعندما يُنبهنا الروح القدس يجعلنا نشعر بذلك. في هذا الفصل الرب يُصوُر لنا بعض الاختبارات التي تجري في الخاطئ المُنتبه. ما دمنا في عنفوان الخطية لا نريد أن نفتكر في الله فأول علامة تدل على بداءة التوبة فينا أننا نتذكرهُ ونشعر بنسبتنا إليهِ. لا يخفى أن كثيرين يشعرون على نوعٍ ما بشقاوة حالتهم كخطاة ويئنون منها ويخافون أيضًا من عواقب الخطية المؤبدة تحت غضب الله ولكن ذلك وحدهُ لا يصنع فيهم التوبة لأن الافتكار في شقاوتنا لا ينقذنا منها ولا يعلن لنا ما هي الخطية كما هي تظهر في نور الله. وقال: كم من أجير في بيت أبي يفضل عنهم الخبز؟ وأنا أهلك جوعًا. فافتكر في أبيهِ ليس كمن يحكم ويقضي بل كأب غني وكريم يطعم حتى عبيدهُ ويريحهم، وأخذ يقيس شقاوتهُ على هذا القياس. لا شك بأن الله حاكم وقاضٍ أيضًا لأننا قد عرفناهُ على هذه الصفة نحونا أبدًا. ونرى أن للجميع الشهادة لذلك في ضمائرهم رغمًا عن جهالتهم ويخافون حتى الشياطين يقشعرُّون من دينونة الله ومع ذلك الخوف وحدهُ لا ينشئ النوبة لا في البشر ولا في الأبالسة. لأن لطف الله هو الذي يقتادنا إلى التوبة كما نرى في هذا الفصل. فالنور الذي ينبهنا يعلن لنا جودة الله ورحمته، ويرغبنا في الرجوع إليهِ. كقول الابن الضال: أقوم واذهب إلى أبي. فما أحلى هذا الإقرار إذا سُمع من فم خاطئ منتبه، فأنهُ يسبّب فرحًا في السماء، وأن يكن أمرًا زهيدًا عند الفريسيين والكتبة. ولكن الافتكار في الاقتراب إلى الله يجعلنا نشعر بحقيقةٍ أخرى عظيمة الأهميَّة، وهي خطايانا، وعد أهليَّتنا أن نكون معهُ. كقولهِ: وأقول لهُ: يا أبي، أخطأت إلى السماء وقدامك ولستُ مستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا. مهما كان أبوهُ غنيًّا وكريمًا، فلم يزل طاهرًا وقدوسًا، والخاطئ التائب يشعر بذلك فيحصل جهاد في أفكاره بحيث من الجهة الواحدة يحب أن يرجع إلى ومن الأخرى يرى نفسهُ غير مستحقّ أن يكون معهُ، وربما يمضي عليه زمان طويل وهو مرتاب في مسألة قبولهِ مع أنهُ تائب، وكيفما كان الأمر معهُ لا يقدر أن يدرك محبة الله إلاَّ عند رجوعهِ إليهِ تمامًا. لاحظ أن الابن الخاطئ لم يشأ أن يخفي خطاياه، فأنه أبتدأ يشعر بها في نور صفات أبيهِ ومع أنهُ اشتهى أن يكون معهُ في بيتهِ، حسب أن دخولهُ إليهِ يدنّسهُ، فأنه لا يستحق أن يكون في نسبة ابن لأبٍ كهذا. وكذلك نحن عند بداءة التوبة الحقيقية فينا، فأننا نصادق على قداسة الله وطهارة بيتهِ، ولا نريد أن نغيّر ذلك ونخفضهُ حتى يوافقنا في أدناسنا ورداءتنا. كثيرون يتصورن أنهُ من الأمور المرغوبة، أنهم يدخلون السماء بعد الموت، ولكنهم لا يعرفون كيف يحصلون على ذلك؟ فترى أكثر الأمم يتصورون لأنفسهم حالة جسدية في النعيم توافق شهواتهم التي يتلذذون بها على الأرض وأما النصارى فمع أنهم يرفضون رأيًا فاسدًا كهذا ويفرُّون  بطهارة المجد السماوي فلا يعرفون كيف يستعدُّون للحصول عليهِ؟ وقد ذهب كثيرون منهم إلى الظن بأنهُ ربما يحصل تغيير فيهم ساعة الموت أو بعد ذلك في موضع يسمونهُ المطهر بهِ يحصلون على حالةٍ تهيئهم للدخول في النعيم. فالواضح أنهم لم يدركوا بعد محبة الله، ولا قيمة الفداء بدم ابنهِ الحبيب الذي يطهر من كل خطية، ويجعلنا الآن ابيض من الثلج لدى الله. لا يجوز لنا أن نستخفَّ بخطايانا بحيث أنها بالحقيقة دنَّستنا، وجعلتنا غير أهلٍ لنكون مع الله، ولكنهُ محرَّم علينا أيضًا أن نستهين بدم ابن الله الذي سُفك لأجلنا، فينسب استحقاقهُ لنا الآن، متى آمنَّا بهِ؟ فشعورنا بعظم خطيتنا بنور كلمة الله إنما يزيد اعتبارنا لمحبتهِ وثقتنا بدم المسيح الذي يجعلنا طاهرين الآن لا في المستقبل. انظر اختبارات داود عند توبتهِ إذ قال: ها قد سررت بالحق في الباطن ففي السريرة تعرّفني حكمة. طهرني بالزوفا فأطهر. أغسلني فأبيض أكثر من الثلج. أسمعني سرورًا وفرحًا. فتبتهج عظام سحقتها. أستر وجهك عن خطاياي وأمحُ كل آثامي (مزمور 6:51-9). فنراهُ كالابن الضال يشعر بخطاياهُ ويعترف بها، ولكنهُ يثق أيضًا برحمة الله، فإن  كانت الأولى عظيمة جدًا، فالثانية أعظم. هلمَّ نتحاجج يقول الرَّبُّ: إن كانت خطاياكم كالقرمز، تبيضُّ كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف (إشعياء 18:1). ما أعظم أفعال الله. لا يوجد شيء على الأرض نقي بذاتهِ، وخالص اللون كالثلج، ولا يوجد شيءٌ دنس وردي وكريه، مثل: خطايانا، ولكن متى غسلنا الله بدم المسيح نصير ابيض من الثلج، ونتيقن ذلك كل اليقين ونقول: الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمهِ وجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيهِ لهُ المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين (رؤيا 5:1، 6). ولكن إن كانت أفعال الله عظيمة جدًّا فأفكارهُ أيضًا تعلو عن أفكارنا بما لا يوصف ولا نقدر أن ندركها إلاَّ بعد توبتنا ورجوعنا إليهِ، فأن التصورات الناموسية لا تزال تضادُّ نعمة الله، وإن كانت تجتذبنا إلى مصدرها الإلهي كقولهِ: اجعلني كأحد أجراك. فكان قد عزم على تقديم هذه الطلبة لأبيهِ عند مواجهتهِ إياهُ والاعتراف بخطاياهُ. فكان من الأمور اللائقة بشأنهِ أن يفتكر أفكارًا دينية من جهة نفسهِ، فأنهُ لم يكن أهلاً أن يُدعى ابنًا، ولا أن يكون أجيرًا فمهما تصوَّرنا في شأن رداءتنا فلا نزال أردأ جدًّا مما تصورنا. فإذًا الغلط ليس في ذلك بل في مسألة أخرى، وهي ماذا يليق بمجد الله أن يعطينا إذا رجعنا إليهِ. لو فرضنا أنهُ يوافقنا أن نكون مقبولين عندهُ كأجرى فيا ترى هل يوافقهُ هو أن يقبلنا هكذا؟. التوبة واجبة علينا والاعتراف بخطايانا بالتواضع وانكسار القلب، ولكن الله لم يُفوّض لنا أن نعيّن لهُ كيف يقبلنا؟ وأي مقام يتعيّن لنا في بيتهِ. اطلبوا الرَّبَّ ما دام يوجد أدعوهُ هو قريب ليترك الشرير طريقهُ ورجل الأثم أفكاره، وليتب إلى الرَّبِّ فيرحمهُ، وإلى إلهنا ؛ لأنهُ يكثر الغفران. لأن أفكاري ليست أفكاركم ولا طرقكم طرقي يقول الرَّبُّ، لأنهُ كما علت السماوات عن الأرض هكذا علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم (إشعياء 6:55-9). وهكذا اتضح الفرق بين أفكار الابن التائب وبين أفكار أبيهِ حين استقبلهُ. فقام وجاء إلى أبيهِ، إلى هنا نرى الكلام عن الابن وأفعالهِ وتوبتهِ، وكان ذلك كلهُ مقترنًا بمسئوليتهِ كما سبقت وقلت: فأنهُ أخطأ بإرادتهِ ولما عملت فيهِ النعمة لأجل تنبيههِ زادت فيهِ الشعور بمسئوليتهِ، ولكن لما وصلت بهِ إلى أبيهِ صار العمل لأبيهِ، ونعم العمل. وإذ كان لم يزل بعيدًا، رآهُ أبوهُ، فتحنَّن، وركض، ووقع على عنقهِ وقبَّلهُ. فكل لفظة من ألفاظ هذه الجملة الوجيزة تفيدنا معاني عظيمة وحلوة. رآهُ أبوهُ وهو بعيد عنهُ بعد، فأنهُ كان ينتظرهُ أو بالقليل كان مشتاقًا إليهِ ومتطلعًا نحو الكورة البعيدة يتمنى لو انتبه ابنهُ الضال المفقود ورجع. انظر قول الرَّبُّ عن توبة أفرايم سمعًا سمعت أفرايم ينتحب. أدَّبتني فتأدَّبتُ كعجل غير مروض توّبني فأتوب؛ لأنك أنت الرَّبُّ إلهي. لأني بعد رجوعي ندمت وبعد تعلُّي صفقت على فخذي. خزيت وخجلت لأني قد حملت عار صباي. هل أفرايم ابن عزيز لذيَّ أو ولد مسرٌّ. لأني كلما تكلمت بهِ أذكرهُ بعد ذكرًا. من أجل ذلك حنَّت أحشائي إليهِ. رحمةً أرحمهُ يقول الرَّبُّ (إرميا 18:3-20). الله يعلم ما يحصل في قلوبنا من أول انتباهنا بل قبل ذلك أيضًا لأن علمهُ محيط بكل شيء فإذًا رجوعنا إليهِ معلوم عندهُ حتى قبل وصولنا إليهِ وتذلَّنا عند قدميهِ، فلذلك الكلام الجميل هنا ليدلَّنا على الحنو والمحبة التي بها يقبلنا. قد رأينا محبتهُ في التفتيش، وهنا نرى محبتهُ في القبول وهو العامل في الحالتين. راجع أيضًا ما ورد عن الذي كان واقعًا بين اللصوص وحنو المسافر إليهِ. ولكن سامريًا مسافرًا جاء إليهِ، ولما رآهُ تحنَّن فتقدَّم وضمد جراحاتهِ… إلخ (إصحاح 33:10، 34)، وهذا يطابق العمل الإلهي المعبَّر عنهُ بوجدان الخروف والدرهم. وأما هنا فيقال: رآهُ أبوهُ فتحنَّن وركض ووقع على عنقيهِ وقبَّلهُ. لاحظ أنهُ كان بعيدًا بعد ولابسًا ثيابهُ البالية وهذا يبرهن لنا محبة الله الكاملة في قبولهِ إيانا كما نحن؛ إكرامًا لعمل المسيح لأجلنا، نعم، وإجابة لعملهِ فينا أيضًا إذ نبَّهنا وأتى بنا إلى التوبة، فأنهُ يترحب بنا ويقبلنا كأننا لم نكن قد ضللنا عنهُ أو بالأحرى يقبل الضالّين عند  توبتهم لأن رجوعهم إليهِ يفرحهُ أكثر جدًّا مما لو ما ضلُّوا. وهذا مما يغيظ الناموسيين المعتدّين ببرّ أنفسهم فأنهم يقولون إن كان ذلك كذلك فماذا ينفع برُّنا. ألاَّ يُحسب كلا شيء. وهذه هي الحقيقة لآن برَّنا لا ينفعنا شيئًا أمام الله وعدمهُ إنما يقدم لهُ فرصة أن يعلن برَّهُ ويتمجد بخلاصنا بعد الخطية أكثر مما لو ما أخطأنا. وإن أعترض عليهِ معترض فما هو الجواب منهُ. يُجيب ويقول: أنا أجد فرحي الأعظم بذلك. فإذًا ماذا نقول: إن كان الله قبل الخطاة التائبين ويفرح بهم. ألاَّ يجوز لهُ أن يفعل ذلك. ومن نحن حتى نحاول أن نحرم الله فرحهُ. هكذا شاء فينبغي أن نرتضي بما يرضيهِ.

فقال لهُ الابن يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًّا بعد أن أُدعى لك ابنًا. كان يليق بهِ أن يعترف كما سبق وعزم، لأن اختبارنا نعمة الله بقبولنا على هذه الكيفيَّة يزيد فينا الشعور بعدم أهليتنا، ولا يمنعنا عن الإقرار بخطايانا، ولكننا نقبل محبة الله المجانيَّة ونتركهُ يجد فرحهُ فينا، ويعطينا مقام البنين. لم يقدر الابن أن يقدّم طلبتهُ بأن يكون كأحد الخدام؛ لأن الآب سبقهُ وقبلهُ كابن ووقع على عنقهِ أول ما واجههُ. فقبلنا كبنين من ساعة إيماننا وإتياننا إلى المسيح. لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح (غلاطية 26:3). انظروا أية محبة قد أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله. من أجل هذا لا يعرفنا العالم؛ لأنهُ لا يعرفهُ. أيُّها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سنكون، ولكن نعلم أنهُ إذا أُظهر نكون مثلهُ لأننا سنراهُ كما هو (يوحنا الأولى 1:3، 2). فقال الآب لعبيدهِ أخرجوا الحلَّة الأولى وألبسوهُ. فالحلَّة الأولى: عبارة عن اللباس الجديد الذي يلبسنا إياهُ الله عند رجوعنا إليهِ بالمقابلة مع ثيابنا العتيقة البالية وهو بالحقيقة المسيح نفسهُ الذي هو برُّنا الكامل أمام الله. كلكم الذين اعتمدتم بالمسي قد لبستم المسيح (غلاطية 37:3). فكانت الحلَّة الأولى محفوظة عند الآب للضال بعد رجوعهِ، لولا خطيتنا وابتعادنا عن الله لم يكن المسيح لنا كبرَّنا أمام الله. ولا يُخفى أنهُ ليس للملائكة بل للبشر، ولكن يجب أن نتوب ونرجع ونترك ثيابنا البالية العتيقة يعني برّنا الذاتي الذي هو أشرُّ في عيني الله من أقبح خطايانا. فحالما استقبل الآب الحنون ابنهُ التائب أمر بإلباسهِ الحلَّة الأولى حتى يكون بزيّ يوافق الدخول إلى البيت. ولم يخطر ببال الابن أنهُ يحمل معهُ شيئًا مما لبسهُ قبل، وكذلك نحن لا نقدر أن نكون مع الله إلاَّ لابسين المسيح، ونحسب برَّنا الذاتي خسارة ونفاية ونرميهِ على جانب الطريق، ولا نذكرهُ إلاَّ كشيء نجس ومرفوض. واجعلوا خاتمًا في يدهِ. الخاتم علامة المحبة والثقة أيضًا. وخلع فرعون خاتمهُ من يدهِ وجعلهُ في يد يوسف، وألبسهُ ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقهِ (تكوين 34:41). انظروا أية محبة قد أعطانا الآب. ولنا اليقين بهذه المحبة أنها لا تتغير إذ الروح القدس يفعل فينا كروح البنوة ويشهد لأرواحنا أننا أولاد الله وورثة المجد. وتظهر بنوتنا للآخرين أيضًا بسلوكنا كأولاد كما قيل. وحذاء في رجليهِ. لآن الحذاء يشير إلى الاستعداد للسلوك. فحالاً بعد الحصول على اليقين بأننا مقبولين ومحبوبين نستعدُّ للسلوك في جدة الحياة. وحاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام (أفسس 15:6). لم يخطر ببال الابن أنهُ يرجع إلى الكورة البعيدة ليرعى الخنازير. لا يُخفى أن الفريسيين في كل جيل لا يفهمون موضوع النعمة وفعلها في المتجددين بل يكثرون الافتراءات عليها كأنها تحمل الناس إلى الخطية كأن ذاك الولد بعد اختبارهِ محبة أبيهِ يستنتج أنهُ لا فرق بين الشر والخير عند أبيهِ ثمَّ يرجع إلى موضعهِ القديم أو بالقليل يتردد بينهُ وبين منزل أبيهِ. ولكن فكرًا كهذا لا يخطر ببال مسيحي حقيقي أبدًا فإذا عُرض عليهِ يرفضهُ حالاً قائلاً: فماذا إذًا؟ أنخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة، حاشا. وأيضًا نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟ (انظر رومية إصحاح 6) كلهُ في شأن هذا الموضوع. وقدّموا العجل المسَّمن وصنعوا وليمة فاخرة وكان الآب نفسهُ يقصد أن يأكل منها ويشترك في أفراحها. لا نقدر أن نقول: أنهُ توجد في هذا أشارة صريحة إلى موت المسيح مع أننا نعلم أنهُ كان ينبغي أنهُ يموت ويقوم لكي يمكن أن تكون لنا الشركة معهُ ومع الآب. فالمقصد الخصوصي هنا إيضاح الفرح الذي لإلهنا بنا عند رجوعنا إليهِ لنكونٍ معهُ الآن وإلى الأبد وأن الفرح الذي يملأ قلبهُ يعمُّ بيتهُ أيضًا كما قيل سابقًا. أنهُ هكذا يكون فرح في السماء، لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد. فابتدأوا يفرحون، قد صار للسماء نوع جديد من الفرح بواسطة عمل المسيح وخلاص الخطاة وهذا الفرج يدوم إلى الأبد.           

25 وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ، سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصًا. 26 فَدَعَا وَاحِدًا مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟ 27 فَقَالَ لَهُ: أَخُوكَ جَاءَ فَذَبَحَ أَبُوكَ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ، لأَنَّهُ قَبِلَهُ سَالِمًا. 28 فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ. فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. 29 فَأَجَابَ وَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي. 30 وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ ابْنُكَ هذَا الَّذِي أَكَلَ مَعِيشَتَكَ مَعَ الزَّوَانِي، ذَبَحْتَ لَهُ الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ! 31 فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ. 32 وَلكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالُا فَوُجِدَ». (عدد 25-32).

 قلت آنفًا أن الابن الأكبر عبارة عن اليهود وبالتبعية عن جميع الذين يعتدون ببر أنفسهم في أي وقت كان. فنراهُ أولاً في الحقل موضع الشغل وذلك يطابق حالة اليهود باعتبار كونهم تحت الناموس الذي أوجب عليهم العمل ولم يكن يدعوهم إلى وليمة فرح، وكان العمل المطلوب منهم ليس واجبًا فقط بل جميلاً ومقبولاً لو عَلِموهُ ولكنهم لم يعملوا كما يجب من الأول إلى الأخر ومع ذلك انتفخوا ولما أعلن الله لهم نعمتهِ رفضوها بغضبٍ مثل الابن الأكبر تمامًا. فبينما كان الله يجد فرحهُ بقبول التائبين كالمرأة المذكورة في إصحاح 7 مثلاً لم ينظر أبناء الكبرياء أولئك إلا ما يغيظهم ويزيدهم تذمرًا على إعلان النعمة.

فقرب من البيت، سمع صوت آلات طربٍ ورقصًا ولما عرف السبب غضب ولم يشأ أن يدخل لكي يشترك في الفرح. الناموس لم يعلن الله بنعمتهِ ولا وعد الناس بالاشتراك في مجد بيت الآب وأما المسيح فلما حضر فأخذ يعلن الآب وأما المسيح فلما حضر فأخذ يعلن الآب وكأنهُ أحضر معهُ أفراح السماء وقربها إلى أولئك اليهود المساكين حتى أمكنهم أن يسمعوا صوت آلات الطرب ولكنهم لم يستلذوا بهِ فخرج أبوهُ يطلب إليهِ فكان الله يعمل هذا العمل نفسهُ مع المتذمرين ضد نعمتهِ. كان يطلب إليهم أن يتركوا الحقل ويدخلوا البيت ويشتركوا معهُ في الفرح على وجدان الضالين. فأجاب وقال لأبيهِ: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك. فالناموس دائمًا يفتكر في عملهِ لله لا في عمل الله لأجلهِ. وأولئك اليهود العمي ظنوا

أنهم حفظوا الناموس. انظر جواب الشاب الذي سأل الرب عن العمل الذي يجعلهُ يستحق الحياة الأبدية ولما دلهُ الرب على  الوصايا أجاب وقال: هذه كلها حفظتها منذ حداثتي، والناموسي ينتظر جزاءً على أعمالهِ التي يظنها تكميل الشريعة ويغتاظ جدًا عندما يرى أن الحالة الأولى والخاتم والحذاء والعجل المُسمن جميعهن للذين لم يعملوا شيئًا إلا الشر فقط ويعترفون بذلك ثم يخضعون لبر الله الذي لهم على سبيل النعمة لا على سبيل الأعمال. لاحظ قول الابن الأكبر: وجديًا لم تُعطيني قط لأفرح مع أصدقائي، وهذا فكر الناموسيين أنهم ينالون شيئًا يتمتعون بهِ بدون الله إكرامًا لاستحقاقهم. فلهم أصدقاء غير أصدقاء الله لأنهم يحبون العالم وإن كان أحدهم يصنع غذاء أو عشاء يدعوا ضيوفًا مثلهُ بحيث انهُ يفضل الأشياء الأرضية على السماوية واجب إليهِ أن يأكل جديًا مع أصدقائهِ من أن يأكل العجل المُسمن في بيت الآب مع لضيوف المجتمعين هناك. راجع الأخبارعن بيوت الفريسيين التي أدرجت في هذا الإنجيل وترى عوائدهم من هذا القبيل ، وقد رأينا أنها لم تكن توافق أفكار الرب الذي وصف لهم أخيرًا العشاء العظيم الذي قد صنعهُ الله ، وصفات الضيوف الذين يُحضرهم إليهِ وهم المساكين، والجدع، والعرج، والعمي. يعني أُناسًا مثل الابن الضال ليس لهم أدنى رجاء أنهم يخلصون أنفسهم بواسطة أعمالهم فلذلك يرتضون بالنعمة عند إعلانها لهم بعمل الروح القدس، ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذَبحتَ لهُ العجل المُسمن. من كثرة احتقارهِ لأخيهِ الذليل لم يشأ أن يقر بنسبتهِ الطبيعية لهُ مثل الفريسيين الذين احتقروا العشارين والخطاة مع أنهم كانوا من جنسهم واحتقر أباهُ أيضًا إذ نسب الولد لهُ بالغ أيضًا في سيرة أخيهِ قائلاً: انهُ كان قد انفق مالهُ على الزواني، ومع ذلك ذبح أبوهُ العجل المُسمن لهُ. حقًا إعلان النعمة يفوق إدراك قلب الإنسان ويغيظ المعتدين ببر أنفسهم كيف لا وهي تحسب برهم نفاية، وتمنح بركاتها للذين ليس لهم سوى الخطية فقط؟ صادقة هي الكلمة ومستحقة كل القبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليُخلص الخطاة الذين أولهم أنا (تيموثاوس الأولى 15:1). هكذا كتب أحد هؤلاء الفريسيين وأقر لما رجع إلى نفسهِ وتعجب غاية العجب إذ رأى انهُ أراد وأبعد عن الخلاص من جميع الآخرين مهما كانوا فإن الاعتداد ببر أنفسنا يجعلنا نحتقر النعمة مثل الابن الأكبر وهذا من أعظم الخطايا التي يمكن للناس ارتكابها.

فقال لهُ: يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك. هذا الكلام يصدق تمامًا على نسبة اليهود لله كشعب أرضي فإنهُ أعطاهم الأرض، ولم يزل إلى الآن يحفظها لهم ولكنهُ ينبغي لهم أن يتوبوا ويرثوها بالنعمة تاركين ادعائهم بأنهم يستحقونها بواسطة أعمالهم الناموسية. كما قِيل طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض (مَتَّى 5:5) نعم تمتعهم بالأرض يكون من بركات الله الحسنة في وقتهِ مع أنه أقل من نصيبنا في بيت الآب وأمجادهِ كما رأينا مرة بعد أخرى في هذا الإنجيل طالما أجتهد إسرائيل أن يتمتعوا بها تحت النظام الأول ولم يقدروا ولا عجب من عثرتهم في إعلان النعمة فإنها فتحت السماء وعرضت أمجادها مجانًا للخطاة التائبين فاستاءوا معاملات الله كأنهُ حسب شغلهم في الحقل لا شيء ولم يُعطيهم أن يتمتعوا بالأرض وإن يكن ذلك كجدي معزى بالنسبة للعجل المُسمن الذي بادر إلى ذبحهِ للذين رجعوا إليهِ كخطاة ليقبلوا كل شيء مجانًا من يدهِ، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونُسر لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجد. ينتهي هذا الإصحاح الجميل كما ابتدأ إذ يُصرح انهُ كان ينبغي لله أن يجد فرحهُ في وجدان الخروف الضال والدراهم المفقودة وفي قبول الابن الشاطر بعد ضلالهِ في المعصية سنين لا شك بأنهُ يحب إسرائيل أيضًا ولا يزال يراقبهم بلطفهِ مدة تَيهانهم في براري كفرهم ورفضهم الذي تمت فيهِ المواعيد وسوف يفرح بهم عند توبتهم ورجوعهم كأمة إذ يعترفون بأنهم ضلوا أيضًا ويحتاجون إلى نفس النعمة التي رفضوها قائلين: كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقهِ والرب وضع عليهِ أثم جميعنا (إشعياء 6:53) ولكن للسماء الفرح خصوصي الآن إذ تُفتش على الضالين من كل أُمة وتأتي بهم إلى الآب وأمجاد بيتهِ التي لها منازل كثيرة.

12 11 10 9 8 7 6 5 4 3 2 1 المُقدمة
24 23 22 21 20 19 18 17 16 15 14 13

آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص

حقوق النشر مفصلة في صفحة بيت الله الرئيسة